تقديم
أستاذ التاريخ القديم
حديث الأحد ... وحديث الأربعاء
أستاذ الأدب العربي
العميد
حديث المساء
الأستاذ والعميد من جديد
أحاديث الحرب
المراقب والمستشار
جامعة الإسكندرية
Page inconnue
الكاتب المصري
الوزير
الثورة
الجمهورية
في اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية
في مدينة الرسول
رامتان!
قبيل الغروب
النفس المطمئنة
ختام
Page inconnue
طه حسين
تقديم
أستاذ التاريخ القديم
حديث الأحد ... وحديث الأربعاء
أستاذ الأدب العربي
العميد
حديث المساء
الأستاذ والعميد من جديد
أحاديث الحرب
المراقب والمستشار
Page inconnue
جامعة الإسكندرية
الكاتب المصري
الوزير
الثورة
الجمهورية
في اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية
في مدينة الرسول
رامتان!
قبيل الغروب
النفس المطمئنة
Page inconnue
ختام
طه حسين
ما بعد الأيام
ما بعد الأيام
تأليف
محمد حسن الزيات
تقديم
رأيت طه حسين لأول مرة في صيف 1934، ورأيته لآخر مرة في خريف 1973، وبين هاتين المرتين تسعة وثلاثون عاما، راقبت فيها كفاحه الطويل الذي حاولت أن أسجل صورا منه في هذه الفصول.
لجأت إليه في عام 1934 وأنا على عتبة الحياة الجامعية، أعاني ما يعانيه الشباب في تلك السن من حيرة وقلق.
ورأيته آخر مرة في خريف 1973 وأنا وزير لخارجية مصر، أعاني ما كانت شعوب العرب تعانيه من الأسى والضيق والغضب الشديد.
Page inconnue
في المرة الأولى تركت طه حسين وقد ألقى في نفسي السكينة، وملأ قلبي بالأمل والطموح، وأنار لي طريق المستقبل بحديثه عما يجدر بالشباب أن يتطلع إليه من غايات تتجاوز مطامع الناس عادة في اتساع الرزق وارتفاع الجاه.
وشهدته في المرة الأخيرة راسخ العقيدة في أن النصر مكتوب لمن آمن بحقه وبنفسه وجاهد جهاد الصادقين المخلصين ليخلص أمته مما أخضعت له من القيود، وليستخلص لها حقها من غاصبيه.
تركته في مقابلتي الأولى له خلف مكتبة في «جريدة الوادي» يجلس مهيبا مرتفع الرأس، لضحكته العريضة في الغرفة رنين وصدى، وإني لأعلم الآن أن الذي ألقى في نفسي السكينة وملأ قلبي بالأمل وأنار لي طريق المستقبل، كان في ذلك الوقت نفسه «يستقبل الحزن مع ضوء الشمس ويعاشره طوال النهار، ثم يستقبل الهم مع ظلمة الليل ويقضي معه ساعة الأحلام، يضطرب بين بيت حزين وبين دار للعمل - هي دار جريدة الوادي - يريد اليأس أن يتخذها مسكنا ومستقرا، لا يعرف كيف المخرج ويكاد يستسلم لكيد الكائدين ومكر الماكرين.»
1
وعندما تركته آخر مرة في غرفة نومه في خريف سنة 1973 كان المرض قد ألح على جسمه فأضعفه وأضناه، ولكنه كان مشغول الضمير بأزمة بلاده، مهموما بهموم شعبه، قوي الثقة والإيمان بأن العدوان لا بد مهزوم.
تسعة وثلاثون عاما عرفت فيها طه حسين، رأيته يناضل طوالها لغايتين، لا يرضى حتى يصل إليهما ويصل إليهما معه كل الناس؛ الغاية الأولى هي الحرية، وهي عنده أساس الكرامة والمسئولية للأمة والفرد، والغاية الثانية هي العلم، وهو عنده أساس النهضة في ميدان الثقافة وميدان السياسة وميدان الاجتماع وميدان الاقتصاد.
في غرفة نومه، في صيف 73، كان يسألني عن عدد متخرجي الجامعات الذين انضموا إلى زملائهم المجندين في جيش مصر، لأنه - فيما يظهر - كان يرى أن العلم هو أساس النهضة العسكرية أيضا.
ولم تفارق جسده الروح، كما قال توفيق الحكيم، حتى فارق اليأس روح مصر، حتى اقتحم شبابنا ما أقيم في وجه بلادهم من عقبات.
اختار الله طه حسين إلى جواره في الثامن والعشرين من أكتوبر 1973 ولنا في ذلك الوقت شباب محارب في الصحراء، سمعوا نعيه وهم لا يزالون يرابطون في خنادق سيناء، فكتب واحد منهم وهو المقاتل «عبد الصبور منير» أبياتا «إلى طه حسين من سيناء»، يقول فيها:
بين يدي والصدر
Page inconnue
تقول قطعة السلاح
إن الذي علمها الكفاح
يستشهد اليوم هناك
وهكذا يرى المقاتل عبد الصبور منير أن العالم الضرير الذي كان قد لزم بيته قبل حرب أكتوبر بسنوات، هو الذي علم الكفاح لقطعة السلاح، كما يرى أنه هو الذي كان جديرا أن يبارك ما قامت به أيدي المحاربين من حمل للسلاح، وما كانت تضمره قلوبهم من العمل بعد النصر لإعادة بناء البلاد.
يقول عبد الصبور منير: «إن كل شيء في سماء الوطن الجميل، محمل بما منح طه حسين الجيل، من الأصالة والعزة والفكر.» وإذا كان طه حسين قد أعطى لبلده هذا العطاء، فإن قصة حياته نفسها كانت أيضا من أجمل ما خلف لهذا الجيل من أجيال العرب ولمن يليه من الأجيال، لما فيها من مثل عليا تحتذى في تحدي أصعب العقبات وتحقيق أبعد الأهداف.
وقد عرض التليفزيون المصري جانبا من قصة حياة طه حسين كما رواها هو في كتاب «الأيام»، لم يكد عرضها ينتهي حتى انهالت الرسائل من أرجاء الوطن العربي تطلب أن يعرض التليفزيون بقية قصة حياة طه حسين، فطلب التليفزيون مني أن أعد فصولا يمكن له على أساسها إخراج السلسلة الجديدة المطلوبة، فكتبت هذه الصفحات التي قرأها الأستاذ رئيس مجلس إدارة دار الهلال فأراد أن ينشرها كما هي في مجلة «المصور»، وهو يعيد نشرها الآن في هذا الكتاب دون إعادة صياغتها، وهي محتاجة إلى إعادة الصياغة في بعض المواضع، ودون الإضافة إليها، وهي محتاجة إلى هذه الإضافة في كثير من الأحيان.
وأنا أرجو أن تكون المواقف التي تخيلتها والأحاديث التي أدرتها بين العميد وبين أفراد أسرته، وبينه وبين زملائه ومعاصريه، قد حققت - إلى جانب ما نقلته مما كتب العميد إلى أصدقائه من الرسائل، وما رفعه إلى المسئولين من المذكرات - بعض ما يستهدفه هذا الكتاب من تصور لحياة العميد وحياة مصر الثقافية في الخمسين عاما التالية للسنوات التي سجل أحداثها العميد الفقيد في الأجزاء الثلاثة من كتاب «الأيام».
وقد اطلع على هذه الفصول أساتذة أصدقاء نظروا فيها وأبدوا عليها من الملاحظات ما انتفعت به، فأنا أهديهم هنا أحسن الشكر وأصدقه دون أن يحملهم ذلك شيئا من التبعة عما في هذه الصفحات من تقصير وقصور ... أذكر منهم السادة الوزير أحمد نجيب هاشم والأستاذة الدكتورة سهير القلماوي والأستاذ مصطفى أمين والأستاذ محمد فتحي والأستاذ يحيي العلمي، وأخيرا وليس آخرا كما يقال الأستاذ مكرم محمد أحمد الذي أخصه بالشكر لأنه - وقد رأى التعجيل بنشر هذه الفصول كما هي - قد دفعني إلى العمل لإعداد دراسة شاملة لحياة طه حسين وعمله، أرجو أن يتفضل بالمساعدة على إعدادها كل أصدقاء طه حسين من زملاء وتلاميذ وقراء.
ويهمني أخيرا أن أذكر أن أسرة العميد قد اطلعت على هذه الصفحات وهي تأمل - وأنا أشاركها هذا الأمل - أن تجلو هذه الصفحات للمشاهدين وللقراء صورة أمينة للرجل الذي لم يزل يتعرض حتى اليوم للإساءة الظالمة والذي تكن له الملايين من قومه العرب، في نفس الوقت، أصدق مشاعر الحب والإجلال والعرفان بالجميل.
م. ح. ز
Page inconnue
أستاذ التاريخ القديم
أخذت معالم الإسكندرية تتضح مع ارتفاع شمس الصباح واقتراب الباخرة «لوتس» من الميناء، ووقف الركاب يتطلعون إلى المدينة، ومن بينهم «الدكتور» طه حسين عائدا من البعثة في فرنسا، وقد وقف بجوار زوجته التي كانت تحيطه بذراعها اليسرى وتحمل ابنتها الطفلة باليمنى، تمد بصرها إلى الأرض التي ستصبح وطنها منذ اليوم؛ إلى أرض مصر التي لا تعرف عنها إلا ما قرأت في كتب الجغرافيا والتاريخ من جهة، وما جعل زوجها يحدثها به من جهة أخرى، منذ عامين وشهرين، منذ زواجهما في أغسطس عام 1917.
وتلتفت السيدة سوزان إلى الرجل الذي من أجله جاءت إلى هذه البلاد، فتراه غارقا في أفكاره كما اعتادت أن تراه في كثير من الأحيان، إنها تدرك أنه يفكر في مصر التي يعود إليها بعد غياب أربع سنوات، ويفكر في شعبها الذي ثار هذا العام يطالب بحريته واستقلاله، ولا شك أنه يفكر أيضا في الجامعة التي يعود الآن ليقف من طلابه فيها موقف أساتذتها منه، عندما كان يسعى إليها كل مساء من بيته المتواضع في «حوش عطا» في حي الأزهر عطشان إلى العلم لا يرتوي، وهو أخيرا يفكر في تلك المدينة من مدن الصعيد التي يعمل فيها أبوه، يتخيل لقاء أبويه له فيها بعد قليل، كما يتخيل لقاءهما لزوجته ولابنته لأول مرة.
كان طه حسين يفكر في ذلك كله فعلا، ويفكر أيضا في حياتهم التي ستبدأ حين يتركون الباخرة إلى الشاطئ؛ في الطريق الذي سوف يسلكه هو ليحقق ما يملأ صدره من الآمال، وفي زوجته التي سوف تبدأ في مصر حياة جديدة في بلد غريب عليها، وفي ابنته «أمينة» التي ستنطق في بلدها العزيز بأول كلماتها، فقد أتمت الآن شهرها السادس عشر.
وتخرجه زوجته من أفكاره في رفق، لتصف له ما تراه، كما تفعل دائما، تصف له السماء والماء وعمارة الأرض في الإسكندرية، وتذكر له أن الباخرة قد هدأت، وأخذ ركابها يستعدون لمغادرتها.
وأخيرا تسأله في قلق لا تستطيع إخفاءه إن كان متأكدا من أنهم سيجدون من يستقبلهم في الميناء، وهو يؤكد لها أنه قد كتب إلى محافظ المدينة بموعد وصولهم، ويكرر أن المحافظ، حسن باشا عبد الرازق، هو من مواطنيه في مديرية المنيا، يعرفه ويعرف أهله، ولا شك أنه سيرسل إلى الميناء من يستقبلهم.
وقد صعد حسن باشا عبد الرازق بنفسه إلى الباخرة ليلقاهم عليها، وأصر على أن يستضيف الأستاذ العائد من فرنسا وأسرته الصغيرة في منزله الجميل في حي الرمل بالإسكندرية، وطه حسين سعيد بهذه الحفاوة التي اطمأنت بها زوجته، غير أنه متلهف إلى معرفة أحوال البلاد، يقول إنه قد تلقى هو وزملاؤه المصريون في باريس النبأ العظيم، نبأ ثورة مصر، «فإذا الوجود كله إشراق، وإذا السكون حركة، وإذا الجمود نشاط، وإذا نحن سرور كلنا وابتهاج كلنا، يسعى بعضنا إلى بعض، ماذا أقول؟ يسرع بعضنا إلى بعض ... وتجري على هذه الوجوه المشرقة دموع حارة، ولكن في حرارتها برد الأمل والرجاء ... مصر ثائرة، مصر تقاوم الإنجليز، مصر تنهض في وجه المستعمر ... رحم الله شهداء 1919! لقد صغرت حياتهم في نفوسهم لنكبر نحن في نفوسنا، لقد ماتوا فأحيانا موتهم»، وهو الآن يصل الإسكندرية فخورا ببلاده، معتزا بشعبه الذي وقف صامدا، مستندا إلى مساجده وكنائسه، من خلف زعيمه سعد زغلول، ولكنه قلق في نفس الوقت على مواطنيه؛ لأنه يدرك أن سلاح الاحتلال الغاشم مسلط على شعب أعزل.
يسأل المحافظ في قلق عن الأحوال ... ويقول المحافظ إن أهم أخبار الإسكندرية الأخيرة هي أن شابا قد ألقى في محطة الرمل قنبلة على سعيد باشا رئيس الوزراء في الشهر الماضي، وقد انفجرت القنبلة ولكن رئيس الوزراء لم يصب بسوء، وطلب سعيد باشا إلى السلطات أن تعامل الجاني بالرأفة لأنه يقدر كيف تغلي نفوس الشباب في هذه الأوقات.
أما أهم أخبار مصر فهي أن بريطانيا ما زالت مصممة على إرسال بعثة برئاسة وزير المستعمرات «لورد ملنر» إلى مصر رغم اعتراض رئيس الوزراء سعيد باشا واستقالته. وبريطانيا تعلن أن مهمة البعثة هي «بحث أسباب الاضطراب وعدم الاستقرار في مصر، واقتراح الأنظمة التي من شأنها أن تهدئ الحالة فيها»، وذلك كله في ظل الحماية البريطانية التي فرضت على البلاد منذ نوفمبر 1914.
وطه حسين يقول إن بريطانيا تتجاهل أسباب السخط والثورة، وتدعي أنها تبحث عنها لتهدئ الأحوال في ظل نظام الحماية، ونظام الحماية هو نفسه سبب السخط، ووجود بريطانيا في مصر هو نفسه سبب الثورة واضطراب الأحوال. على أنه متأكد من أنه لن يحال بين مصر وبين أهدافها الوطنية ما دام الشعب قد نهض كريما عنيدا يطالب بحريته وبحقوقه. •••
Page inconnue
ويسأل طه حسين عن حالة المواصلات وقطارات السكة الحديد، فهو يريد السفر إلى القاهرة، ومن هناك إلى كوم امبو ليرى والديه الذين لم ينقطع عن التفكير فيهما طيلة السنوات الأربع الماضية، والمحافظ يطمئنه، فقد استفسر وتأكد من سلامة المواصلات بين الإسكندرية والقاهرة، وكذلك بين القاهرة وكوم امبو.
وفي محطة القاهرة يستقبل الأسرة الصغيرة العائدة بعض الأقارب والأصدقاء، منهم صديق قديم عزيز هو الأستاذ محمد رمضان المحامي الذي اشترك مع طه حسين في ترجمة كتاب «الواجب» للكاتب الفرنسي جول سيمون قبل سفره إلى البعثة عام 1914، ومنهم زميلا الأزهر القديمان محمود الزناتي وأحمد حسن الزيات، ومنهم صديق آخر هو الأستاذ محمد المرصفي، الذي يسرع ويحمل الطفلة الصغيرة «أمينة» عاليا فوق رءوس المسافرين والمودعين والمستقبلين ليخرج بها من المحطة، وأمها من خلفه وخلفها قلقة، تريد أن تسرع لتلحق بابنتها، لكنها مضطرة إلى الإبطاء لتسير مع زوجها ومع صحبه، وهم يشقون زحمة المسافرين والمستقبلين في محطة القاهرة.
وفي القطار إلى كوم امبو يتحدث طه حسين مع زوجته عن والديه اللذين يعود إليهما الآن وقد بلغ الثلاثين، وله زوجة وبنت، ومعه درجة الدكتوراه وقد عين أستاذا في الجامعة الأهلية، يقول لها إن والده كان يتمنى لو أصبح يوما شيخا في الأزهر الشريف له عمود يتجمع حوله الدارسون، وكان ذلك أقصى ما يتمناه له.
وعندما يصل إلى كوم امبو، وتتلقاه الأسرة بالفرح والترحيب، يتركه أبوه مع أمه، ويترك ابنته لجدتها، ويخرج هو مع زوجة ابنه ليريها معالم المدينة، وفيها آثار الانتعاش الاقتصادي الناشئ عن قيام شركة السكر فيها، يسيران معا، هو بملابسه بالعمامة والجبة والقفطان، وهي بملابسها الأوربية، يسألها - بالإشارة - عن رأيها فيما تراه، وعن طلباتها إن كانت لها طلبات، وتشكره هي بالابتسامة سعيدة كل السعادة باستقبال أسرة زوجها لها. •••
وتمر أيام الزيارة سريعة، سعيدة، على أنه لا بد من العودة إلى القاهرة فإن الجامعة ستفتح أبوابها عن قريب، ولا بد من أن يبدأ طه حسين عمله فيها.
وفي السابع من ديسمبر عام 1919، في تمام الساعة السادسة مساء، يقبل أعضاء مجلس إدارة الجامعة المصرية على قاعة المحاضرات فيها، يتقدمهم عبد الخالق باشا ثروت وكيل الجامعة، وإسماعيل حسين باشا وكيل وزارة المعارف، ومرقص بك حنا المحامي، وعلي بك بهجت مدير الآثار العربية، وشكري باشا وكيل وزارة الحقانية، وحسين سعيد باشا، ويجلسون في القاعة إلى جانب الأستاذ الشاب طه حسين، ثم ينهض الأستاذ إسماعيل رأفت بك فيقدم الأستاذ الشاب إلى ثروت باشا الذي يسير معه إلى منصة التدريس، ويقدمه للطلاب ولغيرهم ممن توافدوا على الجامعة ذلك المساء يلخص لهم حياته العملية وجهاده فيها، ثم يقول: «هذا هو مختصر لحياة الطالب طه حسين،
1
تلك الحياة العملية التي كان فيها خير مثال للشبيبة المصرية، وأصدق دليل على الذكاء المصري والنبوغ المصري، وأقطع برهان على ما يثمر الجد والثبات والعزم.»
ثم يختم حديثه بقوله: «أستاذنا الدكتور طه حسين يبدأ الآن حياة جديدة، يبدأ حياة الإفادة بعد الاستفادة، وإني باسم الله وبالنيابة عن أعضاء مجلس الإدارة أفتتح الدرس الأول للأستاذ الدكتور طه حسين.» •••
ويحضر الطلبة درس التاريخ القديم متثاقلين، على أنهم بعد سماعهم الأستاذ الشاب قد جعلوا يقبلون عليه وعلى مادته شيئا فشيئا، فقد تبين لهم أن دروسه لن تكون سردا لأسماء الأباطرة وللمعارك التي خاضوها، بل ستكون دراسة للحضارة القديمة ونظمها السياسية والاجتماعية وثمارها الثقافية ولتاريخ الفكر الإنساني وتطوره في الزمن القديم.
Page inconnue
والأستاذ يشرك طلابه في البحث
2
ويطالبهم بأن تكون مشاركتهم إيجابية، يتحدث عن واحد من هؤلاء الطلبة اسمه عبد الوهاب عزام،
3
طالب في مدرسة القضاء الشرعي، يعد نفسه ليكون قاضيا، يقبل على دروسه في تلك المدرسة وجه النهار، ثم يسعى آخر النهار إلى الجامعة، يقول الأستاذ طه حسين: «عندما أريد أن أدرب طلاب الجامعة على قراءة نص من النصوص التي تتصل بتاريخ الحضارة اليونانية أو الرومانية أو بالأدبين اليوناني واللاتيني، فإنني أكلفه هو بالقراءة والتفسير وأقوم منه مقام الأستاذ الذي يعلم تلاميذه كيف يفقهون»، ويضيف: «إن زملاء عزام يألفونه ويعجبون به، وأنا محب له ومعجب به كزملائه.»
وهكذا كانت طريقة الأستاذ الشاب؛ يكلف تلاميذه قراءة بعض النصوص الأصلية المتصلة بدراسة الحضارتين اليونانية والرومانية، ويكلفهم شرحها تحت إشرافه ومراجعته، كما يطلب إليهم قراءة بعض النصوص في الأدب اليوناني والأدب اللاتيني، وهو حريص على ألا يقل مستوى التدريس في جامعة مصر عن مستواه في أوروبا، فهو يطلب إلى طلابه دراسة كتاب من تأليف أرسطوطاليس اسمه «نظام الأثينيين»، يقول لهم إنه قد عرف هذا الكتاب بطريق الصدفة في باريس، «أحالنا عليه أحد أساتذتنا في السوربون، فلما رجعت إليه عرفت أنه استكشف في مصر في عام 1891، فنقله الإنجليز إلى لندن، ونشرت صورته الفوتوغرافية ثم طبع في لندن وباريس وبرلين وغيرها من مدن أوروبا، ثم نقل إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية وغيرها من اللغات الحديثة، ثم نقد وفسر في جميع اللغات، ثم درس في جامعات أوروبا، انتفع به مؤرخو الأوروبيين فأصلحوا ما كان في تاريخ أثينا من خطأ وأكملوا ما كان فيه من نقص، ثم مضت على ذلك ثلاثون سنة والمصريون لا يعلمون من أمره شيئا، وإذ كنت أدرس لكم تاريخ اليونان، وكنت قد أخذت نفسي بأن أفسر لكم من حين إلى حين بعض الأصول التاريخية القديمة لتعتادوا قراءة كتب التاريخ والاستفادة منها؛ فقد اخترت في هذه السنة هذا الكتاب.»
الأستاذ يريد من طلابه أن يتعودوا قراءة النصوص القديمة، ويريد أن يدربهم على نقد المراجع الهامة، وعلى ألا يدعوهم قدمها أو كون مؤلفها عملاقا مثل أرسطو إلى التسليم بكل ما يجيء فيها وتصديقه بغير تمحيص، فإنه حريص على أن يقف وأن يقف تلاميذه من كل ما يقرءون موقف الدارس الناقد والمفكر الواعي.
ويقبل شهر ديسمبر 1919 فتصل لجنة اللورد ملنر إلى القاهرة، ولكن مصر كلها تقاطعها، فقد اختارت الوفد ورئيسه «سعد باشا زغلول» وكيلا عنها للمطالبة بحريتها واستقلالها، وهي تريد أن ترغم دولة الاحتلال على احترام هذه الوكالة والتعامل مع وكيلها وحده لتحقيق الهدف الذي وكلته لتحقيقه، فلا تستطيع اللجنة الاتصال بأحد، وتحاول زيارة طنطا «موطن المظاهرات في العام الماضي» فتقوم مظاهرات جديدة ضدها، ويعلن علماء الأزهر أنهم يطالبون مع الشعب كله بالجلاء والاستقلال في نداء يوقعونه بأسمائهم ويوجهونه إلى دار المندوب السامي، ولأول مرة في تاريخ مصر تخرج السيدات مؤيدات للحركة الوطنية في مظاهرة في القاهرة تتحدى الرصاص.
ويتحدث طه حسين إلى أستاذه وصديقه القديم أحمد لطفي السيد عن سعادته بيقظة الشعب المصري وتصميمه على أن يحصل على استقلاله، ولكن لطفي السيد يتساءل وماذا بعد الاستقلال؟ إنه يرى أن على المواطنين أن يفكروا منذ الآن في طبيعة الحكم الوطني بعد الاستقلال. هذا الحكم في رأيه لا يجوز أن يكون حكم الخديو المطلق؛ لأنه يرفض حكم الفرد الذي يلغي الحرية كل الرفض، ولا بد أن يكون الحكم هو حكم الشعب لنفسه بنفسه، أي الحكم الديمقراطي.
وداخل الجامعة يدرس طه حسين نظم الديمقراطية الأثينية في كتاب أرسطوطاليس، وهو يدرك أنه ليس بين الطلاب من يعرف لغة الكتاب وهي اليونانية، وإذن فلا بد من قراءة ترجمة فرنسية أو إنجليزية للكتاب، ويسأل نفسه لماذا لا يترجم الكتاب إلى اللغة العربية كما ترجم إلى اللغات الأوروبية الحية، ويتساءل: «لماذا لا أفسر للطلاب ترجمة الكتاب بالعربية؟ فإذا كان الشقاء قد قضى علينا ألا نعنى باللغات القديمة ولا نحفل بدراستها، فإني أستطيع أن أترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية، وأنا مدين لمصر بهذه الترجمة؛ لأني لم أتعلم لأنتفع وحدي بما تعلمت، ولأن من الحق على كل مصري أن يبذل ما يملك من قوة لإصلاح ما أصاب مصر من فساد.»
Page inconnue
ويقول طه حسين إن الكتاب هام، لا لقيمته التاريخية فحسب، بل لقيمته المعاصرة أيضا، فإن أرسطوطاليس «لم يكن يشخص عصره الذي عاش فيه فحسب، وإنما كان يشخص الرقي الإنساني بوجه عام.»
وأرسطو يستعرض صور الحكومات ويختار منها حكومة وسطا، تمثل طبقات الشعب تمثيلا صحيحا معقولا، ويرفض صور كل الحكومات الاستبدادية؛ استبداد الملوك، أو استبداد الأقليات، أو استبداد العامة.
وإذن فإن هذا الدرس «الأكاديمي» الذي اختار الأستاذ الشاب طه حسين أن يلقيه على طلابه في العام الجامعي 1919-1920 لم يكن منقطع الصلة بما يجري خارج الجامعة، بل كان شديد الاتصال بما يشغل باله هو وبال غيره من المفكرين، أي بطبيعة حياة مصر السياسية بعد الاستقلال. •••
وتنتقل أسرة طه حسين من السكاكيني إلى «شقة» في شارع الحواياتي على ناصية شارع الخديو إسماعيل، وقد وصلت سجادة عجمية من الوالد الذي كان قد أرسل أيضا حوالة بريدية اشترت السيدة سوزان بقيمتها عربة للطفلة أمينة، ووصلت سجادة أخرى من الشيخ أحمد شقيق طه حسين الكبير، وكان عبد المجيد الشقيق الذي يصغره بخمسة عشر عاما يساعد في إعداد «الشقة»، إنه يتابع دراسته الثانوية ويريد أن يدخل بعد ذلك مدرسة الهندسة العليا، وهو الآن يداعب ابنة أخيه في عربتها، وهي تضحك له سعيدة بمداعبته، ولكن عبد المجيد ينصرف عن هذه المداعبة بعد قليل ليحدث شقيقه الكبير بما يحس به الشباب - حتى من كان منهم في مثل سنه الصغيرة - من غضب على المحتلين ورغبة في العمل لإنهاء الاحتلال واستعداد للتضحية في سبيل تحرير البلاد.
طه حسين يقول لشقيقه إن زعماء البلد يبذلون جهودا جدية للوصول إلى هذا الهدف، وقد عاد ملنر وبعثته إلى بريطانيا في مارس 1920 مقتنعين بضرورة التفاوض مع الوفد المصري وكيل الأمة، ومن المنتظر أن تبدأ المباحثات قريبا بين الوفد المصري والإنجليز وهو يرجو لها النجاح. ثم يذكر طه لأخيه أن نهاية العام المدرسي قد اقتربت، وقد يحسن بأخيه وبزملائه أن يهتموا الآن بدروسهم وامتحاناتهم، ولكن عبد المجيد يحتج بأن الإنجليز لا ينوون الخير لمصر، فقد نقلت الصحف أن ونستون تشرشل قد صرح أخيرا بأن مصر جزء من الإمبراطورية البريطانية، وبأنه ينوي أن يزورها قريبا بهذه الصفة، وطه حسين يرد عليه بأن هذا الهراء يجب ألا يحمل أحدا على اليأس، ويقول له إنه هو قد قال لسعد زغلول عندما قابله في باريس منذ عامين: «كيف نيأس وقد أيقظتم الشعب فاستيقظ ودعوتموه فاستجاب؟» ويكرر أنه ما دام الشعب يقظا فإن مطالبه العادلة ستتحقق دون شك.
لا يتذكر طه حسين زيارته هو لسعد زغلول في باريس فحسب، بل يتذكر أيضا زيارة أحمد لطفي السيد له في «شقته» ذات الغرفة الواحدة في باريس، لقد حضر ومعه صديق عزيز عليه هو عبد العزيز فهمي باشا، الذي حاول أن يحمل الطفلة أمينة بين يديه فصرخت في وجهه باكية، وصرخ هو فيها ينهرها لبكائها قائلا لها: «اسكتي أيتها الأفريقية!» وتركها ليحدث أباها فيطيل الحديث وتطول الزيارة ساعة يكتشف طه حسين أثناءها أن عبد العزيز فهمي ليس وطنيا عظيما ولا قانونيا فقيها متميزا فحسب، بل إنه كذلك عالم شغوف باللغة العربية أسلوبه فيها جميل ناصع قوي الأداء، وهو أيضا شاعر رصين مجيد مطيل.
4
عبد العزيز فهمي هو الذي ذهب مع سعد زغلول ومع علي شعراوي باشا فواجهوا ممثل بريطانيا في مصر يوم 13 نوفمبر 1918، يطالبونه بالاستقلال بعد أن انتهت الحرب العالمية التي تحملت فيها مصر ما تحملت، وهو الآن في باريس مع سعد مستمرين في الجهاد رغم كل العقبات التي تضعها إنجلترا، وأوروبا معها للأسف، في طريق الحركة الوطنية المصرية.
طه حسين إذن يعرف سعدا ويعرف عبد العزيز فهمي عن قرب، وهو يعرف أيضا من زعماء الحركة الوطنية عبد الخالق ثروت وكيل الجامعة، وآل عبد الرازق ومنهم حسن باشا محافظ الإسكندرية، وعلي ومصطفى صديق أخيه الشيخ أحمد وصديقه منذ أيام الأزهر، وهو واثق أن هؤلاء الرجال الكرام على أنفسهم وعلى شعبهم سيصلون باتحادهم وبصمود الشعب من خلفهم إلى تحقيق أهداف البلاد، وهو يدعو الله أن يظل الشعب متحدا صامدا خلف زعمائه، ويدعو الله أن يستمر هؤلاء الزعماء في جهادهم متحدين متآزرين.
ويحضر أخوه الشيخ أحمد لزيارته في شارع الحواياتي، ويدور الحديث عن دور الأزهر ودور الجامعة وأساتذتهما في الحركة الوطنية. يقول طه حسين إن الفيلسوف الفرنسي «سان سيمون» الذي درس مذهبه عندما كان يعد رسالته للدكتوراه في باريس، يرى أن أمور الحكم الذي يحقق العدل ويكفل رقي الشعب يجب أن تصير إلى العلماء، ومع أن طه حسين يشك في أن العلماء يمكن أن يتولوا أمور الحكم في مصر أو في غيرها من البلاد في هذا العصر الحديث، فإنه يقول إنه لمعرفته بشخصيات كثير من الزعماء يخشى أن يختلفوا في المستقبل، ويرى أن العلماء المصريين هم الذين ينبغي أن يقضوا بين الزعماء في مصر عندما يختلفون، ولذلك فإنه لا ينبغي لهم أن ينحازوا إلى زعيم من الزعماء أو إلى حزب من الأحزاب. •••
Page inconnue
الأستاذ الشاب يدرس النظم السياسية القديمة لطلابه، وهو لا يكتفي بالتاريخ السياسي والدستوري بل يهتم كذلك بالتاريخ الثقافي،
5
فهو يعرف طلابه بما أنتجه اليونان للمسرح من روائع، يعرفهم بمسرح سوفوكليس وإيسكولوس، ويوضح لهم أن المسرح اليوناني لم يكن مسرح تسلية فارغة وإنما كان مسرح فكر، له خطره الأدبي والاجتماعي والسياسي أيضا، ويتوقف بهم عند فقرة في قصة «أنتيجون» التي ألفها سوفوكليس، يتحدث فيها عن طبيعة الإنسان، ويترجم لهم منها هذه الأبيات:
لقد ملئ العالم بالمعجزات
ولكن لا أشد إعجازا من الإنسان
هو الذي يستعين بالهواء العاصف على أن يطير ... بعد أن اتخذ للسفن أجنحة
فيعبر البحر المتلاطم وهو يبيض من حوله
هو الذي يستخدم الخيل والمحراث ليمزق في كل سنة جوف الأرض
هو الإنسان
يوقع في ثنايا شباكه أنواع الطير الهوج، وأنواع الحيوان المفترس، وبنات البحر
Page inconnue
يذلل بمهارته أشد سكان الغابات وحشية
ويستخدم لسلطانه السوابق ذات الأعراف العراض ... تأبى على من يريد تذليلها
تعلم المنطق، وعرف مذاهب الريح، أدرك سلطان القوانين على المدن
عرف كيف يقي مساكنه سهام البرد والرطوبة
ستر كل شيء بتجربته، ووجد من الحيل ما يتقي به أحداث الزمان
واستكشف ما يحول بينه وبين أشد العلل قسوة وأعظمها فتكا
الموت وحده هو العلة التي لم يستطع أن يجد منها محيصا ...
والأستاذ يتوقف معهم - في نفس القصة - عند الأبيات التي ترد على لسان «الملك كريون»
6
عن شخصية الحاكم، يقول: «ليس من سبيل إلى أن تعرف نفس الرجل وذكاءه وأخلاقه إذا لم يجلس مجلس الحكم، ولم يوكل إليه تدبير الدولة وحماية قوانينها ... أما أنا فأعتقد أن ذلك الرجل الذي يكلف الحكومة وحماية القوانين فلا يقف نفسه على النصح للدولة والتضحية بكل شيء في سبيلها، بل يمنعه الخوف من ذلك، أعتقد أن هذا الرجل شرير ممقوت، ولا أستطيع إلا أن أزدري ذلك الذي يؤثر منفعة الصديق على منفعة الوطن.»
Page inconnue
كما يتوقف الأستاذ طه بتلاميذه عند الصفحات المثيرة التي يدور فيها الحوار بين الملك كريون وولده هيمون، يقول فيها الفتى لوالده: إنه لا طاعة للحاكم إن هو حاد عن حكم العدل والرحمة، ولا طاعة للأب على ولده «الذي يحبه بل يتفانى في حبه» إذا ترك الأب طريق العدل إلى طريق الاستبداد. •••
وفي أول سبتمبر 1920 يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق - الذي أصبح أستاذا للفلسفة في الجامعة - لطه حسين: إن الأخبار الواردة من لندن تفيد أن المباحثات قد انتهت إلى مذكرة بقواعد اتفاق بين مصر وبريطانيا، وأن الوفد المصري رأى «أخذا بالأحوط واستمساكا بنص الوكالة على إطلاقه ألا يبت في الموضوع برفضه أو بقبوله ... حتى يعرض الأمر على البلاد ...» ولذلك فإنهم قد بعثوا أربعة منهم إلى مصر للتشاور، وطه حسين سعيد بهذا الخبر كل السعادة لما فيه من دلالة، أولا: على أن الإنجليز قدموا عرضا يقبل المناقشة، وثانيا: لما فيه من دلالة على أن سعد باشا والزعماء المصريين حريصون على مبدأ التشاور وعلى الرجوع دائما إلى الأمة.
وهناك خبر آخر مفرح، وهو أن طلعت حرب باشا شارع في إنشاء بنك لمصر، وهو حريص على أن يجمع ثمن الأسهم كلها من المصريين من جميع الطبقات بمن في ذلك الأساتذة وطلاب الجامعة، بل إن بنك مصر قد باع سهما لأخيه عبد المجيد، أي أن البنك يجمع قيمة الأسهم حتى من تلاميذ المدارس لإشعارهم بأهمية إنشاء هذا البنك المصري بأيدي المصريين. طه حسين يقول إن الاستقلال، على أهميته وخطره، هو عمل سلبي ينحسر به سلطان الأجنبي عنا، ولكن العمل الإيجابي هو الذي يبني البلاد، إن البلاد إنما تبنى بالعلم والعمل في كل ميدان.
وخبر آخر يدل على امتداد اليقظة إلى كل أفراد شعب مصر: إن السيدة هدى شعراوي وعضوات الاتحاد النسائي المصري الذي ترأسه غاضبات لأن الوفد المصري لم يطلب رأيهن في مشروع المعاهدة المعروض من الإنجليز، وهن مع ذلك يدرسن المشروع ويبرزن فيه عيوبا يحددنها ويقررن إعلانها.
7
وتطلب مجلة الهلال إلى طه حسين أن ينشر فيها فصولا عن «قادة الفكر»، فيوافق مسرورا لأنه يريد دائما أن يشرك عامة القراء في دراساته وبحوثه كلما استطاع، وهو سيحدث قراء الهلال إذن عن سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس والإسكندر ويوليوس قيصر، ولكنه سيحدثهم أيضا عن الشاعر هوميروس فإنه يرى للشعر أهمية كبرى، وهو يسأل: «هل كانت توجد الحضارة اليونانية لو لم توجد البداوة اليونانية التي سيطر عليها شعر هوميروس وخلفائه؟ وهل كانت توجد الحضارة الإسلامية التي ظهر فيها من ظهر من الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال، لو لم توجد البداوة العربية التي سيطر عليها هؤلاء الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟» •••
ويزور الشيخ مصطفى عبد الرازق طه حسين ويتحدثان عن الأخبار الواردة من لندن، لقد عرض أعضاء الوفد التحفظات التي أبدتها البلاد على قواعد الاتفاق المطلوب، وأهم هذه التحفظات ضرورة النص على إلغاء الحماية، ولكن إنجلترا لم تقبل ونتيجة لذلك قطع المصريون المفاوضات وغادروا لندن إلى باريس.
في 26 فبراير 1921 تظهر بريطانيا الرغبة في حل المشكلة المصرية فترسل إلى السلطان فؤاد دعوة ليرسل وفدا رسميا للتفاوض معها في شكل العلاقة «التي تحل محل الحماية البريطانية، فإن هذه الحماية لم تعد نظاما مرضيا.» وعلى هذا الأساس قبلت مصر التفاوض، ولكن تأليف وفد المفاوضة أصبح موضوع خلاف جعل يشتد اشتدادا خطيرا، إن رئيس الوزراء عدلي باشا يكن يرى أن الطبيعي أن يرأس رئيس وزراء مصر وفد مصر الرسمي إلى إنجلترا، على أن يضم هذا الوفد الرسمي ممثلين للوفد المصري الذي يرأسه سعد باشا زغلول، وسعد باشا زغلول يرى أنه هو الذي وكلته الأمة ليعمل للحصول على استقلالها التام، فهو المطالب برئاسة أي وفد يفاوض الإنجليز لكي يكون الاستقلال التام هو النهاية الوحيد المقبولة لهذا التفاوض. إنه يقول إن السلطان هو الذي يعين رئيس وزراء مصر، ولكن السلطان لا يملك أن يأمر في هذا الشأن بغير ما يراه الإنجليز، فكيف يرأس رئيس الوزراء المصري - وأمر تعيينه في مركزه هو إذن بيد الإنجليز - كيف يرأس وفدا هدفه إخراج الإنجليز من البلاد؟
ويصر عدلي باشا على السفر إلى لندن للتفاوض ومعه وفد رسمي، يصدر السلطان أمرا بتشكيله في 19 مايو 1921 لا يضم أحدا من أعضاء الوفد المصري. •••
ويقبل خريف 1921، وقد أتمت السيدة سوزان شهور حملها الثاني وحضرت والدتها من باريس لتكون إلى جوارها وقت الولادة، وفي الثامن من سبتمبر تحس بآلام الوضع فيحضر الطبيب إلى شارع الحواياتي في أول الصباح. يطمئن الوالد والوالدة، ولكن الساعات تمر بطيئة ثقيلة ترهق الوالد بالقلق والمخاوف، قلبه موزع بين صغيرته أمينة وهي جالسة بجواره وبين زوجته التي تعذبه آلامها المتزايدة عذابا لا يعرف كيف يمنع أسبابه، حتى يخرج الطبيب بعد الظهر ضاحكا مبتهجا، يبشر طه حسين بأنه أصبح والدا من جديد.
Page inconnue
وعندما يمسك طه بيدي زوجته ويسمعها تهمس سعيدة «إنه ولد» يرد عليها: إذن هو «مؤنس». وتقرب المولود منه وقد انتهى القلق والخوف، وهما ينتبهان إلى الصغيرة التي دخلت الغرفة تبتسم وهي تحس بأبويها سعيدين، وتتطلع في شغف إلى رؤية المولود.
الوالد يحمل ولده في الشهر الثالث من عمره بين ذراعيه، يسير به ينشده قصائد من الشعر العربي القديم، ولكنه مضطر إلى أن يعيده إلى والدته أسفا لأن الشيخ مصطفى عبد الرازق قد حضر للزيارة.
إن الأخبار الواردة من لندن تفيد بأن وزير الخارجية اللورد كيرزون قدم لعدلي باشا مشروعا لا يمكن قبوله، وإن عدلي باشا رفض المشروع فعلا، وإنه يعود الآن إلى مصر، وسيقدم استقالته للسلطان بمجرد وصوله إليها.
وبريطانيا تقرر - بناء على نصح مندوبها السامي في مصر الفيلد مارشال لورد اللنبي - استعمال أقصى الشدة مع أهل البلاد. يقوم المندوب السامي بإبلاغ السلطان أن مصر واقعة على خط المواصلات الرئيسي بين بريطانيا وممتلكات جلالة الملك في الشرق، ولذلك فإن جميع الأراضي المصرية ضرورية لهذه المواصلات!
ويرسل الإنجليز إلى سعد باشا زغلول وإلى أعضاء الوفد المصري أمرا كتابيا بعدم الاشتغال بالسياسة بتاتا وبالذهاب إلى بلادهم والبقاء فيها تحت رقابة مدير كل مديرية.
ويرد سعد باشا في 21 ديسمبر 1921 قائلا: «سأبقى في مركزي مخلصا لواجبي، وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء أفرادا وجماعات.» ويرد بقية أعضاء الوفد برد مماثل.
وفي 23 ديسمبر 1921 تقبض قوة عسكرية بريطانية على سعد وزملائه فتح الله بركات ومصطفى النحاس وسينوت حنا وعاطف بركات ومكرم عبيد، وتأخذهم، عن طريق السويس، بحرا إلى منفاهم في جزيرة سيشل في المحيط الهندي.
وفي نفس اليوم يكتب عدلي باشا يكن للسلطان معلنا أن وزارته كانت قد استقالت بمجرد رجوعه من لندن في شهر نوفمبر بعد فشل المفاوضات، وهو يرى من الضروري أن يعلن تلك الاستقالة لأنه لا يريد أن يتحمل تبعة إجراءات لا علم له بها.
أقدام عساكر الاحتلال هي وحدها التي تسمع في ليل القاهرة.
الطفلان نائمان، والهدوء يسود «الشقة»، والوالدان يجلسان في جانب منها، تقرأ السيدة سوزان بعض الصحف التي وردت من الخارج، ثم تقرأ بعد ذلك على الأستاذ صفحات من كتاب «المأدبة» لأفلاطون، فهو مشغول بذلك الفيلسوف لأنه الآن موضوع محاضراته عن قادة الفكر. وتتوقف سوزان عند هذه السطور:
Page inconnue
عندما نتحاب نصلح ما أفسده عارض ما، ذلك العارض فصل نفسين عن بعضهما، كل منهما تبحث عن الأخرى، عندما تلتقيان تتعارفان وتتآلفان، تعودان كلا واحدا، كائنا واحدا وليس كائنين.
وتقول: «ما أقدم هذا الكلام وما أبقاه! هذا ما أحس به أفلاطون، أوليس هذا ما أحسسنا به نحن أيضا؟ أليس هذا ما نحس به الآن؟»
ولكن طه مشغول العقل والقلب بما يجري في البلاد.
وهو في الجامعة ينتهي من الحديث عن قادة الفكر القديم، ويسأل طلابه: والآن ... أليس للفكر قادة الآن؟ وفي أثناء المناقشة التي يثيرها هذا السؤال يلاحظ الأستاذ أن المطبعة والصحيفة، يومية وأسبوعية، سياسية وأدبية، ووسائل الاتصال الجديدة السريعة: التلغراف، التليفون، وكذلك هذه الأداة العجيبة الجديدة التي يسمونها الراديو، والتي سمع أنها استكشفت وأنها ستستعمل فعلا في أمريكا منذ أوائل هذا العام، والقطارات، والطائرات، «فقد عرف قراء الصحف في ذلك الوقت أن أول خط للطيران قد افتتح من نيويورك إلى واشنطن منذ ثلاثة أعوام.» كل ذلك يتيح لكل صاحب فكر أن ينشر فكره بسهولة بين الناس حيثما كانوا، ونتيجة لذلك يتعدد القادرون على الوصول بأفكارهم إلى الجماعات، فتتعدد قيادات الفكر ولا يعود من الممكن أن تصير قيادة الفكر في عصرنا إلى شخصية واحدة.
ويقول طالب: إذا تساوى أصحاب الأفكار في الفرصة المتاحة لكل منهم لتوصيل أفكاره للجماهير، فلا شك أن من كان منهم ممتازا نابغا يمكن أن تصبح له قيادة الفكر في موضوعه وفي إقليمه على الأقل.
ولا ينكر طه حسين ظاهرة النبوغ ويقول لتلميذه إنه على حق. •••
يسافر اللورد اللنبي إلى إنجلترا، يقال إنه مسافر ومعه مقترحاته في جيب واستقالته في جيب آخر، على أنه يعود في فبراير 1922 ومعه تصريح تصدره بريطانيا من جانب واحد بإنهاء نظام الحماية وبالاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وبهذا التصريح - الذي سيعرف باسم تصريح 28 فبراير - تصبح مصر قانونيا دولة حرة مستقلة، ويصبح سلطان مصر «أحمد فؤاد» ملكا عليها، وتؤلف وزارة مصرية جديدة برياسة عبد الخالق ثروت باشا، الذي يتولى إلى جانب منصب وزير الداخلية منصبا آخر هو وزير الخارجية، وهو المنصب الذي كانت بريطانيا قد ألغته عند إعلان حمايتها على مصر عام 1914. وهكذا تستعيد مصر مظهر استقلالها الخارجي، ويكون لها أن تنشئ المفوضيات والقنصليات في الخارج، هذه أهداف وطنية تتحقق. ولكن التصريح قد تضمن أيضا أربعة تحفظات خطيرة خاصة بحماية المواصلات الإمبراطورية، وبالدفاع عن مصر، وبحماية الأجانب والأقليات فيها، وبوضع السودان.
طه حسين يرى أن هذه التحفظات الأربعة توشك أن تجعل الاستقلال صوريا، ولكنه يرى أيضا أن هذا التصريح يدخل مصر مرحلة جديدة يستطيع المصريون - إن هم عملوا بجد وتصميم أثناءها - أن يحولوا هذا الاستقلال إلى حقيقة، وهم يستطيعون على كل حال، بتحملهم مسئوليات الحكم الوطني وبإنشائهم للنظام الدستوري، أن يتخلصوا من حكم الفرد، أي حكم السراي، وأن يخطوا خطوات واسعة وسريعة نحو الاستقلال التام.
ولكن سعد باشا زغلول يرى رأيا مخالفا وهو ينسف تصريح 28 فبراير نسفا، عندما يحكي قصة الأعرابي الذي كانت له ناقة ثمينة عزيزة عليه مرضت مرض الموت، فنذر الأعرابي نذرا لئن شفيت ليبيعنها بدرهم واحد، وشفيت الناقة فأسقط في يد الأعرابي، ثم اهتدى إلى حل بدا له؛ ربط نعلا قديمة بعنق الناقة ثم دفعها والنعل في عنقها إلى السوق، وجعل ينادي عليها: «ناقة بدرهم واحد ونعل بمئة دينار، ولا أبيعهما إلا معا.» فكان الناس يقولون: ما أحلاها لولا الملعونة في عنقها! والملعونة في تصوير سعد هي التحفظات الأربعة التي ربطت في عنق تصريح 28 فبراير.
ويتفاقم الخلاف بين السعديين والعدليين ويزداد الانقسام ويشتد، ويتطرف الشارع المصري في الانحياز إلى زعيمه سعد زغلول وفي معاداة عدلي وثروت وزملائهما، وتخرج الجماهير إلى الشارع لا تريد أن تسمع إلا رأيا واحدا، ولا أن تنقاد إلا إلى زعيم واحد، هتافها «لا زعيم إلا سعد.»
Page inconnue
ويخرج طه حسين عما كان يأخذ نفسه به ويرى أن يأخذ العلماء أنفسهم به من الابتعاد عن الانحياز إلى الأحزاب، يكتب أن القول بأن لا زعيم إلا فلان ولا قول إلا قول فلان هو كلام مرفوض، لأن فيه مصادرة لأصحاب الآراء الأخرى لا تجوز.
وطه حسين مدرك أنه - بهذا الموقف - قد أثار سخط الجماهير عليه وعاداها، وقد سبق له أن أثار سخط السلطان واستجلب عداوته، ولكن طه حسين يكره الطغيان في كل صوره ولو كان طغيان الشعوب.
في أول العام الجامعي الجديد «22-1923» يقبل طه حسين دعوة الجمعية الجغرافية الملكية لإلقاء محاضرة بقاعتها عن المادة التي يدرسها في الجامعة وهي التاريخ اليوناني والروماني، ولكنه لا يكاد يبدأ المحاضرة حتى يقاطعه أحد الحاضرين بسؤال عن فائدة هذا الموضوع ولماذا نعنى نحن بتاريخ غيرنا بعد أن نلنا الاستقلال، لماذا لا نحصر اهتمامنا بتاريخ مصر وبتاريخ العرب والمسلمين، ما لنا وللتاريخ القديم؟
وطه حسين يبين أن العناية بمادة معينة لا تعني عدم العناية بسواها، ثم إن دراسة التاريخ اليوناني والروماني نافعة في دراسة تاريخ مصر وتاريخ العرب أيضا، وهي كذلك دراسة لجزء من تراث الإنسانية ونحن ورثة نشارك في هذا التراث فيجب أن نعرفه.
ويرضى المثقفون عن حديث طه حسين، ولكن هناك أيضا من يرضى عن مقاطعة من قاطع ويسخط على طه حسين! •••
يحاول الملك الضغط على رئيس الوزراء ثروت باشا ليعدل المواد الواردة في مشروع الدستور التي تنص على أن الأمة مصدر السلطات، وعلى أن الوزارة مسئولة أمام البرلمان، ولكي ينص الدستور المعدل على حقوق للملك، منها ولايته على التعليم الديني عن طريق وزارة الأوقاف، وحقه في تعيين رئيس مجلس الشيوخ، وكذلك للنص على استثناء بعض المعاهدات التجارية من الخضوع لسلطة البرلمان وغير ذلك من التعديلات.
والإنجليز يطالبون الوزارة بحذف المادتين الواردتين في مشروع الدستور بشأن تلقيب الملك بملك مصر والسودان وبترتيب حكم خاص للسودان.
ولكن ثروت باشا يرفض طلبات الملك، ويحاول الملك توسيط عدلي باشا يكن لدى رئيس الوزراء، فيعتذر عدلي باشا أيضا، فيرغم الملك رئيس وزرائه على الاستقالة، ويعين مكانه رئيس ديوانه توفيق نسيم باشا، ويشاع أن نسيم باشا سينفذ طلبات الملك، فيغضب الزعماء ويغضب الشعب، ويكتب الأستاذ عباس محمود العقاد مقالا يقول فيه:
الدستور كما كتب يعلن، وإن كانت به أخطاء فإن البرلمان يناقشها.
ويكتب عبد العزيز فهمي - أحد الأعضاء البارزين في لجنة الثلاثين التي أعدت الدستور - إلى رئيس الوزراء يقول له:
Page inconnue
رجل يجلك ويتفاءل خيرا بوزارتك، يرى واجبا عليه أن يوجه إليك هذا الخطاب بلاغا وتبصيرا، لقد عنيت لجنة الدستور عناية تامة بالبحث في شأن السيادة على البلاد فرأت أنها تمحصت للأمة، وأن كل سلطة قد أصبحت الأمة مصدرها، وأن سلطانها أضحى فوق كل سلطان، فجعلت هذا المبدأ أساسا للدستور ودونته بالمادة 23 من مشروعها. ولكن الناس يتناقلون أن دولة نسيم باشا، غفر الله ذنبه وستر عيبه، قد حذف هذه المادة من مشروع الدستور فقلبه بهذا الحذف رأسا على عقب، وأصبح الدستور مجرد منحة، على اعتبار أنه لا حق في الأصل للأمة ولا سلطان للأمة ولا سيادة للأمة.
ويقول له في خطاب آخر:
فرارا من وخز ضميري أسارع إلى تنبيهكم لشيء من التعديلات الأخرى التي تحاكى بها الخاصة ويألمون لها ... وإنه ليخيل إلي أنكم عاكفون من حول هذا الدستور الأعزل تصوبون إليه سهما بيد وتحبسونه باليد الأخرى، يدفعكم إلى الرمي حب المجاملة، وتمنعكم منه الذمة ومراقبة الله والناس.
ويعلن الدستور في 19 إبريل سنة 1923 كما أعدته لجنة الثلاثين، إلا أن لقب ملك مصر والسودان قد أهمل.
ويكتب طه حسين بتاريخ 25 إبريل 1923، منددا بهذا الإهمال وبهذه السهولة التي أظهرتها الوزارة المصرية في النزول عن النص على هذا اللقب ولو إلى أجل، يقول: «نزلت الوزارة عنه لأن ممثل إنجلترا قطب جبينه ولوى وجهه ... فسألت الله أن يمنح مصر ساسة يستطيعون أن يقاوموا ساسة الإنجليز.»
وينتهي العام الجامعي، ويقبل الصيف، وطه حسين يذكر توصية الطبيب بسفر زوجته وابنه إلى الخارج، وهو لم يستطع الاستجابة لهذه التوصية طيلة العام الجامعي، أما الآن فقد تجمع لديه من ثمن كتبه مال يكفي لشراء بطاقات السفر لأسرته دون أن يسافر هو معها، فلا يتردد في تدبير أمر سفر زوجته وولديها ولا يقبل مناقشة في ضرورة سفرهم وتركه هو في القاهرة. •••
يودع طه حسين زوجته وولديه على الباخرة في الإسكندرية ويعود إلى القاهرة، يدخل «الشقة»، يتلمس السرير الكبير ويقف عند سرير الطفلة أمينة ومهد الطفل مؤنس، وهناك وردة في إناء للزهور وضعتها زوجته السيدة سوزان فيه، فهو يأخذها وينفض الماء عنها ويضعها داخل آخر كتاب كانا يقرآنه معا.
وعندما يجيء الأستاذان مصطفى عبد الرازق ومحمود الزناتي لزيارته، يدور الحديث عن الانتخابات وعن لطفي السيد «بك» الذي سيرشح نفسه فيها، ثم ينتقل الحديث إلى ما جاء الصديقان من أجله، إنهما يريدان منه أن يسافر إلى الإسكندرية معهما فلا يبقى وحده في القاهرة.
وفي الإسكندرية يلتقي لطفي السيد «بك» بطه حسين ويقول له: سنحتفل قريبا بذكرى الإمام محمد عبده فحضر نفسك ماليا وأدبيا، ويرد طه: ماليا نعم، كم يدفع الباشوات والمشايخ الكبار؟ فيقول لطفي: خمسة جنيهات، فيلتزم طه بالنصف، أي بجنيهين ونصف جنيه، أما أدبيا فإنه يعتذر، لأن حفلة التكريم يجب بطبيعتها أن تكون كلها إشادة بامتياز الشيخ، وطه حسين يراه من أعظم المصلحين ومن أفذاذ المجددين، ولكنه لا يستطيع أن يتابعه فيما اتجه إليه من محاولة تفسير القرآن الكريم بحيث يكون ملائما للعلم كما نعرفه في وقتنا الحاضر، لأن القرآن ثابت والعلم متغير، والإيمان بالقرآن الثابت لا ينبغي أن يحتاج إلى محاولة الملاءمة بينه وبين ما يعرفه الناس من العلوم في جيل ما، في بلد ما، قد ينقضه علم جيل آخر أو بلد آخر.
ويلتقي طه حسين ومعه سكرتيره ألبير بصديقه محمود الزناتي في مقهى التريانون، ويقول الزناتي: «إن البحر اليوم ناعم كالبساط.» ويقول السكرتير: «نعم، وأهل الإسكندرية الذين يعرفون أحوال البحر وما يتعرض له من نوات، يقولون إن البحر سيكون غدا هادئا كذلك.» ويقول الزناتي: «إن فندق سان استفانو قد حدد في البحر منطقة مأمونة، النزول فيها للاستحمام أمر لا خوف منه، وفيه رياضة فلماذا لا ننزل غدا؟» ولا يرد طه حسين أولا ولكن الزناتي يقول له: «أنت دائما تريد أن تعرف كل شيء.» ويسأل طه: «وماذا تلبسون عند النزول إلى البحر؟» ويصف له الزناتي لباس البحر في تلك الأيام، ويقول السكرتير إنه من الميسور جدا تدبير اللباس المطلوب.
Page inconnue
وفي اليوم التالي ينزل طه حسين البحر عند سان استيفانو، وهو يفكر بعد أن يألف الماء ويمسك بالحبل الممدود في أن هذا هو بحر الروم، مهد إحدى الحضارات العظمى للإنسان، وهذه هي الإسكندرية إحدى عواصم الفكر الإنساني القديم، على هذا الشاطئ كانت تقوم مكتبة الإسكندرية وجامعة الإسكندرية التي علمت بعض قادة الفكر القديم ... لماذا لا تعود للإسكندرية جامعتها وتعود إليها مكتبتها؟
ويستمر تفكيره: لقد عرفت مصر صروح العلم الشامخة؛ من جامعة الإسكندرية، إلى جامعة عمرو بن العاص، إلى جامعة الأزهر، ثم تعرضت لاحتلال الأجانب فضاعت الحرية، وبضياع الحرية ضاع العلم، واستشرت الأمراض، وافتقر الناس، الجهل علاجه العلم، المرض يحاربه التعليم، الفقر يطارده التعليم، الحرية نفسها لن يطالب بها الناس ولن يحرصوا عليها إن حصلوا عليها ولن يقدروها حق قدرها إلا بالتعليم.
لا بد إذن من التعليم، التعليم الجاد، وبهذا التعليم الجاد سنعرف أنفسنا، سنعرف أن أهلنا قد حققوا من الامتياز في الماضي ما لم تحقق مثله الشعوب المعاصرة لهم، وسوف يتبدد الوهم الذي يسيطر على بعضنا بأن شعوب أوروبا أرقى منا بالطبيعة، إنها إنما تجاوزتنا بالعلم، ونحن بالعلم نستطيع أن ندركها بل أن نتجاوزها.
إنه يحس بمسئولية قادة الفكر، مسئولية الرائد أن يسير بأهله إلى ما فيه الخير والنفع والعزة.
وتقبل موجة عالية تكاد تغرقه، فيمسك بالحبل ويخرج بمعاونة صاحبيه، يخرج ضاحكا يقول: «الآن عرفت كيف يسبح الناس، وعرفت أيضا كيف يغرقون!»
ويجلس الثلاثة على شرفة الفندق، فيلاحظ الزناتي أن شهر يوليو مزدحم في الإسكندرية كالعادة، ويذكر الزناتي أن شهر يوليو هو شهر الثورة الفرنسية، وأن الجبرتي قد وصف احتفال نابليون الضخم بهذا العيد في الأزبكية، ويقول طه: «لماذا لا نحتفل نحن بأعيادنا؟»
ويسأل الزناتي: «مثل عيد رأس السنة الهجرية؟»
ويقول طه: «نعم، مثل عيد رأس السنة الهجرية.»
فيقول الزناتي: «هل تذكر قصيدتك في عيد رأس السنة الهجرية منذ نحو عشرين سنة، في احتفال نادي المدارس العليا، قبل السفر إلى فرنسا، سنة 1914؟» ويتذكر طه حسين، ويقول: «نعم، في مدرسة مصطفى كامل ... أجلسني الشيخ عبد العزيز جاويش - سامحه الله - على المنصة إلى جواره فظننت هذا تلطفا منه، ولكنه فاجأني بإعلان اسمي على أنني بديل عن حافظ إبراهيم الذي كان قد وظف في دار الكتب فلم يستطع المشاركة في الاحتفال، لقد أصبح موظفا محترما!»
ويقول الزناتي: «الشيخ جاويش أعلن ذلك لأنك كنت قد أنشدته قصيدتك.»
Page inconnue
ويقول طه وهو يبتسم: «نعم، كان عمري عند ذلك الحين خمسة وعشرين عاما. ولقد نسيت الآن ذلك الهراء الذي كنت أسميه شعرا، والذي أنشدته وأنا أرتعد ارتعادا.»
ويقول الزناتي: «ولكني لم أنس، أنت قلت مخاطبا هلال السنة الجديدة:
كن أنت، بعد أخيك، خير هلال
وأضئ لمصر سبيل الاستقلال»
ويرد طه حسين: «هل هذا شعر؟!»
ويرد الزناتي: «المهم أنك كنت تبحث عن طريق الاستقلال منذ عام 1914، قبل الثورة المصرية بخمس سنوات.»
ويقول طه حسين: «هل تذكر يا زناتي من ألقى قصيدة أخرى في تلك الحفلة؟» ويرد الزناتي: «نعم، الشاعر أحمد نسيم.»
ويقول طه: «نعم، ولكن المهم أكثر الشاعر خليل مطران، الشاعر المسيحي الذي أنشد في ذلك العام قصيدة رائعة لمناسبة بدء العام الإسلامي، مشاركا الشباب الذي أراد أن يحتفل بأعياد البلاد.»
ويقول الزناتي: «نعم، عندك حق في أن تذكر خليل مطران، شاعر القطرين كما نسميه الآن، وأن تذكر هذا التضامن الرائع بين المسلمين والمسيحيين في مصر وهو أساس نهضتنا الحاضرة بغير شك، ولكن هل تذكر ماذا قلت أنت مخاطبا أولئك الشباب؟ لقد قلت:
شبان مصر لكم أزف تحيتي
Page inconnue