Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genres
وللإدراك السليم في مواجهة المشكلات صور، ليست كلها أقيسة أرسطية جفت في هياكلها عصارة الحياة، بل إن منها ما هو أقرب إلى عفوية الطفل في إدراكه، ومنها ما هو ممتزج بالسخرية اللطيفة، ومنها ما هو إدراك بالبصيرة النافذة، تصل إلى الحق بلمحة واحدة، ولنا بعد ذلك أن نقيم على ذلك الحق ما استطعنا من تبرير وبرهان، ولا بد أن يكون في حصاد الثقافة العربية كل هذه الصنوف من الإدراك السليم، في مختلف المواقف التي تعرضت لها.
فالفرق بعيد بين رجلين صادفتهما مشكلة بعينها، ولنقل مثلا إن كلا منهما قد أخذه القلق على عقيدته الدينية، وأراد أن يطمئن على قوتها؛ أما أحدهما فقد جعل طريق اطمئنانه هو أن يخلق بأوهامه قصصا يحكيها عن أقطاب من أتباع هذه العقيدة، تدل على أنهم بقوة عقيدتهم تلك استطاعوا أن يفكوا عن العالم الطبيعي قيود السببية العلمية الصارمة، فهم يحصلون على ماء بغير مصادره، ويحصدون ثمارا بغير نبات ينبته وهكذا، وأما الآخر فيبحث لبيان القوة في عقيدته عن أسس يقبلها الإدراك العلمي السليم، سواء كانت تلك الأسس قائمة على لمح البصيرة، أو على مشاهدات البصر، أو على استدلالات العقل لنتائج يخرجها من مقدمات بين يديه.
وفي التراث العربي هذان الصنفان من الرجال؛ الصنف الذي لا يقيد نفسه بالشواهد في مواجهة مشكلاته، والآخر الذي يواجه تلك المشكلات بأسلوب عاقل، لا يجد أبناء الثقافات الأخرى، أو أبناء الأجيال القادمة، بأسا في تتبعه واقتباسه.
4
لم أكد أضع الأمر لنفسي على هذه الصورة التي تفرق بين موقفين؛ أحدهما يتحدى الوقائع وحدودها، وبالتالي فهو يتحدى العلم وطرائقه، والثاني يجعل الوقائع مداره، ثم يعالجها على أي نحو يطيب له؛ شريطة أن يصون لسلامة الإدراك مقوماتها، أقول: إني لم أكد أضع الأمر لنفسي على هذه الصورة، حتى قفزت إلى ذهني آية قرآنية كريمة ووجهة نظر في تأويلها، فوجدتها هي الآية التي ترسم لي خطة السير فيما أردت السير فيه، وأعني بها آية النور، ووجهة نظر الإمام الغزالي في تأويلها؛ لأنه يؤولها في كتابه «مشكاة الأنوار» على نحو يجعلها مبينة لدرجات الإدراك السليم، التي ربما كانت هي الدرجات التي يتدرج بها الفرد الواحد في نموه العقلي، وتتدرج بها الأمة الواحدة، أو الثقافة الواحدة في طريق نضجها، وعندئذ يمكنني أن أتابع تراثنا الفكري مهتديا بتلك الدرجات الإدراكية، وملتمسا لكل درجة منها عصرا تمثلت فيه، ورجالا تمثلت فيهم، وكتابات تجلت فيها، فإذا وجدتني أسير مع هذه الدرجات في طريق موصول خلال عصور الثقافة العربية، كنت بذلك قد وقعت على خريطة الواقع، وخطة للسير في شعابه.
تقول الآية الكريمة:
الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .
فالنور هنا هو قوة الإدراك، ومن السهل على خيالنا أن يتصور في الإدراك نورا وفي الغفلة ظلاما، وإن أسماء الله تعالى لتحتوي على عدد كبير يدل على إدراكه لكل دقائق خلقه، ما ظهر منها وما بطن؛ فهو العليم، السميع، البصير، وهو اللطيف الذي يعلم دقائق المعاني وغوامضها، ما دق منها وما لطف، وهو الخبير الذي لا تغرب عنه الأخبار الباطنة، ولا يجري في ملكه شيء إلا ويكون عنده خبره، وهو الحكيم، وهو الشهيد العالم بعالم الغيب وعالم الشهادة، أي إنه تعالى عليم بما بطن من الأمور وما ظهر، يقول الإمام الغزالي في شرح أسماء الله الحسنى: إن اسم «العليم» يشير إلى العلم على إطلاقه، فإذا أضيف علمه تعالى إلى الغيب فهو «الخبير»، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو «الشهيد»، وهو الحق بالمعنى المطلق للحق، أي إنه تعالى حق بذاته غير مستند إلى شيء سواه، وأما كل حقيقة أخرى فحقها نسبي مضاف إلى غيره، فأحق الموجودات بأن يكون حقا هو الله، وأحق المعارف بأن يكون حقا هو معرفة الله، وهو المحصي لأن علمه تعالى محيط بالمعلومات جميعا، ففي علمه ينكشف لكل معلوم حده وعدده ومبلغه، وهو النور أي إنه هو الظاهر بذاته الذي يكون به كل ظهور سواه، وهو الرشيد الذي ينساق تدبيره إلى غاياته على سنن السداد.
لكن هذا الإدراك في خبرات الناس يكون على صور متباينة هي التي رمزت إليها الآية الكريمة - على تأويل الغزالي للآية - فأما أولى هذه الصور الإدراكية فهي المحسوسات التي تدركها حواس الإنسان؛ من بصر وسمع ولمس وغيرها، وتلك هي التي رمزت إليها الآية بالمشكاة، وماذا بداخل المشكاة؟ بداخلها مصباح في زجاجة، أما المصباح فهو العقل الذي يدرك المعاني؛ إنه لا يقف عند حدود ما تورده الحواس، بل يجاوز تلك الحصيلة الحسية إلى دنيا المعاني المجردة، والذي يعينه على فاعليته هذه هي الزجاجة التي تحيط به، والزجاجة هنا ترمز إلى الخيال، ويقصد بالخيال هنا القدرة على حفظ ما تورده الحواس مخزونا، حتى يعرض على العقل عند الحاجة إليه، فلئن كان العقل يجاوز ما تجيء به الحواس من العالم المحيط، إلا أنه يرتكز على المحسوسات ليتمكن من الوثوب إلى ما وراءها، وبالطبع لا يستخدم العقل كل الوارد الحسي دفعة واحدة، إنما هو في كل لحظة من لحظات فاعليته ينتقي ما ينفعه، وإذن فلا بد له من حافظ يصون له المدخر من خبرة الماضي، فيكون له كالخازن الذي يمده في كل لحظة بما يريد، وتلك هي الزجاجة المحيطة بالمصباح.
لكن قوة الخيال هذه - الزجاجة - من أين تأتيه؟ نعم، إنه موصوف في الآية بأنه كالكوكب الدري لمعانا، لكن لهذا الضياء الساطع مصدرا، فهو يوقد من شجرة مباركة، والشجرة هنا - في تأويل الإمام الغزالي - هي الروح الفكري الذي يؤلف بين العلوم العقلية، إنه بغير تأليف وتنسيق ثم انتقاء واختيار، تظل المعلومات أشتاتا لا تنفع، فلنقل إذن إن الشجرة المباركة هنا هي «المبدأ»، أو جملة المبادئ التي توحد الشتيت ليصبح نورا هاديا، أعني ليصبح علما يكشف عن الحق، فإذا استطرد السائل ليسأل: ومن أين للشجرة نفسها هذه القوة؟ أجابت الآية الكريمة بأنها قوة ذاتية لا تستمد من شيء آخر؛ إذ هي إنما تضيء بزيتها هي، وزيتها هذا يكاد يضيء من تلقاء نفسه، ولو لم تمسسه نار، وإذن فهو المصدر الإدراكي الأخير الذي يقوم بذاته، ثم يكون منه المدد لغيره من صور الإدراك. هو أقرب شيء إلى ما نسميه في المصطلح الفلسفي «بالحدس» أو الإدراك بالفطرة أو بالبصيرة؛ لأنه إدراك يلمع دفعة واحدة، يبرهن على غيره، لكنه هو نفسه لا يحتاج إلى برهان؛ إذ هو مباشر غير مسبوق بما يمهد له أو ما يولده وينتجه، وإن شئت فقل عن مثل هذا الإدراك الأولي المباشر: إنه إلهام أو وحي من الله.
Page inconnue