Le Discours et le Changement Social
الخطاب والتغير الاجتماعي
Genres
كان التأدب في اللغة من المشاغل الرئيسية لمبحث التداولية الأنجلو أمريكية في السبعينيات والثمانينيات (براون ولفنسون، 1978م؛ ليتش، 1983م، ليتش وتوماس، 1989م). وأكثر الدراسات نفوذا دراسة براون ولفنسون، فهما يفترضان وجود مجموعة عالمية لما يحتاجه الإنسان من (عوامل تشكيل) «ماء الوجه»، فالناس تريد «ماء الوجه الإيجابي» بمعنى أنهم يريدون أن يحبهم الآخرون ويفهموهم، ويعجبوا بهم ... إلخ، في مقابل «ماء الوجه السلبي»، أي إنهم لا يريدون أن يعتدي الآخرون عليهم أو أن يعيقوهم. وفي صالح الجميع، بصفة عامة، أن يتوافر الحفاظ على ماء الوجه. والباحثان ينظران إلى التأدب من حيث كونه مجموعات من الاستراتيجيات التي يتوسل بها المشاركون في الخطاب ابتغاء تخفيف أفعال الكلام التي يمكن أن تشكل تهديدا لماء وجههم أو لماء وجه من يحادثونهم، وهذا التحليل يمثل سمة أساسية من سمات التداولية التي ترى أن اللغة تشكلها مقاصد الأفراد ونواياهم.
ولكن هذا التحليل يفتقر إلى إدراك المغايرة في ممارسات التأدب ما بين الأنماط المختلفة للخطاب داخل ثقافة من الثقافات، وإدراك الروابط بين ممارسات التأدب المتغيرة، والعلاقات الاجتماعية المتغيرة، أو إدراك ما يتعرض إليه منتجو النصوص من قيود ممارسات التأدب. ويقدم بورديو (1977م، 95، 218) نظرة إلى التأدب تختلف كثيرا عن نظرة براون ولفنسون، إذ يقول: «إن تنازلات التأدب تنازلات سياسية في جميع الأحوال»، ويشرح ذلك قائلا: «إن امتلاك ناصية ما يسمى بقواعد التأدب عمليا، وخصوصا فن تطويع كل صيغة من الصياغات المتاحة ... حتى تتفق مع الفئات المختلفة لمن يمكن للمرء أن يخاطبهم، تفترض سلفا امتلاك ناصية شيء آخر امتلاكا مضمرا، ومن ثم الإقرار بوجوده، ونعني به مجموعة من «المعارضات» التي تشكل البديهيات المضمرة في نظام سياسي محدد بصورة قاطعة». ويعني هذا، بتعبير آخر، أن الأعراف المحددة تجسد علاقات اجتماعية وعلاقات سلطة محددة، وأن استخدام هذه الأعراف يعترف بها بصورة مضمرة (انظر كريس وهودج، 1979م) ولا بد أن تسهم، بقدر الاعتماد عليها، في إعادة إنتاج هذه العلاقات. ومما يترتب على هذا أن البحث في أعراف التأدب في نوع ما من أنواع النصوص أو نمط من أنماط الخطاب يعتبر من وسائل تفهم العلاقات الاجتماعية القائمة داخل الممارسات والمجالات المؤسسية المرتبطة بها. وليس معنى هذا أنني أستعيض عن تحليل براون ولفنسون القائم على الطوعية (1978م) لاستراتيجيات التأدب بتحليل بنيوي لأعراف التأدب، إذ إن مدخلي مدخل جدلي، يعترف بالقيود التي تفرضها الأعراف، ولكنه يعترف أيضا بإمكان إعادة صوغها إبداعيا في ظروف معينة ومن ثم تحويلها.
وعلى أية حال فإن عمل براون ولفنسون يتضمن وصفا ممتازا لمظاهر التأدب التي يمكن إدراجها في إطار نظري مختلف. والشكل
5-1
يلخص الملامح الأساسية للإطار الذي وضعناه، وهو الذي يميزان فيه بين خمس استراتيجيات عامة للقيام ب «أفعال تهدد ماء الوجه» (براون ولفنسون، 1987م، 60، الأفعال التي تهدد ماء الوجه):
شكل 5-1: استراتيجيات اتخاذ أفعال تهدد ماء الوجه.
فلنضرب مثلا من طلب المساعدة في تغيير إطار عجلة سيارة مثقوب، إذ يمكن أن يمثل الطلب إساءة إلى ماء وجه المخاطب، سلبيا، بمعنى أنه يمثل ضغطا عليه للتصرف بطريقة معينة، وإساءة لماء وجه المتكلم أيضا. وقد يكون الطلب «مجردا» (الاستراتيجية 1) أي من دون محاولة «التخفيف» من وقعه أي من دون اتخاذ «إجراءات تصحيحية» («ساعدني في تركيب هذا الإطار ») وقد يصاغ الطلب ب «تأدب إيجابي» (الاستراتيجية 2)، وهو في هذه الحالة «مخفف» أو «مصحح»، وقد يكون ذلك بإبداء الود أو التعاطف أو التضامن مع المخاطب («هلا تساعدني في تركيب هذا الإطار يا صاحبي؟») وقد يصاغ ذلك ب «التأدب السلبي» (الاستراتيجية 3) وهو في هذه الحالة مخفف من خلال إبداء الاحترام لخصوصية المخاطب، أو رغبته في عدم إزعاجه أو تكليفه بشيء ... إلخ («آسف لإزعاجك ولكن ترى تستطيع مساعدتي في تركيب هذا الإطار؟») وقد يكون الطلب «غير مسجل» (الاستراتيجية 4) ومعنى هذا أن يكون مضمرا ويقتضي استنباطه، بحيث يقبل القول تفسيرات بديلة «ترى كيف أستطيع الآن تركيب هذا الإطار؟» أو أن يتضمن تلميحا «هل لاحظت أن إحدى عجلات سيارتي مثقوبة؟» لاحظ أن مثال التأدب السلبي يستخدم صيغة فعلية مركبة («هل تستطيع مساعدتي؟») بدلا من فعل الأمر «ساعدني.» وهذه طريقة غير مباشرة لطلب شيء، فالسؤال في ظاهره يتعلق بقدرة المخاطب الافتراضية على المساعدة، وكما تشترك هذه الطريقة في خصيصة الصوغ غير المباشر مع استراتيجية الطلب «غير المسجل». ويعتبر قول الأشياء بطريقة غير مباشرة - استعمال أفعال الكلام غير المباشرة - جزءا مهما من سمة التأدب، ولكن إذا كانت الطبيعة غير المباشرة للأمثلة «غير المسجلة» قد تتطلب في الظاهر جهدا من المخاطب في تفسير المعنى، فإن صيغة «هل تستطيع المساعدة؟» - وهي صيغة غير مباشرة - قد أصبحت تقليدية ولا تمثل مشكلة في التفسير.
ومن أبعاد التغيير الذي ذكرت آنفا أنه بدأ يظهر في طبيعة المقابلات الشخصية الطبية، بعد يتعلق فيما يبدو بالتغير في أعراف التأدب، وقد رأينا بعض ما يشير إليه في العينتين الأولى والثانية. فالصيغة النوعية الدالة على انخفاض مستوى الارتباط والتي تتوسل بالمراوغة، في شرح المريضة لعبارة «حموضة المعدة» بأنها (حرقان شيء يشبه الحرقان أو شيء من هذا القبيل) يمكن تفسيره، كما قلت من قبل، بأنه عدم رغبة المريضة في أن تبدو واثقة كل الثقة، في وجه سلطة الطبيب وخبرته. وهذه الصيغة النوعية تعتبر أيضا من قبيل التأدب السلبي، ما دامت تتجنب التعدي على مجال سلطة الطبيب . ولنا أن ننظر إلى انتقال المريضة عدة مرات إلى صوت عالم الحياة في السطور 21-22 و29-30 و42 باعتبارها من ضروب التأدب. ويمكن اعتبارها تلميحات غير مسجلة للطبيب بشأن مجموعة من المشاكل الإضافية التي تكمن خلف المشكلة التي يركز عليها. ولما كانت غير مسجلة فإنها تحفظ ماء الوجه الإيجابي للمريضة، التي تبدو لنا عزوفا عن الحديث عن مشكلات كثيرا ما لا نأبه بها باعتبارها مشكلات «شخصية». وربما تعتبر أيضا موجهة إلى ماء الوجه السلبي للطبيب، ففي المقابلات الطبية التقليدية كثيرا ما ينظر إلى المشكلات «غير الطبية» باعتبارها مسائل خارجة عن نطاق عمل الطبيب، ومن ثم فإن الخوض فيها قد يفسر بأنه تكليف الطبيب بما يتجاوز واجباته المعتادة.
والطبيب في العينة الأولى لا يلتزم بالتأدب سلبيا أو إيجابيا. ومن الممكن أن يكون طرح الأسئلة عملا يهدد ماء وجه المخاطب، وبعض أسئلة الطبيب يمكن أن تهدد ماء الوجه الإيجابي للمريضة، فربما كانت تسبب في الحرج أو تتضمن إهانة من نوع ما (وأوضحها سؤاله: «كم مضى عليك وأنت تسرفين في الشراب هكذا؟») ولكن الطبيب لا يخفف من حدة هذه الأسئلة، وأسئلته مجردة بانتظام ومسجلة.
وأما في العينة الثانية فنحن نجد عكس أعراف التأدب المذكورة؛ إذ إن الطبيب هو الذي يبدي تأدبا إيجابيا وسلبيا للمريض، فهو يبدي التأدب الإيجابي في نفسه بأن يدخل في صوت عالم الحياة من زاوية الإنتاج (اقتراح إجراء مشاورات في المستقبل من أجل معرفة «كيف تسير الأمور») ومن زاوية التلقي (في رد فعله على كلام المريضة القائم على عالم الحياة). وهو يبدي التأدب السلبي في أشكال أسئلته المقتضبة والمخففة، وفي تقييمه للحالة واقتراح زيارات أخرى. والمريضة لا تبدي تأدبا سلبيا، بل إنها تقاطع - بصورة مباشرة - اتجاه الطبيب إلى اختتام الزيارة باستئناف روايتها (والعينة لا تتضمن هذه المقاطعة). ومع ذلك فهي تبدي تأدبا إيجابيا بالحديث إلى الطبيب بصوت عالم الحياة، وهو ما يوحي ضمنا بوجود أرضية مشتركة بينها وبين الطبيب.
Page inconnue