إن اليونانيين وإن كانوا يعزون فلسفتهم في كثير من الأحيان إلى حكمة كهنة المصريين، وإنه وإن كان أيضا في كثير من فروع العلم كالرياضة والهيئة والطب لمدنية الشرقيين - وخاصة مصر - أثر في العقل اليوناني؛ فإنا لا يعترينا شك في أن أصل الفلسفة هو نتيجة عقل اليونانيين ومطبوع بطابعهم. نعم، إن التفكير في هذا العالم وظواهره وفي أصل الإنسان والغرض من وجوده قديم العهد قدم الفكر الإنساني نفسه، وإن الإنسان أخذ يفكر في معاني الأشياء قبل اليونان بزمن طويل، وإن جملة من مسائل العلم التفصيلية لا يستهان بها قد جمعت في عهد المصريين والبابليين قبل اليونان، ولم يكن يعوز هؤلاء القدماء علم غزير بالموضوعات المفردة ولا بالنظر العام للعالم، ولكن اليونان استخدموا معارف من قبلهم، وكما قال «جومبرز»: «إن النبوغ اليوناني استطاع أن ينهض من على عاتق المصريين والبابليين ويطير حتى يصل إلى أسمى مكان يمكن الوصول إليه من غير أن يصده عن ذلك صاد.» قد كان للأمم الشرقية علم بما يتعلق بحاجاتهم العملية، ولكن ذلك العلم كان بقدر ما يسمح به قصور العقل الشرقي، فإنه يعوزه النشاط العقلي الذي يحمل على الابتكار، حتى أتى اليونان فرقوا النظر العلمي وبحثوا في العلم بحثا منظما مستقلا، وطلبوا العلم للعلم لا لشيء وراءه (انظر فندلبند ص23). زار فيثاغورس وديمقرطيس وأفلاطون وغيرهم مصر وآسيا الصغرى وانتفعوا بعلم أهلهما، ولكن رقي الفلسفة رقيا علميا كان من عمل العقل اليوناني، وقد قال أفلاطون: «إن ميزة اليونان حب البحث، أما ميزة المصريين والفينقيين فحب الكسب.» ونوه بما لهما من مقدرة في الصناعة وحذق في النظم السياسية، ولكن لم يعترف لهما بشيء من ذلك في المذاهب الفلسفية (انظر الفصل الأول من تاريخ نشوء الفلسفة اليونانية لمؤلفه برنديس ص13).
تتجلى للإنسان في فلسفة اليونان ثلاثة عصور يسهل تمييز بعضها عن بعض، وهذه العصور توضح لنا الرقي التدريجي الذي يتبعه العقل في طور الحضارة، ولست أعني الحضارة الإغريقية فحسب، بل كل حضارة بشرية، وهذه العصور هي: (1)
النظر في الكون. (2)
النظر في الإنسان نفسه. (3)
البحث المنظم.
فأول بحث شغلت به الفلسفة اليونانية الأولى كان البحث في العالم كما يظهر أمام الإنسان، أعني عالم الطبيعة.
كان فلاسفة اليونان الأولون علماء في الطبيعة يضعون فروضا لتفهم تصرفات الطبيعة وسنة الكون في الرقي، بدءوا يبحثون فيما يتعلق بحياتهم العملية، فأداهم ذلك إلى الرغبة في معرفة الطبيعة نفسها، قال «فندلبند»: «إن علم اليونان خصص حياته الأولى وما لها من قوة شباب لدرس قضايا الطبيعة، وأغفل البحث في أعمال الفكر، واكتفى بالبحث في العالم الخارجي.» فكان أهم ما اهتمت به تلك الفلسفة مسائل الطبيعة والفلك والجغرافيا، وعلى الخصوص الظواهر الأساسية العظمى، ثم تدرجوا بعد ذلك في البحث، فلم يقصروا نظرهم على الأعمال الطبيعية المادية، بل حاولوا معرفة الأساس الذي يطرأ عليه التغير - والبحث في التغير ومعرفة أساسه هو المحور الذي تدور حوله النظريات الفلسفية، ويشمل أعظم القضايا الأساسية التي يبحث عنها علم ما بعد الطبيعة. وهذا التغير - أعني أن الأشياء يتحول بعضها إلى بعض - هو الذي بعث على التأمل والنظر، وحمل فلاسفة اليونان على الجد في تقرير قواعد لهذا العالم القلب الحول الذي قد تتغير فيه الأشياء فجأة إلى أضدادها. (فندلبند ص31).
بحثت الفلسفة عن الأساس الذي تطرأ عليه التغيرات، وتعتريه التقلبات، والذي منه تخلق أشخاص الأشياء وإليه تعود (ص32)، وصيغ هذا المعنى بوضوح في الأسئلة الآتية: «ما أساس الأشياء الذي يبقى مع كل التغيرات العارضة؟ وكيف يتحول ذلك الأساس إلى تلك الأشياء؟ وكيف تتحول الأشياء إليه؟ ولحل هذه المسألة وتقرير طبيعة أساس الدنيا أو هيولي العالم أو مادته قامت نظريات عديدة وضعها فلاسفة اليونان الأولون؛ مثل: طاليس، وأنكسمندر، وأنكسمينيس، وهرقليطس، والإيليون
1
والفيثاغوريون، وظهرت أنظار عديدة تتعلق بذلك الوجود وما يصير إليه، وبمادة العالم ونحو ذلك.»
Page inconnue