وهم بالتحرك في سبيل النجاة، ولكنه صاح به: أرجع النقود!
فجمد بصره دقيقة، ثم دس يده في جيبه فأخرج الورقتين فتناولهما الآخر قائلا: لا ترني وجهك مرة أخرى!
عاد إلى شاطئ النيل وهو لا يصدق أنه نجا، ولكن راحة النجاة تكدرت بالهزيمة، وعجب تحت أنفاس الفجر الرطيبة كيف أنه لم ينتبه إلى هوية الحجرة التي ضبط فيها، وأنه لم يكد يرى منها إلا بابها المزخرف وأرضها الشمعية، واستسلم لرحمة الفجر الندية، متعزيا إلى حين عن كل شيء حتى عن ضياع الورقتين، ثم رفع رأسه إلى السماء، فهاله لمعان النجوم المتألق في هذه الساعة من الفجر.
الفصل الخامس
حملق الرجال القليلون بأعين لا تصدق، وقاموا قومة رجل واحد: يا أرض احفظي ما عليك! - ليلة بيضا بالصلاة على النبي.
وأحدقوا به وعلى رأسهم معلم القهوة وصبيه، وعانقوه وقبلوا وجنتيه، وشد سعيد مهران على أيديهم واحدا فواحدا، وهو يقول بامتنان: أشكرك يا معلم طرزان، أشكركم يا إخوان ... - متى؟ - أول أمس. - تفاءلنا خيرا بأخبار العيد. - الحمد لله. - وبقية الجدعان؟ - بخير، وكل شيء بأوان!
ولبثوا يتبادلون الأخبار حتى أخذه المعلم إلى أريكته، ورجاهم أن يعودوا إلى مجالسهم فعادت القهوة إلى هدوئها، لم يتغير شيء كأنه تركها بالأمس؛ الحجرة المستديرة، النصبة النحاسية، الكراسي الخشبية ذات المقاعد من القش المفتول، الزبائن القلائل المعروفون الموزعون في الأركان، يحتسون الشاي ويعقدون الصفقات، ومن خلال النافذة الكبيرة والباب لاح الخلاء شاملا متراميا إلى غير نهاية، والظلام كثيفا لا تخففه بارقة، والصمت مهيبا عدا ضحكات متقطعة يرمي بها الهواء من الخارج، وجرى تيار جاف منعش ما بين الباب والنافذة، يحمل طابع الصحراء من القوة والنقاء، تناول سعيد قدح الشاي من الصبي، ثم رفعه إلى فيه قبل أن يبرد، ومال نحو المعلم متسائلا: كيف حال الشغل؟
فلوى طرزان شفته السفلى في امتعاض وقال: ندر من يعتمد عليه من الرجال! - لم كفى الله الشر؟ - تنابلة، كأنهم موظفو الحكومة!
فندت عنه نفخة ساخرة وقال: التنبل على أي حال خير من الخائن، بسبب خائن دخلت السجن يا معلم طرزان. - يا لطف الله!
فحدجه بنظرة نافذة متسائلا: ألم تسمع بالخبر؟
Page inconnue