Avec la Musique : Souvenirs et Études
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
Genres
ومن الصعب إلى حد بعيد أن يستقر المرء على رأي قاطع يحدد به موقفه بين هاتين النظريتين، لا سيما وأن مثل هذا التحديد يقتضي الرجوع إلى ماضي البشرية السحيق، والبحث في الأصول الأولى للغة ، وفي تلك التعبيرات الصوتية الأولى التي ربما كانت تجمع بين طبيعة اللغة البدائية وطبيعة الموسيقى في آن واحد. ومن الجائز أن الاثنين معا قد استمدا من أصوات كانت تستخدم نوعا من النغم وسيلة للتعبير عن إحساس معين، قبل أن تتخذ اللغة صورتها الكلامية المألوفة. وربما كان هذا هو الأصل الذي تفرعت عنه اللغة، حين أصبحت الأصوات رموزا لا تقصد لذاتها، بل تستمد كل قيمتها من اصطلاح الناس عليها واتفاقهم على الربط بينها وبين الموضوعات التي ترمز إليها، كما تفرعت عنه الموسيقى من ناحية أخرى، حين أصبحت بعض الأصوات تعد غاية في ذاتها، وتكتسب قيمتها من الطابع الكامن فيها، لا من علاقتها الرمزية بموضوع خارج عنها.
على أننا لو شئنا أن نلتمس لهذه المشكلات حلا في ضوء المراحل التي يمر بها الإنسان منذ طفولته الأولى، لوجدنا أن الطفل يستطيع عادة أن يتكلم قبل أن يغني - هذا إذا استثنينا تلك الأصوات التي ربما بدت نغما، والتي يصدرها الطفل قبل أن يتعلم الكلام (وهي قطعا نغم شجي في آذان والديه!). على أننا لو هبطنا في سلم الحياة أبعد من ذلك، لوجدنا أن تغريد الطيور يعد تأييدا للنظرية المضادة؛ إذ إنه دليل على أسبقية الموسيقى وإمكان وجودها قبل أن يوجد الكلام. وعلى أية حال فالمشكلة كما قلنا يستحيل حلها في ضوء المعلومات المتوافرة لدينا الآن، وربما كان الأجدر بنا أن نركز اهتمامنا على الوضع الحالي في العلاقة بين الموسيقى والشعر؛ ذلك لأن الارتباط بين الموسيقى والشعر، من حيث الإيقاع، وثيق إلى أبعد الحدود. بل إن الإيقاع الموسيقي ظل خلال قرون طويلة مرتبطا بإيقاع اللغة والشعر بحيث لم تكن هناك تفرقة نظرية بينهما، وكان الوزن الشعري أساسا للإيقاع الموسيقي، وظهر ذلك بوضوح في الموسيقى اليونانية القديمة.
وصحيح أن الموسيقى قد تحررت من وصاية الإيقاع الشعري فيما بعد، وأصبحت لها إيقاعاتها المستقلة، ومع ذلك فما زال تأثير الإيقاع الشعري واضحا في الموسيقى وما زال من الممكن أن نصف الموسيقى بأنها إيقاع شعري، بغير كلام، وإن كانت الموسيقى بدورها تمارس تأثيرا لا يمكن إنكاره في الشعر، بحيث أصبح ينظر إلى «موسيقى الشعر» على أنها أهم العناصر المعبرة عن ماهيته.
ومن المعروف أن إيقاع اللغة الكلامية، والشعرية بوجه خاص، كان له تأثيره الكبير في عدد غير قليل من الموسيقيين، ربما كان أشهرهم الموسيقي الروسي «موسورسكي»، الذي كان يستلهم قدرا غير قليل من ألحانه - ولا سيما في أغنياته والأوبرا المشهورة «بوريس جودونوف» - من إيقاعات اللغة وتنغيم أصواتها ووقعها وجرسها. أما تأثير الموسيقى على الشعر فلا يحتاج منا إلى إشارة خاصة؛ إذ إننا نعرف جميعا أولئك الشعراء ذوي النزعة الموسيقية، الذين يغلب عندهم وقع الصوت على معناه، والذين استعانوا بما تثيره الأصوات من إيحاءات، سواء في رنينها وفي إيقاعاتها، فجعلوا من ذلك عنصرا أساسيا في نقل ما يريدونه من مشاعر وأحاسيس إلى أذهان قرائهم (أو على الأصح إلى آذان مستمعيهم).
ولقد كانت هذه الصلة الوثيقة بين الموسيقى والشعر هي التي أدت إلى امتزاجهما منذ أبعد العصور؛ فالفن الغنائي، الذي هو فن جامع بين الموسيقى والشعر، أقدم من الفن الموسيقي الخالص، والصوت البشري - مصوغا في القلب اللغوي - كان هو أداة التعبير عن المعاني الموسيقية قبل أن يستعان بالآلات في أداء مهمة نقل المشاعر الموسيقية إلى نفوس الآخرين.
والواقع أن الغناء يؤدي وظيفة مزدوجة في الموسيقى، فهو من جهة يضفي على الموسيقى «الخالصة» معنى محددا مستمدا من اللغة المعتادة، ومن جهة أخرى يؤكد عنصر الإيقاع بأن يضيف أوزان الشعر وإيقاع الكلمات إلى دقات النغم ونبض الأصوات. وربما كان هذا السبب الأخير هو أقوى العوامل التي أدت إلى دعم الروابط بين الموسيقى والكلمات، وهو الذي جعل الغناء فنا أقدم وأوغل في الماضي السحيق من الموسيقى الخالصة. على أن هذا الارتباط - كما هو معروف - ليس دليلا على سذاجة الموسيقى أو بدائيتها، بل إنه لا يزال قائما في أرفع التجارب الموسيقية العالمية، وما زال الشعر الملحن يحتل مكانته كفن رفيع في الأوبرا والأغنية الراقية ومختلف أنواع التأليف الموسيقي الذي يستعين بالأصوات البشرية. ومن الجدير بالذكر - في هذا الصدد أن أعظم البلاد تقدما في مجال الفن الموسيقي قد شهدت في الآونة الأخيرة محاولات للعودة إلى الأشكال الأولى للتآلف بين الصوت البشري والموسيقي؛ أعني تلك الأشكال السابقة على الكلمات اللغوية ذات المعنى؛ فقد ظهرت مؤلفات للموسيقى والصوت البشري، أو مجموعات الأصوات البشرية، يستخدم فيها هذا الصوت في صورته النقية الخالصة؛ أي من حيث هو مجرد صيحات لا تعبر عن كلمات معينة. وبرر مؤلفو هذا النوع من الموسيقى فكرتهم هذه بأنها تعيد إلى الصوت وظيفته الطبيعية، وتستخدمه استخداما نقيا لا تشوبه شائبة من المعاني العقلية للغة. وبذلك يصبح الصوت البشري وسيلة من وسائل الموسيقى أو آلة من آلاتها، لها خصائصها التي تنفرد بها عن غيرها من الآلات، وتستغل إمكانات هذا الصوت إلى أقصى مدى ممكن.
على أن أوضح مظاهر الاتصال بين الموسيقى والشعر هو ذلك التأثير المتبادل في الوحي أو الإلهام بين هذين الفنين؛ فما أكثر الموسيقيين الذين استوحوا الشعر ألحانهم، والشعراء الذين حاولوا أن ينقلوا عن طريق الكلمات حلما هو في حقيقته حلم موسيقي. والحق أن كثيرا من الشعراء والكتاب، ممن أحسوا بعدم كفاية اللغة للتعبير عن أعمق ما يحسون به، وشعروا بأن الكلمة، في تأرجحها وعدم استقرارها، عاجزة عن أن تنقل ما في صدورهم من أحاسيس، قد استلهموا الموسيقى كثيرا من أفكارهم، حتى لقد كان أندريه جيد يتساءل: «بالفرنسية؟ كلا، إني أود أن أكتب بالموسيقى.» ومن هنا اشتهر كثير من الشعراء بأنهم «سمعيون»، مثل ووردزورث، وكان الكثيرون منهم يعشقون الموسيقى ولا يكتبون بدونها، وكان صمويل بطلر يكتب ويؤلف الموسيقى طوال حياته، وهو في ذلك شبيه بشخصية فريدة أخرى، هي شخصية هوفمان، الذي كان أديبا وموسيقيا ومصورا في آن واحد، وكان له تأثير كبير في مجموعة الموسيقيين والأدباء الرومانتيكيين الألمان. وفي فرنسا كان بودلير من أكبر أنصار فاجنر ومن أشد المدافعين عنه تحمسا، كما كان ستاندال يعشق الموسيقى الإيطالية، وربطت الأديبة جورج ساند مصيرها، وقتا ما، بشاعر «البيانو» العظيم شوبان. وعندما ظهر الرمزيون في أواخر القرن، كانت الموسيقى عندهم «مقدمة على كل شيء»، وعبر فرلين ورامبو ومالارميه عن حنينهم الدائم إليها، وتأثر مارسل بروست بفاجنر تأثرا عميقا، وحاول أن يتبع في روايته الضخمة «بحثا عن الزمن المفقود» أسلوب «اللحن المميز
Leitmotiv » المشهور عند فاجنر.
أما الموسيقيون الأدباء فلا يقلون عن ذلك عددا. ولست أقصد هنا أولئك الموسيقيين الذين كانت لهم محاولات أدبية فعلية، كمقالات شومان أو كتيبات فاجنر «وليست»، أو مؤلفات سترافنسكي، بل إن المقصود هم أولئك الذين تأثرت موسيقاهم بالأدب، ومن أهم هؤلاء «باخ»، الذي أطلق عليه «ألبرت شفيتسر» اسم «الموسيقي» الشاعر. وقد حاول البعض إدراج بتهوفن ضمن هؤلاء الموسيقيين الأدباء، واستشهدوا بوجه خاص بنهاية السيمفونية التاسعة. ولكن الواقع أن الوحي عند بيتهوفن كان قبل كل شيء وحيا موسيقيا خالصا، ولم يكن للأدب، أو للصور والخيالات الأدبية، دور كبير في إلهامه، فهو لم يكن يفكر في الشعر كثيرا حتى وهو يلحن «أنشودة السرور»، وعلى عكس ذلك كان «ليست» الذي كان للأدب دور كبير في تصوره ل «القصائد السيمفونية» ول «الموسيقى ذات البرنامج»، التي يعد النص فيها ذا أهمية رئيسية في تتبع مجرى الموسيقى، ويحتل ديبوسي مكانة هامة ضمن هؤلاء الموسيقيين ذوي النزعة الأدبية، ويتجلى ذلك في تلك الصور السيمفونية الشاعرية التي رسمتها عبقريته الخلاقة، مثل «البحر
La Mer » و«مقدمة لعصرية أحد الفونات
Page inconnue