Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genres
مرة أخرى نحس يأس الجاحظ من أن يجد في المادة المترجمة إلى العربية صورة مطابقة للأصل الذي نقلت عنه، فإذا كان هذا هكذا والمادة المنقولة علم وفلسفة مما يسهل نقله نسبيا، فماذا نقول إذا أردنا ترجمة القرآن الكريم وترجمة الشعر العربي؟ إنه عندئذ يكون ضربا من المحال، ولما كان العرب أصحاب دين وشعر، فلا أمل في أن يعرف فضلهم غير العرب.
ويترك الجاحظ حديثه عن الترجمة، الذي نلخصه في أنه لم يسترح إليها من وجهين، فهي من جهة يستحيل عليها أن تنقل الأصول نقلا أمينا، ومن جهة أخرى فهي يستحيل عليها أن تنقل ثقافة العرب من دين ومن شعر لغير العرب، وإني لأقف هنا متأملا متسائلا: فيم كان عناء الترجمة وما أنفق عليها من أموال، إذا كان هذا رأي أعلام المثقفين عندئذ فيها؟ ترى هل نكون على حق في الريبة التي أحسسنا بها، وأشرنا إليها فيما سبق، من أن يكون لها هدف سياسي تخفى وراء ظاهرها الثقافي النزيه؟ وإذا كان الأمر كذلك، فماذا يكون ذلك الهدف السياسي إلا محاربة الثقافة العربية الصميمة من دين ومن شعر معا، وذلك بأن توضع إلى جانبها ثقافة أخرى من صنف آخر، فأقل ما تفعله هذه المجاورة هو أن تحدث في النفوس بلبلة، ويتشقق إيمان الناس بقيمة ما يعتزون به، ولنذكر دائما أن القائمين على حركة الترجمة وهي في عزها وعنفوانها هم خلفاء الدولة العباسية الذين هم الأعداء الألداء لخلفاء الدولة الأموية التي سبقتهم إلى الحكم، فإذا كان هؤلاء الخلفاء الأمويون ذوي نعرة قومية تشيد بالعروبة الخالصة، أفلا نتوقع من خلفاء بني العباس أن يلتمسوا السبل الممكنة - في دهاء وفي خفاء - التي من شأنها أن تلقي ظلا كثيفا على موضع اعتزاز أعدائهم؟ فإذا أضفت إلى هذا أن العباسيين قد جاءوا إلى الحكم بمعونة الفرس - جيوشا وقادة - حين كانت نفوس هؤلاء الفرس قد أصيبت بغثيان شديد لما لاقوه على أيدي الأمويين من زراية واستخفاف برغم إسلامهم، لا لشيء إلا لأنهم من غير الأرومة العربية الخالصة، عرفت أن خلفاء بني العباس إذا كانوا يحاربون النعرة العربية مرة لغرض في نفوسهم، فقد كان وراءهم صفوف كثيفة من الفرس أرادوا هم كذلك أن يحاربوا تلك النعرة العربية ألف مرة ... هذه كلها تأملات توحي إلينا بها علامات كثيرة نراها، منها ما ذكرناه لتونا من وقفة الارتياب التي وقفها الجاحظ إزاء حركة الترجمة التي شهدها عندما انتقل من البصرة إلى بغداد.
أعيد القول بأن الجاحظ يترك الحديث عن الترجمة ليكتب عن قيمة الكتب في حد ذاتها، وعن الأسلوب الجيد كيف يكون؛ فالكتاب عنده أعز من الولد؛ لأن لفظه أقرب نسبا إلى كاتبه من ابنه إليه، ولأن ذلك اللفظ ومعانيه أمس بالكاتب رحما من ولده، وكيف لا يكون الأمر كذلك والكتابة شيء أحدثه من ذات نفسه، فكأنما العبارة المكتوبة كانت جزءا من صميم نفس الكاتب وجوهره ثم انفصلت لتقوم وحدها على صحيفة، أما الولد «فكالمخطة يتمخطها، والنخامة يقذفها، فهل يتساوى إخراجك شيئا لم يكن جزءا من حقيقة وجودك، مع إظهارك معنى في لفظ، ما كان ليكون لولا انبعاثه من عين جوهرك؟» (راجع الحيوان، ج1، ص89).
ذلك هو الكتاب وقيمته، وأما الأسلوب الجيد عند الجاحظ فشرطه الأساسي أن يبسط الكلام ليفهم؛ «فليس الكتاب إلى شيء أحوج منه إلى إفهام معانيه» (ص90)، ويستطرد الجاحظ ليفصل رأيه بعض الشيء، فيقول إن الكاتب المجيد في أسلوبه هو الذي لا يتعقب ألفاظه تهذيبا وتنقيحا وتصفية وتزويقا حتى يحذف منها كل ما ليس مطلوبا لأداء المعنى المراد لها أن تؤديه؛ وذلك لأن الكاتب الذي لا يبقي من لفظه إلا ما ينطق بلب اللب، حاذفا فضوله مسقطا زوائده، يتعذر فهمه على القارئين «لأن الناس كلهم قد تعودوا المبسوط من الكلام، وصارت أفهامهم لا تزيد على عاداتهم» (ص90).
وإنما جودة الأسلوب تتطلب حذف زوائد اللفظ بالقدر الذي لا يكون سببا في إغلاق المعنى على الناس، وبعد ذلك تكون الإطالة مما يعيب الأسلوب، على أن الجاحظ يعود فيتحوط فيقول إن من ضروب القول ما يطيب فيه الإسهاب، ومنها ما يطيب فيه الإيجاز (ص93)، ثم ينبهنا الجاحظ هنا إلى ملاحظة طريفة، حين يقول (ص94): إن العرب يميلون إلى الإيجاز، على حين أن غيرهم يحتاجون إلى الإطناب؛ لأن العرب تكفيهم الإشارة الخاطئة ليفهموا، ولا كذلك سواهم، ولذلك - وهنا موضع الطرافة الذي أشرت إليه - «رأينا الله تبارك وتعالى، إذا خاطب العرب والأعراب، أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم، جعله مبسوطا، وزاد في الكلام.»
لا شك أن دهشة تأخذ الآن بالقارئ منذ انتقلت به إلى الحديث عن كتاب «الحيوان» للجاحظ، فطفقت أنقل عنه نظرات في الترجمة وفي الكتابة وأسلوبها وغير ذلك، أين «الحيوان» في هذا كله؟ لكن هذا هو الكتاب، أغلبه عن الحيوان، لكن تناثرت في غضونه وقفات فكرية كثيرة جدا عن مختلف الموضوعات بغير تحديد، شأن «التأليف» في منهج العرب الأقدمين؛ إذ ترى مؤلف الكتاب يرسل الحديث إرسالا وكأنه يسمر مع أصدقائه، فهنالك موضوع رئيسي، لكن هذا الموضوع الرئيسي لا يحول دون الاستطراد وراء كل فكرة تلمع على الطريق، وسأقدم للقارئ نماذج غاية في الإيجاز؛ حتى يتبين على أي نحو كان الجاحظ يتحدث عن صنوف الحيوان، غير أني أرجئ ذلك قليلا لتتاح لنا فرصة أوسع نورد فيها مزيدا من أفكار الجاحظ التي سيقت في هذا الكتاب الضخم الموسوعي العظيم.
لعله من أبرز ما نادى به فلاسفة التربية في عصرنا رأي يقول بضرورة أن يجد الناشئ فرصة كافية ومواتية ليخرج كوامن طبيعته؛ لأنه إذا فرض على النشء محصول فكري معين، بغض النظر عن قدراتهم واستعداداتهم، فالأرجح أن يفلت من أيدينا طاقة خلاقة لو تركت لتنفس عن نفسها لتغير وجه الأرض ولسعد الإنسان، ترى هل يكون هذا المعنى هو ما عناه الجاحظ حين قال : «... قد زعم أناس أن كل إنسان فيه آلة لمرفق من المرافق، وأداة لمنفعة من المنافع، ولا بد لتلك الطبيعة من حركة وإن أبطأت، ولا بد لذلك الكامن من ظهور، فإن أمكنه ذلك بعثه، وإلا سرى إليه كما يسري السم في البدن» ويستطرد الكاتب ليشبه ذلك بالبذور الكامنة في أرحام الأرض كيف تكون إذا أسعفت بما يخرج كوامنها، وكيف تصبح إذا حيل بينها وبين النماء (الحيوان، ج1، ص201).
وللجاحظ وقفات عجيبة إزاء الطبيعة البشرية كلما عرض له موضوعها أثناء الحديث، فعندئذ ترى الفكرة النافذة الصائبة؛ يعرض له موضوع الخير والشر، لماذا لا يكون الخير صرفا لا تشوبه شائبة من الشر؟ فيجيب بما معناه أن وجودهما معا يستلزم من الإنسان أن يختار، ولكي يختار فلا بد له من تدبر وموازنة، أما إذا فرضنا أنه ليس أمام الإنسان إلا الصواب وحده - مثلا - بحيث لا يجد ما يدعوه إلى الوقوف ليبحث عن مواضع الصواب فيميزها من مواضع الخطأ، فماذا يبقى بعد ذلك من التفكير ومن العلوم؟ (ص204).
ثم يمضي في ذلك قائلا وموضحا: «... من لم يعرف كيف الطمع لم يعرف اليأس، ومن جهل اليأس جهل الأمن، وعادت الحال من الملائكة الذين هم صفوة الخلق، ومن الإنس الذين فيهم الأنبياء والأولياء، إلى حال السبع والبهيمة ... وإلى حال النجوم في السخرة، فإنها أنقص من حال البهائم في الرتعة، ومن هذا الذي يسره أن يكون الشمس والقمر والنار والثلج، أو برجا من البروج أو قطعة من الغيم، أو يكون المجرة بأسرها، أو مكيالا من الماء أو مقدارا من الهواء؟» (ص205).
رحمك الله يا جاحظ! هلا عددتني من أتباع أتباعك في هذا الإصرار على أن تترك للإنسان حريته! فلا حرية، بل ولا كرامة لإنسان إذا قدم له الطريق جاهزا؛ لأن كل حريته وكل كرامته في أن يختار لنفسه بنفسه طريق السير؛ إنه لا يغريه أن يكون شمسا ولا قمرا ولا نجما، بل لا يغريه أن ينقلب مجرة بأسرها إذا كان ثمن ذلك هو أن يخط له مساره ويسلب اختياره، حتى لو تعرض اختياره للخطأ والضلال، فيكفيه أنه هو الذي قرر لنفسه وهو الذي يحمل تبعات ما قرره، لكن من ذا تخاطب بهذا القول؟ أتخاطب قوما لا يطيب لهم العيش إلا في ظل قيادة وزعامة تفكر نيابة عنهم وتختار نيابة عنهم كأنهم هم الحجر الأصم لا يتحرك بذاته فينتظر اليد القوية التي تحركه حيث تريد هي وحيث لا يعلم هو! ولست من الرومانسيين عباد الماضي؛ إذ ما أسرع ما يطير الوهم ببعضنا إلى الظن بأن فقدان الحرية بالنسبة للأفراد، والحرية شبه المطلقة لمن يتصرف بإرادته الواحدة في هؤلاء الأفراد، أقول: إنه ما أسرع ما يطير الوهم ببعضنا فيظن أن هذا حالنا نحن وفي عصرنا، أما عصر الجاحظ الذي كتب هذا فقد كان الناس أحرارا ذوي أكتاف عريضة قوية قادرة على حمل التبعات، ولكني أقولها - على سبيل الترجيح - أنه لولا أن الجاحظ قد رأى أفراد الناس من حوله تسير كالجوامد ولا تسير كالأحياء الحرة الطليقة، لما قذف بكلام كهذا في كتاب خص به عالم الحيوان!
Page inconnue