وبهذا النظام تجمدت اللغة العربية عندنا ورفضت التطور، ولم يعد معلموها يفكرون في إيجاد معجم عربي عصري يضع كلمة بيولوجية أو سيكلوجية إلى جنب كلمتي مجاز أو استعارة؛ وهم لذلك قانعون بالمعاجم القديمة، وعلى شيء غير صغير من النفور من الكلمات العصرية، بل هم ينفرون من الروح العصري كله.
وهذا خلاف ما نجد في معلمي اللغة العربية في جامعة بيروت، وهنا العلة السيكلوجية لكراهة الإقدام على إيجاد معجم عربي عصري في مصر والرغبة في إيجاد في بيروت.
ومع المر الذي أتطعمه على لساني، ومع مضض الذهن الذي أحسه، أدعو لبيت لاروس الفرنسي ولعلماء اللغة في كلية اليسوعيين في بيروت أن ينجحوا في مشروعهم، وأن نرى معجمهم قريبا على مكاتبنا يؤدي لنا الخدمة اللغوية المنتظرة التي لم نجدها من مؤسساتنا ولا من رجالنا.
إن كل مثقف، بل كل من ينشد الثقافة، يحتاج إلى معجم بل إلى معاجم.
وأنا أكتب هذه الكلمات وأمامي من المجلدات ما عددته الآن فبلغ 69 مجلدا جميعها معاجم، بعضها للغة العربية، وبعضها للبيولوجية، وبعضها للأديان، وبعضها للأدب، وبعضها للفلسفة، وبعضها للعلم، وبعضها للغات الفرنسية والإنجليزية. واعتقادي أني أقل المثقفين في اقتناء المعاجم، ولكن هذا العدد الذي أمامي ليس كل ما اقتنيت؛ لأني سريع الاستغناء عن «المتقادم» سواء من الناس أم من الكتب.
وعناية الأوروبيين بالمعاجم كبيرة ليقينهم بأنها هي التي تيسر البحث والتحرير، وقد أصبحت المعاجم اختصاصية لكل علم أو فن.
وأعظم ما يبهجني أن أقف في إحدي المكتبات أتأمل وأتلبث في تصفح هذه المعاجم الصغيرة التي يؤلفونها للأطفال والصبيان؛ فإن الصبي الذي لم يتجاوز السنة العاشرة من عمره يستطيع بهذه المعاجم أن يقرأ كتابا عويصا في البيولوجية أو النبات أو الحيوان أو التاريخ؛ ذلك أن الكلمات مصورة، حتى الأفعال تصور بالألوان التي تغري الصبي بالقراءة والاستطلاع.
وتحديد المعنى في ذهن القارئ قد اكتسب قيمة كبيرة في أيامنا بهذا العلم الجديد الذي يسمى السيمائية، أي علم الإشارات، باعتبار الكلمة سيماء، أي إشارة أو إيماءة إلى شيء ما، وغاية هذا العلم إحكام المعنى في الذهن، بل إن هناك في أيامنا من يزعمون أن هدف الفلسفة لا يزيد على تعيين المعاني للكلمات التي تستعمل في العلوم؛ أي إن البحث الفلسفي إنما هو بحث لغوى .
وقد لا نرتضي هذا القول، ولكن مما لا شك فيه أن التفكير لا يمكن أن يكون سليما منظما إلا إذا عبرنا عنه بكلمات سليمة منتظمة؛ ومن هنا قيمة المعجم الحسن الميسر.
إننا نحتاج في ظروفنا الحاضرة إلى نحو عشرة معاجم عربية، كي ننظم بها ثقافتنا ونرتب بها أذهاننا.
Page inconnue