فالقوم إما كريم يضجر فيسرف، وإما لئيم يضجر فيمسك، وكلاهما يجد لذته ويضجر من لذته، فهم كما هم ونحن كما نحن وكلنا سواء كما ترى، وكأن أم المصيبة حين ولدت وضعت بنتين: المصيبة التي تؤلم، والنعمة التي لا تلذ! ...
وليس أشقى ممن منع السعادة وأعطي الرغبة فيها، إلا الذي أعطي السعادة ومنع اللذة منها!
فلا تقل يا بني إن العصا لظهور الفقراء وحدهم، فإن هناك السوط أيضا، وهو رتبة عالية فوق رتبة العصا؛ ولذلك خص بشرفها الأغنياء!
وانظر ويلك، هل ترى الفرق بعيدا بين الضجر من شيء لأنه موجود، وبين الضجر من ذلك الشيء لأنه غير موجود، بين عدم الشعور باللذة وبين الشعور بعدم اللذة، بين ألم الغني الذي لا تجده أبدا إلا على شك في أنه سعيد، وبين ألم الفقير الذي لا تجده أبدا يشك في أنه تعس؟
قال «الشيخ علي»: وتسألني عن التعاسة ما هي؟ وكيف هي؟ وتريدني على أن أبتغي لك مما بين ظاهرها وحقيقتها؛ ألا فاعلم يا بني أن هذه الكلمة حقيقة بأن تنسي نفسها، وما ادعى أحد معرفتها إلا لأنه لا يجد أحدا يعرفها، وكل شيء مجهول فما أسهله أن يكون من علم كل جاهل، وما أصعبه أن يكون من جهل كل عالم، وإني لأرى الناس يأتون في وصف التعاسة بكلام كثير، وما أهونها إذن لو أن كل إنسان يحسن من وصفها بهذه السهولة!
لقد ألف هذا الإنسان من عهد القبائل في الاجتماع الأول أن يطوي العالم كله في قبيلته، ويجمع القبيلة كلها في نفسه؛ فيزعم أن «كل الناس » يعرفون كذا، «وكل الخلق» يقولون كذا، وأن «الدنيا كلها» و«كل العالم» ... وعلم الله ما في الدنيا، ولا في العالم من يعرف أو يقول غيره، أو هو مع غيره من ذوي جماعته إلى اثنين أو ثلاثة أو جماعة منهم، ثم بقي ذلك ميراثا في أخبار الجهلاء وأوصافهم، وفي كلام أهل المجازفة إلى اليوم!
ولكن إن شئت أن تعرف التعاسة - ولا أقول ما هي (حرسك الله) ولكن ما علمها - وإن شئت أن تسمع لها وصفا آتيا من جانب السماء؛ فالتمس في دار الهموم من لم يبق له هم يحمله إذ يكون قد احتمل كل هم؛ فإن مثل هذا المخلوق - الذي لا تعرف أهو حي في ثيابه ميت فيما وراءها، أم هو ميت في ثيابه حي فيما بعدها - متى استفرغ دمع أجفانه ومات البكاء في عينيه، خلق الله في لسانه ألفاظا كالدمع، ولغة كالبكاء، ومعاني هي في جملتها أوصاف التعاسة على الحقيقة!
وأين تحسبك واجدا هذا المخلوق الملهم المسخر الذي تراه كأنما ينضغط بين الأرض والسماء لشدة ما يجد من حطمة هذه الدنيا؛ حتى تكتب من تاريخه فصلا في ذلك المعنى، وحتى تخرج من لغة الأقدار ما يصحح لفظا واحدا من لغة الناس؟
ألا إن الأرض لا تشهد كل يوم نبيا مثل أيوب يمتحن الله صبره امتحان الألوهية للنبوة، وإذا لم تكن المصيبة - رعاك الله - كأنها في باب النقمة تاريخ غير إنساني؛ فإن بينها وبين معنى التعاسة الذي يضج الناس منه كالفرق بين رؤية السيف مسلولا على العنق وبين رؤيته في العنق.
12
Page inconnue