ولقد أعرف رجلا من أهل الفقر النظيف أعطى ابنته قطعة فيها «عشرة غروش»، وأرسلها تبتغي بها رزقا من الطعام، فأضاعتها فكأنما أضاعت عقلها، وضاقت عليها الدنيا، وخيل إليها أن ليس على الأرض ما يسع طفلة، فلم تجد لها غواثا إلا في الموت يحول بينها وبين أبيها، فجرعت من «الفنيك» جرعة سائغة كانت فيها نفسها، وابتعدت عن أبيها ولكن بعد ما بين الدنيا والآخرة!
فهذا مثال مما يجلب الضعفاء على أنفسهم من التعاسة: تموت الفتاة، وتسير الجنازة، ويفتح القبر؛ لعشرة غروش!
ويحدث في العالم هذا الفراغ، وتخرج الدنيا إحدى عجائب التعاسة، ويشهد الناس ذلك المنظر القاتل؛ وكل هذا لعشرة غروش!
ويقع للفتاة أمران أهونهما الموت، وأصعبهما الذي لا يحتمل ضياع عشرة غروش!
وما عشرة غروش يا بني؟ إنها قوت حمار في يوم أو يومين، ونشوة سكير في ساعة أو ساعتين، ولذة فاسق في لحظة أو لحظتين، ولعنة الله على غني لئيم في نفس من حياته أو نفسين!
ولكن يعلم الله كيف كانت في نفس تلك المسكينة من غلظة أبيها وقسوته، وما خشيت من بادرته وما حسبت من اضطغانه عليها، وكيف استحالت هذه القطعة تاريخا طويلا من الوساوس والأوهام حين أضاعتها، فالناس ناس لولا الوهم، وكان الوهم وهما لولا الناس!
ولعمري ما الذي يجعل المرء جبانا في لقاء الحوادث حتى يخاف الحياة فيعوذ بالموت، ويضرب ما أقبل من دنياه بالذي هو مدبر، أو يخشى الموت فيتعذب بالحياة ما أدبر منها وما أقبل؟
أما إن ذلك ليس من فقر ولا غنى، ولكنه حرص على الحياة يخالط بعض الأنفس ويستمكن منها حالة بعد حالة، فإذا هو قد انقلب في آخرة الأمر خوفا من الموت، ثم لا يزال يحور وينمي وهو في ذلك يخلع القلب من الإيمان الذي يربط عليه،
13
واليقين الذي يثبت به، حتى يبلغ بعد حين أن يكون خوفا من الحياة نفسها، ومتى كان الحرص على الحياة قد صار خوفا من الموت، ورجع الخوف من الموت مع ذلك البلاء خوفا من الحياة؛ فهذه - أصلحك الله - حالة من الجنون تستلب العقل، وسواء من أصيب بها ومن خولط في عقله، وليس معها لهؤلاء الضعفاء كما يشهدون على أنفسهم إلا موت الجبن الذي يسمى انتحارا، أو حياة الجبن التي تسمى ذلا، ولخير للمرء أن يكون حمارا من صنعة الله وتعرفه الحمير، من أن يكون حمارا من صنعة نفسه وتنكره الناس!
Page inconnue