Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genres
وإني إذا رجوت لهذا الكتاب رجاء، فذلك أن يجيء خيره أكثر من شره، وصوابه أكبر من خطئه.
زكي نجيب محمود
القسم الأول
طريق العقل
الفصل الأول
خطة السير
1
كانت عادتي كلما هبطت مدينة من سفر - قصر مقامي بين ربوعها أو طال - أن أبدأ بالنظر إلى خريطتها؛ لأقسم أرجاءها أقساما تتناسب في سعتها مع طول المدة التي أنوي إقامتها، فكلما قصرت مدة الإقامة ازدادت تلك الأقسام اتساعا، وكلما طالت المدة ضاقت الأقسام، ثم أخصص لكل قسم نصيبه من الزمن؛ لأجول مارا على تفصيلات أجزائه سائرا على القدمين، لا أستعين بقطار أو سيارة إلا إذا هدني التعب هدا يستحيل معه أن أواصل السير؛ ذلك لأني أومن بأن الرؤية المتأنية الفاحصة التي ترسخ في الذاكرة وتدوم ، هي تلك التي تجيء من سائر على قدميه، يمهل الخطى حينا، ويقف عن السير حينا، كلما احتاجت منه الأشياء إلى إمهال أو وقوف، وبغير هذا النظر إلى خريطة المكان، لأتصور به أين شرقه من غربه، وأين شماله من جنوبه؛ تتمزق الصورة عندي وتتبعثر تفصيلاتها، حتى أخرج من زيارتي وكأنني لم أحصل شيئا، مهما كثرت عندي أجزاء ما رأيت وما سمعت، فكأنما أمسكت بكتاب ومزقت أوراقه قصاصات قصاصات، تجمعها أمامك في كومة لا ينساق فيها سطر وراء سطر، ثم قلت لنفسك: ذلك هو الكتاب، لم ينقص حرفا! لكنه في الحقيقة قد نقص كل شيء حين زالت عنه الوحدة التي تجمع أجزاءه في كيان.
النظرة إلى خريطة البلد الذي أقيم فيه هي العمود الفقري الذي يبقيه في خبرتي كائنا متصل الأجزاء، وهكذا الأمر بالنسبة إلى علم أحصله، فمهما امتلأ وفاضي من حقائق مفككة الأوصال عن رجال أو عصور أو مذاهب، فأنا المفلس من العلم المفيد ما لم أجد لنفسي الإطار الذي يجمع الأشتات في كيان واحد، أعرف فيه أين يقع الرأس وأين يكون الذنب، وإني لأغلو مع نفسي في مطلب التوحيد هذا، حتى لأحاول في كثير من الأحيان ألا أكتفي بمجرد مبدأ نظري أجعله قطبا للرحى، بل ألتمس لنفسي صورة مجسدة أخلقها لنفسي خلقا، فتعينني على ترتيب الأجزاء وتنظيمها في نسق موحد.
2
Page inconnue