Avec la Musique : Souvenirs et Études
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
Genres
ونحن نشعر جميعا بالزمن الحي، أو بما يسميه برجسون بالديمومة، في مختلف جوانب حياتنا؛ ففي حياتنا العضوية نشعر بالزمان في تلك الأحوال الجسمية المتفاوتة التنظيم، والتي يطلق عليها البعض اسم «الساعة العضوية». وفي حياتنا الانفعالية نحس بانقضاء الزمان على نحو متفاوت، تبعا لأحوالنا الوجدانية المتباينة؛ فنفاد الصبر يطيل الزمان، بينما السعادة تقصره، وقد يضيع إحساسنا بالزمان تماما في حالات النشوة والوجد. هذا النوع من الزمان الانفعالي كثيرا ما يتحكم في طريقة استجابتنا للموسيقى وتجاوبنا معها. ولما كانت الانفعالات بطبيعتها ذاتية تتفاوت تفاوتا شديدا تبعا للأفراد، فإن إحساسنا بالزمان في الموسيقى يتفاوت بدوره تبعا لدرجة حساسيتنا الانفعالية الخاصة، وقد يصل في حالة الاندماج التام، الذي يقترب من النشوة الصوفية، إلى فقدان تام للوعي بانقضاء الزمان، سواء بالنسبة إلى المستمع حين يستغرق في الإنصات للحن جميل أو إلى المؤلف أو العازف حين ينسى المشكلات الفنية (التكنيكية) التي تثيرها الموسيقى، ولا يستجيب إلا لوحي ألحانه.
ويظهر تأثير هذه الاختلافات الذاتية، التي ترجع إلى أصول عضوية أو وجدانية في حياة الفرد، أوضح ما يكون في نظرتنا إلى عامل السرعة في الموسيقى (التمبو
Tempo )، هذا العامل، الذي تشير إليه في المدونات الموسيقية عادة كلمات تدل على نوع السرعة المطلوب أداء القطعة بها، لا يمكن أن تعبر عنه أية صيغة كلامية، مهما كانت دقتها، بل إن الأداء البارع هو ذلك الذي يتجاوب مع روح المؤلف ويكشف عن الطابع الباطن لموسيقاه. ومن المعروف أن هناك نطاقا غير قليل من الاختلاف داخل الإشارات الواحدة إلى السرعة؛ فالقطعة الموسيقية الواحدة يقوم بأدائها العازفون المختلفون في أزمان مختلفة، بالرغم من أنهم جميعا يطيعون إشارات السرعة التي وضعها المؤلف. ومن المعروف عن بيتهوفن أنه كان يسمح لعازفي قطعه الموسيقية بقدر كبير من الحرية في الأداء، فقال مثلا لإحدى عازفات البيانو: «لست أعزف هذه السوناتا على طريقتك، ولكن استمري في العزف بهذه الطريقة؛ لأنها لا تقل عن طريقتي جمالا.» بل إن البعض يرون أن إيقاع السرعة يختلف تبعا للأمم؛ فالألماني أبطأ من الفرنسي، والفرنسي أبطأ من الإيطالي، وهكذا ... وعلى أية حال فإن المثل الأعلى في هذا المضمار هو أن يندمج القائم بالأداء في روح العمل إلى الحد الذي تكون فيه ذاتيته وذاتية مبدع العمل شيئا واحدا، وإن كان الاختلاف بينهما يضفي، في أحيان غير قليلة، أبعادا جديدة على العمل الفني.
هذا الاندماج التام في الأداء يكشف عن جانب آخر من جوانب العلاقة بين الإيقاع الموسيقي والزمان؛ فعلى الرغم من أن الإيقاع هو الذي يشعر المرء بالزمان في الموسيقى، فمن الممكن، إذا استغرق فيه المرء استغراقا تاما، أن يكون مؤديا إلى نسيان الزمان لا إلى الإحساس به عن وعي. ولا يقتصر ذلك على القائم بالأداء فحسب، بل إن المستمع ذاته قد يندمج في النشوة الموسيقية إلى الحد الذي لا يعود يشعر معه بانقضاء الزمن. وهكذا يجمع الإيقاع الموسيقي في آن واحد بين القدرة على تذكيرنا بالزمان، والقدرة على محو شعورنا بالزمان.
الإيقاع بين الموسيقى والفنون الأخرى
تتميز الموسيقى بأنها هي الفن الزماني بالمعنى الصحيح؛ فالزمان، كما قلنا من قبل، عنصر أساسي في تحديد طبيعة الإيقاع الموسيقي، وهو القالب الذي يصاغ فيه اللحن الموسيقي بدوره. ومن هنا كان من المستحيل تصور الموسيقى بلا زمان، ودون ذاكرة؛ فلو تخيلنا إنسانا حرم من قوة التذكر إلى حد أنه لا يستطيع أن يربط لحظات ماضيه بحاضره، فإن مثل هذا الإنسان لن يستمتع بالموسيقى مهما بلغت درجة حساسيته؛ ذلك لأن فهم الموسيقى يقتضي أساسا أن يكون لدى المرء حد أدنى من الذاكرة، يتيح له أن يجمع لحظاتها المختلفة في وحدة واحدة، بحيث يتذكر الأجزاء السابقة من القطعة الموسيقية وهو يستمع إلى أجزائها الحاضرة، ولولا ذلك لفقدت وحدتها العضوية، ولما عادت تمثل شيئا ذا معنى بالنسبة إليه. ولا جدال في أن هذه القدرة على الربط بين الماضي والحاضر تتفاوت بحسب الاستعدادات الفردية، كما تتفاوت تبعا لمقدار الخبرة والمران على الاستماع الموسيقي. ولكن هناك - كما أوضحنا - حدا أدنى من القدرة على التذكر بدونه يصبح التذوق الموسيقي مستحيلا.
والفن الزماني بطبيعته أقرب إلى الطابع الذهني من الفن المكاني؛ لأن الذهن وحده هو الذي يستطيع القيام بهذه الوظيفة الأساسية - وظيفة الربط بين الماضي والحاضر في العمل الفني الواحد - على النحو الكفيل بتكوين كل واحد شامل تزول فيه الفواصل الزمنية أو لا يعود لها تأثير في وحدة العمل الفني. من هنا كانت الموسيقى في نظر عدد غير قليل من الفنانين والمفكرين أقرب الفنون كلها إلى الطابع الروحي؛ إذ إن حاسة الاستماع بطبيعتها أقرب إلى الانطواء والذهنية، وأقوى صلة بعالم الإنسان الداخلي الباطن، من بقية الحواس، فضلا عن أن ما يسمع في حالة الموسيقى توافق صوتي خالص، وليس كلاما لغويا محدد المعاني كذلك الذي نستمع إليه في الشعر.
الموسيقى والشعر والأدب
لعل هذه العبارة الأخيرة قد أوضحت للقارئ أن هناك صلة من نوع خاص بين الموسيقى والشعر، ربما كانت أقوى من صلة الموسيقى بأي فن آخر؛ ذلك لأن الشعر بدوره فن زماني، والأداء فيه بدوره صوتي، ووسيلة تذوقه هي الاستماع، والإيقاع (أو الوزن) يقوم فيه بدور أساسي. كل ذلك يدفعنا إلى أن نحاول استطلاع العلاقة بين هذين الفنين بمزيد من التفصيل.
الحق أن العلاقة بين الموسيقى والشعر تبلغ من التشابك حدا أصبح من العسير معه أن يستقر الرأي حول مسألة تحديد أيهما يرد إلى الآخر، وأيهما هو الأسبق؛ فهناك نظريات تؤكد أن اللغة (التي يصاغ فيها الشعر) أسبق من الموسيقى، وأن أصل الموسيقى هو القدرة الصوتية اللغوية، وأن كل إيقاع لدينا يرتد آخر الأمر إلى وقع الأصوات اللغوية. وهناك نظريات أخرى ترى أن الموسيقى هي أصل الإيقاعات جميعا؛ لأنها لغة طبيعية لا تتقيد بقواعد اصطلاحية معينة، يسهل على الجميع فهمها والتأثر بها، ومن ثم فإن إيقاعاتها هي التي صبغت إيقاعات اللغة بصبغتها الخاصة، وبالتالي فإن الوزن الشعري قد استمد قواعده، في البداية، من الموسيقى.
Page inconnue