رجل يجلك ويتفاءل خيرا بوزارتك، يرى واجبا عليه أن يوجه إليك هذا الخطاب بلاغا وتبصيرا، لقد عنيت لجنة الدستور عناية تامة بالبحث في شأن السيادة على البلاد فرأت أنها تمحصت للأمة، وأن كل سلطة قد أصبحت الأمة مصدرها، وأن سلطانها أضحى فوق كل سلطان، فجعلت هذا المبدأ أساسا للدستور ودونته بالمادة 23 من مشروعها. ولكن الناس يتناقلون أن دولة نسيم باشا، غفر الله ذنبه وستر عيبه، قد حذف هذه المادة من مشروع الدستور فقلبه بهذا الحذف رأسا على عقب، وأصبح الدستور مجرد منحة، على اعتبار أنه لا حق في الأصل للأمة ولا سلطان للأمة ولا سيادة للأمة.
ويقول له في خطاب آخر:
فرارا من وخز ضميري أسارع إلى تنبيهكم لشيء من التعديلات الأخرى التي تحاكى بها الخاصة ويألمون لها ... وإنه ليخيل إلي أنكم عاكفون من حول هذا الدستور الأعزل تصوبون إليه سهما بيد وتحبسونه باليد الأخرى، يدفعكم إلى الرمي حب المجاملة، وتمنعكم منه الذمة ومراقبة الله والناس.
ويعلن الدستور في 19 إبريل سنة 1923 كما أعدته لجنة الثلاثين، إلا أن لقب ملك مصر والسودان قد أهمل.
ويكتب طه حسين بتاريخ 25 إبريل 1923، منددا بهذا الإهمال وبهذه السهولة التي أظهرتها الوزارة المصرية في النزول عن النص على هذا اللقب ولو إلى أجل، يقول: «نزلت الوزارة عنه لأن ممثل إنجلترا قطب جبينه ولوى وجهه ... فسألت الله أن يمنح مصر ساسة يستطيعون أن يقاوموا ساسة الإنجليز.»
وينتهي العام الجامعي، ويقبل الصيف، وطه حسين يذكر توصية الطبيب بسفر زوجته وابنه إلى الخارج، وهو لم يستطع الاستجابة لهذه التوصية طيلة العام الجامعي، أما الآن فقد تجمع لديه من ثمن كتبه مال يكفي لشراء بطاقات السفر لأسرته دون أن يسافر هو معها، فلا يتردد في تدبير أمر سفر زوجته وولديها ولا يقبل مناقشة في ضرورة سفرهم وتركه هو في القاهرة. •••
يودع طه حسين زوجته وولديه على الباخرة في الإسكندرية ويعود إلى القاهرة، يدخل «الشقة»، يتلمس السرير الكبير ويقف عند سرير الطفلة أمينة ومهد الطفل مؤنس، وهناك وردة في إناء للزهور وضعتها زوجته السيدة سوزان فيه، فهو يأخذها وينفض الماء عنها ويضعها داخل آخر كتاب كانا يقرآنه معا.
وعندما يجيء الأستاذان مصطفى عبد الرازق ومحمود الزناتي لزيارته، يدور الحديث عن الانتخابات وعن لطفي السيد «بك» الذي سيرشح نفسه فيها، ثم ينتقل الحديث إلى ما جاء الصديقان من أجله، إنهما يريدان منه أن يسافر إلى الإسكندرية معهما فلا يبقى وحده في القاهرة.
وفي الإسكندرية يلتقي لطفي السيد «بك» بطه حسين ويقول له: سنحتفل قريبا بذكرى الإمام محمد عبده فحضر نفسك ماليا وأدبيا، ويرد طه: ماليا نعم، كم يدفع الباشوات والمشايخ الكبار؟ فيقول لطفي: خمسة جنيهات، فيلتزم طه بالنصف، أي بجنيهين ونصف جنيه، أما أدبيا فإنه يعتذر، لأن حفلة التكريم يجب بطبيعتها أن تكون كلها إشادة بامتياز الشيخ، وطه حسين يراه من أعظم المصلحين ومن أفذاذ المجددين، ولكنه لا يستطيع أن يتابعه فيما اتجه إليه من محاولة تفسير القرآن الكريم بحيث يكون ملائما للعلم كما نعرفه في وقتنا الحاضر، لأن القرآن ثابت والعلم متغير، والإيمان بالقرآن الثابت لا ينبغي أن يحتاج إلى محاولة الملاءمة بينه وبين ما يعرفه الناس من العلوم في جيل ما، في بلد ما، قد ينقضه علم جيل آخر أو بلد آخر.
ويلتقي طه حسين ومعه سكرتيره ألبير بصديقه محمود الزناتي في مقهى التريانون، ويقول الزناتي: «إن البحر اليوم ناعم كالبساط.» ويقول السكرتير: «نعم، وأهل الإسكندرية الذين يعرفون أحوال البحر وما يتعرض له من نوات، يقولون إن البحر سيكون غدا هادئا كذلك.» ويقول الزناتي: «إن فندق سان استفانو قد حدد في البحر منطقة مأمونة، النزول فيها للاستحمام أمر لا خوف منه، وفيه رياضة فلماذا لا ننزل غدا؟» ولا يرد طه حسين أولا ولكن الزناتي يقول له: «أنت دائما تريد أن تعرف كل شيء.» ويسأل طه: «وماذا تلبسون عند النزول إلى البحر؟» ويصف له الزناتي لباس البحر في تلك الأيام، ويقول السكرتير إنه من الميسور جدا تدبير اللباس المطلوب.
Page inconnue