الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Page inconnue
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
Page inconnue
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
Page inconnue
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
اللص والكلاب
اللص والكلاب
تأليف
نجيب محفوظ
Page inconnue
الفصل الأول
مرة أخرى يتنفس نسمة الحياة، ولكن في الجو غبار خانق، وحر لا يطاق، وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء، وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحدا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطويا على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة .. وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية، خسر منها أربعة غدرا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديا، آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسما واحدا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديما ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر، ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر، وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحر والغبار والبغضاء والكدر، وسطع الحنان فيها كالنقاء غب المطر، ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها؟ .. لا شيء، كالطريق والمارة والجو المنصهر، طوال أربعة أعوام لم تغب عن باله، وتدرجت في النمو وهي صورة غامضة، فهل يسمح الحظ بمكان طيب يصلح لتبادل الحب، ينعم في ظله بالسرور المظفر؟ والخيانة ذكرى كريهة بائدة، استعن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية، كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة، ويطير في الهواء كالصقر، ويتسلق الجدران كالفأر، وينفذ من الأبواب كالرصاص. ترى بأي وجه يلقاك؟ كيف تتلاقى العينان؟ أنسيت يا عليش كيف كنت تتمسح في ساقي كالكلب؟ ألم أعلمك الوقوف على قدمين؟ ومن الذي جعل من جامع الأعقاب رجلا؟ ولم تنس وحدك يا عليش، ولكنها نسيت أيضا، تلك المرأة النابتة في طينة نتنة اسمها الخيانة، ومن خلال هذا الكدر المنتشر لا يبسم إلا وجهك يا سناء، وعما قريب سأخبر مدى حظي من لقياك، عندما أقطع هذا الشارع ذا البواكي العابسة، طريق الملاهي البائدة، الصاعد إلى غير رفعة، أشهد أني أكرهك، الخمارات أغلقت أبوابها، ولم يبق إلا الحواري التي تحاك فيها المؤامرات، والقدم تعبر من آن؛ لأن نقرة مستقرة في الطوار كالمكيدة، وضجيج عجلات الترام يكركر كالسب، ونداءات شتى تختلط كأنما تنبعث من نفايات الخضر، أشهد أني أكرهك، ونوافذ البيوت المغرية حتى وهي خالية، والجدران المتجهمة المقشفة، وهذه العطفة الغريبة عطفة الصيرفي، الذكرى المظلمة، حيث سرق السارق، وفي غمضة عين انطوى، الويل للخونة، في هذه العطفة ذاتها زحف الحصار كالثعبان ليطوق الغافل، وقبل ذلك بعام خرجت من العطفة ذاتها تحمل دقيق العيد، والأخرى تتقدمك حاملة سناء في قماطها، تلك الأيام الرائعة التي لا يدري أحد مدى صدقها، فانطبعت آثار العيد والحب والأبوة والجريمة فوق أديم واحد، وتراءت الجوامع الشاهقة، وطارت رأس القلعة في السماء الصافية، وانساب الطريق في الميدان، وتجلت خضرة البستان تحت الأشعة الحامية، وهبت نسمة جافة رغم القيظ منعشة، ميدان القلعة بكل ذكرياته المحرقة، وكان على الوجه الذي لفحته الشمس أن ينبسط، وأن يصب ماء باردا على جوفه المستعر؛ كي يبدو مسالما أليفا، فيمثل دوره المرسوم كما ينبغي، واجتاز وسط الميدان متجها نحو سكة الإمام، ومضى فيها يقترب من البيت ذي الأدوار الثلاثة في نهايتها، وعلى مفرق عطفتين جانبيتين يتفرع إليهما الطريق الأول، في هذه الزورة البريئة سيكشف العدو عما أعده للقاء، فادرس طريقك ومواقعه، وهذه الدكاكين التي تشرئب منها الرءوس كالفيران المتوجسة، وجاءه صوت من وراء يقول: سعيد مهران! .. ألف نهار أبيض!
توقف عن المسير حتى أدركه الرجل، فتصافحا وهما يغطيان على انفعالاتهما الحقيقية بابتسامة باهتة، إذن بات للوغد أعوان، وسيرى قريبا ما وراء هذا الاستقبال، ولعلك تنظر من الشيش مستخفيا كالنساء يا عليش. - أشكرك يا معلم بياظة!
ولحق بهما كثيرون من الدكاكين على الجانبين، وارتفعت حرارة التهاني، وسرعان ما وجد نفسه مطوقا من جميع الجهات بحشد من أصدقاء غريمه ولا شك، واستبقت الحناجر قائلة: الحمد لله على سلامتك! - مبارك للأصدقاء والأحباب! - قلنا من القلوب سيفرج عنه في عيد الثورة!
فقال وهو يتفحصهم بعينيه اللوزيتين العسليتين: الشكر لله ولكم!
فربت بياظة على منكبه قائلا: تعال إلى الدكان لنشرب الشربات!
فقال بهدوء: فيما بعد، عند العودة. - العودة؟!
وصاح أحد الرجال موجها حنجرته إلى الدور الثاني من البيت: يا معلم عليش! .. يا معلم عليش، انزل هنئ سعيد مهران!
لا داعي للتحذير يا خنفساء، إني قادم في ضوء النهار .. وأعلم أنكم تترقبون .. وعاد بياظة يتساءل: العودة من أين؟ - لدي حساب يجب أن أسويه!
فتساءل بوجه ممتعض: مع من؟ - أنسيت أنني أب؟ .. وأن ابنتي الصغيرة عند عليش؟ - نعم، ولكل خلاف حل في الشرع!
Page inconnue
وقال آخر: والتفاهم خير!
وثالث قال بنبرة المسالم: سعيد، أنت قادم من السجن، والعاقل من اتعظ!
فقال وهو يداري حنقه المختنق: من قال إني جئت لغير التفاهم؟!
وفتحت نافذة من الدور الثاني، وأطل منها عليش؛ فارتفعت الرءوس إليه في توتر، وقبل أن تبدر كلمة خرج من باب البيت رجل طويل عريض، في جلباب مقلم، ينتعل حذاء حكوميا، فعرف سعيد فيه المخبر حسب الله، وسرعان ما تظاهر بالدهش، وقال منفعلا: ماذا دعا إلى إقلاقك، وما جئت إلا للتفاهم؟
فمضى نحوه مسرعا، وتحسسه مفتشا عما يريب في صدره أو جيوبه، فعل ذلك بمهارة وخفة ودربة وهو يقول: اسكت يا بن الثعلب، ماذا تريد؟ - جئت للتفاهم على مستقبل ابنتي. - أنت تعرف التفاهم؟! - نعم، من أجل ابنتي! - عندك المحكمة! - سألجأ إليها عند اليأس!
وصاح عليش من أعلى: دعه يدخل، تفضلوا!
اجمعهم حولك يا جبان، إنما جئت أجس حصونك، وعند الأجل لا ينفع مخبر ولا جدار. ودخلوا حجرة استقبال، فتفرقوا فوق الكنب والمقاعد، وفتحت النوافذ، فاندفع الضوء والذباب، وتبدت في البساط السماوي نقط سود من أثر حروق، وحملق عليش من صورة كبيرة في الجدار، معتمدا بقبضتيه عصا غليظة، أما المخبر فقد جلس إلى جانب سعيد، وراح يعبث بحبات مسبحة، ودخل عليش سدرة في جلباب فضفاض منتفخ حول جسم برميلي، رافعا وجها مستديرا ممتلئ اللغد تحت ذقن مربعة، وأنف غليظ محطم العرنين، صافح سعيد متظاهرا بالشجاعة، وقال: حمدا لله على سلامتك!
وسرعان ما تأزم الجو بالصمت، وتبودلت نظرات قلقة حتى عاد عليش يقول وكأنما يرغب في فتح صفحة جديدة: ما فات فات، وكل ما حصل يقع كل يوم، وقد تحدث أمور مؤسفة، وتنهار صداقات قديمة، ولكن لا يعيب الرجل إلا العيب!
بدا سعيد وهو يتابعه بعينيه البراقتين، وجسمه النحيل القوي، كأنه نمر يتربص بفيل، ولم يسعه إلا أن يردد قوله: لا يعيب الرجل إلا العيب.
وحدجته أعين كثيرة عقب ترديده، وكفت يد المخبر عن العبث بحبات المسبحة؛ فأدرك هو ما يجول بخاطرهم، فقال مستدركا: أوافقك على ما قلت حرفا بحرف!
Page inconnue
فقال المخبر بضجر: ادخلوا في الموضوع، واعفونا من اللف.
فتساءل سعيد بسخرية خفية: من أي ناحية؟ - ناحية واحدة هي التي يجوز الكلام فيها، وهي ابنتك!
وزوجتي وأموالي يا جرب الكلاب! الويل ... الويل! أريد أن أتلقى نظرة من عينيك؛ كي أحترم من الآن فصاعدا الخنفساء والعقرب والدودة، سحقا لمن يطرب لأنغام امرأة، لكنه هز رأسه بالإيجاب، فقال أحد ماسحي الجوخ: بنتك في الحفظ والصون، مع أمها، وشرعا يجب أن تبقى مع أمها بنت ستة أعوام، وإن شئت أزورك بها كل أسبوع ...
فرفع سعيد صوته متعمدا ليسمع من في الخارج: شرعا هي حق لي؛ لشتى الملابسات والظروف!
فتساءل عليش في غلظة: ماذا تقصد؟
ولكن المخبر عاجله قائلا: لن يجيء من الكلام إلا وجع الدماغ!
فقال عليش بيقين: لم أرتكب جريمة، ولكنها القسمة والنصيب، والواجب أيضا، واجب المروءة دفعني إلى ما فعلت، ومن أجل البنت الصغيرة أيضا!
واجب المروءة يا ابن الأفعى! الغدر والخيانة المزدوجة، المطرقة والفأس وحبل المشنقة، ولكن ما شكل سناء الآن؟ وقال بهدوء ما استطاع: لم أتركها في حاجة، كانت لديها أموالي؛ أموال طائلة!
فهتف المخبر: تقصد مسروقاتك؟! تلك التي أنكرتها في المحكمة! - ليكن، ولكن أين ذهبت؟!
فصاح عليش: ولا مليم! صدقوني يا رجال، كانت الحال لا يسر بها عدو ولا حبيب، وحقا قمت بالواجب.
Page inconnue
فتساءل سعيد في تحد: خبرني، كيف أمكنك أن تعيش في سعة وأن تنفق على الآخرين؟
فصاح عليش محتدا: هل أنت ربنا حتى تحاسبني؟!
وقال رجل من ماسحي الجوخ: اخز الشيطان يا سعيد!
وقال المخبر: أنا عارفك وفاهمك، أنا خير من يقرأ داخل رأسك، ولكنك ستهلك نفسك، لا تخرج عن موضوع البنت، فهذا خير لك!
فتراجع سعيد باسما وهو يخفي عينيه في الأرض، وقال باستسلام: بالحق نطقت يا حضرة المخبر ... - أنا عارفك وفاهمك ولكنني سأماشيك احتراما لهؤلاء الرجال، هاتوا البنت، أليس الأفضل أن نعرف رأيها أولا؟ - كيف يا حضرة المخبر؟ - يا سعيد، أنا فاهمك، أنت لا تريد البنت، ولا تستطيع أن تأويها، ولن تجد لنفسك مأوى إلا بعد الجهد، ولكن من العدل والرحمة أن تراها، هاتوا البنت.
بل هاتوا أمها، كم أرغب أن تلتقي العينان؛ كي أرى سرا من أسرار الجحيم، الفأس والمطرقة. وقام عليش ليجيء بها، وعندما ترامى وقع الأقدام القادمة خفق قلب سعيد خفقة موجعة، وتطلع إلى الباب وهو يعض على باطن شفتيه، مسح تطلع شيق وحنان جارف جميع عواصف الحنق، وظهرت البنت بعينين داهشتين بين يدي الرجل، ظهرت بعد انتظار طال ألف سنة، وتبدت في فستان أبيض أنيق، وشبشب أبيض كشف عن أصابع قدميها المخضوبتين، وتطلعت بوجه أسمر، وشعر أسود مسبسب فوق الجبين، فالتهمتها روحه، وجعلت تقلب عينيها في الوجوه بغرابة، وفي وجهه خاصة باستنكار لشدة تحديقه، ولشعورها بأنها تدفع نحوه، وإذا بها تفرمل قدميها في البساط، وتميل بجسدها إلى الوراء. لم ينزع منها عينيه، ولكن قلبه انكسر، انكسر حتى لم يبق فيه إلا شعور بالضياع، كأنها ليست بابنته، رغم العينين اللوزيتين والوجه المستطيل والأنف الأقنى الطويل، ونداء الدم والروح ما شأنه؟ أم هو الآخر قد خان وغدر؟ وكيف له رغم ذلك كله بمقاومة هذه الرغبة الجامحة في ضمها إلى صدره حتى الفناء؟
وقال المخبر بضجر ودون اكتراث: أبوك يا شاطرة!
وقال عليش بوجه لا يبين عن شيء: سلمي على بابا.
كالفأرة! مم تخاف؟! ألا تدري كم يحبها؟! ومد نحوها يده، ولكنه بدل الكلام شرق فازدرد ريقه، وابتسم في رقة وإغراء، وقالت سناء: لا. وتحركت لتتسلل راجعة، لولا الرجل وراءها، وهتفت «ماما» فدفعها الرجل برقة وهو يقول: سلمي على بابا!
وتجلت في الأعين نظرات اهتمام، وشماتة، وآمن سعيد بأن جلد السجن ليس بالقسوة التي كان يظنها، وقال متوسلا: تعالي يا سناء!
Page inconnue
ولم يعد يحتمل رفضها، فقام نصف قومة ومال نحوها، فهتفت: لا! - أنا بابا.
فرفعت عينيها إلى عليش سدرة مستغربة، فقال سعيد بإصرار: أنا بابا، أنا، تعالي!
فتأبت واشتد ميلها إلى الوراء، جذبها نحوه بشيء من القوة؛ صرخت، ضمها إلى صدره فدافعته باكية، ومال نحوها ليلثم - رغم هزيمته ويأسه - فاها، أو خدها، ولكن شفتيه لم تلثما إلا ساعدها المتحرك في عصبية غير راحمة. - أنا بابا، لا تخافي، أنا بابا!
وأفعمت رائحة شعرها روحه بذكرى أمها؛ فتقبضت أساريره، وازدادت البنت مدافعة وبكاء، حتى قال المخبر: على مهلك، البنت لا تعرفك!
فتركها تجري يائسا، ثم اعتدل في جلسته وهو يقول بغضب: سوف آخذها!
ومضت هنيهة صمت قبل أن يقول له بياظة: هدئ نفسك أولا!
فقال بإصرار: لا بد أن تعود إلي!
فقال المخبر بحدة: دع القرار للقاضي!
ثم التفت نحو عليش متسائلا: نعم؟!
فقال عليش: الأمر لا يخصني في شيء، ولكن أمها لن تفرط فيها إلا بالشرع!
Page inconnue
فقال المخبر: كما قلت أول الأمر، كلمة واحدة لا ثاني لها، وهي المحكمة!
وشعر سعيد بأنه لو تمادى في الغضب لانفجر جنونه، فتسلط على مشاعره بقوة غير طبيعية مذكرا نفسه بأشياء كاد ينساها، وقال بهدوء نسبي: نعم، المحكمة!
فقال بياظة: والبنت كما ترى تعيش في رعاية وراحة!
وقال المخبر في لهجة لم تخل من سخرية: ابحث أولا عن طريق مستقيم تأكل منه لقمتك!
ورغم هذا بدا أنه يسيطر على نفسه أكثر فأكثر، حتى قال: نعم، كل هذا حق، ولا داعي للأسف من ناحيتي، وسأعاود التفكير في الأمر كله، ولا شك أنه خير أن أنسى الماضي، وأن أبحث عن عمل حتى أهيئ للبنت مكانا طيبا في الوقت المناسب.
وساد الصمت دهشة، فتبودلت نظرات مصدقة وغير مصدقة، وكور المخبر قبضته على المسبحة متسائلا: انتهينا؟
فقال سعيد: نعم، ولكني أريد كتبي! - كتبك؟! - نعم.
فصاح عليش: ضاع أكثرها بيد سناء، وسأحضر لك ما بقي منها.
وغاب الرجل برهة ثم عاد حاملا على يديه عامودا متوسطا من الكتب، فوضعه وسط الحجرة، وقام سعيد إلى المجموعة فتناول كتابا إثر آخر وهو يقول بأسف: ضاع أكثرها حقا!
وضحك المخبر متسائلا: من أين لك هذا العلم؟
Page inconnue
ثم وهو ينهض معلنا انتهاء المقابلة: أكنت تسرق - فيما تسرق - الكتب؟
وابتسم الجميع، ولكن سعيد أقبل يحمل الكتب دون أن يبتسم.
الفصل الثاني
نظر إلى الباب المفتوح، المفتوح دائما كما عهده من أقصى الزمن، وهو يقترب منه ضاربا في طريق الجبل، مثوى ذكريات ورحمة في حي الدراسة القائم بين ذراعي المقطم؛ الأرض أطفال ورمال ودواب، وهو من التعب والانفعال يلهث، وجرت عيناه وراء الصغيرات من البنات بلا ملل، وما أكثر الكسالى المستلقين في ظل الجبل، بعيدا عن الشمس المائلة، ووقف على عتبة الباب المفتوح قليلا، ينظر ويتذكر، ترى متى عبر هذه العتبة آخر مرة؟ يا له من مسكين بسيط كالمساكين في عهد آدم؛ حوش كبير غير مسقوف، في ركنه الأيسر نخلة عالية مقوسة الهامة، وإلى اليمين من دهليز المدخل باب حجرة وحيدة مفتوح، لا باب مغلق في هذا المسكن العجيب، وخفق قلبه فأرجعه إلى عهد بعيد طري، طفولة وأحلام وحنان أب وأخيلة سماوية، المهتزون بالأناشيد يملئون الحوش، والله في أعماق الصدور يتردد، انظر واسمع وتعلم وفتح قلبك .. هكذا كان يقول الأب، وفرحة كالجنة بعثها الحلم والإيمان، وفرحة بالغناء والشاي الأخضر أيضا، ترى كيف حالك يا شيخ علي يا جنيدي يا سيد الأحياء؟ وترامى إليه صوت من داخل الحجرة وهو يختم الصلاة، فابتسم سعيد ومرق من باب الحجرة حاملا كتبه. هاك الشيخ متربعا على سجادة الصلاة، غارقا في التمتمة. هي الحجرة القديمة، لم يكد يتغير منها شيء؛ الحصر جددت شكرا للمريدين، وما زال الفراش البسيط لصق الجدار الغربي، وشعاع الشمس المائلة ينسكب من كوة عند قدميه، أما بقية الجدران فقد اختفى أسفلها وراء أرفف المجلدات، ورائحة البخور المستقرة كأنما لم تتبخر منذ عشرات الأعوام. تخفف من حمله واقترب من الشيخ قائلا: السلام عليكم يا سيدي ومولاي!
أتم الشيخ تمتمته، ثم رفع رأسه عن وجه نحيل فائض الحيوية بين الإشراق، تحف به لحية بيضاء كالهالة، وعلى الرأس طاقية بيضاء منغرزة في سوالف كثة فضية، حدجه بعين رأت الدنيا ثمانين عاما، ورأت الآخرة، عين لم تفقد جاذبيتها ونفاذها وسحرها، فلم يملك سعيد من أن يهوي على يده فيقبلها وهو يدفع دمعة باطنية استقطرها من جو الذكريات والأب والأمل والسماء في الماضي البعيد. - وعليكم السلام ورحمة الله.
هذا صوت زمان! ترى كيف كان صوت أبيه؟ كأنما يتذكر صوت أبيه بعينيه، فيرى وجهه وشفتيه وهما يتحركان، ولكن الصوت انتهى. وأين المريدون؟ أين أهل الذكر؟ يا سيدي محمد على بابك! وتربع أمامه على الحصيرة وهو يقول: أجلس دون استئذان لأني أذكر أنك تحب ذلك!
شعر بأن الشيخ ابتسم من دون أن ترتسم على شفتيه الغارقتين في البياض ابتسامة، ترى هل تذكره؟ - لا تؤاخذني لا مكان لي في الدنيا إلا بيتك ...
ترك الشيخ رأسه يهوي في صدره وهو يقول بصوت هامس: أنت تقصد الجدران لا القلب!
فتنهد سعيد، وبدا لحظة كأنه لم يفهم شيئا، ثم قال بصراحة ودون مبالاة: خرجت اليوم فقط من السجن!
فأغمض الشيخ عينيه متسائلا: السجن؟! - نعم، أنت لم ترني منذ أكثر من عشرة أعوام، وفي تلك الفترة من الزمن حدثت أمور غريبة، ولعلك سمعت عنها من بعض مريديك الذين يعرفونني! - لأنني أسمع كثيرا لا أكاد أسمع شيئا! - على أي حال، لا أحب أن ألقاك متنكرا؛ لذلك أقول لك: إنني خرجت اليوم فقط من السجن!
Page inconnue
فهز رأسه في بطء وهو يفتح عينيه قائلا فيما يشبه الأسى: أنت لم تخرج من السجن!
فابتسم سعيد، كلمات العهد القديم تتردد من جديد، حيث لكل لفظ معنى غير معناه، وقال: يا مولاي، كل سجن يهون إلا سجن الحكومة!
فرنا إليه بعين رائقة ثم تمتم: يقول إن كل سجن يهون إلا سجن الحكومة!
فابتسم سعيد مرة أخرى، كاد ييأس من التلاقي. ثم تساءل في حرارة: هل تذكرتني؟
فغمغم الشيخ دون مبالاة: ولك الساعة التي أنت فيها!
ومع أنه لم يشك في أنه تذكره، إلا أنه تساءل مستزيدا من الثقة: وأبي عم مهران الله يرحمه؟ - الله يرحمنا! - ما أجمل الأيام الماضية! - قل ذلك إن استطعت عن الساعة! - ولكن ... - الله يرحمنا! - قلت: إني خارج اليوم من السجن!
فهز رأسه في طرب مفاجئ قائلا: «وقال وهو على الخازوق باسما: جرت مشيئته بأن نلقاه هكذا!» - أبي كان يفهمك، كم أعرضت عني حتى خلتك تطردني طردا، ورجعت بقدمي إلى جو البخور والقلق، هكذا يفعل موحش القلب الذي لا بيت له. وقال: مولاي، قصدتك في ساعة أنكرتني فيها ابنتي!
فقال الشيخ متأوها: يضع سره في أصغر خلقه!
فقال جادا: قلت لنفسي إذا كان الله قد مد له العمر، فسأجد الباب مفتوحا.
فقال الشيخ بهدوء: وباب السماء كيف وجدته؟ - لكني لا أجد مكانا في الأرض، وابنتي أنكرتني! - ما أشبهها بك! - كيف يا مولاي؟ - أنت طالب بيت لا جواب.
Page inconnue
فأسند رأسه المفلفل إلى يده المعروقة الدكناء وقال: كان أبي يقصدك عند الكرب، وجدت نفسي ...
فقاطعه بهدوء لا يخرج عنه: أنت تريد بيتا ليس إلا!
تضاعف شعوره بأنه يعرفه، وقلق دونما سبب مفهوم، وقال: ليس بيتا فحسب، أكثر من ذلك، أود أن أقول: اللهم ارض عني!
فقال الشيخ كالمترنم: قالت المرأة السماوية: «أما تستحي أن تطلب رضا من لست عنه براض؟!»
وضج الخلاء في الخارج بنهيق حمار ختم بحشرجة كالبكاء، وغنى صوت لا حلاوة فيه «البخت والقسمة فين؟» كما ضبطه أبوه وهو يغني «حزر فزر»؛ فلكمه برحمة وقال له: أهذه أغنية مناسبة ونحن في الطريق إلى الشيخ المبارك؟ وترنح الأب وسط الذكر، غابت عيناه، بح صوته، تصبب عرقا، وجلس هو عند النخلة يشاهد صفي المريدين تحت ضوء الفانوس، ويقضم دومة، وينعم بسعادة عجيبة، وكان ذلك سابقا لنزول أول قطرة حارقة من شراب الحب، وأغمض الشيخ عينيه فكأنه نام. وألف هو المنظر والجو، حتى البخور لم يعد يشمه، وطرأت فكرة بأن العادة أساس الكسل والملل والموت، وهي المسئولة عما عانى من خيانة وجحود وضياع جهد العمر سدى، وتساءل ليوقظه: ألا تزال تحيا الأذكار هنا؟
فلم يجبه، وساوره القلق، فعاد يسأل: ألا ترحب بي؟
ففتح الشيخ عينيه قائلا: ضعف الطالب والمطلوب! - لكنك صاحب البيت!
فقال في مرح طارئ: صاحب البيت يرحب بك، وهو يرحب بكل مخلوق، وبكل شيء.
فابتسم سعيد متشجعا، فاستدرك الشيخ قائلا: أما أنا فصاحب لا شيء!
وكان ضوء الشمس المرسوم على الحصيرة قد انسحب إلى الجدار، فقال سعيد: على كل حال فهذا البيت بيتي، كما كان بيت أبي، وبيت كل قاصد، وأنت يا مولاي جدير بكل شكر!
Page inconnue
فقال الشيخ: اللهم إنك تعلم عجزي عن مواضع شكرك، فاشكر نفسك عني، هكذا قال بعض الشاكرين!
فقال سعيد برجاء: إني في حاجة إلى كلمة طيبة.
فقال في عتاب حليم: لا تكذب!
وأحنى رأسه حتى انتشرت لحيته على صدره وراح مستغرقا، انتظر سعيد صابرا، ثم تزحزح إلى الوراء ليسند ظهره إلى رف من رفوف الكتب، وجعل يتأمل الشيخ الجميل، ولما طال انتظاره سأله: هل من خدمة أؤديها لك؟
فلم يعن بالالتفات إلى قوله، ومضى زمن صامت، وعينا سعيد تتابع طابورا من النمل يزحف بخفة بين ثنيات الحصيرة، وإذا بالشيخ يقول: خذ مصحفا واقرأ!
فارتبك سعيد قليلا، ثم قال بلهجة المعتذر: غادرت السجن اليوم ولم أتوضأ! - توضأ واقرأ!
فقال بلهجة جديدة شاكية: أنكرتني ابنتي، وجفلت مني كأني شيطان، ومن قبلها خانتني أمها!
فعاد الشيخ يقول برقة: توضأ واقرأ! - خانتني مع حقير من أتباعي، تلميذ كان يقف بين يدي كالكلب، فطلبت الطلاق محتجة بسجني، ثم تزوجت منه! - توضأ واقرأ!
فقال بإصرار: ومالي، النقود والحلي، استولى عليها، وبها صار معلما قد الدنيا، وجميع أنذال العطفة أصبحوا من رجاله! - توضأ واقرأ!
بعبوس وقد انتفخت عروق جبينه: لم يقبض علي بتدبير البوليس، كلا، كنت كعادتي واثقا من النجاة، الكلب وشى بي، بالاتفاق معها وشى بي، ثم تتابعت المصائب حتى أنكرتني ابنتي!
Page inconnue
فقال الشيخ بعتاب: توضأ واقرأ:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، واقرأ:
واصطنعتك لنفسي
وردد قول القائل: «المحبة هي الموافقة، أي الطاعة له فيما أمر، والانتهاء عما زجر، والرضا بما حكم وقدر.»
ها هو أبي يسمع ويهز رأسه طربا، ويرمقني باسما كأنما يقول لي: اسمع وتعلم، وأنا سعيد وأود غفلة لأتسلق النخلة، أو أرمي طوبة لأسقط بلحة، وأترنم سرا مع المنشدين، ومع العودة ذات مساء إلى بيت الطلبة بالجيزة رأيتها مقبلة تحمل سلة، جميلة وجذابة، طاوية هيكلها على جميع ما قدر لي من هناء الجنة وعذاب الجحيم. ماذا كان يعجبك من إنشاد المنشدين؟ لما بدا لاح منار الهدى، ورأيت الهلال ووجه الحبيب، لكن الشمس لم تغرب بعد. آخر خيط ذهبي يتراجع من الكوة، أمامي ليلة طويلة، هي أولى ليالي الحرية، وحدي مع الحرية، أو مع الشيخ الغائب في السماء، المردد لكلمات لا يمكن أن يعيها مقبل على النار، ولكن هل من مأوى آخر آوي إليه؟
الفصل الثالث
قلب صفحات جريدة «الزهرة» حتى عثر على ركن الأستاذ رءوف علوان، وراح يقرأ بشغف وهو لم يزل على مبعدة أذرع من بيت الشيخ علي الجنيدي، حيث قضى ليلته، لكن من أي مداد يستمد رءوف علوان وحيه؟ ملاحظات عن موضة السيدات، مكبرات الصوت، رد على شكوى زوجة مجهولة! أفكار لذيذة حقا، ولكن أين رءوف علوان؟ بيت الطلبة وتلك الأيام العجيبة الماضية، الحماس الباهر الممثل في صورة طالب ريفي، رث الثياب، كبير القلب، والقلم الصادق المشع، ترى ماذا حدث للدنيا؟ وماذا وراء هذه الأعاجيب والأسرار؟ وهل ثمة أحداث وقعت كأحداث عطفة الصيرفي؟ حوادث نبوية وعليش والبنت الصغيرة المحبوبة التي أنكرت أباها، علي أن أقابله، الشيخ أعطاني فراشا فوق الحصيرة للنوم، ولكني في حاجة إلى نقود، علي أن أبدأ الحياة من جديد يا أستاذ علوان، أنت لا تقل عظمة عن الشيخ علي، أنت أهم ما لدي في هذه الحياة التي لا أمان لها، وتوقف عن السير أمام مبنى جريدة الزهرة بميدان المعارف، ضخم حقا، بحيث لا يسهل السطو عليه! وهذا الطابور من السيارات المحدق به كحراس الجدران الرهيبة، وأصوات المطابع وراء قضبان البدروم، كهينمة الراقدين في العنابر، ودخل ضمن تيار الداخلين، ثم وقف أمام مكتب الاستعلامات وسأل بصوته الغليظ النبرات: الأستاذ رءوف علوان؟
فرمقه الموظف فيما يشبه الامتعاض لنظرة عينيه اللوزيتين الجريئة لحد الوقاحة، وأجابه بجفاء: الدور الرابع.
قصد من توه المصعد، فوقف بين قوم بدا فيهم غريب المنظر ببدلته الزرقاء، وحذائه المطاط، وزاد من غرابته نظرته الحادة الجريئة، وأنفه الأقنى الطويل، ولمح بين الواقفين فتاة فلعن في سره نبوية وعليش، وتوعدهما بالويل، وما إن انتهى إلى طرقة الدور الرابع حتى مرق إلى حجرة السكرتير قبل أن يتمكن الساعي من اعتراضه، وجد نفسه في حجرة كبيرة مستطيلة زجاجية الجدار المطل على الطريق، وليس بها موضع لجالس، وسمع السكرتير وهو يؤكد لمتحدث في التليفون أن الأستاذ رءوف مجتمع برئيس التحرير، وأنه لن يعود قبل ساعتين، شعر بأنه غريب حقا، لكنه وقف دون مبالاة، يحملق في الوجوه بوقاحة كأنما يتحداهم، وقديما كان يرمق أمثالهم بعين تود ذبحهم، فما حال هؤلاء اليوم؟ أما رءوف فلن يصفو له هنا، وما هذا المكان بالملتقى المناسب للأصدقاء القدامى، ورءوف اليوم رجل عظيم فيما يبدو، عظيم جدا كهذه الحجرة، ولم يكن فيما مضى إلا محررا بمجلة النذير، مجلة منزوية بشارع محمد علي، ولكنها كانت صوتا مدويا للحرية، ترى كيف أنت اليوم يا رءوف ؟ هل تغير مثلك يا نبوية؟ هل ينكرني مثلك يا سناء؟ ولكن بعدا لأفكار السوء، هو الصديق والأستاذ، وسيف الحرية المسلول، وسيظل كذلك رغم العظمة المخيفة والمقالات الغريبة، وسكرتاريته الرفيعة، وإذا كانت هذه المجلة لن تمكنني من عناقك، فمن دفتر التليفون سأعرف مسكنك!
افترش العشب الندي عند كورنيش النيل بشارع النيل، ومضى ينتظر، انتظر طويلا على كثب من شجرة حجبت ضوء المصباح الكهربائي، تحت سماء غاب عنها الهلال مبكرا تاركا النجوم تومض في ظلمة رهيبة، وجرت نسمة رقيقة لطيفة مقطرة من أنفاس الليل عقب نهار أحمر، طغى فيه الصيف طغيانه، ولم تفارق عيناه الفيلا رقم 18 لحظة واحدة، موليا النيل ظهره، شابكا راحتيه حول ركبتيه، يا لها من فيلا خالية من ثلاث جهات، والجهة الرابعة حديقة مترامية، وأشباح هذه الأشجار تتناجى حول جسد الفيلا الأبيض، منظر قديم طالما شهد بالثراء وذكريات التاريخ. ولكن كيف؟ ما الوسيلة؟ وفي هذه المدة القصيرة؟ حتى اللصوص لا يحلمون بذلك، اعتدت في الماضي ألا أنظر إلى الفيلا هكذا إلا عند رسم خطة للسطو عليها، فكيف آمل اليوم مودة وراء فيلا؟! رءوف علوان أنت لغز، وعلى اللغز أن يتكلم، أليس عجيبا أن يكون علوان على وزن مهران؟! وأن يمتلك عليش تعب عمري كله بلعبة الكلاب؟
Page inconnue
ووثب واقفا عند توقف سيارة أمام باب الفيلا، ولما رأى البواب يفتح الباب على مصراعيه عبر الطريق بسرعة خاطفة، ثم تصدى للسيارة منحنيا قليلا ليراه صاحبها، ولكن الرجل لم يعرفه في الظلام، فهتف بصوته الغليظ القوي: أستاذ رءوف .. أنا سعيد مهران!
اقترب رأس الرجل من النافذة المفتوحة وهو يقول بصوت حلقي متزن: سعيد! .. أووه!
لم يستطع قراءة وجهه، لكنه وجد في لهجته ما شجعه، ومضت هنيهة صمت وجمود دون أن يفتح باب السيارة، ثم فتح الباب وجاءه الصوت قائلا: اركب!
بداية حسنة، رءوف علوان هو رءوف علوان بالرغم من السكرتارية الزجاجية والفيلا العجيبة. وانحدرت السيارة في ممشى كضلع القيثارة متجهة نحو مدخل السلاملك. - سعيد، كيف حالك يا رجل، ومتى خرجت؟ - أمس ... - أمس؟ - نعم ، كان يجب أن أقصدك ولكني شغلت بمسائل عاجلة، وكنت في حاجة إلى الراحة فبت ليلتي عند الشيخ علي الجنيدي، أتذكره؟
فقال وهما يغادران السيارة إلى بهو الاستقبال: أوووه! شيخ المرحوم والدك، شهدت حلقاته معك أكثر من مرة! - كانت مسلية! - وكان يعجبني غناء المنشدين.
وأضاء خادم النجفة فخطفت بصر سعيد بمصابيحها الصاعدة، ونجومها وأهلتها. وعلى ضوئها المنتشر تجلت مرايا الأركان عاكسة الأضواء، وتبدت التحف الثاوية على الحوامل المذهبة، كأنما بعثت من ظلمات التاريخ، وتهاويل السقف، وزخارف الأبسطة والمقاعد الوثيرة، والوسائد المستقرة عند ملقى الأقدام، وأخيرا استقر البصر على وجه الأستاذ الممتلئ المستدير، ذلك الوجه الذي طالما عشقه وحفظه عن ظهر قلب، لطول ما أحدق فيه منصتا، وبينا راح الخادم يفتح بابا مطلا على الحديقة في الجدار الأيسر، ويكشف عنه ستائره، مضى وهو ينظر إلى الأستاذ، ويلحظ الروائع مسترقا، وسرعان ما جرى تيار دسم مفعم بالعبير، واختلطت الأضواء بالشذا، فأوشك رأسه أن يدور، وجهه امتلأ كوجه بقرة، وشيء خفي سرى في شخصه جعله ممتنعا رغم طلاقة الوجه وحسن السلوك وابتسامة الثغر، وثمة رائحة سحرية لا تصدر إلا عن دم أزرق رغم أنفه المائل إلى الفطس، وفكيه البارزين، وقلبه يخفق في إشفاق، ويتساءل عن المقر إن انهدم الركن الوحيد الباقي، وجلس رءوف على كنبة قريبة من باب الفراندا، وأشار إليه أن يجلس على مقعد وثير يمثل جانبا من ضلع لمربع من المقاعد تطوق عامودا نورانيا شفافا موشى بصور أسطورية، فجلس بلا تردد وبلا مبالاة كعادته، ومد الأستاذ ساقيه الطويلتين متسائلا: هل جئتني في الجريدة؟ - نعم ولكني اقتنعت بأنها مكان غير مناسب للقاء!
فضحك عن أسنان اكتنف منابتها لون أسود، ثم قال: الجريدة عبارة عن دوامة لا تهدأ، وهل انتظرت هنا طويلا؟ - عمر كامل!
فضحك رءوف مرة أخرى وقال بلهجة ذات معنى: لا شك أنك عرفت هذا الطريق من قبل؟!
فضحك سعيد أيضا قائلا: طبعا، عرفت فيه زبائن لا ينسى فضلهم، فيلا فاضل باشا حسنين وقد خرجت من زيارتها بألف جنيه، وقرط ماسي نادر من فيلا الممثلة كواكب ...
وجاء الخادم يدفع أمامه نضدا قامت عليه زجاجة وكأسان، وجردل صغير أنيق بنفسجي اللون ملئ ثلجا، وطبق نضد فوقه التفاح على هيئة هرم، وصحاف فواتح شهية، وإبريق مياه فضي، وأومأ الأستاذ للخادم فانسحب وراح يملأ بنفسه الكأسين، ثم قدم إحداهما إلى سعيد، ورفع الأخرى قائلا: صحة الحرية!
Page inconnue
وأفرغ سعيد كأسه دفعة واحدة على حين تناول رءوف رشفة ثم سأله: وكيف حال بنتك؟ أوووه، نسيت أسألك: لم بت ليلتك عند الشيخ علي؟
إنه لم يدر شيئا، ولكنه ما زال يذكر أنه أنجب بنتا، وفي إيجاز بارد وقاس سرد له تاريخ مأساته حتى قال: أمس زرت عطفة الصيرفي فوجدت مخبرا في انتظاري كما توقعت، وأنكرتني ابنتي وصرخت في وجهي!
وملأ كأسا أخرى دون استئذان، فقال رءوف: حكاية مؤسفة، أما بنتك فمعذورة أنها لا تتذكرك، وسوف تعرفك وتحبك ... - لم تعد لي ثقة في جنسها كله! - هكذا أنت الآن، أما غدا فمن يدري؟ ستغير رأيك بنفسك، وهذا هو حال الدنيا!
ورن جرس التليفون فقام رءوف إليه وتناول السماعة، ثم أصغى قليلا، وسرعان ما ابتهج وجهه بابتسامة عريضة، فرفعه ومضى به إلى الفراندا، تابعه سعيد من أول الأمر بعينيه الحادتين، امرأة؟! هذه الابتسامة وهذه الرحلة إلى الظلام لا تكونان إلا لامرأة، ترى أما زال أعزب؟ ها هما يجلسان جنبا إلى جنب، يتبادلان الشراب والحديث، ولكن ثمة شعور كالإحساس الخفي المنذر باكتشاف دمل يوسوس له بأن معاودة هذا اللقاء شيء عسير حقا، لا يدري لماذا يطبق عليه؟ وهو يصدقه كإنسان يعتمد كثيرا على غرائزه الملهمة، إنه اليوم من أهل الطريق الذي لم يعتد زيارته إلا معتديا، ولعله تورط في الترحيب به مضطرا، ولعله تغير حقا فلم يبق من الشخص القديم إلا ظل صورته، وجلجلت ضحكة في الفراندا فازداد تشاؤما، وتناول تفاحة بهدوء ومضى يقضمها، ما حياته إلا امتداد لأفكار هذا الرجل الضاحك في التليفون فإذا كان قد خانها فالويل له، وأخيرا عاد رءوف علوان من الفراندا، فوضع التليفون على حامله، ثم جلس وهو يبدو راضيا تماما: مباركة عليك الحرية، هي كنز ثمين يعزي عن فقد أي شيء مهما غلا!
فتناول قطعة من البسطرمة وهو يهز رأسه بالإيجاب، ولكن دون اهتمام جدي: وها أنت تخرج من السجن لتجد دنيا جديدة!
وملأ كأسين ومضى سعيد يلتهم ألوان الطعام بشراهة، وحانت منه نظرة إلى صاحبه فابتسم هذا بسرعة ليغطي على نظرة امتعاض! أنت مجنون إن تصورت أنه يرحب بك من قلبه، ما هي إلا مجاملة بنت حياء، ولن يلبث أن يتبخر هذا الحياء، كل خيانة تهون إلا هذه، يا للفراغ الذي سيلتهم الدنيا. ومد رءوف يده إلى علبة سجائر محلاة بنقوش صينية في تجويف بالعامود المضيء فتناول سيجارة وهو يقول: يا عم سعيد، زال تماما جميع ما كان ينغص علينا صفو الحياة!
فقال سعيد من فم مكتظ: طالما هزتنا الأنباء في السجن، من كان يحلم بشيء كهذا؟!
ثم وهو يحدجه بنظرة باسمة: لا حرب الآن! - لتكن هدنة! ولكل جهاد ميدان!
وألقى سعيد نظرة فيما حوله قائلا: وهذا البهو الرائع كالميدان.
وأسف على إفلات هذه الملاحظة، ولمح في عيني صاحبه نظرة باردة، ألا يعرف لسانك ما الأدب! وتساءل رءوف بهدوء غاضب: أي وجه شبه بين هذا البهو والميدان؟
Page inconnue
فزاغ قائلا: أقصد أنه مثال للذوق الرفيع!
فضيق رءوف عينيه امتعاضا، وقال بسخط واضح: المراوغة عبث، أفصح عما بنفسك، أنا أفهمك وأنت خير من يعرف ذلك!
فضحك سعيد متوددا وهو يقول: لم أقصد سوءا على الإطلاق! - يجب أن تذكر دائما أني أعيش بعرقي وكدي. - هذا ما لا شك فيه مطلقا، بالله لا تغضب هكذا.
فراح يدخن السيجارة بسرعة عصبية دون أن ينطق، حتى اضطر سعيد إلى التوقف عن الأكل، وقال بلهجة المعتذر: لم أتخلص بعد من جو السجن، فيلزمني وقت طويل حتى أسترجع آداب الحديث والسلوك، ولا تنس أن رأسي ما زال دائرا من أثر المقابلة الغريبة التي أنكرتني فيها ابنتي ...
والظاهر أن رءوف أعرب عن عفوه برفع حاجبيه الصاعدة شعيراتهما إلى أعلى، ولما رأى عيني الرجل تنتقلان بين وجهه وبين الطعام كأنما يستأذنه في معاودة الأكل قال بهدوئه السابق: كل!
فهجم سعيد على بقايا الصحاف - بلا تردد ولا تأثر بما كان - حتى مسحها، وعند ذاك قال رءوف، ولعله رغب في إنهاء المقابلة: يجب أن يتغير الحال تماما، هل فكرت في المستقبل؟
فقال سعيد وهو يشعل سيجارة: لم يسمح الماضي بعد بالتفكير في المستقبل! - يخيل إلي أن النساء أكثر عددا من الرجال، فلا تكترث لخيانة امرأة، أما بنتك فستعرفك يوما وتحبك، المهم الآن أن تبحث لك عن عمل.
فقال وهو ينظر إلى تمثال إله صيني بدا آية في الوقار والنعاس: تعلمت في السجن الخياطة!
فتساءل الأستاذ في دهشة: أترغب في أن تفتح دكان خياط؟
فقال بهدوء: بكل تأكيد كلا! - ماذا إذن؟
Page inconnue
فقال وهو يحدجه بنظرة وقحة: لم أتقن في حياتي إلا حرفة واحدة.
فتساءل كالمنزعج: أترجع إلى اللصوصية؟ - هي مجزية جدا كما تعلم!
فصرخ بحدة: «كما تعلم»؟! من أين لي أن أعلم؟!
فرمقه بدهشة قائلا: لم تغضب هكذا؟ قصدت أن أقول كما تعلم عن ماضي، أليس كذلك؟
وخفض رءوف عينيه كأنما يقنع نفسه بقوله، ولكن وضح أنه لم يعد في الإمكان أن يعود وجهه إلى صفائه الطبيعي، وقال بلهجة من يرغب في الإجهاز على الحديث: سعيد، ليس اليوم كالأمس، كنت لصا وكنت صديقا لي في ذات الوقت لأسباب أنت تعرفها، ولكن اليوم غير الأمس، إذا عدت إلى اللصوصية فلن تكون إلا لصا فحسب!
فانتتر واقفا في عصبية وهو يواجه اليأس في صراحته القاسية، ولكنه خنق انفعاله بإرادة من حديد، فعاد إلى الجلوس وهو يقول بهدوء: اختر لي عملا مناسبا! - أي عمل، تكلم أنت وأنا مصغ إليك!
فقال بسخرية خفية في الأعماق: يسعدني أن أعمل صحفيا في جريدتك! أنا مثقف، وتلميذ قديم لك، قرأت تلالا من الكتب بإرشادك، وطالما شهدت لي بالنجابة.
فهز رءوف رأسه في ضجر حتى لعب الضوء فوق شعره الأسود الغزير وقال: لا وقت للمزاح، أنت لم تمارس الكتابة قط، وأنت خرجت أمس فقط من السجن ، وأنت تعبث وتضيع وقتي بلا طائل!
فقال بامتعاض: إذن، علي أن أختار عملا حقيرا؟ - لا عمل حقير على الإطلاق ما دام شريفا.
غلبته المرارة بعد اليأس، فلم يعد يبالي شيئا، وبسرعة جرى ببصره في أنحاء البهو الأنيق، ثم قال فيما يشبه التحدي: ما أجمل أن ينصحنا الأغنياء بالفقر!
Page inconnue
فكان جوابه أن نظر في ساعته، فقال سعيد برقة: أنا واثق من أنني أخذت من وقتك أكثر مما يجوز!
فقال رءوف بصراحة شمس يوليو: نعم، فأنا مرهق بالعمل!
فوقف وهو يقول: أشكر لك الضيافة والعشاء ونبل الأخلاق!
وأخرج روءف حافظة نقوده فأعطاه منها ورقتين من ذات الخمسة الجنيهات قائلا: حتى تفرج، ولا تؤاخذني إذا قلت لك إنني مرهق بالعمل، وإنه من النادر أن تجدني خاليا كما وجدتني الليلة.
فتناول الجنيهات باسما، وصافحه بحرارة، ثم قال بنبرة رجاء: ربنا يتم نعمته عليك!
الفصل الرابع
هذا هو رءوف علوان، الحقيقة العارية، جثة عفنة لا يواريها تراب، أما الآخر فقد مضى كأمس، أو كأول يوم في التاريخ، أو كحب نبوية، أو كولاء عليش! أنت لا تنخدع بالمظاهر؛ فالكلام الطيب مكر، والابتسامة شفة تتقلص، والجود حركة دفاع من أنامل اليد، ولولا الحياء ما أذن لك بتجاوز العتبة، تخلقني ثم ترتد، تغير بكل بساطة فكرك بعد أن تجسد في شخصي، كي أجد نفسي ضائعا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل، خيانة لئيمة لو اندك المقطم عليها دكا ما شفيت نفسي، ترى أتقر بخيانتك - ولو بينك وبين نفسك - أم خدعتها كما تحاول خداع الآخرين؟ ألا يستيقظ ضميرك ولو في الظلام؟ أود أن أنفذ إلى ذاتك كما نفذت إلى بيت التحف والمرايا بيتك، ولكني لن أجد إلا الخيانة، سأجد نبوية في ثياب رءوف، أو رءوف في ثياب نبوية، أو عليش سدرة مكانهما، وستعترف لي الخيانة بأنها أسمج رذيلة فوق الأرض، من وراء الظهر تبادلت الأعين نظرات مريبة قلقة مضطربة كتيار الشهوة التي يحملها، كالقطة الزاحفة على بطنها في هيئة الموت نحو عصفورة سادرة، وغلبت الانتهازية ثمالة الحياء والتردد فقال عليش سدرة في ركن عطفة، أو ربما في بيتي: «سأدل البوليس عليه لنتخلص منه»، فسكتت أم البنت، سكت اللسان الذي طالما قال لي بكل سخاء: أحبك يا سيد الرجال، هكذا وجدت نفسي محصورا في عطفة الصيرفي، ولم يكن الجن نفسه يستطيع أن يحاصرني، وانهالت علي اللكمات والصفعات، كذلك أنت يا رءوف، لا أدري أيكما أخون من الآخر، ولكن ذنبك أفظع يا صاحب العقل والتاريخ، أتدفع بي إلى السجن، وتثب أنت إلى قصر الأنوار والمرايا؟! أنسيت أقوالك المأثورة عن القصور والأكواخ؟ أما أنا فلا أنسى!
وبلغ جسر عباس، فجلس على أريكة حجرية، وانتبه إلى الطريق لأول مرة؛ وقال بصوت مسموع كأنما يخاطب الظلام: خير البر عاجله، الساعة وقبل أن يفيق من دهشته! لا سبيل إلى التردد، فمهنتك هي مهنتك، صالحة وعادلة، وبخاصة عندما تطبق على فيلسوفها، وعندما أفرغ من تأديب الأوغاد فسأجد في الأرض متسعا للاختفاء، هل يمكن أن أمضي في الحياة بلا ماض، فأتناسى نبوية وعليش ورءوف؟ لو استطعت لكنت أخف وزنا، وأضمن للراحة، وأبعد عن حبل المشنقة، ولكن هيهات أن يطيب العيش إلا بتصفية الحساب، لن أنسى الماضي لسبب بسيط، هو أنه حاضر - لا ماض - في نفسي. وستكون مغامرة الليلة خير ابتداء أفتتح به العمل، وستكون مغامرة دسمة، وجرى النيل كأمواج من الظلام تنغرس في جنباتها أسهم الضياء المنعكسة من مصابيح الشاطئ، وساد صمت شامل مريح، ثم دنت النجوم من الأرض عندما اقترب الفجر، وقام عن مجلسه فتمطى، ثم سار على مقربة من الشاطئ نحو المكان الذي جاء منه، جعل يتقدم على مهل متحاشيا الأنوار الضئيلة الباقية حتى هذه الساعة من الفجر، وتباطأ أكثر عندما لاح لعينيه القصر الخالي من نواحيه الثلاث، وراقب الطريق بحدة؛ أرضه وأسوار القصور والشاطئ، ثم استقرت عيناه على القصر، بدا القصر مسدل الجفون، تحرسه الأشجار من كل جانب كالأشباح، نامت الخيانة في هدوء بديع لا تستحقه البتة، مغامرة دسمة ستعطي ردا حاسما على خداع العمر كله، وعبر الطريق في خطوات طبيعية دون تلفت أو حذر، ثم سار بحذاء السور في الشارع الجانبي، وهو يتفحص ما أمامه بعناية شديدة، فلما اطمأن إلى خلو المكان مال فجأة لصق السور منغرزا في الياسمين والبنفسج، وتوقف عن أية حركة، إن يكن في القصر كلب - غير صاحبه - فسيملأ الدنيا نباحا، ولكن لم تند عن الصمت همسة واحدة، يا رءوف .. تلميذك قادم ليحمل عنك بعض متاع الدنيا، وتسلق السور بخفة، وبأطراف محنكة كأنها أطراف قرد، ولم تعقه الأغصان الكثيفة الملتفة الغارقة في الأوراق والأزهار، ثم اعتمد على قبضتيه، ورفع جسمه بقوته الذاتية إلى ما فوق الأسنان المدببة، وهبط به حتى اشتبكت ساقاه بالأغصان في الداخل، فلبد فيها ريثما يسترد أنفاسه، وليراقب الحديقة المكتظة بالشجيرات والأشجار والظلمة. عليك أن تصعد إلى السطح، ومنه تهبط إلى الداخل حتى تعرف طريقك، لا آلة معك ولا بطارية ولا فكرة سابقة عن المكان، لم تسبقك نبوية إليه لتعمل غسالة أو خادمة بعض الوقت، فهي اليوم مشغولة بعليش سدرة، وقطب بعنف ليطرد عنه هذه الأفكار، ونزل بحذر إلى الأرض، ثم زحف على أربع متجها نحو جدار الفيلا، ودار مع البناء متحسسا الحيطان حتى عثر على ماسورة، وأخذ يتسلق بمهارة البهلوان، وكان السطح مقصده، غير أنه مر بنافذة مفتوحة غير بعيدة منه، وفي الحال قرر تجربتها؛ سدد ساقه نحو النافذة حتى انطرحت على حافتها، وشد أعصاب يديه متنقلا بهما فوق كورنيش الحائط، حتى استقر جميعه فوق حافة النافذة، وانزلق إلى الداخل، فوجد نفسه في مكان حدس أنه مطبخ، وضايقته كثافة الظلمة؛ فجد باحثا عن الباب، وكان يتوقع ظلمة أكثف في الداخل، ولكنه حلم بحافظة نقود رءوف، أو بعض التحف، وكان عليه أن يتقدم؛ تسلل من الباب متلمسا الجدار بيديه، وقطع مسافة غير قصيرة، وكثافة الظلام تكاد تصده، ثم أحس تيارا خفيفا من الهواء يلفح وجهه، من أين يجيء الهواء؟
وانعطف مع انعطاف الجدار الأملس وتقدم مادا ذراعه محركا أصابعه حتى لمست أسلاكا بلورية مسدلة محدثة وسوسة خفيفة انقبض لها قلبه، ستارة لا شك في ذلك، اقترب الآن من هدفه، واتجه فكره نحو علبة الثقاب في جيبه دون أن يمد لها يدا، وفتح بخفة ثغرة دلف منها إلى الداخل، وضيق ما بين ذراعيه، ليعيد الستارة إلى وضعها الطبيعي دون صوت، وتقدم خطوة فارتطم بمقعد أو بقائم ما، لا يدريه، وتفادى منه وهو يرفع رأسه متلمسا نورا خافتا ساهرا - وقد تعلق أمله بالوصول إليه - ولكنه رأى ظلاما مطبقا كالكابوس، وفكر في إشعال عود ثقاب للحظة واحدة .. وبغتة دهمه نور ساطع من كل ناحية، نور شديد انقض عليه كلكمة قاضية، انغلق جفناه بلا إرادة ولما فتحهما رأى رءوف علوان على بعد ذراعين، على بعد ذراعين في روب طويل، بدا فيه عملاقا، ويده مدسوسة في جيبه، مشدودة كأنها تقبض على سلاح، هكذا ظن، ونظرة عينيه الباردة زادت قلبه المهزوم برودة، وانطباق شفتيه الناطق بالعداوة والكراهية، والصمت القاتل أثقل من سور السجن، والسجان عبد ربه سيقول هازئا: ما أسرع أن رجعت، وانطلق صوت نحاسي من وراء ظهره يتساءل: ننادي البوليس؟
فالتفت وراءه فرأى ثلاثة من الخدم يقفون صفا، غير أن رءوف خرج عن صمته قائلا: اذهبوا خارجا وانتظروا.
Page inconnue