La Cité Parfaite selon les philosophes du dix-huitième siècle
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genres
أثار هذا القول في نفس جريم شعورا يقرب من الكراهية، وهذا على الرغم مما كان عليه جريم من برودة الطبع واستقامة النظر، هذا على أنه لا ينبغي لنا أن نبالغ في أمر هذه المظاهر، والمهم هو أن ندرك أن كتمان رجل كفونتنيل ما في نفسه، واستفاضة عواطف رجل كديدرو كانا كلاهما آية انشراح صدر الرجلين لنوع من الإيمان جديد يفوق في نظر العصر انشراح الصدر للدين قوة وتأثيرا، بيد أن الفلاسفة كانوا إلى روح الدين أدنى مما علموا، كانوا حملة الرسالة التي خلفها المذهب البروتستنتي والمذهب الجانسنيوسي
21
وإن جردوها من صبغتها الدينية، وما كان نفورهم من الحمية في حقيقة الأمر إلا علامة الغيظ، لقد غاظهم وهم جماعة المستنيرين أن الإنسانية ظلت دهرا طويلا يضلها القسيسون وبطانة القسيسين من الدجالين الذين تولوا عن القسيسين قضاء مآربهم، وما زالوا بعد يتولونه، ووسيلتهم إلى هذا أن يختموا على عقول العامة وأن يجعلوا عليها غشاوة فيمتنع عنها نور العقل، وتبقى ناعمة في ضباب العاطفة. ويصرخ جريم من أعماق نفسه: «لقد استغرق إخضاع بني الإنسان لجبروت القسيسين أزمانا، وسوف يستغرق خلاصهم منه أزمانا، ويقتضي جهدا موصولا ونجاحا بعد نجاح.»
22
فيتعين علينا إذن ألا يحملنا عبث القوم وظروفهم وأدب أسلوبهم ورصانة نثرهم على ألا ندرك ما وراء هذا كله من نار تتقد ومن أسى يملأ الجنوب، وما أحراهم بأن تجري على لسانهم صيحة اليأس التي فاه بها القديسون من قبل طلبا للفرج والخلاص: «إلى متى يا رباه! إلى متى!»
ولو قدر الفلاسفة أن تجري الأمور وفق ما اشتهوا لما طال أمد انتظار الفرج، على أنهم عكفوا على تحقيق ما تصبو نفوسهم إليه، فهبوا ينشدون الحقائق في ذاتها، وقاموا يفسدون على المضلين ناشري الغموض تدبيرهم، بيد أنهم خشوا الظهور بمظاهر الحمية فأخفوها وراء حجاب من الهدوء المتكلف، كان مطلبهم الحق، ولكن أي حق يطلبون؟ ذلك الحق الذي تستقيم معه دعوتهم، ويستطيعون أن يتخذوا منه منافع شتى، فقد حذرهم إدراك فطري سليم من أخطار معرفة كل شيء، ألا يقول المثل السائر: «من يفهم كل شيء يعف عن كل شيء»، وكانوا بعد على قرب من العهد بسلطان الأباطيل، لا يطيقون معه صبرا على ترك باطل ما وشأنه، وكان جهدهم في نشر النور قد استنفد قواهم، فحال بينهم وبين لذة إرجاء الحكم على الأشياء، وما إن تحررت نفوسهم من رق الأوهام حتى أدركوا أن عليهم رسالة يخلق بهم أن يؤدوها، رسالة خلاص البشرية بأسرها، والرسالة تحمل خصائص الحركات المهدوية، بذلوا في سبيل أدائها قدرا من قوة اليقين والإخلاص والحمية لا يقدر، وكلما تقدم القرن الثامن عشر نحو نهايته، زادت الحمية تأججا وزاد ولههم بالحرية والعدل، وبالحق والإنسانية، إلى أن برح بهم الوجد فكان ذلك المشهد التاريخي الرمزي يوم 8 يونيو 1794، حين نهض المواطن روبسبير في محفل من قومه حاملا في يد باقة من الأزهار، وفي الأخرى مشعلا، وأشعل النار رمزا لتطهير العالم من الجهل والإثم والسفه، وكان هذا إيذانا بقيام دين جديد، دين الإنسانية، وكان مشهدا خليقا بالإعجاب والأسى معا!
23
لقد أسرف الكتاب في تأكيد جانب السلب من كفاح أولئك المجاهدين في سبيل نصرة العقل، أسرف هذا الإسراف كتاب القرن التاسع عشر؛ لأنهم كرهوا رجال عصر الاستنارة، وأسرفنا نحن في القرن العشرين؛ لأننا لا نحب رجال العصر الفيكتوري، والواقع أن هذا السلب من جانب رجال القرن الثامن عشر لم يعد في أكثر الأحايين أن يكون حكما تهكميا على قشور الأشياء، وأنه لم يجاوزها إلى اللب، خذ مثلا تلك النفثة الخاطفة البراقة من نفثات ذكاء فولتير: «ما التاريخ في نهاية الأمر، وبعد أن نقول كل ما يمكن أن يقال فيه، إلا حاصل احتيال الأحياء على الأموات.» نسمع هذا فنقول: ما أصدقه! ونعجب لعمق فكرة فولتير، ثم يهدينا بعد ذلك قليل من البحث إلى أن نرى أنه لم يعن بالضبط ما نعنيه نحن، أما هو فإنه لم يرد أكثر من أن يدمغ بأسلوبه الظريف المؤرخين غير الأمناء، وأما نحن فإنا نرى أن فولتير قد عبر بأوجز عبارة عن حقيقة خطيرة ألا وهي أن أي تاريخ مهما كان أمينا لا بد أن يكتسب شيئا من ذاتية كاتبه، حتى ولو لم يتعمد هذا ذلك، وأن كل جيل من الناس لا يجد محيصا إذا ما شاء أن يحصل على نوع التاريخ الذي يرضيه من أن يحتال على الأموات، فينسب إليهم الأفعال والأقوال التي تكون نوع التاريخ الذي يريد، وخذ مثلا آخر قوله: «لا شيء أدعى لحنق الإنسان من أن يشنق سرا.» ترى هل فهم فولتير جميع ما انطوى عليه هذا القول الوافر؟ ترى هل أدرك ما ندرك نحن الآن - أو ما نظن أننا ندرك - وهو أنه هو وزملاءه الفلاسفة قد استمدوا غير قليل من التشجيع على مواصلة الجهاد في سبيل الحرية والعدل من توقعهم أن يكون جزاء سفاهاتهم أن يشنقوا (أو في الأغلب تماثيلهم فقط) علانية لا سرا.
ولكننا إذا كنا قد فهمنا من سالبهم معاني تزيد كثيرا على ما أرادوا، فقد تقبلنا موجبهم وإشهادهم على أنفسهم طبقا لما أرادوا، خذ مثلا تحديد فولتير للدين الطبيعي: «أفهم من الدين الطبيعي مبادئ الأخلاق كما هي مقبولة لدى بني الإنسان عموما.»
24
Page inconnue