Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
90

Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

Genres

إن المعتزلة لم يكونوا قد أرسلوا هذا القول إرسالا بلا مبرر، بل قالوه ليردوا به على القائلين بالجبر، وعلى من بلغت به الجرأة من الرافضة أن ينسبوا وقوع الظلم إلى الله تعالى، أما الجبرية فلعلها قد بلغت أقصى تطرفها على يدي جهم بن صفوان في منتصف القرن الثامن الميلادي، وتولى الرد عليه معتزلو الموجة الأولى، وأما الروافض فهم الذين نراهم على مسرح الأحداث متحالفين مع أهل السنة برغم ما بين الفريقين من خلاف، ليشددوا الهجمة على المعتزلة بعد أن زال عنهم سلطان التأييد أو تأييد السلطان، ولقد رأينا يكف أخذ الروافض «بالتشبيه»، حتى لقد قال عنهم «الخياط» في كتابه «الانتصار»: «وأما جملة قول الرافضة فهو أن الله عز وجل ذو قد وصورة وحد، يتحرك ويسكن، ويدنو ويبعد، ويخف ويثقل» (ص5-6). ونذكر عنهم الآن قولهم في أن طريق الإنسان مرسوم له، بخيره وبشره على السواء، مما حدا بالمعتزلة أن يردوا بفكرتهم عن «العدل» الإلهي ماذا يكون، يروي عنهم «الخياط» في «الانتصار» فيقول: إن رأيهم في القدر هو «أن الكافر كفر لعلة وبسبب من قبل الله، ألجآه إلى الكفر، بل ألجآه إلى كفره واضطراه إليه وأدخلاه فيه، وإن الله يشاء كل فاحشة ويريد كل معصية» (ص6).

وأما الأصل الثالث من أصول المعتزلة، فهو القول بالوعد والوعيد، ويراد بالوعد أن يثاب من خرج من الدنيا على طاعة وتوبة، ويراد بالوعيد أن يعاقب من خرج من الدنيا من غير توبة عن كبيرة ارتكبها.

وإن هذا الأصل عن الثواب والعقاب لشديد الصلة بالأصل الرابع، وهو القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهو قول يراد به أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مؤمن، لكنه فاسق، والفسق حالة تغاير الإيمان والكفر معا؛ فهي في منزلة بين المنزلتين، ولعل هذا المبدأ قد كان نقطة البدء للمذهب المعتزلي كله، ولقد أفضنا القول فيه، عندما تحدثنا (في الفصل الثاني والفصل الثالث) كيف أن القتال بين علي ومعاوية قد أثار في أذهان الناس مشكلة قضائية ملحة، وهي: محال أن يكون الطرفان المتقاتلان على صواب فلا بد أن يكون أحدهما - على الأقل - مخطئا، لكنه في هذه الحالة خطأ قد أودى بأرواح مئات الضحايا من خيرة الناس، فماذا يكون الحكم فيمن يثبت أنه هو المخطئ من الطرفين؟ إنه مرتكب جريمة كبرى، أفلا يكون قد كفر بسببها؟ ها هنا ثار الجدل، وبسطنا لك فيما أسلفناه في الفصول الأول كيف تشعب الرأي؛ فالخوارج قالوا بكفر المخطئ بمثل ذلك الذنب الكبير، والمرجئة آثرت أن يعلق الحكم إلى يوم الحساب، فلما عرض الأمر على مجلس الحسن البصري بعدئذ، وكان واصل بن عطاء بين الحاضرين، أفتى واصل بأن مرتكب هذه الكبيرة لا يكفر بسببها، ولا يظل كامل الإيمان ، بل يقع في منزلة بين المنزلتين، ولم يرض شيخه الحسن البصري عن هذه الفتوى، فترك واصل مجلسه، واتخذ لنفسه مكانا آخر من المسجد، لينضم إليه من يرى رأيه، فكان «اعتزاله» هذا بداية المعتزلة.

وأخيرا يجيء الأصل الخامس من أصول المعتزلة، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس الأمر - في نظر أصحاب هذا المبدأ - مقصورا على جملة تقال، بل لا بد من إعمال المبدأ في عالم السلوك، بمعنى أن نتدخل تدخلا فعليا لننهى المقبل على منكر عن فعل منكره، ولنحض الناس، بل لنحملهم بالقوة على أداء ما نراه صوابا متعارفا عليه، وفي الأخذ بهذا المبدأ يكمن الجهاد ضد من كفر بالله أو فسق.

تلك صورة لما أراده المعتزلة للناس من مبادئ الفكر والعمل، وليس من شأننا في هذا السياق أن نؤيد أو نعارض أو نقترح التعديل، لكن ما نبتغيه هنا هو أن نضع أمام القارئ صورة لجماعة فكرية أتاها تأييد من السلطان فتحكمت فيمن يتولى مناصب القضاء ومن يعزل عنها، ثم دالت دولتهم فجاء أهل السنة - أي المحبذون لأخذ السلف نموذجا يحتذى، ولقبول النص القرآني ونص الأحاديث النبوية بظاهر معانيها - كما جاء الشيعة، والرافضة منهم على وجه الخصوص، ليأخذوا بثأرهم من المعتزلة، فأشبعوهم هجوما ونقدا.

وعندئذ أخرج الجاحظ (والجاحظ معتزلي) كتابه «فضيلة المعتزلة» دفاعا عن مذهبهم، فلم يكن من «ابن الراوندي» إلا أن أخرج «فضيحة المعتزلة» ليرد به على الجاحظ، كما أخرج مجموعة من كتب أخرى رصدها جميعا لمهاجمة الإسلام من عدة جوانب، ومن ثم أصبح هدفا لفاعلية فكرية امتدت بعده لأكثر من مائة عام، يحاول خلالها كل من آنس في نفسه قدرة على دفع ما زعمه ذلك «الكافر» ابن الرواندي، فمن هو الرجل الذي أحدث تلك الضجة كلها خلال فترة زمنية طالت إلى ذلك المدى؟ وهل كانت وراء تلك الهجمة الشاذة دوافع مما يمكن أن يضيء لنا جوانب الموقف العقلي خلال القرنين التاسع والعاشر؟

وإننا في هذا لننقل عن مقدمة المستشرق «ينبرج» الذي حقق كتاب «الانتصار» الذي ألفه «الخياط» المعتزلي «للرد على ابن الرواندي الملحد» [جرى ينبرج على رسم الاسم هكذا: «الروندي» بغير الألف، قائلا إنه رسم وجده أشيع استعمالا في الكتب من رسم «الراوندي» بالألف بعد الراء]:

مؤلف كتاب «فضيحة المعتزلة» هو «الراوندي»، ويروى عنه أنه كان من المتكلمين، ولم يكن في زمانه أحذق منه بالكلام ولا أعرف بدقيقه وجليله، وكان في أول أمره حسن السيرة حميد المذهب كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك كله لأسباب عرضت له، وكان علمه أكثر من عقله ... وقد حكى جماعة أنه تاب عند موته مما كان منه، وأظهر الندم واعترف بأنه إنما صار إليه حمية وأنفة من جفاء أصحابه له وتنحيتهم إياه من مجالسهم، ولقد ألف أكثر كتبه الكفريات من أجل يهودي من الأهواز، وفي منزل ذلك اليهودي جاءه الأجل.

ولقد اختلف الكاتبون عنه في سبب إلحاده، فقيل: فاقة لحقته، وقيل: تمنى رياسة لم ينلها فارتد وألحد، ولقد ألف كتبه تلك خدمة لأصحاب العقائد الأخرى كاليهود والنصارى والثنوية، ولما كان المعتزلة ذوي نفوذ، استعانوا بالسلطان على قتل ابن الراوندي لقاء ما اقترف، لكنه هرب إلى يهودي في الكوفة. تضاربت الأقوال عن الرجل، حتى في تاريخ مولده وتاريخ موته، لدرجة أن بعض الرواة اختلف عن بعضهم الآخر في خمسين سنة كاملة، فيجعله بعضهم في سن الأربعين عند موته ، ويجعله الآخرون فوق الثمانين، ويكفينا منه على كل حال أنه عاش في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي، وأنه في ذلك العهد فجر قنبلته الفكرية الإلحادية، فقدم بها ذخيرة عجيبة لمن خالفه ومن أيده على السواء، والأعجب من هذا كله أن نجد ألد أعدائه من أهل السنة، لم يتحرجوا عن الاستعانة بما ورد في كتبه عن المعتزلة من حجج، فأوردوها في مخاصمتهم لمذهب الاعتزال.

وترد عن ابن الراوندي أخبار كثيرة على أقلام المؤرخين، لو ضممنا بعضها إلى بعض تكونت لنا صورة عن شخصية قلقة لم تستقر على رأي تؤمن به حق الإيمان، وطفقت تبيع الآراء لمن يشتري، فكانت تصوغ من هذه الآراء ما يوافق الشاري، على نحو ما نعرفه اليوم ممن نطلق عليهم عبارة «كاتب مأجور»، بمعنى الكاتب الذي يكتب لقاء أجر، ما يطلبه دافع ذلك الأجر، قيل عنه فيما قيل: كان ابن الراوندي يلازم أهل الإلحاد، فإذا عوتب في ذلك قال: «إنما أريد أن أعرف مذاهبهم»، ويقال عنه كذلك: كان أبوه يهوديا فأسلم، وكان بعض اليهود يقول لبعض المسلمين: «ليفسدن عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه التوراة علينا» وروي عن ابن الرواندي أنه كان يقول لليهود: قولوا إن موسى قال «لا نبي بعدي»!

Page inconnue