Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
88

Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

Genres

ولقد أسلفنا في الفصل الرابع من هذا الكتاب وقفات اخترناها من القرن التاسع؛ حركة الترجمة عن اليونان الأقدمين، ثم العلاف والنظام والجاحظ، كما أسلفنا كذلك في الفصل الخامس وقفات أخرى اخترناها من القرن العاشر؛ إخوان الصفا، وأبو حيان التوحيدي، وابن جني، وعبد القاهر الجرجاني (وهذا امتدت حياته فترة طويلة في القرن الحادي عشر)، لكننا عرضنا هذه الوقفات العقلانية كلها، كما تعرض اللوحات في معرض الفن؛ كي يقف أمامها الرائي متفكرا متأملا ، وأما في هذا الفصل الذي نحن الآن في سبيل إنشائه، فسوف نعنى بشيء من الحوار الحاد العنيف الذي دارت أرحاؤه خلال ذينك القرنين (التاسع والعاشر، وهما الثالث والرابع بالتاريخ الهجري)، وعندنا - عند كاتب هذه الصفحات - أن أصدق معيار يقيس لنا الغزارة الفكرية في عصر من العصور، هو ما يتبادله رجال الفكر فيه من أخذ ورد، ومن عرض ونقد، فتلك هي علامات الحياة، أما أن يتأمل فيلسوف، أو أن يكد دارس، ثم يسجل الفيلسوف تأملاته، والدارس دراساته، في كتاب أو كتب، ثم يمضي بغير رجع للصدى، فذلك قد يكون من قبيل النافع الذي يمكث في الأرض زمنا طويلا، لكنه وحده لا يدل على حيوية المثقفين في عصره، وقد تمضي أعوام أو قرون، ثم يتنبه لذلك الفيلسوف أو ذلك الدارس من يخرجه من بطون كتبه ليلقي عليه ضوء النهار فيراه الناس ويناقشونه فيما ذهب إليه، وعندئذ فقط يكون للعمل الفكري أثره الحي الفعال.

فإذا قبلنا هذا المعيار لحيوية الثقافة في عصر من العصور، أعني معيار الحوار الجاد الذي لا مزاح فيه، نتج لنا صدق ما زعمناه، وهو أن تلك الفترة الزمنية من تاريخنا الفكري - القرنان التاسع والعاشر الميلاديان - هما الكوكب الدري في سمائنا، أو هكذا نرى؛ لشدة ما دار فيهما من مجادلة بين أصحاب الرأي.

كان المعتزلة - على اختلاف نظراتهم - هم الطاقة المفكرة، إذا جاز لنا هذا التعبير؛ فهم الذين يتصدون للمشكلات الناشئة من مواقف الحياة العملية، بتحليلاتهم العقلية التي تنتهي بهم إلى نتائج بعينها، وعندئذ يقبل على نتائجهم هذه من يقبل، وينفر من الناس من ينفر، ومن ثم تتكون المذاهب وتتفرع، ولقد بلغ المعتزلة أوج عزهم في أوائل الدولة العباسية، لا سيما في خلافة المأمون والمعتصم والواثق، الذين عرفوا لهم مكانتهم، ودعوهم إلى مجالسهم، وقدموهم على سائر العلماء، فكان للمعتزلة الرأي الأول، بل الرأي الأوحد، وها هي ذي «محنة» خلق القرآن، التي ابتلي بها السلفيون من أمثال أحمد بن حنبل؛ لمجرد كونهم قد رأوا في القرآن رأيا لم يكن هو رأي المعتزلة، إذ رأي هؤلاء المعتزلة فيه أن كلام الله حادث، يمكن تحديد وقوعه في مجرى الزمن، على حين أن أولئك قد رأوا أن كلام الله لا بد أن يكون كصاحبه كائنا منذ الأزل، لا تحدده لحظة زمنية يبدأ عندها (انظر تفصيلات «المحنة» في الفصل الثاني من كتابنا «تجديد الفكر العربي») - ولقد وقفنا في الفصل الرابع من هذا الكتاب مع اثنين من أعلامهم؛ هما العلاف، والنظام.

ولقد علمنا تاريخ الفكر أن موجات المذاهب إنما تعلو لتبلغ مداها ثم تنحسر، وذلك ما قد حدث للمعتزلة، فلم يكد يستوفي الخليفة الواثق أجله ويعقبه في خلافة المسلمين المتوكل، حتى أدبر عنهم الدهر؛ إذ ما هو إلا أن يطمئن أعداؤهم من أهل السنة ومن الروافض (وقد سموا كذلك لرفضهم خلافة إمامة أبي بكر وعمر؛ لأنها حجبت الحق عن صاحبه، الذي هو علي بن أبي طالب) إلى أن نجم المعتزلة قد بدأ يخبو، حتى خرجوا عليهم بكل ما استطاعوا من قوة في الحجة، وعنف في الجدل، وحرارة في الحوار.

فلنوجز القول في هذا ثم نفصله بعض التفصيل؛ نوجزه فنقول: إن محور الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة هو في مسألة صفات الله، فهل ننظر إلى هذه الصفات - كالعلم والقدرة مثلا - وكأنها كيانات قائمة برأسها، نتحدث عنها بما نتحدث به وكأنما هي مستقلة عن الذات الإلهية الموصوفة بها، أو أن ننظر إليها كما ننظر إلى وظائف الأعضاء، لا تستقل الوظيفة عن عضوها؟ أخذ أهل السنة بالنظرة الأولى حتى لأطلق عليهم اسم «الصفاتية» وأخذ المعتزلة بالنظرة الثانية؛ ولذلك أطلق عليهم - على سبيل التقابل - اسم «المعطلة» أي الذين ينفون عن الصفات استقلالها، وأما محور الخلاف بين المعتزلة والرافضة فهو في قبول «التجسيم» لله تعالى أو إنكاره، فالآيات القرآنية التي تشير إلى الله تعالى بما يصوره جسما، كثيرة، فأما المعتزلة فلا يرون بدا من تأويل أمثال هذه الآيات تأويلا نتخلص به من جوانب «التشبيه» وأما السلفيون الروافض فيريدون أن يؤخذ القرآن بما ورد في نصوصه بغير تأويل، ولقد تحرجوا في التأويل لسببين؛ أولهما: ما قد ورد في القرآن مما ظنوه منعا يحرم تأويل كلام الله؛ كقوله تعالى:

فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ؛ والسبب الثاني: هو أن التأويل مهما تبلغ بصاحبه قدرته العقلية، فهو لا يعدو أن يكون ظنا، ولا يجوز أن تؤخذ صفات الله تعالى بالظنون، ومن «المشبهة» - هكذا يسمى الآخذون صفات الله الدالة على جوانب جسيمة بظاهر نصوصها وبغير محاولة تأويلها - أقول إن من «المشبهة» من يذهب مع مذهبه إلى أقصى أطرافه، فيميل نحو الحلولية، بحيث يجيز أن يظهر الله تعالى مشخصا فيما شاء أن يتجلى فيه، فقد تمثل - تعالى - لمريم بشرا سويا، على أن حلوله تعالى قد يكون بجزء وقد يكون بكل؛ كما كانوا يقولون.

ونفصل القول بعض الشيء؛ لنفهم لماذا احتد الخلاف النظري بين المعتزلة من جهة، والسلفيين والمشبهة من جهة أخرى، بحيث إذا ما أقبلت الدنيا على المعتزلة نالوا من خصومهم إلى درجة التعذيب والتنكيل، حتى إذا ما دارت الأيام ودالت عنهم الدولة لتقبل على خصومهم رد إليهم هؤلاء صاعا بصاع. وقد يحس القارئ آخر الأمر - كما أحسست أنا - أن أمر النزاع بين الفريقين لم يكن يستحق كل هذا الحنق من فريق على فريق، ولكن لنعلم أنه بمقدار ما يفوتنا وجه الإثارة الذي استوجب ذلك القتال، يكون قد استحال علينا أن نعيش مع الأقدمين فيما امتلأت به صدورهم من سعير المشكلات.

إن لمذهب المعتزلة أصولا خمسة؛ يقول عنها «الخياط» في كتابه «الانتصار»: «ليس يستحق أحد اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة» (ص126)، وهي أصول نعرفها جميعا لكثرة ورودها في كل كتاب يعرض لهم بالحديث:

فأولها: القول بالتوحيد، نعم إن كل مسلم قائل بالتوحيد، لكنهم أرادوا بذلك تخصيصا في القول لم يشاركهم فيه أصحاب المذاهب الأخرى، من ذلك أنهم رأوا نتيجة تلزم عن التوحيد، وهي أن يكون الله قديما (= أزليا ) بذاته، وأما صفاته تعالى فليست كذلك، فإذا كان الله «عالما» فهو عالم بتلك الذات الإلهية نفسها، لا بأن تكون صفة «العلم» قائمة وحدها ولها من الأزلية ما للذات، قائلين في ذلك: إنه لو كانت الصفات مشاركة للذات في القدم، لشاركتها في الألوهية، وفي ذلك كثرة وتعدد لا يستقيم معهما «توحيد».

وإذا جاز لي أن أقرب هذا القول إلى عقول القراء المعاصرين، أجريت مشابهة بينه وبين مشكلة حديثة نشأت في ميدان علم النفس الحديث، وهي خاصة بما كان يسمى «بالملكات»؛ فقد كان يظن أن للإنسان ملكة للحفظ - مثلا - وملكة للتفكير الرياضي، وملكة للغات، إلى آخر هذه القدرات التي تتبدى كلها أو بعضها عند مختلف الأفراد، وكان الظن - كذلك - أن كل «ملكة» من هذه الملكات لها كيانها المستقل؛ ولذلك كان السؤال وارادا: كيف نقوي هذه الملكة أو تلك؟ وقد كانت العملية التربوية في المدارس متأثرة بمثل هذا التصور، إلى الحد الذي جعلها تقيم المناهج الدراسية على أساس هذه «الملكات» وهي فرادى، ثم ظهرت النتائج العلمية في ميدان علم النفس الحديث، فإذا هذه الملكات وهم، وإذا الموجود الوحيد هو الكائن العضوي المكتمل الذي يكون فردا من الأفراد، وهذا الكائن ينضج «كله» ويدرك «كله» ويحفظ أو لا يحفظ «كله»، وأحسب أننا ما نزال - برغم هذه النتائج العلمية الحديثة - نجد صعوبة شديدة في تقبل هذه «الوحدانية» العضوية للفرد، بدليل أننا ما زلنا نتصور «العقل» - مثلا - وكأنه ساكن يسكن الجسد، ليديره كيف شاء، أو كأنه سائق السيارة، ليس هو من السيارة، لكنه مسيرها، وعبثا يحاول بعضنا أن يفهم بأن «العقل» إن هو إلا حالة سلوكية توافرت فيها صفات معينة، ومن ثم فهي الكيان العضوي كله وهو يسلك على ذلك النحو المعين.

Page inconnue