Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
95

Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

Genres

أبو موسى :

لأنه لا يظلمك.

ونعود إلى حديثنا عن أبي الحسن الأشعري، ورفضه أن يكون العقل مقياسا مطلقا لا يدع مكانا لمقياس سواه؛ لأنه يرى أن ثمة من المعطيات الدينية الأساسية ما لا بد من قبوله برغم أنه يجاوز حدود العقل؛ فالإيمان بالغيب مبدأ أساسي في الحياة الدينية، على حين أن «الغيب» يستعصي على البراهين العقلية، ولقد ظن المعتزلة أنهم إنما يدعمون بنيان الدين أن يجعلوا السلطان للعقل وحده، ويتساءل الأشعري: إذا كان العقل أمره كذلك، فماذا تكون قيمة الإيمان بالله وبالكتاب المنزل؟ إنه إذا كانت الأحكام للعقل، فلا تبقى لنا حاجة إلى إيمان نقبله عن عقيدة وتصديق، وإني لأتساءل هنا بدوري: ترى إلى أي حد كان لابن الراوندي فضل التنبيه إلى هذه الفكرة حين قال في كتابه «الزمرذة» ما معناه: إننا إذا جعلنا العقل مقياسنا فلا حاجة بنا إلى نبي ورسالة؛ لأن الرسالة إما جاءت متفقة مع ما يدركه العقل بمنطقه ومن ثم فلا يكون لها مبرر، وإما خالفت منطق العقل فوجب التنكر لها، فهل كان هذا هو ما دعا الأشعري إلى التحوط في النظر، بحيث انتهى إلى رأي يوجب الجمع بين العقل والإيمان ليكون لكل منهما مجال لا ينافسه فيه الآخر؟

وحسبنا دليلا على قوة الموقف الوسط الذي اختاره الأشعري، أن نعلم كم من الأئمة الأعلام بعد ذلك - وعلى طول القرون التالية - اختار الموقف نفسه، وربما كان الشيخ محمد عبده آخر الأتباع الكبار، ولم يكن الجمع بين العقل والإيمان هو كل ما قدموه، بل كان للأشاعرة آراء أخرى ذات خطر عظيم في دنيا الفكر الفلسفي، منها تفسيرهم لعملية الخلق؛ فلقد وجدوا أنفسهم أمام فكرتين في ذلك، رفضوهما جميعا، الأولى هي فكرة «الفيض» التي قال أصحابها - أخذا عن أفلوطين - إن الكائنات تفيض من الجوهر الإلهي كما تفيض أشعة الضوء من الشمس، فاعترض الأشاعرة قائلين: إن هذا التصور ينفي عن الله حرية إرادته في خلق ما يريد على الصورة التي يريد؛ لأن الكائنات الفائضة عن مصدرها قد تفيض دون أن يكون للمصدر إرادة في فيضها أو في منعها، وأما الفكرة الثانية عن الخلق فهي السببية التي تجعل من الله تعالى سببا أولا، ثم تتسلسل الأسباب والمسببات، لكن ذلك يؤدي بنا إلى حتمية لا فكاك منها، فأين عندئذ تكون الحرية المطلقة التي نصف بها الله؟!

فكيف يفسر الأشاعرة عملية الخلق؟ إنهم يستندون في ذلك إلى نظرية الجوهر الفرد، أي الجزء الذي لا يتجزأ، فإذا كان الوجود ينحل إلى ذرات من النوع الذي قال به ديمقريطس قديما، فتكون كل ذرة وحدة قائمة بذاتها، لا سبيل إلى النفاذ خلالها لأنها مصمتة، وأنها ذات شكل معين لا قدرة لها على تشكيل نفسها، إذن فهي بحاجة إلى من يشكلها ويجمعها مع غيرها أو يفرق بينها وبين غيرها، ومن مثل هذا الجمع والتفريق تتكون الأشياء جميعا، نقول: إنها بحاجة إلى من يتولى تشكيلها لأنها بذاتها لا تحمل القدرة على ذلك، وإذن فهي بحاجة إلى مبدأ أعلى منها، وهو الخالق.

47

الظاهر أنه كلما بعد العهد بعصر من العصور، ثم جاء الخلف يحيون الحياة الفكرية التي سادت ذلك العصر البعيد، تعذر عليهم - إن لم نقل استحال عليهم - أن يتغلغلوا في أعماق تلك الحياة عن طريق قراءة الموروث المثبت في الكتب؛ فهذا الموروث الباقي إن هو إلا نصوص مرقومة على ورق، محال علينا أن نستشف ما وراءها إذا كان لها وراء، اللهم إلا إذا وقعنا بين تلك النصوص نفسها على نص هنا ونص هناك نستعين به على الفهم الكامل، وبذلك يفسر العصر الواحد بعضه ببعضه، ونصوصه بنصوصه.

وها نحن أولاء نصادف عبارة أوردها أبو العلاء المعري في رسالة الغفران عن الأشعري، نقف أمامها مشدوهين ذاهلين، نسأل عن المراد بها فلا نستطيع الجواب المقنع، إذ يقول أبو العلاء: «والأشعري إذا كشف ظهر نمي (أي طبع وجوهر)، تلعنه الأرض والسمي (أي الأرض والسماء)» (رسالة الغفران، تحقيق الدكتورة بنت الشاطئ، ص466). فما الذي عرفه أبو العلاء عن الأشعري فأجاز له أن يقول عنه إن ظاهره يخفي وراءه باطنا لو كشف لاستحق لعنة الأرض والسماء؟!

فأما من حيث المنهج الأشعري العام، الذي يقسم مجالات النظر شطرين؛ أحدهما يجوز أن يعرض على العقل ليكون له الرأي فيه على ضوء تحليلاته المنطقية، والآخر لا يجوز فيه مثل ذلك؛ لأنه أمور تؤخذ إيمانا وتصديقا، فلسنا نتصور أن يكون في منهج كهذا ما يستحق لعنة الأرض والسماء، وأما من حيث معتقدات الأشعري بصفة عامة، فهي نفسها معتقدات أصحاب الحديث وأهل السنة التي، حتى إن خالفهم فيها أصحاب المذاهب الأخرى كالمعتزلة وغيرهم، لا تودي بصاحبها إلى حيث تلعنه الأرض والسماء.

لقد ذكر الأشعري في آخر الجزء الأول من كتابه «مقالات الإسلاميين» مجمل ما يقوله أصحاب الحديث وأهل السنة، حتى إذا ما فرغ من ذلك، ختم هذا الفصل بقوله: «وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب» (ص325). فماذا ذكر من «قولهم» مما قرر أنه يتفق معهم فيه؟

Page inconnue