Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Genres
ولو صدق تعليل من هذا القبيل، لجاز لنا إذن أن نقول: إنه لا يبعد أن كان الخلفاء العباسيون في اندفاعهم نحو نقل الثقافة اليونانية العقلية، يضمرون الغيظ من شعوذات الفرس اللاعقلية، فأرادوا محاربتها على أرفع مستوى من مستويات الفكر والثقافة، أو لعلهم في اندفاعهم ذاك نحو «العقل» لم يكونوا يريدون مغايظة الثقافة الفارسية بقدر ما أرادوا مكايدة الثقافة العربية الخالصة وأصحابها ومؤيديها، وهذه هي النتيجة التي أردت الوصول إليها، مستندا في ذلك إلى «انطباعات» أحسستها إذ كنت أقلب صحائف التراث، أكثر مما استندت إلى مقدمات موثوق بصدقها لتنتج لنا نتائج موثوقا بصدقها أيضا، وهي على كل حال نتيجة - لو صدقت - لرأيناها تصور موقفا طبيعيا، فماذا تتوقع من حكومة عباسية جاءت لتقتلع حكومة أموية سبقتها إلى الخلافة معتمدة على أصولها العربية وعلى تعصبها العلني لكل ما هو عربي، بالقياس إلى ما ليس بعربي من الموالي أو من الثقافات الفارسية وغيرها؟ ماذا تتوقع من هذه الحكومة الثانية الظافرة بفضل نفر من الموالي، إلا أن تثأر من سابقتها على الوجهين معا؛ الوجه السياسي، والوجه الثقافي؟ فلئن كان الفرس المرتدون إلى متناثرات شائهة من عقائدهم القديمة، كالمجوسية (= الزرادشتية) والمزدكية والمانوية، يعتمدون فيما يدعونه على مصدر يشبه «الكشف» الصوفي، إذن فالمعرفة اليونانية «العقلية» هي وسيلة الرد عليهم، وهذا هو الوجه السياسي من الموقف، ثم إذا كان الأمويون وأنصارهم يرتكزون أساسا على التعصب للثقافة العربية الأصيلة، إذن فالمعرفة اليونانية «العقلية» هي أيضا وسيلة الرد عليهم، وهذا هو الوجه الثقافي من الموقف، فلأي من هذين الوجهين، أو للوجهين معا، أراد المأمون - وغيره من خلفاء العباسيين - أن تترجم الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني بصفة خاصة، ومع ذلك كله، فلماذا لا نضيف لتفسير الموقف وجها ثالثا، هو رغبتهم المنزهة عن الأغراض الزائلة في تعميق الحياة الفكرية في الأمة العربية؟
22
في مقالة عميقة موحية، للباحث الألماني «كارل هينرش بكر» (نقلها الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية») يورد الباحث ملاحظات نافذة؛ فهو يبدأ مقالته بأن ينبه إلى حقيقة هامة، هي أنه إذ نكون بصدد الحديث عما نقله فلان عن فلان من ضروب الفكر، ليس المهم هو ماذا أخذ عنه؛ لأن مجرد بياننا للأفكار المأخوذة لا يكفي وحده للدلالة على شخصية المتلقي من أي نوع هي، فلا بد أن يضاف إلى ذلك أيضا ما فعله المتلقي بما نقل إليه من أفكار الآخرين؛ لأنك قد تنقل الثقافة الواحدة إلى رجلين، فتراها تنتج عند كل منهما أثرا يختلف عما أنتجته عند الآخر؛ ففي هذه الحالة التي نريد أن نتناولها الآن بالحديث، نجد ثقافة بعينها، هي ثقافة اليونان الأقدمين، نقلت إلى العرب بلغتهم، وإنا لنعلم كذلك أن هذه الثقافة اليونانية نفسها قد نقلت - عن طريق هؤلاء العرب أنفسهم بعد ذلك بعدة قرون - إلى أوروبا، وسؤالنا هو: هل أحدثت ثقافة اليونان الأقدمين في الفكر العربي أثرا شبيها بما أحدثته في أوروبا بعد ذلك؟ نعم، إن الفرق في الحالتين واسع وعريض؛ فبينما لقيت الثقافة اليونانية عند نقلها إلى العرب أفكارا تباين أشد التباين الأفكار التي كانت تحملها تلك الثقافة اليونانية المنقولة، نستطيع القول بأنها عندما نقلت - عن طريق العرب - إلى أوروبا، لم تجد أمامها فكرا يعارضها ويباينها، بل وجدت ناسا هم من جنس الناس الذين كانوا مبتكري تلك الثقافة اليونانية الأولى وخالقيها، فكأنما هي في هذه الحالة الثانية قد انتقلت إلى أسرة أخرى وشيجة الروابط - من حيث وجهة النظر - بالأسرة اليونانية، أما في حالة النقل إلى العرب، فالنقلة جاوزت مجرد الانتقال من فرع إلى فرع في شجرة حضارية واحدة، لتكون نقلة من حضارة تنطبع بطابع معين إلى حضارة مختلفة في طابعها أعمق اختلاف؛ هذه خلاصة واضحة لما أراد أن يقوله «بكر» في مقارنته بين الحالتين، وهو فرق يفصله في مقالته ليبين أبعاده الكثيرة كيف كانت وإلى أي مدى؟
لقد كنا في رحلتنا الفكرية هذه، قد استوقفنا بيت الحكمة في بغداد، فدخلناه لنرى القوم منكبين على ترجمة الفكر اليوناني بفلسفته وعلومه، فجعلنا ذلك علامة قوية على نزعة عقلانية تصلح أن تكون أحد المعالم البارزة على طريق رحلتنا، أعني طريق العقل في تراثنا الفكري، وآن الأوان هنا أن نسأل - قبل أن نغادر بيت الحكمة هذا - ترى ماذا أحدثت هذه المادة العلمية المنقولة من أثر في حياة الناس الفعلية؟ ماذا أحدثت من أثر في ميادين السياسة، وفنون القتال، ونظم الاقتصاد، وفي الصناعات، والبحث العلمي، والإبداع الفني، بل وفي المعايير الخلقية، وغيرها وغيرها من مقومات الحياة العملية؟
إن في حياتنا الراهنة أيضا حركة قوية للترجمة عن غيرنا، ولو سألنا الأسئلة السابقة نفسها عن حركة الترجمة الحاضرة ، هل غيرت من أوضاع حياتنا الفعلية، لما ترددنا لحظة في جوابنا بالإيجاب؛ فالنظم السياسية عندنا - على اختلاف صورها في مختلف الأقطار العربية - مأخوذة كلها من أوروبا وأمريكا، وإلا لما سمعنا بشيء اسمه دستور، أو برلمان، أو جمهورية ورئاستها ... إلخ، وفنون القتال مأخوذة كلها مما تعلمناه عن الغرب؛ إما نقلا بالكتابة، أو تدريبا بالمران، ونظم الاقتصاد كلها مأخوذة من ذلك الغرب أيضا، وإلا لما سمعنا بشيء اسمه رأسمالية أو اشتراكية أو مصارف أو شركات للتأمين ... إلخ إلخ، وهكذا قل في كل فرع من فروع الحياة العلمية التي نعيشها بالفعل، مما يؤكد أن حركة النقل - بالترجمة أو بالمشاهدة، ولا اختلاف في الجوهر - الحاضرة قد نقلت معها حياة بأسرها وبكل شعابها من أرضها الأولى إلى أرضنا، وربما نكون قد تمثلنا بعض جوانب هذه الحياة المنقولة وعجزنا حتى الآن عن تمثل جوانبها الأخرى، ونحن نسأل السؤال نفسه عن الأقدمين! هل نقلوا - إذ ترجموا فلسفة اليونان وعلومهم - نظرة ثقافية جديدة غير نظرتهم، بحيث ظهرت آثار ذلك في ميادين حياتهم العملية الجارية يوما بعد يوم؟ الرأي الراجح عندي الآن هو أنهم لم يفعلوا إلا إلى حد ضئيل، وفي ميادين قليلة، بحيث مست نفرا قليلا من الناس، وبقي الجمهور الأكبر على ثقافته العربية وقيمه العربية ونظرته العربية؛ يعطي الأولوية الأولى للشعر وللغة، وللدين عقيدة وشريعة.
فمهما قال القائلون بأن لا شرق ولا غرب في تقسيم البشر، وأن الإنسان هو الإنسان بفطرته المشتركة، تتجه حيث توجهها، فالمسألة فيما بين الناس من أوجه الاختلاف الثقافي هي مسألة طريقة في التربية، فلا ينفي هذا القول أن نقرر بأنه قد حدث بالفعل؛ فليس الأمر هنا أمر أهواء تميل بصاحبها نحو اليمين أو نحو اليسار، بل إنه قد حدث بالفعل، والتاريخ شاهد على ما قد حدث، أن الناس فيما يسمى بالشرق قد وجهتهم التربية وجهة ثقافية معينة، تخالف الوجهة التي اتجه إليها الناس فيما يسمى بالغرب بحكم التربية أيضا، فبينما الناس فيما يسمى بالشرق يتلقون «القيم» المسيرة لحياتهم من السماء عن طريق الوحي يوحى به إلى الأنبياء - ولكل مجموعة بشرية أنبياؤها الذين قد تعترف بهم المجموعات الأخرى أو لا تعترف - نرى الناس فيما يسمى بالغرب يزعمون أنهم إنما انتهوا إلى «القيم» استدلالا عقليا من مبدأ افترضوا صوابه استنادا إلى ما زعموه إدراكا بالبصيرة النافذة، أو «بالحدس» كما اصطلح رجال الفلسفة على تسمية هذا النوع من طرائق الإدراك.
فلو جاوزنا حدود «القيم» لنطلق الحديث بغير حدود، قلنا: إن الناس فيما يسمى بالشرق لم ينفكوا يتصورون فجوة بين الله والإنسان، وسبيل الإنسان إلى السعادة الحقيقية هو أن يلتمس الطريق جاهدا، الذي يعينه على عبور هذه الفجوة؛ لعله يقترب من الله ما وسعته الحيلة، فليست المسألة هنا مسألة «عقلية» تحل باستدلال النتائج من مقدماتها، وإنما هي مسألة وجدانية روحانية، يحس بها الإنسان اعتمالا في نفسه من الداخل، فهو يصلي - مثلا - محاولا في صلاته أن يقطع كل صلة بينه وبين ما حوله ومن حوله ليقف أمام ربه كأنما الكون كله قد لخص عندئذ في معبود وعابد، لا يفصلهما بعد مكاني ولا فترة زمانية، وإن هذه المحاولة المستمرة من الإنسان في أن يتصل بربه صلة مباشرة، لتبلغ أبعد آمادها في جماعة المتصوفة على اختلاف وقفاتهم؛ فمنهم من يقول إنه استطاع أن يمحو الفارق الذي يفصله مكانا وزمانا عن ربه فإذا هما واحد، ومنهم من يقول إن كل ما استطاعه هو أن يقترب من ربه بحيث يتاح له الشهود، ومنهم من يقول إن أقصى ما بلغه من ذلك هو عرفان عرف به ربه، وهكذا.
تلك هي ركائز النظرة «الشرقية» كما يمكن رؤيتها في وضوح في تعبيرهم عن أنفسهم، بل أحسب أن رؤيتها رؤية واضحة ما تزال في أيدينا لو أردنا - وأعني العرب المعاصرين أنفسهم - لو نظر الإنسان العربي إلى ما تمتلئ به نفسه في حالاته الوجدانية التي يخلو فيها إلى نفسه بعد فراغه من عمله، ومن هذه الحالات الوجدانية حالات العبادة؛ من صلاة وصوم وحج وغيرها، فعندئذ سيرى في جلاء لا لبس فيه أن وجهة نظره الثقافية التي تلقاها بالتربية - عن وعي أو عن غير وعي؛ فذلك لا يهم - تميل به ميلا شديدا نحو أن يمحو المادة الغليظة التي تتجسد بها الأشياء من حوله؛ ليحس ما استطاع بأنه لم يعد بينه وبين الله من حجاب.
وما هكذا فيما نعتقد وقفة أولئك الذين يسمون بأهل الغرب؛ من اليونان الأقدمين، إلى شعوب أوروبا وأمريكا المعاصرين، إننا بالطبع لم ندخل جلودهم لنرى بأعينهم ونحس بقلوبهم، ولكننا نبني الرأي على أساس ما نقرؤه من كتب عبروا ويعبرون بها عن ذوات نفوسهم، أو ذوات عقولهم؛ فهم - فيما يبدو - لا تشغلهم الفجوة الفاصلة بين دنيا معاشهم اليومي وبين الله، بمثل ما تشغلهم العلاقة بين الأسس العملية التي تبنى عليها حياتهم الدنيوية هذه وبين المبادئ التي اشتقت منها تلك الأسس، أي إن البحث عندهم، بحث «عقلي» صرف يحاول أن يرد الفروع إلى أصولها، ولك إذا أردت أن تراجع العدد الأكبر من فلاسفتهم، قديمهم أو حديثهم، لترى على أي إطار بنيت تلك الفلسفات؟ فأظنك واجدا أن هذا الإطار ما هو إلا رباط يربط فكرة أعم بفكرة أخص، أي إن الفيلسوف منهم يريد أن يبين لنفسه وللناس كيف تولدت أفكارهم التي يعيشون بها من أفكار أوسع منها وأعم، لا أن يبين كيف ترتبط تلك الأفكار بالرب الذي أوجدهم وأوجدها، ولا يعني ذلك بالطبع أن ما يسمى بالغرب لم يشهد «متصوفة» حاولوا الوثوب من دنياهم المحدودة المتناهية إلى الإله اللامحدود واللامتناهي، ولكنه يعني أن الطابع العام الذي ساد ما يسمى بالغرب هو الاستدلالات العقلية على اختلاف ميادينها - وأهم تلك الميادين هما الفلسفة والعلوم - على حين كان الطابع العام الذي ساد (وما يزال يسود فيما أرى) ما يسمى بالشرق هو ربط الصلة بين المخلوق وخالقه.
وبعد هذه التفرقة التي أفضنا فيها القول، نعود إلى سؤالنا الذي طاف برءوسنا إذ نحن واقفون في «بيت الحكمة» نشهد عملية الترجمة عن اليونان الأقدمين قائمة على قدم وساق كما يقولون، وهو: ترى هل أفلحت هذه المادة العقلية المنقولة في أن تغير من الثقافة العربية الأصيلة، بحيث تحولها من الوقفة «الصوفية» إلى الوقفة «العقلية»؟ أغلب الظن أنها لم تفلح في ذلك إلا إلى حد ضئيل كما أسلفنا لك القول، وأترك لك أن تنظر لنفسك كم أثرت فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وما نقل معهما من علوم اليونان في الحد من ميل الناس نحو رموز يتخذونها لرأب الفجوة بين الإنسان وعالم الغيب، من سحر وتنجيم وركون إلى الرؤيا وضرب للرمل وفتح للكف، ومن تمائم وأحجبة وغير ذلك؟ إني لأكاد أتخيل الآن أستاذ الفلسفة منا، أو رجل العلوم - وأعني المعاصرين منا، ودع عنك آباءنا القدماء - لا يكاد يفرغ من ساعات قليلة يقرأ فيها فلسفة أو يدرس علما، حتى يرتد إلى دنيا أكثر إسعادا له وأشد انسجاما مع نفسه؛ إذ يرتد إلى ما هو أدخل في باب السحر والتنجيم وما إليهما من بقية الفروع، لكن لنترك ذلك الآن؛ فقد تحين له مناسبات تالية.
Page inconnue