المدرسة والجامعة
المجتمع يربينا
لماذا نثقف أنفسنا
زيادة الفراغ وزيادة المسئولية
كيف نربي أنفسنا
عادات تعوق الثقافة
البيئة العائلية والثقافة
الرجعية المعارضة للثقافة
تحصيل العيش والثقافة
ماهية الثقافة
قيمة الثقافة وغايتها
من هو الرجل المثقف
ثقافة بشرية
لا نقرأ بل ندرس
تخريج الرجل العربي العصري
الكتب التي غيرت الأفكار والمجتمعات
ينقصنا 10 كتب
المعاجم العربية
الثقافة الصبيانية
لنكن موسوعيين
الهواية في الثقافة
الجريدة والمجلة
التربية للحياة
سيكلوجية الدرس
كيف نقرأ الكتاب
دراسة اللغة العربية
الأدب العربي القديم
الكتب العربية القديمة
مصر والأدب العربي القديم
الثقافة العربية الحديثة
مشكلة الثقافة في مصر
الحضارة المصرية القديمة
اللغة الأجنبية
الآداب العالمية
دراسة العلوم
دراسة السياسة
دراسة التاريخ
دراسة الاقتصاديات
دراسة الفلسفة
دراسة الدين
دراسة الفنون
ليكن لنا كفاح ثقافي
كتب رمزية وكتب بذرية
بذور ثقافتي
التعمق للدراسة
مئة كتاب
البرنامج للتثقيف الذاتي
المدرسة والجامعة
المجتمع يربينا
لماذا نثقف أنفسنا
زيادة الفراغ وزيادة المسئولية
كيف نربي أنفسنا
عادات تعوق الثقافة
البيئة العائلية والثقافة
الرجعية المعارضة للثقافة
تحصيل العيش والثقافة
ماهية الثقافة
قيمة الثقافة وغايتها
من هو الرجل المثقف
ثقافة بشرية
لا نقرأ بل ندرس
تخريج الرجل العربي العصري
الكتب التي غيرت الأفكار والمجتمعات
ينقصنا 10 كتب
المعاجم العربية
الثقافة الصبيانية
لنكن موسوعيين
الهواية في الثقافة
الجريدة والمجلة
التربية للحياة
سيكلوجية الدرس
كيف نقرأ الكتاب
دراسة اللغة العربية
الأدب العربي القديم
الكتب العربية القديمة
مصر والأدب العربي القديم
الثقافة العربية الحديثة
مشكلة الثقافة في مصر
الحضارة المصرية القديمة
اللغة الأجنبية
الآداب العالمية
دراسة العلوم
دراسة السياسة
دراسة التاريخ
دراسة الاقتصاديات
دراسة الفلسفة
دراسة الدين
دراسة الفنون
ليكن لنا كفاح ثقافي
كتب رمزية وكتب بذرية
بذور ثقافتي
التعمق للدراسة
مئة كتاب
البرنامج للتثقيف الذاتي
كيف نربي أنفسنا
كيف نربي أنفسنا
تأليف
سلامة موسى
المقدمة
بقلم سلامة موسى
القاهرة في مايو 1958
موضوع هذا الكتاب هو تخريج الرجل المثقف؛ فهو يبحث الثقافة ماهية وغاية وقيمة، كما يبحث الوسائل لتحقيقها، وقد كان من حظي أن أكسب كلمة الثقافة معناها العصري، كما أني صرفت شطرا كبيرا من حياتي الوجدانية في التوجيه الثقافي لشبابنا بمؤلفات مختلفة قامت فيها المبادئ العصرية مقام المبادئ التقليدية، وكانت مشكلات الثقافة عندي بمثابة المشكلات السياسية أو الدينية عند غيري، بل كثيرا ما كانت هذه المشكلات شخصية، أواجه فيها تربيتي الخاصة ونموي الذهني.
ونحن في مصر نعيش في بؤس ثقافي أو فاقة فكرية تقارب العدم، وليس فينا من يجهل الأسباب، بل السبب الوحيد في ذلك؛ إذ قد حال الاستعمار بيننا وبين التعليم العصري حتى إنه لم تؤسس وزارة المعارف مدرسة ثانوية للبنات إلا في سنة 1925، وحتى إن جامعة القاهرة بقيت طريدة لا تعترف بها الحكومة أكثر من عشرين سنة، بل حسب القارئ أن يذكر القيود التي كانت تفرض على الراغبين في إصدار المجلات، وهناك قيود أخرى عديدة لا يمكن أن تفسر إلا بأنه كانت هناك رغبة مثابرة في إنكار حقنا في التطور الثقافي.
ولكن شهوة الرقي التي تنبض في نفس الشباب، استطاعت على الرغم من كل هذه العوائق أن تستحدث جوا ذهنيا تيسر فيه التأليف إلى درجة ما، فكثرت بعض المؤلفات، وتكونت لها سوق صغيرة، وصار في مستطاع الشباب الذي يجهل اللغات الأوروبية أن يجد فيها تنبيها وفائدة، ومع أننا ما زلنا بعيدين عن الوقت الذي نستطيع فيه أن نقول إن الشاب المصري يمكنه أن يجد الثقافة السامية الوافية في المؤلفات العربية؛ فإننا على الأقل نستطيع أن نقول إنه سيجد فيها ما ينبهه ويرقيه منها، ولن يكون الزمن بعيدا حين تزكو المؤلفات وتتفاعل مع مجتمعنا المتغير، فيكون التطور الذهني الذي ننشد، وعندئذ نستطيع أن نهتدي بثقافة حية في هذه البلبلة العصرية التي تتصارع فيها الفكريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ولا يخلو شاب من نزعة ارتقائية تبعث فيه الرغبة والنشاط كي يعلو على نفسه، ويسمو إلى مستويات أرفع من المستوى الذي يعيش فيه، وهذه النزعة إلى الارتقاء، أو كما يسميها «برناردو شو» شهوة التطور، تتخذ أشكالا مختلفة تتأثر بالبيئة الاجتماعية والمثليات المنشودة، فقد يطمح الشاب إلى الثراء أو الوجاهة أو الرياضة أو الدراسة، وقد يكون اختياره لواحد من هذه الأهداف أو لغيرها طفليا، متأثرا بسلوكه أيام الطفولة، كأنه رواسب السنين الأولى من العمر، وقد يكون ناضجا، قد نشأ عن وجدان (أي وعي) أو بشيء على الأقل من الوجدان.
وهذا الكتاب هو محاولة لإرشاد الشباب نحو الارتقاء الثقافي في حدود البيئة الاجتماعية المصرية أو العربية على وجه عام، أو هو توجيه لشهوة التطور، وإيضاح للصحيح والزائف من النشاط الدراسي، فنحن نعيش في عصر انفجاري مملوء بالأحداث والثورات والحروب والانقلابات، ولم يحدث قط أن عاش البشر في مثل عصرنا؛ ففي أقل من خمسين سنة، أي من 1916 إلى 1956، شبت حربان عالميتان، وعم النظام الاشتراكي 1000 مليون إنسان، وظهرت القنبلة الذرية، ثم القنبلة الهيدروجينية، واتصلنا بالقمر عن طريق الرادار، وليس بعيدا أن نصل إليه محمولين على الصواريخ، وأصبحت مواخر الجو تزاحم مواخر المحيط، وتوشك المكالمة الراديوئية أن تأخذ مكان المكالمة التليفونية ... و ... و ...
وكل هذا يدل على أن وطأة العلم على المجتمع قد اشتدت، وأن الثقافة قد أصبحت ضرورة محترمة على كل إنسان، وأننا يجب أن نتغير ونتكيف ونتطور؛ لأن الركود في مثل هذه الظروف جريمة، والتغير الذهني بالارتقاء الثقافي هو بعض هذا التطور، أو هو أهمه.
والتغير الآلي في المخترعات يحدث حتما تغيرا في الإنتاج والمواصلات، ثم تتغير السياسة والاقتصاد والمجتمع نتيجة لذلك، ومعنى هذا كله أن الثقافة دائمة التغير، وأننا إذا ركدنا، أو تحجرنا، فإننا لا نرفض العيش وفق الاتجاهات الجديدة فقط، بل نرفض الفهم والمعرفة، وننساق في المجتمع كأننا حطامة يحملها التيار بلا وجدان أو دراية بموقفنا.
فنحن، سواء أشئنا أم لم نشأ، نعيش في مجتمع متطور، ونحتاج إلى الدراسة الدائمة كي نقف على الاتجاهات والغايات التي ننساق بها وإليها فيه، فيجب لهذا السبب أن يكون لكل منا برنامج ثقافي هو برنامج الحياة، بحيث نعيش لنقرأ ونقرأ لنعيش، وهذا البرنامج يقبل بالطبع التنقيح والتغيير، ولكن يجب ألا يخلو إنسان منا من برنامج ينتظم به ارتقاؤه الذهني.
وفي الفصول القصيرة التالية إرشادات، هي لإيجازها تكاد تكون إيماءات للقارئ، فإني توقيت التفصيل اعتمادا على أن القارئ يستطيع بذكائه أن يتمم ما نقص، ولكني أسهبت في الشرح حين كنت أصطدم بصعوبة سيكلوجية تعوق الدراسة؛ لأن القارئ ربما يعجز عن تخطيها.
وقد كانت الغاية الأولى إرشاد أولئك الذين لم تتح لهم ظروفهم الحصول على تعليم عال، ولكني رأيت بعد التفكير أن المتعلمين يحتاجون أيضا إلى الإرشاد الثقافي، وظني أن القارئ العادي لن يجد صعوبة في فهم الفصول التالية والعمل بها والانتفاع منها، وخاصة إذا قرأ الكتاب بترتيبه القائم.
والكتاب - كما يرى القارئ من تأمل الفهرست - جزءان، فإن فصول الجزء الأول الأول تعالج الخطة العامة للدراسة، وتبحث الأساليب والقيم والظروف، أما فصول الجزء الثاني فتعالج التفاصيل في دراسة المواد المختلفة، ولهذا الترتيب قيمته إذا راعاه القارئ.
ورجائي أن ينتفع الشباب بهذا الكتاب، وأن أجد النقد الذي ينبهني عن الخطأ أو التقصير حتى أتلافاه في طبعة أخرى.
المدرسة والجامعة
في مجتمعنا الحاضر المدرسة ضرورة لكل فرد من الجنسين، وفي مجتمع راق ننتظره ونحلم به، سوف تعد الجامعة ضرورة أيضا لكل فرد من الجنسين، ولكن المدارس على ضرورتها ليست عامة في مصر، أما الجامعة فمقصورة على نحو خمسين ألفا من أبناء الأثرياء والمتيسرين.
وكلنا نعرف أن ما نحصل عليه في المدارس من المعارف مقدار صغير، إزاء الحاجات التي تطلبنا بها الحياة؛ ولذلك فإننا نحس الجهل في مواجهة الصعاب، كما نحس الحاجة إلى الدراسة، والتعليم المدرسي يتناول طائفة من المعارف تعد أساسية في التثقيف، ولكن المدرسة مع ذلك تعامل جميع التلاميذ كما لو كانوا على قامات متساوية، يحتاجون إلى قطع لا تختلف من القماش، كي تصنع لكل منهم بذلة خاصة له، ولما كان كل إنسان فذا في هذه الدنيا، فهو محتاج إلى معارف تتفق وكفاياته وحاجاته الخاصة، فالبرنامج التعليمي الذي يوضع لمليون صبي أو شاب لا يمكن أن يؤدي حاجات كل صبي وكل شاب إلا على وجه عام نتجاهل فيه الخصائص والميزات التي لكل فرد.
ثم هذه المعارف التي نحصل عليها في المدارس، حتى مع الدقة في اختيارها، إنما تعد أساسا نبني عليه حين نخرج من المدرسة، فإذا ركدنا فإن هذا الأساس لن يغني؛ فنحن في حاجة - عقب المدرسة، بل عقب الجامعة - إلى أن نوالي الدراسة، والمعلم الممتاز هو ذلك الذي لا يقتصر على إيصال المعارف إلى أذهان تلاميذه، بل يضع لهم الخطط للدراسة بحيث يمكنهم أن يستغنوا عنه وأن يعلموا أنفسهم مستقلين مدى حياتهم، وقل أن نجد مثل هذا المعلم، ومجتمعنا في تطوره السريع في حاجة إلى جمهور مثقف، في نشاط ذهني مستمر؛ كي يستطيع حل المشكلات الطارئة، وكي يحول دون وثوب الطغاة من المستعمرين الأجانب ومن المستبدين المصريين، يزعمون القدرة على ترقية الأمة بإنكار حقوقها. والجمهور الجاهل هو أعظم الوسائل لتجرئة الوصوليين والمستبدين على الطغيان؛ لأنه سريع الانقياد، ينخدع بالألفاظ البراقة والادعاءات الرنانة وبهلوانية المنابر.
ومن هنا قيمة الكتاب والجريدة والمجلة؛ فإننا نعيش - بعد المدرسة والجامعة - نحو خمسين سنة وهي غذاؤنا الذهني ووسيلة رقينا الثقافي، فلن نبلغ النضج ما لم تكن القراءة - لا بل الدراسة - عادتنا، وما لم ننفق على تثقيف أذهاننا بمثل السخاء الذي ننفق به على شراء حاجاتنا المادية.
والمجتمع الراقي يؤمن بحرية الثقافة، وهو يسن من القوانين ويضع من الأنظمة ما يساعد على رواج الكتب والمجلات، بل الجرائد أيضا. وفي الأمم الديمقراطية الأوروبية نجد آلاف المكتبات التي تشتري الكتب، وتشترك في المجلات والجرائد السيارة، زيادة على ما يشتريه الأفراد؛ فالنشاط الذهني يجد السوق الرائجة في تلك الأمم لمنتجاته، وإذا دخل أحدنا بيتا أوروبيا وجد الكتب تزين كل غرفة فيه تقريبا، بل لقد رأيت في لندن حتى الممر الضيق إلى المطبخ يحمل رفا من الكتب لا يقل ما فيه عن مئتي مجلد، وهذا إلى التباهي باقتناء الكتب الجديدة ووضعها على الموائد في الصالونات، كأنها من الأثاث الفاخر.
ولهذا السبب كثيرا ما نجد فيلسوفا عظيما في أوروبا لم يتعلم قط في جامعة، بل إن تعليمه في المدرسة كان ناقصا، فهذا مثلا هربرت سبنسر فيلسوف الإنجليز لم يحصل على تعليم ابتدائي كامل، بل لقد عاش نحو ثمانين سنة وهو يفخر بأنه لم يتعلم «الأجرومية»، وكذلك برناردشو أيضا، بل يمكن أن نذكر عشرات الزعماء من الساسة والأدباء ممن لم يتعلموا في مدرسة أو جامعة، ولكن المجتمع الراقي الذي عاشوا فيه هيأ لهم جامعة كبري من الكتب والمجلات التي درسوها، فنمت أذهانهم، وحصلوا منها على النضج الثقافي الذي ربما لم يبلغه خريجو الجامعات.
فإذا كان قارئ هذا الكتاب لم يحصل على تعليم مدرسي أو جامعي واف، فإنه سيجد هنا برنامجا وافيا لدراسة ذاتية يستطيع بها أن يرقي شخصيته وينمي ذهنه بحيث لن يأسف على ما فاته، وإذا كان القارئ من السعداء الذين حصلوا على تعليم جامعي، فإنه سيجد هنا أيضا ما يحثه على أن يكون طالبا مدى عمره، بل يجب على خريج الجامعة أن يذكر أن سرعة النمو في المعارف تجعل حتما عليه أن يتجدد بالدراسة الدائمة؛ فإن الطبيب الذي تخرج مثلا حوالي 1908 أو 1918، وبقي يمارس الطب إلى الآن، لا يكاد يجد دواء يوصف لمريض في الوقت الحاضر مما كان يعرف قبل 1918؛ لأن جميع الأدوية تقريبا جديدة، وحسبنا أن نذكر منها الفيتامينات، والهورمونات مثل الأنسولين، ثم المضادات الحيوية، ومجموعة السولفاناميد، وغيرها. هذا عدا الأمصال الواقية؛ فإن كل هذه الأشياء لم يعرفها في الجامعة، وهو إذا كان قد جمد وكف عن الدراسة عقب الجامعة فإنه قد عاش بعد ذلك جاهلا لحرفته.
وهكذا الشأن في سائر المعارف؛ فإنها دائمة التجدد، تطالب من تخصصوا فيها بمتابعة الدراسة، ولنذكر مثلا الطاقة الذرية.
والغاية من هذا الكتاب هي أن نوضح للقارئ ميزات الثقافة، وخير الأساليب التي يجب أن تتبع في تحصيلها؛ إذ لو عرف الشاب أن هناك لذة سامية في الدراسة والتوسع الذهني تزيد على ما يجد من لذة اللهو السخيف، أو حتى في القراءة جزافا، لما أهمل تثقيف ذهنه، ولما تأخر لحظة عن وضع البرنامج وتحمل التكاليف لهذا التثقيف.
وأرجو أن يجد القارئ هنا إيحاء وإرشادا معا، فينبعث إلى الدراسة، ويجد في الوقت نفسه نظاما يتبعه، وليس الغرض من هذا الكتاب التثقيف من أجل الحرفة، وإنما أرجو به أن أحمل الشاب على أن يتعود الدراسة وهو لا يزال في شبابه حتى إذا بلغ الخمسين أو الستين كانت عادته اللازمة التي تضعه في تساؤل استطلاعي طيلة حياته، وأحب أن أحمله أيضا على أن يحس أن الدراسة في الشباب تغير أمداء مستقبله، وتفتح له أبوابا في رقيه كانت تكون موصدة لولا هذه الدراسة.
المجتمع يربينا
لصديقي الأستاذ أحمد جمعة كتاب (لما يطبع) يدعو فيه دعوة غريبة عن أذهاننا، هي الاستغناء عن المدارس اكتفاء بالمجتمع؛ أي إن المجتمع يجب أن يربينا، وأننا لسنا في حاجة إلى مدارس ننتظم فيها تلاميذ كي نتعلم.
وغرابة هذه الدعوة تعود إلى أننا نشأنا في بيئة جعلت المدارس مألوفة في مجتمعنا، نكاد لا نجد مدينة بل قرية تخلو منها، ولكن لم تكن الحال كذلك قبل بضعة قرون، حين كانت المدارس قليلة لا تنشأ إلا في العواصم، وكان الناس يتعلمون الصناعات والفنون التي يحترفونها بالانتظام في «الطوائف»، والطائفة هي الجماعة التي كانت تتألف للاشتراك في الحرفة، يدخلها الصبي فيتعلم، ثم يتدرج إلى أن يصير عاملا، فمعلما.
وقد كان نظام الطوائف عاما في مصر إلى أيام إسماعيل باشا، كما كان عاما في أوروبا في القرون الوسطى، بل إن نظام الجامعات القائم الآن في أوروبا، وهو النظام الذي يجعل الجامعة مستقلة، إنما نشأ على غرار نظام الطوائف؛ لأن كل طائفة حرفية كانت مستقلة في قبول أعضائها وتربيتهم ومعاقبتهم، وكلمة جامعة تعني طائفة أو - كما نقول الآن - «نقابة».
ومن الحجج التي يقدمها أحمد جمعة على أن المدرسة غير ضرورية أن كثيرا من الزعماء والأدباء والعلماء لم يتعلموا في مدرسة ما، أو كان تعليمهم ناقصا، مثل داروين داعية التطور، بل مثل كمال أتاتورك، وستالين، وبرناردشو.
ولسنا هنا نقول بالاستغناء عن المدرسة، ولكنا مع ذلك يجب أن نعترف بأن في المجتمع الحسن فرصا كثيرة لتعليمنا نستطيع أن ننتفع بها في تثقيفنا، وكلنا يعرف أن «الورشة» أي المصنع الصغير، هي مدرسة فنية لجميع العمال الذين يعملون فيها، وكثيرا ما رأينا هؤلاء العمال يخرجون من الورشة كي يستقلوا ويعملوا ويكسبوا بما تعلموه فيها.
ولكننا لا ننظر إلى المجتمع من حيث إنه يعلمنا الحرفة، بل من حيث إننا نستطيع أن نستغله لتثقيفنا الذاتي؛ لأن هذا هو موضوعنا، والمجتمع العصري الحسن يزودنا بكثير من وسائل التثقيف، مثل الجريدة والمجلة والكتاب والسينماتوغراف والراديوفون والمتحف والنادي بل والمنزل، وهو يتيح لنا الفراغ الكثير، وجميع هذه الأشياء في المجتمع الحي الحسنة، وجميع هذه الأشياء في المجتمع الموات سيئة، وكل واحد منها يمكن أن يكون وسيلة قوية للتثقيف أو للتسخيف، وسنرصد فصولا لبحث ذلك في هذا الكتاب.
فأما الجريدة والمجلة والكتاب فإنها في مقدمة الوسائل، ولا يمكن أن يخلو منها بيت متمدن أو يستغني عنها رجل متمدن، وأولئك العظماء الذين قادوا الأمم في الأدب والسياسة والعلوم دون أن يحصلوا على تعليم مدرسي أو جامعي، إنما تحققت لهم هذه القيادة بما امتاز به مجتمعهم من جرائد ومجلات وكتب حسنة، ومن المستحيل أن ينشأ مثل هؤلاء الرجال في مصر، حيث معظم الجرائد والمجلات والكتب غير حسن، والمكتبة الحسنة لا تقل قيمة عن المدرسة أو الكلية الحسنة، بل لعلها تزيد.
والمجتمع الحسن يزودنا بالمتحف التاريخي أو العلمي، مع الكتب التي تشرح وتنير عن معروضاته، والشاب المصري الذي يدرس معروضات المتحف المصري أو المتحف العربي، أو يزور حديقة الحيوان بالجيزة (ولا أذكر حديقة السمك الحقيرة) يجد فيها جميعها تثقيفا مفيدا، بل كذلك المتحف الزراعي. ولو أقبل الجمهور على زيارة هذه المتاحف بغية الدرس والانتفاع لعنيت الحكومة بها، وفي هذه الحال يمكنها تعيين الخبراء للشرح والتنوير.
والراديوفون ينشر ثقافة عامة، أكثرها بالطبع تلك الأغاني الشعبية والموسيقا العامية والقليل من المحاضرات الخفيفة، ولكنه كثيرا ما ينحط حتى تصير أغانيه أغانيج، وموسيقاه ألاعيب، ومحاضراته دعايات؛ وعندئذ لا يكون للتثقيف وإنما للتسخيف.
وقد عني صديقي الأستاذ حنا رزق بتحليل الإذاعات في القاهرة، فوجد (في 1946) أن محطة الإذاعة تخص الأغاني والموسيقا بنحو خمسين في المئة من وقتها، ولا تخص المحاضرات التثقيفية إلا بمقدار 3,63 في المئة من وقتها، وإليك الأرقام المضبوطة كي تقف على القيمة التثقيفية للمذياع:
49,18
للأغاني والموسيقى
14,24
للقرآن الكريم
2,32
للمواعظ الدينية
5,52
لبيانات وخطب من الموظفين الحكوميين
3,63
للمحاضرات والأشعار
2,01
للأخبار
1,74
للأطفال
1,45
للرياضة
0,87
للقطع المسرحية
وهذه الأرقام تدل على أن الأمة لا تنتفع كثيرا بمحطة الإذاعة، وخاصة إذا عرفنا أن المحاضرات التي لا تأخذ من وقت المحطة سوى 3.63، لا يقوم بها في العادة المثقفون من الطراز الأول، بل إن الوزارات المتعاقبة كانت ولا تزال تفرض امتحانا حزبيا للثقافة، بحيث كانت تحابي أصدقائها وتقاطع خصومها في محاضرات الإذاعة. •••
والمجتمع الحسن ينظم العمل، وبهذا التنظيم يزيد الفراغ لكل عامل، فيستطيع أن يرصد منه وقتا كثيرا لترقية ذهنه بالمعارف، وهو أيضا يزيد الكسب، ويجعل كل فرد قادرا على الاستمتاع الثقافي بزيارة المعارض والمتاحف وبالسياحة وارتياد المسارح والمكتبات العامة، ولكل واحد من هذه الأشياء قيمة ثقافية كبيرة في المجتمع الحسن، ولكن قيمتها تنقص في المجتمع السيئ.
والشاب الذي يقصد إلى تنوير ذهنه وتربية نفسه يجد الفرص لذلك متعددة؛ ففي مدينة مثل القاهرة، قلما يمر يوم دون أن نقرأ عن محاضرة ستلقى آخر النهار، وهذه المحاضرات متنوعة، وكثير منها مفيد منير، وزيارة إحدى المحاكم في قضية جنائية أو مدنية تحث على التفكير الاجتماعي وتشعرنا بمسئوليات جديدة.
ولكن يجب أن نقرر أن المجتمع الذي يربي هو المجتمع الحسن؛ أي المجتمع الذي فشت فيه المتاحف والمعارض، وارتقى فيه المسرح، وأبيحت فيه الحرية للكاتب الصحفي والمؤلف المخلص، أما المجتمع المتأخر الذي يحد من الحرية، حيث تغذو الصحف الجمهور بنخالة الثقافة، والذي تقل فيه المتاحف، ويستحيل فيه الممثل إلى مهرج، والذي يرهق أبناءه بالعمل، فينقص فراغهم أو يجعلهم تخور قواهم فلا يجدون الوقت أو الجهد للاستمتاع الذهني، هذا المجتمع لا يمكنه أن يربي، ومن البعيد بل من المحال، أن ننتظر منه أن يخرج لنا المثقفين فضلا عن علماء بارزين.
إن المجتمع الأمريكي الراقي قد أباح للمسجونين أن ينتسبوا إلى الجامعات، ولكن مجتمعنا المصري إلى الآن لم يكن يبيح للطلقاء أن ينتسبوا إلى الجامعات لكي يستغلوا فراغهم، والمجتمع الراقي في جميع الأمم الديمقراطية يبيح إنشاء الجريدة أو المجلة دون أن يطلب من صاحبها تأدية غرامة معينة، كما كانت الحال عندنا وعند الأمم المنحطة.
والمجتمع الراقي يعنى بالمكتبة كما يعنى بالمدرسة، ففي لندن مثلا ما لا يقل عن مئتي مكتبة للقراءة والاستعارة بالمجان، أو بأجور منخفضة جدا، وفي لندن أيضا نحو مئة متحف، والمقاهي في تركيا تتزود كل منها بخزانة صغيرة من الكتب والمجلات كي يقرأها زبائنها، والحكومة الأمريكية تبعث بلوريات كبيرة مشحونة بالكتب إلى الريف؛ كي تعير الفلاحين ما يشاءون منها وتعود بعد أسابيع كي تستبدل بالمجلدات مجلدات أخرى، وكلمة «شوتوكوا» من الكلمات المأثورة في الولايات المتحدة لأنها تعني حملة ثقافية قامت بها جمعية بهذا الاسم بين سنتي 1870 و1946 في الريف لإلقاء المحاضرات بين الفلاحين، وكانت تقصد إلى القرية النائية فتضرب خيامها وتقدم المشروبات والمحاضرات وألوانا من الغناء والرقص والموسيقى.
وإذا نحن قارنا بين المدرسة والمجتمع من حيث أثرهما في التربية، مع فرض أن الاثنين يستويان في الرقي؛ فلا مفر من أن نقول إن المجتمع يحسن التربية والمدرسة تحسن التعليم، والتربية أعم من التعليم، والثقافة في المدارس والجامعات أسلوبية تسير على قواعد، وكثيرا ما تجمد، ولكن الشاب الذي يربي نفسه في المجتمع يتجه اتجاها ابتكاريا في ثقافته، وهو لهذا السبب أكثر حرية في تفكيره من طالب الجامعة، ثم إن القواعد الببغاوية في استظهار البرنامج المدرسي وأحيانا الجامعي، تمنع الطالب من التوسع في الموضوع الذي يدرس، أو الاستطراد منه إلى دراسات أخرى يستمتع بها الطالب الحر الذي لا يتقيد بامتحان.
لماذا نثقف أنفسنا
يعسر على الرجل المثقف أن يتمالك نفسه وهو يشرح الأسباب التي يجب أن تحمل الناس على أن يكونوا مثقفين؛ لأنه في هذا الشرح بمثابة من يزجرهم عن القذر أو التوحش أو البهيمية، ويوضح لهم قيمة النظافة أو الإنسانية أو التمدن، فنحن هنا في حاجة إلى أن نقول للشاب المتخم بالفراغ والشباب والجدة: إنه يجب أن يثقف نفسه حتى لا يفسد. ويجب أن نقول لغيره إن الحياة الناضجة تحتاج إلى الثقافة، وإن هناك من الناس من يصح أن نسميهم بقولا بشرية؛ إذ ليس لهم من سمات الحياة سوى النمو الخلوي، كأنهم فجل أو جرجير، وسيبقون نفسيا وإنسانيا في عداد البقول إلى أن يثقفوا أنفسهم، وإن الحياة الخاوية تحدث سأما لا تتخلص منه إلا بالثقافة التي تبعث على الاهتمامات الذهنية وتبسط الآفاق.
وفي الفصل الأول أشرنا في إيجاز إلى أن المدرسة والجامعة لا تكفيان لتربيتنا؛ لأن المعارف أكبر من أن تحتوياها، ثم هذه المعارف ترتقي وتمحص؛ فهي لا تفتأ في تنقية وتنفية، فيجب لهذا السبب أن نكون طلبة مدى حياتنا، نحس النمو الثقافي، ونتدرج في التمييز الذهني.
ثم يجب أن نعرف أن حياة الفرد قصيرة محدودة، قلما تزيد على 70 أو 80 سنة، ولكن حياة النوع البشري طويلة، ونحن حين ندرس إنما ننقل حياة النوع إلى حياة الفرد واختبارات الآلاف من السنين الماضية إلى اختبارات العمر الشخصي القصير؛ أي إننا عندما ندرس التاريخ البشري، والثقافة القائمة في عصرنا مع الثقافات المتعاقبة في العصور الماضية، نفهم المغزى من الحياة أكثر مما نفهمه من حياتنا الخاصة، وإحدى غايات الثقافة هي أن نكسب الحياة دلالة ومغزى؛ أي إننا نحس أننا لا نحيا الحياة البيولوجية التي لا تختلف عن حياة الحيوان، ليس لنا من معارف سوى ما يكفي للكسب المادي، بل نعيش الحياة الروحية التي ندرك منها أننا حلقة في سلسلة طويلة من البشرية التي تتمثل فينا أغراضها وأهدافها ومثلياتها، وبهذا نرتقي إلى مستوى عال له لذاته الأنيقة، كما أن له أخطاره السامية، التي يجب أن نواجهها.
ثم إن نظم التعليم - بل كذلك نظام الحرفة - يحيلنا إلى متخصصين، نعرف فنا ونمارس حرفة، وفي حدود هذا الفن وهذه الحرفة نعيش المعيشة المحدودة؛ فالثقافة هنا تحيل هذا التضييق إلى توسع، وتكبر العقل، وترحب القلب، فنجد عندئذ التسامح البشري بدلا من التعصب القومي، والنظر العالي بدلا من النظر القروي.
وانتشار التخصص في أيامنا قد غرس عقيدة فاسدة بين الجمهور، هي أن المعارف - علوما وفنونا وآدابا - لا يمكن أن يدرسها غير المتخصصين، كل في الفرع الذي يختار، وأنه ليس على الطبيب أن يعرف التاريخ، وليس على الأديب أن يعرف الفلك، وليس على المهندس أن يدرس الاجتماع. وهذه عقيدة مخطئة يجب أن تكافح حتى تمحى، وصحيح أن المتخصص في علم معين يجب أن يعرف الكثير منه، أصولا وفصولا، ولكن هذا لا يمنع غيره من المثقفين أن يدرسوا الأصول، بل يناقشوها، بل يبينوا ما ربما يكون زيفا فيها.
وليس قصدنا أن نقول إنه يجب على كل منا أن يكون موسوعة تحوي جميع المعارف؛ فإن هذا محال، وهو لو قدر لما انتفعنا به، ولكن المعارف في الحضارة القائمة مشتبكة، بحيث إذا شاء الطبيب في مصر مثلا أن يدرس مشكلة الأمراض المتوطنة لوجب عليه أن يدرس السياسة الزراعية والخطط الاقتصادية اللتين اتبعتا في مدى سبعين سنة مضت إلى وقتنا، وقارئ الجريدة اليومية يجب - كي يتعرف التيارات السياسية والاجتماعية - أن يدرس تاريخ الحركة الصناعية، وتفشي الاشتراكية، وتصادم الإمبراطوريات الأوروبية منذ 150 سنة إلى الآن؛ لأن الحوادث اليومية الهامة في العالم ليست سوى الطفاوة فوق هذه التيارات، ودلالة هذه الحوادث تنعدم إذا لم تفهم هذه التيارات.
وليس شك في ضرورة التخصص، ولكن الرجل المثقف يرفض الحدود والسدود، ويتسبيح لنفسه جميع المعارف؛ لأنه يحس أنه محتاج إليها وأنه ينمو بالاغتذاء بها، بل هو يتطور بها، والتطور حق بل واجب على كل إنسان.
فنحن نثقف أنفسنا كي نكبر شخصيتنا، وننمي أذهاننا، وكي نتطور، فلا نموت في سن السبعين ونحن على حال ثقافية قد اكتسبناها من الجامعة أو المدرسة في سن العشرين أو الخامسة والعشرين، بل نظل عمرنا ونحن في دراسة تفتأ تغيرنا التغير الذهني والنفسي؛ لأنه بدون هذا التغيير لا يتطور المجتمع أو الفرد، بل إن السعادة الشخصية تحتاج إلى الإحساس بالنمو والتغيير والتطور، وأساس كل ذلك هو الفهم الذي يعد أعظم أنواع السعادة.
وفي العالم الآن نحو 130 علما وفنا، هي تراث بشري من حق كل فرد أن يعرفه بل يقتنيه، وهو إذا كان قادرا بالمال والوقت، فإن هذا الحق يعود واجبا؛ فإن ديانة كونفوشيوس الصيني، ومكتشفات الهورمونات، وصلوات أخناتون، والنظام الاشتراكي في روسيا، والقوانين الكهربية، وحياة أفلاطون، وماهية الذرة، كل هذا من حقي وحقك أن نعرفه، ومحال أن تعلمنا الجامعة أو المدرسة هذه المعارف؛ لأن مدة الدراسة فيها قصيرة.
وثم اعتبار آخر، هو العلاقة الحيوية بين الذهن والثقافة، حين ندرس مختارين متطوعين ليس علينا قسر، فانظر مثلا إلى شاب في السابعة عشرة من عمره يقرأ موضوع التناسليات؛ فإنه يطلب هذه المعارف كما تطلب المعدة الطعام؛ لأن حاجته هنا تنبع من نخاع عظامه وأعماق نفسه، أو انظر إلى رجل قد فات الخمسين يدرس الدين، فإن كنوزه من الاختبارات الماضية تجعله يطلب هذه المعارف بقوة وذكاء وحرص وتدقيق لم يعهد مثلها من قبل، أو انظر إلى قيمة الجريدة اليومية أيام الحرب، حين يستحيل كل منا إلى بسمارك أو جلادستون، ليس له حديث غير السياسة، حين يصير مستقبل العالم كأنه مستقبلنا الخاص.
فهذه الظروف جميعا تجعلنا نقبل على القراءة، وبعيد جدا أن ننقل هذا الجو إلى المدرسة أو الجامعة؛ لأنه جو محلي محدود في أغلب الأحيان، ومن هنا قيمة التثقيف الذاتي.
زيادة الفراغ وزيادة المسئولية
هناك أسباب أخرى تحمل كل شاب على أن يثقف نفسه.
وأول هذه الأسباب وأوضحها أن الفراغ يزداد؛ فإن استخدم الآلات، أي الحديد والنار والكهرباء، قد خفض ساعات العمل للكسب، وسوف يخفضها أكثر في المستقبل، ولن يكون اليوم بعيدا حين نصل إلى مجتمع راق يكفي أحدنا كي يحصل على عيشه، أن يشتغل ساعتين في اليوم، ثم يفرغ سائر نهاره وليله لراحته ومتعه الذهنية والجسمية والروحية، ونحن نرى في الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد السوفيتي ما يومئ إلى هذه الحال؛ فإن سكان الولايات المتحدة قد اشتبكوا حوالي سنة 1860 في حرب أهلية بسبب العبيد، وكان فريق منهم يعتقد أن من حق الأبيض أن يملك العبد الأسود، يشتريه ويستغله ولا يتكلف في ذلك سوى طعامه.
ولكن الحرب أدت إلى إلغاء الرق، ومع ذلك صار الأمريكيون أكثر ثراء وأوفر فراغا مما كانوا أيام الرق؛ ذلك أن استخدام الآلات في الإنتاج قد جعل كل أمريكي يملك أكثر من خمسين حصانا (من القوة) هي بمثابة مئة عبد، وكان الأمريكي يعمل حوالي سنة 1860 نحو عشر ساعات أو 12 ساعة في اليوم كي يحصل على عيشه، أما الآن فهو يعمل نحو ست ساعات، مع عطلة أسبوعية هي يومان كاملان، وهذه الساعات الست سوف تكون خمسا، ثم أربعا ... إلخ؛ ذلك لأن الآلات في تقدم لا ينقطع.
وكذلك الشأن في الاتحاد السوفيتي، حيث تخلص الشعب من عذاب القيصرية وأخذ في إنشاء المصانع فزاد الأفراد ثراء وفراغا معا.
وهذه الحال - على الرغم من المبادئ الإمبراطورية والاستعمارية الشائعة - سوف تعم الدنيا، فيجب أن نوطن أنفسنا على أن الفراغ سيزداد، وهذا الفراغ سيثقل علينا عبئا باهظا إذا لم نشغله باهتمامات ثقافية حيوية، ونحن حين نتوسم طوالع المستقبل نحس أنه يجب على المدارس من الآن أن تعلم تلاميذها كيف يقضون فراغهم أكثر مما يجب عليها أن تعلمهم كيف يحصلون على عيشهم؛ ذلك لأن تحصيل العيش لن يحتاج إلى أكثر من ساعتين في اليوم، وهو لم يعد فنا؛ لأن العامل يندمج بين آلاف العمال فيتحيز جزءا صغيرا من العمل الذي يؤديه تأدية آلية خالية من المجهود العضلي تقريبا، أما الفراغ فلن يقل عن 22 ساعة، إذا فرضنا أن 10 ساعات منها تقضى في الطعام والنوم، بقيت 12 ساعة يجب أن يشغلها بما يرقيه، فإذا جهل الوسائل لهذه الترقية فإنه يحس خواءا ذهنيا لا يطاق، أو هو يملأ فراغه بتسليات سخيفة، أو ربما يقع في غوايات ضارة.
لقد كان الفراغ في العصور القديمة مقصورا على النبلاء والأثرياء، وكان ترفا غاليا لا يحصل عليه الفقير، وجمهور الأمة كان من الفقراء، ولكن هذا الترف يستفيض - بفضل الآلات - بين جميع أفراد الشعب، حتى عمال الزراعة أنفسهم سوف يجدون هذا الفراغ حين يتركون آلاتهم البدائية ويستعملون آلات القوة البخارية والموطرية، والتثقيف الذاتي لهذا السبب ضرورة حتمية كي نملأ بها هذا الفراغ ونستغله.
وسبب آخر يجعل هذا التثقيف حتميا: أن المجهود العضلي الذي كنا نبذله في الزراعة والصناعة والتجارة قد استحال إلى مجهود ذهني؛ فالقوة العضلية في الإنسان لم تعد لها قيمة كبيرة إلا في المباريات الرياضية، والمصانع تؤسس الآن في الأمم المتمدنة التي نرجو أن نصل إلى مستواها، بحيث تكاد تعمل مستقلة أتوماتية، فتتسلم المواد الخامة من ناحية وتخرجها من ناحية أخرى مشغولة مهيأة للاستعمال، وكل ما على العامل أن ينظر ويشرف ويصل هذا المفتاح بذاك.
والعامل في هذا الحال موفر القوة العضلية، وهو يترك عمله مرتاحا مستعدا لأن يقوم بأي مجهود آخر، فهو ليس مثل ذلك العامل الذي يترك عمله عندنا منهوكا لا يستطيع النظر في الجريدة أو كتاب، حتى لو وجد الفراغ للقراءة.
ولكننا أيضا صائرون إلى هذه الحال في مصر؛ أي إن العمل لن يجهدنا، ولن يستهلك سوى أقل الوقت، فنخرج منه مرتاحين مستعدين للفراغ الذي نملؤه بما يرقينا ذهنيا ونفسيا وروحيا.
وسبب آخر يجعل التثقيف الذاتي حتميا، وهو في نظر المؤلف أهم الأسباب: أن مسئولية الفرد قد أصبحت خطيرة، فقد كانت الدنيا تسير في العصور السابقة بحكم الملوك والأمراء والنبلاء والوزراء، أما الآن فإن الدنيا كلها تتجه نحو الديمقراطية، حيث أفراد الشعب يجب أن يكونوا الحاكمين الحقيقيين، ولا يمكن الفرد أن يضطلع بالحكم إلا إذا كان مستنيرا في شئونه، والحكم هنا هو حكم الدنيا كلها؛ لأن الشر - كالوباء - لا يتجزأ ولا يتحيز، فكما أن الوباء ينتقل من قطر إلى قطر، كذلك الشر والسياسة (مثل المبادئ الإمبراطورية والاستعمارية والفاشية) تنتقل بالعدوى، وتحدث الدمار والخراب في أنحاء العالم بالحروب والثورات والانفجارات.
وتقدم الآلات الذي ذكرنا، والذي قلنا إنه سيزيد فراغنا، هذا التقدم نفسه قد جعل خطر الحروب بل خطر الاستبداد كبيرا جدا، فلا يمكن أن نتقيهما إلا إذا جعلنا كل فرد في أنحاء العالم مثقفا مستنيرا يميز بين المعرفة المرشدة وبين الدعاية المضللة.
وظهور الأخطار الذرية والهيدروجينية يجعل التثقيف الذاتي ضرورة حتمية؛ لآن غير المثقف لن يفهم هذه الأخطار، بل هو قد يساعد بجهله على الدعاية لها وصنعها.
فإذا ألممنا بجميع هذه الاعتبارات، أمكننا في حق وصدق أن نقول إن التثقيف الذاتي هو واجب ديني على كل إنسان؛ لأنه الضمان للحكم الصالح على هذا الكوكب.
كيف نربي أنفسنا
كان جرانت ألين الأديب الإنجليزي يقول على سبيل التهكم بالمدارس: يجب أن نمنع المدارس من التدخل في تربية أولادنا.
وهو بذلك يعني أن المدارس لا يمكنها أن تربي الناس، وأنها إذا حاولت ذلك فلن تنجح، وأن مكان التربية الحقيقي هو البيت أو الشارع أو المجتمع، ولا يشك أحد الآن في أن قدرة المدرسة على التربية لإيجاد النزعات، وتكوين الأخلاق، والتوجيه الاجتماعي أو الفلسفي، صغيرة وأننا نحصل على هذه الأشياء جميعها من بيئات أخرى غير المدرسة، وهي تتكون وتنمو معنا نمو الحياة.
ولكن على فرض أن المدرسة تربي كما تعلم، فإن الناس ليسوا سواء في الحصول على الفرص المدرسية أو الجامعية؛ فإن منهم من يقتصر على التعليم الابتدائي، ومنهم من يصل إلى الشهادة الثانوية، وعدد الذين يحصلون على تعليم جامعي صغير محدود.
وتكاد التربية تكون عملا فسيولوجيا؛ فان الجسم لا يطلب الطعام إلا عند الجوع، ولا يطلب الماء إلا عند العطش، وهو يأخذ من الماء والطعام بالقدر الذي يحتاج، وفي الوقت الذي يحس فيه عاطفتي الجوع والعطش، وهو يختار ما يحب، ويعزف عما يكره، وكذلك الشأن في التربية؛ فإن الإنسان متى جاز طور الطفولة أو الصبا عرف كفاءته وبراعته، وأدرك حاجته الثقافية، وطلبها بالقدر الذي يمكنه أن يهضمه ويمثله، وكما أن الطعام يستحيل شيئا آخر في الجسم غير ما كان عليه قبل أن يهضم ويمثل، كذلك المعارف تمتزج بنفوسنا وتحرك نشاطنا وتبعث طموحنا، ويختلف تأثيرها من شخص إلى آخر لاختلاف الحاجة النفسية عند كل منهم؛ ومن هنا قولنا إن التعلم عمل فسيولوجي لأن له دورة في النفس، كما أن للطعام دورة في الجسم؛ ولذلك خير من يربي الشاب هو الشاب نفسه لأنه حين يشتهي الوقوف على موضوع ما إنما يشتهيه لحاجة نفسية، وهذه الحاجة هي بمثابة الجوع الذي يهيئ للهضم والتمثيل.
وأعظم ما يعاب على المدرسة أنها تعلمنا المواد، أو تعطينا المعارف، ولكنها لا تعلمنا المنهج أو الطريقة التي يمكننا بها أن نحصل على هذه المواد والمعارف ونتزيد منها، وصحيح أن المدارس «الناهضة» التي اتبعت طريقة «المشروع» وغيره من الطرق قد انتبهت إلى هذا الركن الأساسي من التربية وشرعت تعالجه. ولكن، إلى أن تعم المدارس الناهضة، سيبقى شبابنا وهم قاصرون مقصرون في المدارس، وسيبقى فضل التربية الذاتية واضحا بارزا على التربية المدرسية لهذا السبب.
وبواعث التربية الذاتية تختلف، فهي عند أحد الشبان حاجة يحسها بشأن العمل الذي يمارس، من حيث إنه يريد الاستزادة أو التكمل فيه، وعند غيره هواية قد شغلت ذهنه، وهي تتفتح أمامه بضروب من الارتياد الذهني، وعند آخر قد يكون الباعث قراءة الجريدة اليومية، والرغبة في الوقوف على العوامل الكامنة التي تختبئ وراء السياسة الظاهرة.
ولكل شاب فترة في حياته، تقع بين السابعة عشر والخامسة والعشرين، يحس فيها رغبة حارة للاطلاع كأنها الحمى، وقد يسوء استغلال هذه الفترة؛ لأن الأبوين يكفان ابنهما مثلا عن هذا الاطلاع ويميتان فيه اليقظة، ولكن الأغلب أن الشاب يجد في هذين السنين بواعث قوية تطلق ذهنه على الرغم من جميع القيود للتعرف إلى كثير من المشكلات الإنسانية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية، وقد يكون لهذه الحمى الثقافية علاقة فسيولوجية بتطور النمو في الشاب وانتقاله من الصبا إلى الشباب، وما يؤدي إليه هذا الانتقال من حيرة تبحث على التطلع الجنسي أولا، ثم يتسع هذا التطلع إلى أن يصير بعد ذلك تطلعا ثقافيا.
وفي هذا الفترة يتعود الشاب القراءة حتى تصير هواية يشغف بها، وبعيد أن يتعلق بالثقافة إذا فاتت سن الشباب، وفي هذه الهواية يجد من النظريات والأفكار ما يعد محوريا أو بذريا في نموه الذهني فإن المعارف ليست سواء؛ لأن بعضها يقع في التربة الذهنية جامدا لا يلقح، وبعضها يجد خصوبة فينمو ويمتزج ويتفرع إذ هو بمثابة البذرة الصالحة للنمو، وبتوالي السنين وباصطدامنا بالحوادث التي تتفاعل أذهاننا بها، تتجمع عندنا طائفة من الأفكار نعتنقها كأنها المبادئ أو العقائد أو المذاهب، فنحن نقرأ كي نتوسع فيها وندافع عنها، فتصير لنا بمثابة الحافز الذي يحفزنا على الاستزادة من الدرس والتوسع.
كل قارئ تقريبا سيجد الأفكار المحورية أو البذرية تنشأ ثم تنمو في ذهنه؛ وعليه عندئذ أن يرعاها بالتوسع في القراءة المنظمة والدرس المتواصل، وقد عرفنا كثيرين من الشبان، كان السبب لتعمقهم في الإنجليزية أو الفرنسية رغبة حارة في استقصاء أحد الموضوعات العلمية، كما عرفنا شبانا آخرين كانت التربية المدرسية تنقصهم، ولكن حمى الاطلاع أصابتهم حوالي الثامنة عشرة من العمر، فاندفعوا في تيارها وحصلوا من الثقافة على لا ما يمكن لأي تعليم مدرسي أن يزود أحدا من التلاميذ به، وعرفنا آخرين أصبحت التربية الذاتية عندهم عادة، فصارت لهم في بيوتهم مكتبات كفتهم عن التعرف إلى المفاسد التي يقع فيها زملاؤهم من الشبان الذين لم يهووا القراءة، كما رفعتهم إلى درجة عالية من التمييز.
ولكن كيف يمكن للشباب أن يعمد إلى تثقيف نفسه إذا كان قد ساء حظه فلم يتعلم التعليم الكافي في المدرسة، ثم لم يجد في نفسه تلك الحمى التي أشرنا إليها، أو وجدها ثم لم يستطع الانتفاع بها لظروف مختلفة؟
وللجواب على هذا السؤال نقول: إن مثل هذا الشاب قليل؛ لأن هذه الحمى الثقافية تكاد تكون طبيعية، والمحموم بها يتغلب على جميع العوائق، ولكن لنفرض أن شابا بلغ العشرين أو الخامسة والعشرين ويجب أن يشرع في برنامج ثقافي، فكيف يفعل؟
يجب أن يعمد قبل كل شيء إلى الجريدة اليومية، يقرؤها في الصباح كي ينبه ذهنه إلى الحوادث الخطيرة ويتصل بالمجتمع العالمي ويلقي عليه نظرة عامة، وفي الجريدة مشروعات وأخبار وحوادث يجب أن تبعث التفكير عند الإنسان العادي، وبالطبع تختلف الجرائد في النزعة الثقافية ومقدار عنايتها بالفنون والعلوم السياسة، ولكن القارئ لا بد مهتد إلى ما يلائمه.
ثم يجب عليه أن يتدرج من الجرائد اليومية إلى المجلة الراقية، ثم إلى الكتاب، ونحن نقول «يجب عليه » ولكن الحقيقة أن الرغبة ستدفعه في نشاط وحرارة إلى اختيار المجلات والكتب متطوعا بلا إجبار، ومتى فعل ذلك فإنه يكون عندئذ قد وصل إلى «الطريق الملوكي» للثقافة؛ وذلك أنه سيعين لنفسه غاية ثقافية كأنها البوصلة، يتجه بها وينشد المعارف ويجمعها للوصول إليها، ولما كانت الثقافة فسيولوجية في أسلوبها فإن الرجل المثقف سيأخذ منها أنواعا ومقادير تأتلف وطاقته ومزاجه؛ ولذلك كثيرا ما ينسلخ الإنسان من ثوبه الثقافي ويستحيل شخصا آخر، كما تنسلخ العذراء من الخدر وتصير حشرة كاملة.
ومع كل ما ذكرنا عن الضرر الذي ينشأ من التخصص، فإن الرجل المثقف يمتاز بالتخصص الذي يبدأ به قبل التثقيف العام، أو ينتهي إليه بعد التثقيف العام، فهو يهوى موضوعا معينا ينفق عليه من وقته وماله، وهذا الموضوع يكون له بمثابة المحور الذي يجمع إليه شتى المعارف تنتظم وتنمو وتتفرغ، فهو يبدأ في تعميم، يقرأ هنا وهناك، كأنه يتسكع أو يتنزه، ولكنه ينتهي إلى تخصص، فيحضر معظم قراءته في موضوع معين يتصل بحرفته أو هوايته، وعندئذ تنتظم دراسته؛ لأن التخصص يجعله يتعمق، ويأنف من المعارف السطحية. وكل شاب مثقف يجب لذلك أن يتعمق فرعا معينا من المعارف، بحيث يحاول أن يعرف كلياته وجزئياته، كما يعرف شيئا ما عن سائر المعارف.
وفي عصرنا الحاضر من المشكلات ما يجعل كل إنسان محتاجا إلى الثقافة إن لم يكن لحلها فلا أقل من تفهمها، ومن هنا قيمة التربية النفسية والنظر إلى شئون العالم بالفهم والدرس والرغبة في التعرف والاطلاع.
وعلى كل شاب أن يعنى باختيار أصدقائه، بحيث يكونون من المثقفين أو الذين يهوون القراءة حتى يجد فيهم القدوة والمعونة، وحتى يستطيع أن يمتحن معارفه بالمقارنة إلى معارفهم من الحديث النير والمناقشة المثمرة معهم، وأسوأ ما يعوق الشاب عن الثقافة أن يغويه آخر بالمفاسد والملاهي، وأن يكون أصدقاؤه من العابثين اللاهين وليسوا من الهادفين الجادين في الحياة.
عادات تعوق الثقافة
المفروض أننا نكتب هذا الكتاب لأفراد الطبقة المتوسطة أو العالية، حيث يتوافر الفراغ ساعتين أو أكثر كل يوم للشباب من الجنسين؛ لأن التثقيف الذاتي يحتاج إلى الفراغ، وكان يمكن أن نضع عنوانا لهذا الكتاب «استغلال الفراغ بالتثقيف الذاتي».
والفراغ في مصر الآن متعة خاصة للأغنياء والمتوسطين، بل التعليم المدرسي والجامعي كذلك، وقليل جدا من الفقراء من طبقة العمال هم الذين يجدون بعض الفراغ، والشاب الذكي يجب أن يحتال، ويوفر فراغه، ويعنى بملئه بالمفيد الذي ينمي شخصيته ويكبر ذهنه ويخدم تطوره.
ويستطيع الشاب في القاهرة مثلا أن يختار الوسائل لملء هذا الفراغ، فهناك مثلا المسرح وقاعة المحاضرات والسينماتوغرافات والمقهى والنادي، كما أن هناك المكتبة، وجميع هذه الوسائل تستحق الالتفات والعناية، بشرط ألا نسيء في استعمالها بالإدمان، أو باختيار السخيف فيها دون الجليل، فليس شك في أن المسرح مفيد، ولكن إذا استحال التمثيل تهريجا صاخبا تخرج فيه الوقائع عن مألوف الحياة، أو تؤكد فيه بعض النواحي فيها دون بعض، كما نرى مثلا في المبالغة في الناحية الغرامية والتحرش بالغريزة الجنسية، فإنه - أي المسرح - يعود مضيعة للوقت ومفسدة للنفس، وكذلك القصص السينمائية قد تنحدر إلى سخف لا قيمة له، وليس شك في الفائدة من المقهى والنادي إذا كان الشاب يجعلها وسيلة للتعارف إلى الصديق الراشد الذي ينتفع بحديثه، ولن لا بد من الاعتدال هنا؛ لأن الإدمان في غشيان المقهى قد يجر إلى الوقوع في الشراب، وعندئذ يقع الشاب في عادة يشق عليه التخلص منها، وقد يجر إلى ألعاب الحظ التي تستهلك الوقت والمال عبثا.
ومع الاعتراف بقيمة هذه «الملاهي» في الترويح والإمتاع، يجب أن يخص كل شاب قسما من وقته للتثقيف، ويجعل الثقافة عادته، بل متعته التي يمارسها كل يوم، بأن تكون الجريدة والمجلة والكتاب في صحبته لا تفارق يوما، بل لها المكان المحترم في البيت.
وهناك عوائق تنشأ أحيانا من الشخصية، وأحيانا من البيئة الاجتماعية، تجعل التثقيف شاقا أو بعيدا عن أن يصير عادة، فهناك مثلا الشخصية الانبساطية التي نعرفها في ذلك الشاب الذي يميل إلى السمن وتكتل اللحم في الوجه المستدير وسائر الأعضاء؛ فإن المزاج العام في هذا الشخص يميل به إلى إيثار الاجتماع على الانفراد، ويجب على مثل هذا الشاب أن يعرف نفسه وأن يكافح في يسر وبلا إرهاق تلك الميول الانبساطية، بأن ينفرد من وقت لآخر كي يتعود القراءة والدراسة، وبدهي أنه ليس من الممكن أن يحيل المزاج الانبساطي إلى مزاج انطوائي، ولكن الشاب الذي يجد في نفسه ميلا إلى الاجتماع وقضاء الوقت مع الإخوان يجب أن ينتبه إلى حاله هذه، وأن يقتني الكتب ويدرسها، وعليه أن يذكر أن أعظم رجل مثقف في عصره، وهو جوتيه أديب ألمانيا الأكبر، كان انبساطيا يلتذ الاجتماع، ولكنه عود نفسه الانفراد والدرس والثقافة، وأخطر ما يقع فيه الانبساطي أن يصبح المقهى وحده ملجأ فراغه، يقضي فيه الساعات وهو يلعب مع رفيق انبساطي آخر إحدى لعب الحظ في جد واجتهاد كأنه يؤدي بهذا اللعب رسالة لخدمة الإنسانية.
أما الشخصية الانطوائية فنعرفها في ذلك الشاب النحيف التي يستطيل وجهه، وهو يحب الوحدة وتسهل عليه القراءة؛ ولذلك إذا تركنا هذا الاختلاف بين المزاجين وجدنا عادات يتعودها الشبان تعوق تثقيفهم أو تؤخره، أو تنقص من قيمته، فهناك ما يمكن أن نسميه «الترهل الذهني» كذلك الترهل الجسمي الذي يصيب بعض الشبان والكهول، يسمنون ويستكرشون، فإذا ساروا في الشارع كانوا كأنهم مرضى، لفرط بطئهم وإذا قعدوا لم يحبوا أن ينهضوا إلا بعد ساعات، تجد عضلاتهم مترهلة غير مشدودة وأذهانهم منطفئة غير مشبوبة، وهذه الحال في الجسم والذهن تؤدي في النهاية إلى ترهل نفسي؛ لأن الشاب - لسبب ما - فقد من الحياة توابلها، فهي ماسخة قد خلت من الحرافة التي تبعث الشهوة وتحرك اليقظة، وهذا الترهل الذهني قد يصل إلى الجمود، فلا قراءة ولا دراسة، بل مقاطعة تامة للكتب والمجلات، وأحيانا لا يصل إلى هذا الحد، ولكنه يقف عند قراءة القليل والقال في المجلات الأسبوعية، أو قراءة القصص البوليسية، وهذا المرض يفشو كثيرا بين النساء والفتيات في مصر، وقيمة هذه القراءة لا تزيد على أكل اللب أو قتل الوقت بألعاب الحظ.
ويجب أن ندعو هذا المترهل إلى أن يتطور ، بأن يرقى ويختار بعض الكتب الأخرى من المؤلفات الدسمة التي تغذي الذهن، وأن نعيب عليه جهله، وأن نعرض عليه ألوانا حسنة مغرية من الآداب والمعارف تفتح له أبوابا لعالم آخر يجهله، وتحمله على أن يبحث عن قصده في الحياة.
ثم هناك ذلك الجمود الذي يصيب المتعلمين من المتخصصين، كالطبيب أو المهندس الذي لا يدرس الآداب أو التاريخ أو العلوم الأخرى لأنه «متخصص»، وحسبه من المعارف ما يندمج في الفن أو العلم الذي تخصص فيه، فإن تخصصه هنا لا يمنع من وصفه بأنه جاهل، وربما كان جهله أخطر من جهل الأميين؛ لأن عند هؤلاء تواضعا، أما هو فيحمله تخصصه على كبرياء كاذبة تؤذي المجتمع؛ لأنه يرتأي آراء منشؤها الجهل، وفي مجتمعنا الحاضر تشتبك فروع الثقافة حتى إننا نحتاج جميعا إلى دراسة عامة لطائفة عديدة من العلوم والفنون، كي نحسن الفرع الذي تخصصنا فيه، فالطبيب محتاج إلى دراسة الاقتصاديات للعلاقة المتينة بين الفقر والمرض، ومهندس الري في مصر يجب أن يدرس أمراض التربة التي انتهت إلى إيجاد مرضي الإنكلستوما والبلهارسيا يصيبان الفلاحين ويتعسانهم، ورجل الدين يجب أن يدرس الأصول التي ينبني عليها المجتمع الحاضر كي يجعل الدين عمليا مفيدا وليس مجرد استظهار وتلاوة ... إلخ.
وقد كررنا هذه المعاني ونرجو ألا يسأم القارئ تكرارها.
البيئة العائلية والثقافة
من أسوأ الأحوال الاجتماعية في مصر أن التكافؤ الثقافي بين الزوجين نادر أو معدوم، فالزوج أحيانا متعلم مثقف، والزوجة لم تحصل من التعليم إلا على نصيب صغير، وهي لم تتعود الثقافة، وبعض التبعة في هذا يعود إلى تقاليدنا التي نزلت بالمرأة إلى مركز اجتماعي دون مركز الرجل، ولكن بعض هذه التبعة أيضا، بل ربما معظمها، يعود إلى قوات إمبراطورية قاهرة، كما نرى مثلا في تلك الحقيقة المخزية، وهي أن وزارة «المعارف» لم تؤسس مدرسة ثانوية للبنات إلا في سنة 1925 كما سبق أن ذكرنا.
وقد نشأ عن هذا الإهمال أن البيت المصري لا يزال إلى الآن يجهل المكتبة، وأن الكتاب والصورة والتحفة ليست من أثاثه، وليس من شك في أن نهضتنا منذ سنة 1922 قد عالجت هذه الحال بعض الشيء، كما يدل على ذلك آلاف التلميذات والطالبات في الأقسام الثانوية وفي جامعاتنا، فنحن ناجحون في مكافحة ظلام القرون الماضية ومظالم القرون العشرين معا، ولن يبعد اليوم الذي نرى فيه نور الثقافة يشع من بيوتنا حين يعيش الزوجان متكافئين يتحدثان بلغة واحدة على مستوي راق من الفهم والتفاهم.
وما دامت الزوجة جاهلة في حالا الأمية، أو لم تحصل إلا على الدرجات الأولى من التعليم، فإنها تعارض زوجها فيما ينفق من وقت أو نقد على الكتاب، وهو لظروف المعيشة الزوجية، وتكرار الإلحاح أو التوبيخ، قد يضطر في النهاية إلى مسايرة زوجته، فيكف عن شراء الكتاب أو يرضى بتجميد ذهنه إيثارا للسلام العائلي، ولكنه إذا كان على شيء من المتانة الأخلاقية استطاع أن يتغلب على جهل زوجته ولو في مشقة.
وبدهي أن خير الوسائل لهذا التغلب هو تعليم الزوجة حتى ترتفع إلى مستوى زوجها، ولكن هذه الوسيلة شاقة؛ إذ من البعيد أن تتعود امرأة عادات الثقافة بعد أن قضت نحو عشرين سنة في الجهل أو ما يقاربه، وكثيرا ما يجد الزوج أن التفاوت الثقافي بينه وبين زوجته قد استحال إلى هوة فاغرة، حتى لتعود الحياة الزوجية معاشرة غايتها التعارف البيولوجي التناسلي وضمان الراحة في الطعام والمأوى فقط؛ لأن لكل منهما اتجاها فكريا يمنع الاشتراك في الحديث وسلوكا معيشيا يحول دون تحقيق المثليات.
ولكن الزوجة على وجه عام، حتى حين تكون متعلمة نوعا ما، تبخل بثمن الكتاب، وتجد في التفات زوجها إلى الدرس إهمالا لها أو قلة في العناية بها، فهي تغار من الكتاب كما لو كان ضرتها، وسوف تبقى هذه الحال عامة إلى أن نحطم التقاليد السوداء ونجعل تعليم المرأة مثل تعليم الرجل سواء في الكم والكيف؛ لأننا بهذه التسوية نرفعهما إلى مستوى مشترك حيث يتحدثان ويفكران ويتجهان في غير انفصال.
وإلى أن نصل إلى هذه الحال، يجب على الزوج أن يعالج زوجته المعالجة الإيجابية البنائية؛ فإنه يسهل عليه مثلا أن يوضح لها أن القراءة، وإن تكن تلهيه عنها، فهي تمتاز بأنها تجذب الزوج إلى البيت، حيث يكون مع زوجته وأولاده يقضي فراغه معهم بدلا من تلك الملاهي الأخرى التي تجذبه إلى المقهى أو النادي حيث يكون عرضة لغوايات مختلفة، والفراغ إذا لم يملأ بالكتاب سوف يملأ بأي لهو آخر قد يضر بالصحة الجسمية أو النفسية أو المالية، ثم الكتاب مع ذلك يمكن أن يكون من الأثاث الفاخر للبيت، إذا عنينا بتجليده واقتنينا الخزانة الفاخرة أو الرف الأنيق الذي يحمله.
والزوجة لاتجاهها الاجتماعي تقدر الأثاث الحسن، ومن أعظم العقبات في اقتناء الكتب أننا نشتريها في مصر بغلاف من الورق سرعان ما يتمزق أو يتفكك، فيشوه الكتاب، ويجعله ناشزا بين أدوات من الأثاث المنسق حتى لتحتاج الزوجة إلى إخفائه ودسه في مكان ما، فإذا عني الزوج بتجليد الكتاب، واقتناء خزانة فاخرة لا يقل ثمنها أو التأنق في صنعها وتزيينها عما نفعل بخزانة الملابس، وجدت الزوجة فخرا وسببا للمباهاة، فلا تعارض في اقتناء الكتب.
وإلى الكتب يجب أن تضاف تحف أخرى، مثل الصور وبعض الطرف الجميلة، وفي هذه الحال يزيدان الصالون المخصص للضيوف بالكتب والتحف والصور كما يزدان بالكراسي أو المناضد؛ وعندئذ تقدر الكتب كأنها من أدوات البيت الضرورية التي تتنافس ربات البيوت في اقتنائها، بل ربما في قراءتها.
وليس مفر للزوج، إذا شاء أن يعيش سعيدا في بيته، مثقفا في ذهنه، مربيا لنفسه، أن يرفع مستوى زوجته، وأن يجعل الثقافة جوا مألوفا في البيت، فإذا كانت الجريدة والمجلة تصلان إلى البيت في نظام لا ينقطع؛ فإن حديث أعضاء البيت يرتفع من القيل والقال إلى السياسة العامة، وطنية أو عالمية، وصحيح أن معظم مجلاتنا لا تسمو على القيل والقال، لكن الزوج البصير يمكنه أن يناقش أعضاء عائلته في الشئون الخطيرة، ويوجههم، فينتفع هو في النهاية بهذا التوجيه، وعندئذ يجد العطف، بل التقدير، حين يقبل في حماسة على ترقية ذهنه وترقية نفسه بثقافة عميقة قد لا تصل إليها الزوجة ولكنها لا تنكر قيمتها، فلا تعارض فيما ينفق عليها من مال ووقت، وعندئذ يكون الزوج قدوة للأبناء، فلا يأسف على عجزه لأنه لم يستطع أن يكون قدوة لزوجته.
الرجعية المعارضة للثقافة
الرجعية في لبابها دعوة إلى حل المشكلات الاجتماعية بالعقائد الجامدة والموروثة، بدلا من التفكير الحر المبتكر؛ ففي مجتمع رجعي يعيش الفرد وهو خاضع في بيته وحكومته وتصرفه لألوان من العادات كأنها شعائر دينية يجب ألا تخالف أو تناقض، وهذه الحال تنتهي به إلى أن يخضع في تفكيره لقواعد وسنن يجب ألا يخالفها، بل يجب ألا يتحدث عما يخالفها إذا خطرت له، والرجعي يلجأ عادة إلى الدين فيستند إليه في تحريم القراءة لهذا الكتاب، أو منع البحث لهذا الموضوع، فالكنيسة الكاثوليكية مثلا تعين نحو مئة كتاب أو أكثر لا يجوز في زعمها للمؤمنين بها أن يقرءوها، وقد كانت هذه الكنيسة تأمر - قبل قرنين أو ثلاثة - بإحراق الكتب التي لا تحب، كما فعل فرانكو في أسبانيا وهتلر في ألمانيا قبل سنوات، وقد ارتكبنا نحن في مصر شيئا قريبا من هذا في بعض الكتب الاشتراكية والشيوعية، وهذا الخزي الوطني قد أوقعنا فيه رجعيون، وفي كل أمة أفراد يؤثرون التفكير الأسلوبي الموروث، ويلتزمون العادات، ويخشون الابتداع.
ومما يذكر عن جريدة التيمس التي تقرؤها الطبقة الثرية في إنجلترا أنها كانت تقاطع كلمة «سفلس» إلى سنة ألف 1916؛ لأن هذه الكلمة أسم لأحد المرضين الزهريين المشهورين، ولما كانت الطبقة التي تجد التيمس قراءها بينها تتجنب هذه الكلمة في حديث أفرادها الذين ربما يقعون في هذا المرض؛ فإن التيمس جارتهم في هذا النفاق أكثر من قرنين، ويهمنا من الرجعية معارضتها للتثقيف الذي هو موضوع هذا الكتاب، فإذا كان المجتمع رجعيا لأنه مرهق بعبء ثقيل من التقاليد الموروثة، وإذا كان رجال الدين رجعيين (وهم كذلك في أغلب الحالات) فإن الحكومة تستطيع بإنشاء المدارس وإباحة التفكير الحر أن تحيل هذه الرجعية إلى تجديد وانتهاض، ولكن إذا كانت الحكومة نفسها رجعية فإن التجديد والانتهاض بين المجتمع يحتاجان إلى جهد عظيم قد يعجز عنهما هذا المجتمع ؛ لأن بذرة التجديد وريح النهضة تحاربان وتكافحان من رجال الحكومة أنفسهم، وقد رأينا في عصرنا كيف أن أمة متمدنة مثل ألمانيا وأمتين أخريين قد أوشكتا بالحرية والتعاليم أن تعمهما الحضارة، هذه الأمم الثلاث قد أحالتهن حكوماتهن إلى أمم رجعية تحارب التفكير الحر وتحرق الكتب، بل ترد المرأة إلى المطبخ. وقد أوشك المجتمع في هذه الأمم الثلاث على أن يعود رجعيا ساقطا بعد نهضته.
والناس يتنفسون بعقولهم كما يتنفسون برئاتهم، وهم يحتاجون إلى حركة الفكر كما يحتاجون إلى حركة الهواء كي يصحوا وينتعشوا، ولكنهم أيضا يعتادون الأفكار المحبوسة كما يعتادون الهواء المحبوس، وعندئذ يمرضون فيفقدون صحة الجسم والعقل، فلكي تنمو أذهاننا، وكي نربي أنفسنا بالثقافة البشرية العامة، يجب أن نعيش في جو حر تكفل حريته وتصونها حكومة عصرية مستنيرة تعلم أنه ليس في الطبيعة قرار وأن كل ما فيها يتغير، وأننا لم نصل بعد إلى المجتمع الأمثل حتى نستقر على مؤسساته ونقول إنه ليس في الدنيا ولن يكون أبدع منها؛ ولذلك يجب - كي نحصل على ثقافة حرة تربينا - أن نجيز النقد لجميع مؤسساتنا الاجتماعية ولا نضع أي قيد أو نعين أي حد يمنع التفكير الحر.
والحكومات الرجعية - مثل حكومة ألمانيا وإيطاليا سابقا وأسبانيا الآن - قد أحرقت الكتب ووضعت غرامات باهظة على كل من يرغب في إنشاء جريدة أو مجلة، وجعلت للصحفيين والكتاب عقوبات قاسية خاصة على ما ينشرونه، وهذا إلى قصر التعليم على عدد معين على الطلبة، ولا يمكن شابا في مثل هذه الظروف أن يربي نفسه لأنه لن يجد الكتب الحرة النزيهة التي تربي، ولن يجد الجرائد والمجلات الحرة التي تنير، فالشرط الأساسي للتثقيف الذاتي أن نعيش في جو فكري يجيز التأليف وإنشاء الجرائد والمجلات بدون فرض غرامة مالية أو إيجاد صعوبات قانونية يقصد منها إلى تقييد التأليف والنشر، ولا عبرة بالدعاوى التي تقال في فرض هذه الغرامات، أو وصفها بأنها ضمانات، كما لا عبرة بدعوى الحماية للتقاليد لأن النهاية التي نصل إليها من كل هذه الدعاوى هي تقييد الحرية الفكرية التي هي حق لكل أمة عصرية لا يصح أن يمس أو ينتهك، بل هي حق لكل فرد ضد أمته، ولكل أمة ضد حكومتها.
وحسب القارئ أن يعرف أن فنلندا يقل سكانها عن أربعة ملايين ومع ذلك فيها 209 من الجرائد اليومية و557 مجلة أسبوعية وشهرية، ولكل من هذه الصحف قوة التوليد في الثقافة، هذا التوليد الذي هو الفرق الأساسي بين أمم الغرب الناهضة وأمم الشرق القاعدة.
ولا قيمة لاستقلال تناله أمة بعد التخلص من الاستعمار إذا كان الرجعيون أو المستبدون سيتولون الحكم ويثقلونها بقيود الفكر والجسم، فالمستبد والرجعي والاستعماري سواء.
بل إني حين أقارن بين الشعوب العربية التي رزحت تحت الاستعمار، وتعذبت به سنين، وبين الشعوب العربية الأخرى التي لم تعرف الاستعمار، بل عاشت «مستقلة»؛ أجد أن كلمة النهضة تنطبق على تلك الشعوب التي أذلها الاستعمار ولكنه في الوقت نفسه بعث فيها حركات ناهضة بالاتصال بالثقافة الأوروبية العصرية، فاستطاعت أن تتخلص من بعض تقاليدها وأن تتمدن وتحيا الحياة العصرية.
أما الشعوب العربية «المستقلة» فلا تزال مقيدة بتقاليدها، تأسن في رجعيتها وتخشى الثقافة وتجهل الدستور، بل لا تزال تمارس الرق أحيانا وترفض تعليم المرأة.
ويستطيع القارئ بمقارنة سريعة أن ينظر ويستنتج، ولا بد أنه سيجد عندئذ أن رجعية الشرق عند أبنائه لا تنقص في استبدادها بهم عند استعمار الغرب لهم، بل أحيانا أسوأ وأتعس.
تحصيل العيش والثقافة
ذكرنا جملة عوائق تمنع الثقافة أو لا تيسرها بالقدر الذي نرغب فيه، ويجب مع ذلك ألا يفوتنا ذكر عائق كبير وهو تحصيل العيش؛ فإن 90 في المئة من الأمة يعيشون في قلق على عيشهم، وهذا القلق يحملهم هموما مختلفة تجعلهم ينفقون كل وقتهم تقريبا في جمع المال كي يطمئنوا على عيشهم هم وأولادهم، ونظام المباراة الذي نعيش فيه يجعل الاطمئنان على العيش مزعزعا ويجعل الخوف من المستقبل مائلا دائما، فالأب لا يعرف ماذا يكون مصير أولاده، بل لا يعرف هل يجد هو نفسه الشيخوخة الهنيئة، وهو حين يفر من عمله، ويلجأ إلى بيته للراحة، يجد أن جو المباراة التي يكتنفه ماديا وروحيا قد انتقل إليه، فهو يفكر في الكسب ويحلم بالثراء حتى حين يكون في فراشه.
وهذا الاتجاه المادي لإيثار الكسب على كل شيء وإرصاد الجهد للصحة والوقت لجمع المال، يجعل الرغبة في التثقيف الذاتي معدومة أو كالمعدومة، وكثيرا ما رأينا أشخاصا قد حملتهم هستيريا الكسب على النفور من الكتب والكراهة للقراءة كي يجدوا الوقت للعمل الكاسب، وكلنا يعرف ذلك «العصامي» الذي يفخر بثقافته السابقة وثرائه الحاضر ويعدد صفات الاستقلال والرجولة والمثابرة التي يمتاز بها، ولكنه مع ذلك جاهل لا يزال ذهنه فجا غشيما لم يهذب أو يصقل، كذهن حصان أو دب لا يدري من شئون هذا الكوكب سوى تلك المعارف المحدودة التي تتصل بكسبه عن أثمان هذه السلع أو رواج تلك السوق نحو ذلك.
وليس شك في قيمة المال في عصرنا، عصر المباراة هذا الذي يداس فيه المحرومون، ولكن يجب ألا نجعل جمع المال هوسا أو هستيريا؛ فإن غاية المال في النهاية هي الاستمتاع بالمسكن والغذاء واللباس وسائر الاعتبارات الاجتماعية، والثقافة هي أسمى ضروب الاستمتاع.
وليس من السهل أن نجذب ذلك المنغمس في الكسب المسحور بالمطامع المالية إلى الثقافة؛ لأنه في الواقع في حال من الإيحاء النفسي تحتاج إلى المعالجة السيكلوجية، وهو نائم يحتاج إلى الإيقاظ، وهو أعمى يحتاج إلى التبصير؛ فإنه ألف عادات نفسية وذهنية جعلته غريبا عن مواطن الثقافة، يتغطرس ويتعجرف كلما ذكرت له ميزات التربية الذاتية وترقية الشخصية والتوسع الذهني.
ومثل هذا الشخص يجب أن نحتال عليه كي نبعث الحرارة في ذهنه البارد ونوقظه من بلادته وسباته، ونشعره بالخجل إن لم يكن بالخزي من جهله، ونحن نعرف مثلا أن الأوساط تختلف في إثارة التنبيه الذهني، فالوسط الزراعي مثلا يخلو من المنبهات الذهنية لأنه وسط الاستقرار، أما وسط المدينة فيحفل بالمنبهات للتغير الدائم فيه؛ ولذلك فوطن الثقافة هو المدينة وليس الريف.
والأزمنة كالأوساط تختلف أيضا في قدرتها على التنبيه الذهني؛ ففي زمن الحروب نقرأ الجرائد بشهوة حادة، وفي أيام الفتنة أو الثورة نحب أن نسمع ونقرأ ونرى، وفي أيام الغلاء والقحط والأزمات نتحدث عن المشكلات الاقتصادية ونحاول أن نفهم ونستنير.
ونحن نعرف أيضا أن الثري للطمأنينة التامة يركد ويترهل، ولكنه يتنبه عندما يحف به خطر اقتصادي، أو تنزل به كارثة مالية، وقد يشرع عندئذ في الدرس بعد حياة طويلة كانت مجالة بسواد الجهل.
والمغزى الذي نقصد إليه هو أن الباعث على التفكير والدرس هو مقدار معتدل من القلق، أي إن الطمأنينة يجب ألا تكون تامة، وهذا القلق نجده في المدينة أكثر مما نجده في الريف، وهو أكثر في أيام الحرب والقحط مما هو في أيام السلام والرخاء، وهو أكثر عند المشتغل بكسب عيشه مما هو عند الوارث المطمئن.
على أنه يجب أن لا تمسك المعايش بخناقنا؛ لأنه من الواضح إذا كان القلق عظيما فإنه يمنع من التفكير السليم أو الرغبة في الدرس، ولكنا نقصد إلى القلق المعتدل الذي يحدث لنا غما أو هما خفيفين، والنفس في مثل هذه الحال تلجأ إلى الخيالات المضادة التي تحدث السرور، ونحن حين نفكر إنما نرتب هذه الخيالات ونجعلها تسير مع المنطق، ونستعين بالدرس كي نحسن التفكير ونصل إلى النتائج.
وهذا المنغمس في تحصيل العيش، الذي ينفر من الثقافة، يجب أن ننبه ذهنه عن سبيل العمل الذي ينغمس فيه، بأن نحدث له قلقا يستتبع غما أو هما يحمله على التفكير والدرس، فإذا عمدنا إلى ثري يكتنز النقود وتحدثنا إليه عن نزول النقد، وأن الذهب لن يعود إلى التعامل، وأن المبادئ الاشتراكية تعم العالم رويدا رويدا؛ فإننا بلا شك ننبهه من ركوده ونبعثه على أن يتساءل: ما قيمة الاكتناز للثروة إذا كان مصيرها يوما ما مصير المارك الألماني سنة 1922؟ وقد يحمله هذا على درس الاقتصاديات، ومتى شرع فإنه لن ينكص، ومتى تنبه فإنه لن يركد.
وكذلك الشأن في غيره من أولئك المنغمسين في تحصيل العيش إلى حد إرصاد الوقت والجهد في سبيله، فإننا نعالجهم عن سبيل انغماسهم، فنوضح لهم حينا مقدار المنفعة التي تعود عليهم إذا درسوا وتوسعوا في مهنتهم ، وحينا نبين لهم الأخطار التي تتعرض لها هذه المهنة في المستقبل، بل نحتاج إلى أن نبين أيضا أن الوجاهة والمكانة والاحترام تنال كلها بقليل من الثقافة، ولا تنال بكثير من المال الذي ترافقه جلافة الجهد والعصامية المزعومة.
واختيار الأصدقاء من المثقفين - كما سبق أن ذكرنا - هو أفعل الوسائل لبعث الشوق إلى الثقافة؛ لأن للقدوة أكبر الأثر في الإيحاء، وكما أن ثري الحرب يقتني الأثاث الفاخر للمباهاة، فإنه كذلك يجب أن يباهي بالأصدقاء المتعلمين، وهؤلاء يستطيعون أن يوجهوه ويرشدوه في تعليم نفسه وأعضاء عائلته.
ماهية الثقافة
الثقافة هي ما نفكر به، والحضارة هي ما نعمل به.
ولكن هذا التعريف ليس دقيقا؛ فإن من الصحيح مثلا أن معارفي أنا عن القوة الكهربائية التي نستخدمها في الإضاءة والحركة والاستماع الرديوفوني والرؤية السينمائية، بل للتدفئة والعلاج الشعاعي وغير ذلك، هذه المعارف هي ثقافة عندي؛ لأني لا أمارس بيدي شيئا من هذه الوسائل التي نستخدم بها القوة الكهربائية، وقصارى ما أتصل به منها هو المعرفة الذهنية، ولكن المهندس الكهربائي يعرفها حضارة وثقافة عامة معا؛ لأنه يفكر ويعمل بها معا.
وفي مجتمع أمثل لما نصل إليه، تصير الثقافة والحضارة شيئا واحدا في كثير من الشئون؛ لأن جميع الناس يتعلمون ويرتقون، فلا تكون هناك أشياء راقية يقرءون عنها في الكتب ولا يرونها في المعيشة.
انظر مثلا إلى المتاحف، تجمع بين جدرانها عشرات أو مئات الرسوم والتماثيل، يدخلها الجمهور من أبواب عليها حرس، فيتنزه المتفرج برؤية الألوان العديدة من الجمال الفني، ثم يخرج بعد هذا الاستمتاع الثقافي إلى منزله، حيث الحرمان من صورة أو تمثال، فهنا الثقافة تختلف عن الحضارة؛ فان الأولى مخزونة في متحف، والثانية معروضة في البيت.
ولكن المجتمع الأمثل هو الذي يجعل كل بيت من بيوتنا متحفا، بل يجعل المدينة بشوارعها وجدرانها حافلة بالتماثيل والصور والمباني الأنيقة، وعندئذ تكون الثقافة هي نفسها الحضارة.
ولكننا نعيش في العصر الحاضر في فاقة فنية، لا نعرف من الفنون سوى صورها الفوتوغرافية في الكتب، أو نماذج منها في المتاحف .
فنتحدث عنها ونناقش موضوعاتها كما يتحدث الفقير وهو يأكل من طبق المدمس المفرد عن الموائد المطهمة التي تحمل ألوانا عديدة من فاخر المملكتين الحيوانية والنباتية في بيوت الأثرياء.
ولكن الثقافة، هذا التراث البشري الذي تكون لنا فيما لا يقل عن خمسين ألف سنة، أي منذ اكتشاف النار، يجب أن نلم بها ونمتلكها بالدراسة؛ أي يجب أن نعرف تاريخنا وتاريخ الأرض التي نعيش عليها، وتاريخ الأمم من الصين إلى فنلندا ومن أوغندا إلى ألمانيا، ويجب أن نعرف العلوم والآداب والأديان التي استمتع أو امتهن بها الإنسان، ونحن في هذه الدراسات لن نتجاوز التفكير، وصحيح أن تفكيرنا يؤثر في الحضارة؛ لأننا نخرج منه بأن نقول كما قال سقراط: «لست أثينيا ولا يونانيا إنما وطني هو العالم»، ولكن المعارف التي نجمعها لهذا التفكير تختلف عن المعارف التي يجمعها المهندس الكهربائي لتمديد أسلاك التليفون أو لإضاءة منزل، على أننا مع ذلك يجب أن نعترف أن الاختلاف هنا في الدرجة وليس في النوع؛ لأن المجتمع الأمثل هو المجتمع العالمي الذي يهتم بشئون العالم كله وليس بشئون قطر معين، وعندئذ تصير الثقافة البشرية جميعها تراثا عاما يجب أن يستمتع به كل من يسكن على هذا الكوكب، وعندئذ أيضا تصير الثقافة هي الحضارة.
ومنا قليلون يبلغون هذه الدرجة حتى في عصرنا، حضارتهم هي ثقافتهم وثقافتهم هي حضارتهم، نعني أولئك الذين تغيروا أو تطوروا حتى طابقوا بين مصالحهم ومصالح البشر، وأصبح لهم دين، وتربى لهم ضمير، حتى ليفكر أحدهم بقلبه ويحس بعقله، ويهتم بشئون العالم كما يهتم بمصلحة نفسه وبيته ووطنه، وينظر من خلال المحن الاقتصادية في الصين أو الهند أو مصر إلى لوحة التاريخ العالمي، فينتهي إلى أن التطور منطق مبتكر يلائم الوسط وليست مجموعة من العقائد والشعائر المحنطة ومومياءات الأفكار القديمة، وحين نبلغ هذه الدرجة، نعيش ولنا اهتمامات حيوية تنبه الضمير وتستفز الذهن إلى التفكير، ومتى وصلنا إلى هذه الحال عشنا في الدنيا وعنينا بالدنيا وملكنا الدنيا نصلحها ونربيها كما يصلح ويربي أحدنا في العصر الحاضر على المستوى المنخفض حديقته الخاصة.
وقد كان أفلاطون يقول:
إذا لم يعن الأبرار بالشئون العامة فإنهم يعاقبون على هذا الإهمال بخضوعهم لحكم الأشرار.
ولكن العناية بالشئون العامة تحتاج إلى الثقافة العامة، والشئون العامة للرجل الناضج في عصرنا هي شئون العالم كله؛ لأن العالم قد بات مرتبطا، بحيث إن الشر الاستبدادي في الصين ينتقل إلى مصر كما أن الوباء الميكروبي في قطر يتفشى إلى أقطار أخرى.
فالصيانة العامة من الشرور والأمراض لا يمكن أن تتجزأ، والثقافة العامة وحدها هي التي تكفل لنا هذه الصيانة.
ولكي نعيش في سلامة الضمير والجسم والذهن يجب أن نكون مثقفين، ننشد الثقافة العالمية لإيجاد حضارة عالمية.
قيمة الثقافة وغايتها
لن نحدد في هذا الفصل قيمة الثقافة وغايتها؛ لأن جميع فصول هذا الكتاب تتناول هذين الموضوعين، وإنما نقصد هنا إلى إيضاح بعض النواحي البارزة لهما.
فللثقافة قيمة اجتماعية وعالمية وبشرية، فالأمة التي ترقد ثقافتها، وتستحيل إلى قواعد وأساليب، يركد مجتمعها وتقف جامدة بعيدة عن الرقي، وقد حدث هذا في القرون الوسطى، بل إن هذه الحال لا تزال قائمة أيضا في بعض الأمم في أسيا وأفريقيا، والوسط الزراعي، بالعجز الذي يشعر به المشتغلون بالزراعة والمنتفعون منها؛ لأنهم لا يعرفون في هذا الوسط طرقا جديدة للتطور، هذا العجز يحدث جمودا في الثقافة والحضارة، وقصارى ما نجد في الوسط الزراعي ثقافة دينية تقليدية وآدابا أسلوبية، ولكن إذا كانت الأمة تمارس التجارة - ونعني التجارة العالمية أو التي تمتد إلى أقطار بعيدة - مع اشتغالها بالزراعة؛ فإن الاختلاط التجاري بالأقطار الأخرى ينبه الأمة ويبعث الحيوية في الثقافة، وعندما نتأمل القرون المظلمة في أوروبا، بين 500 و1000 بعد الميلاد، نجد أنها ترجع إلى أن الثقافة، بعد أن كانت عالمية تجارية أيام الرومان، تغتذي بالتنبيه المتواصل من التجارة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، قد عادت فانحصرت في القرية، فصارت ثقافة زراعية دينية تقليدية.
وأكثر من التجارة في تنبيه الثقافة هو الصناعة؛ لأنها فنون وعلوم مختلفة، ويمكننا أن نجزم بالقول بأن في عصرنا الحاضر لا يمكن أمة أن تكون متمدنة ومثقفة إلا إذا كانت أمة صناعية، وحسب القارئ أن يقارن بين أمة تعيش وتتجر بزراعة الذرة والقمح، وأخرى تعيش وتتجر بصنع الأتومبيل والرديوفون أيتهما أوسع معارف وثقافة؟ وأين تجد العلوم المختلفة من الكيمياء إلى الفيزياء إلى الميكانيات إلى الكهرباء إلى غيرها؟ لا شك أن هذه العلوم تجد وطنها في الأمة الصناعية، وليس هناك سلاح أمضى عند الأمم الإمبراطورية حين تريد أن تحكم شعبا وتستغله، وتبقيه في جهالة أبدية، من أن تحرمه من الصناعة وتقصر نشاطه على الزراعة؛ لأن العلوم العصرية عندئذ لا تجد السوق التي تكسبها الثمن العالي وتبعث المنافسة على تعلمها، ثم إن حرية الفكر تنمو في الوسط الصناعي لأن قاعدته الابتكار والاختراع والمعارف، وهي تموت أو تركد في الوسط الزراعي لأن عدته التقاليد والعقائد والسنن.
وهذا كله كلام عام عن الثقافة، وكنا نحب أن نتوسع فيه، ولكن غرضنا من تأليف هذا الكتاب هو قبل كل شيء الإرشاد العملي للشاب في تثقيفه الذاتي، فنحن في حاجة إلى أن نبرز الفوائد التي تعود عليه من الثقافة، حتى يجد في هذه الفوائد الحوافز إلى الدرس واقتناء الكتب.
فنحن نثقف عقولنا كي نجعل العمر البيولوجي يمتد إلى العمر الجيولوجي؛ أي إن العمر الذي لا يتجاوز 70 أو 80 عاما يعود بالدراسة وكأنه مليون عام، فالمثقف يدرس التاريخ البشري وما سبق البشر، ويعرف التطورات التي تغيرت بها الأرض والنبات والحيوان، وهذه الدراسة التي لن تنقطع مدى الحياة توحي إلينا قداسة دينية ورغبة في الخير والرقي، وتطلعا إلى المستقبل مع التفاؤل، وشعورا ليس بالتضامن البشري فقط بل باحترام الحياة كلها.
وكذلك نثقف عقولنا بدرس المشكلات العالمية والقطرية كي نقف على «العقل العام» ونشترك فيه، فنميز بين هذه المشكلات بدراستنا أو نحمل لواء الكفاح في حلها وتغير المجتمع حتى يزول المرض والفقر والجهل والحرب والتعصب، وهذا «العقل العام» يجعلنا بشريين، لنا اهتمامات بما في نيويورك وبكين وبومباي والقاهرة وباريس، ويجعل كل إنسان منا إنسانيا.
وهذه الدراسة تكسبنا الشخصية المتطورة، ولن تستطيع أن تكون شخصا متطورا إلا إذا كنت دائم الدراسة، تغير ذهنك بالمعارف الجديدة التي لا تفتأ تزودك بها العلوم.
وبعد هذا يجب أن نذكر أنك ستصل يوما ما إلى الشيخوخة، وعلى الرغم من كل ما يقال، ليس شيء في هذه الدنيا أسوأ من الموت سوى الشيخوخة الهامدة المريضة الجامدة، وخير وسيلة نستعد بها للشيخوخة هي الثقافة، فيجب على كل منا أن يمهد الطريق الذي سيسير عليه في المستقبل حين يتجاوز الستين، فإذا كنا قد عنينا أيام الشباب باعتناق الثقافة واعتياد الدراسة، فإننا ندخل في طور الشيخوخة ومسام عقولنا مفتحة، لنا عشرات من الاهتمامات الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية والعلمية والأدبية، بل ربما تكون الثقافة قد اختمرت وتبلورت إلى عمل وكفاح، يجددان الحياة في الشيخ، ويجددان الأمة بنشاط ناضج.
وما أهنأها شيخوخة عندما ينظر أحدنا - وقد بلغ السبعين - في فهرس حياته، فيجد العناوين البارزة لما قام به من دراسة وكفاح حتى تكونت له شخصية ناضجة مؤلفة من الاستقلال الروحي وبالاستمتاع الفني.
وما أتعسها شيخوخة يقضيها أحدنا في المرض والجهل والجمود كأنه قد قطع صلته بالعالم، يقال من وظيفته في الستين وكأنه قد أقيل من الحياة كلها، فهو في الحقيقة ميت قد تأخر دفنه؛ وذلك لأنه لم يثقف ذهنه أيام الشباب ولم يغرس في نفسه اهتمامات حيوية تغذو شيخوخته وتحيي عواطفه وتنبه عقله.
من هو الرجل المثقف
كان الرئيس ولسون رجلا مثقفا درس الكتب وخبر الدنيا، كان مديرا لجماعة برنستون ينظم الثقافة لشباب الولايات المتحدة، ثم كان رئيس للجمهورية في سني الحرب، فحاول جهده أن يصون السلم ولكنه اضطر أخيرا إلى الحرب، فلما انتهت - أو قبل أن تنتهي - وضع الشروط الأربعة عشر التي كان «تقرير المصير» للأمم الصغيرة واحدا منها، وهو شرط قد انتفعنا نحن به في حركة 1919، ثم كان أثر ولسون كذلك كبيرا في إيجاد عصبة الأمم، بل هي من مبتكرات ذهنه الخصيب المثقف.
فإذا تكلم الرئيس ولسون عن الثقافة، ما هي وكيف تكون، ومن هو الرجل المثقف؛ فإنه لا يتكلم باعتباره رجل القلم والحبر فقط، بل أيضا رجل السياسة العالمية والخبرة الدنيوية، ثم هو رجل مثقف قد أثمرت فيه خير ثمراتها، إذ جعلته إنسانا إنسانيا يطلب الدنيا كلها وطنا له ويسعى للسلام وينشد الحماية للأمم الصغيرة من الأمم الكبيرة، فإذا قسناه باختباراته الماضية ومؤلفاته في الجامعة، أو بما انتهى إليه من الشروط الأربعة عشر، أو اختراع عصبة الأمم؛ فإننا نجد فيه أجمل مثال للرجل الشريف المثقف، والسبب لا نخطئ إذا نحن اعتمدنا عليه في صفة الرجل المهذب، فهو حين يصفه إنما يصف نفسه.
وضع الرئيس ولسون أربعة شروط للرجل المهذب هي: (1)
أن يعرف تاريخ العالم منذ بداية الكون، فنشأة الحضارة، إلى الآن. (2)
أن يعرف تاريخ الأفكار السائدة التي يسير عصرنا على مبادئها. (3)
أن يعرف علما من العلوم في المعنى الذي يطلق عليه اسم
Science
في اللغات الأوروبية. (4)
أن يعرف لغة ما، وخير اللغات التي يعرفها هي لغته التي نشأ عليها. •••
هذه هي الشروط الأربعة للرجل المهذب أو الرجل المثقف كما يراها الدكتور ولسون، ويمكن كلا منا أن يسأل نفسه: هل أنا مهذب لم أستوف غير شرط أو شرطين من هذه الأربعة؟
ولكن ربما يتساءل بعضنا: لماذا هذه الشروط الأربعة ولماذا لا تكون عشرة أو سبعة؟ فالجواب أن الدكتور ولسون قد اختار الأهم قبل المهم، واختار الأساس قبل الجدار، والأعم قبل الأخص، ونستطيع أن نبين أهمية هذه الشروط بالشرح القليل؛ فإن الذي يطلبه الرئيس ولسن أن تثمر هذه الثقافة التي يحددها في هذه الشروط رجلا صالحا في العالم بارا بالإنسانية، وهو يبرزها في ذهن نير، ثم يجب أن يفهم مبادئ الحضارة الحديثة، ولا يعارض تقدمها، بل عليه أن يكون عضوا عاملا في تقدمها.
فالشرط الأول:
أن يعرف الرجل المهذب تاريخ العالم، كيف نشأت الحياة الأولى على الأرض، ثم تطورت رويدا رويدا حتى ظهرت فيها أنواع من النبات والحيوان ينقرض بعضها ويبقى بعضها، وهي في خلال هذا التطور تنهض وتنتكس، إلى أن ظهر الإنسان (وهو مع ذلك ليس ختام الدراسة إذ هو جسر تعبر عليه الحياة كي تصل إلى طراز أعلى منه)، ثم كيف تسلط على غيره، إلى أن استطاع أن يخترع الحضارة الأولى على ضفتي هذا النهر المبارك، نهر النيل.
ثم كيف نشأت الحضارة، وتطورت، وهي تعاني مظالم الكهنة والمستبدين ورزء الحروب وبلايا القحط والوباء، وفي خلال ذلك يكتشف هذا الإنسان الأول أن له ضميرا وأن حبه لأمه وزوجته وأولاده يتسع حتى يصير حبا للبشر جميعهم.
وجدير بهذا الذي يدرس تاريخ العالم أن يحس أنه ابن العالم وأن البشر إخوة، وأن الحرب جناية، ثم هذا العرض لتاريخ الدنيا يكسبنا فكرة التطور، ثم مزاج التطور؛ لأن الدنيا لم تكن قط على حال واحدة؛ إذ هي تتغير، ويجب أن تبقى في هذا التغير، ثم هذا التاريخ إذ بعث في نفوسنا الاطمئنان من ناحية البر والخير في نفس الإنسان؛ فإنه يبعث الشك والتوجس من ناحية النظم الاجتماعية التي انتهت مرة بل مرات بالعصور المظلمة، وما أدرانا فلعلنا هذه الأيام على وشك الدخول في عصر مظلم، فلا أقل من أن نعرف علاماته، ونحتاط بدرس تاريخ العالم، ونميز بين سيادة العقيدة الحزبية وسيادة الرأي الجدلي، أو الفرق بين المعرفة التي تقوم على البينة وبين العقيدة التي تقوم على التسليم، ثم هذا الدرس لتاريخ العالم يعين لنا سمات الحضارات المتعاقبة وألوان الجودة والرقي فيها إلى أن تنتهي إلى الحضارة الصناعية القائمة.
والشرط الثاني:
للرجل المهذب أن يعرف تاريخ الأفكار السائدة سواء أكانت سياسية أو علمية، فنحن في عصرنا الحاضر نسير بقوة آراء تسوقنا وترسم لنا خططا وغايات، فيجب أن نعرف تاريخ هذه الآراء، والجهود التي بذلت في سبيل تحقيقها، والقوات الخفية التي تسوقها.
فهناك هذا الرأي أو الفكرة القائلة بالديمقراطية كيف وأين نشأت وما قيمتها، وما دلالتها، وهل يجب أن تموت أو تعيش؟ ثم ما هي قيمة الحرية الفكرية، أو التسامح الديني، أو فكرة الدستور، أو غير ذلك في الأفكار والآراء التي غاص الناس من أجل تحقيقها في بحار من الدماء؟ وهل كانت جهودهم حسنة أدت إلى خدمة البشر؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل هي تستحق العناية من المستمتعين بها والجهد لصيانتها، أم تترك للمستبدين والجامدين والرجعيين كي يمحوها من لوح التاريخ البشري.
وهذه الأفكار أو الآراء التي تسود الحضارة الراهنة لا تكاد تحصى؛ فإننا نؤمن مثلا بفكرة الجامعة للتعلم، وفكرة التعاون للعمال، وكذلك بفكرة النقابة، كما نؤمن بحرية المرأة. وفكرة «تقرير المصير» هي إحدى هذه الفكرات الخصبة المثمرة.
والشرط الثالث:
للرجل المهذب أن يعرف علما من العلوم الحديثة؛ وذلك لأن الحضارة الصناعية القائمة في العالم الآن تستند إلى أساس قوي من الثقافة التي أثمرت الغازات الفاتكة من ناحية كما أثمرت الأقمشة والأسمدة الصناعية لتوفير الغذاء والكساء، هي شر وخير، ولا يمكننا أن نفهم دلالتها إلا إذا فهمنا علما من العلوم، وميزة العلم أو صفته أنه يمكن أن يقاس، سواء أكان القياس بالمتر أم بالجرام أم باللتر، وما لا يمكن قياسه، أو حمله عقليا على ما يشبه القياس ماديا، ليس علما.
وليس شيء من الصناعات الحاضرة إلا وقد أغار عليها العلم ووسع نطاق الانتفاع بها.
فنحن نجده على السواء في إناء الطبخ للطعام كما نجده في جهاز الميكروفون، ونجده في زراعة البرسيم كما نجده في تحليل الضوء المنبعث إلينا من المجرة، ونجده في صحة الأطفال كما نجده في صنع الطائرات.
والرجل الذي يعنى بالثقافة العلمية ينطبع في نفسه المزاج العلمي، فهو يعتمد على القياس والتجربة، وهو لا يستسلم حتى لمنطق الذهن المجرد؛ لأنه لا يقنع بالتفكير فقط، بل يزيد عليه التجربة باليد، فهو يفكر بذهنه ويده، وهو لهذا السبب لا يرفض تصديق القصص عن العفاريت ومناجاة الأرواح وقراءة الكف وفراسة الوجه وطالع الحظ وما إلى ذلك فقط، بل هو لا يعرف كيف ينصت مستمعا إلى هذه القصص والأساطير؛ لأن مزاجه العلمي قد بعث فيه اشمئزازا ذهنيا من هذا السخف، والرجل الذي يجهل أحد العلوم لا يصح أن يعالج دراسة ما؛ لأنه يعالجها عندئذ بروح الجهل الذي يخشى خطره لأنه يعتمد على استنتاجات لا تؤيدها التجربة.
أما الشرط الرابع:
للرجل المهذب فهو أن يعرف لغة ما معرفة مثقفة، وتفضل لغته الأصلية التي نشأ عليها، وهذا شرط لا غنى عنه؛ لأن التفكير الحسن لا يستطاع بلا مدخر كبير من الألفاظ، بل نحن لا يمكننا أن نفكر بدون الألفاظ، حتى إن أحد السيكلوجيين - وهو الدكتور واطسون - يقول إن التفكير هو كلام صامت كما أن الكلام هو تفكير صائت، وهناك ما يرجح صحة هذا القول، والذي يلاحظ أن لكل شخص ألفاظه التي تكثر في حديثه أو في كتابته، وهي بالطبع تدل على اتجاه تفكيره ولونه؛ إذ هو يختار الألفاظ التي تعبر عما يشتغل به ذهنه، فإذا كان تافه التفكير كانت الألفاظ كذلك، وقد كان هربرت سبنسر يقول إنه يمكنه أن يعرف وزن الرجل الذهني عقب حديثه؛ لأنه يعرف من الألفاظ التي يستعملها أي الموضوعات تشغله وكيف تشغله.
وأحسن اللغات التي يجب أن نتعلمها ونتقنها هي اللغة التي رضعناها من أمهاتنا، وهي اللغة التي نستطيع أن نتقنها، ومن السخف أن نتعلم لغة أجنبية نصف تعلم أو ربع تعلم؛ لأن اللغة وسيلة، غايتها القراءة والاستنارة المتوالية، فإذا لم نعرفها حق المعرفة لم ننتفع بها، ومن هنا الخطأ الفادح في تعليم أولادنا لغتين أجنبيتين حين كان يمكن الاقتصار على واحدة ربما يستطاع إتقانها فنعتمد عليها للتثقيف العصري. •••
هذه هي الشروط الأربعة للرجل المثقف كما رآها الرئيس ولسون، وهي جديرة بأن تثمر في صاحبها أحسن الثمرات، فتحركه إلى العمل وتجعله داعية للحق والإصلاح والرقي؛ فإن الرجل المثقف لا يطيق الظلم، ولا يرضى بالجمود؛ لأن ثقافته قد امتزجت بدمه وأصبحت جزءا من روحه وإرادته، وهو لا يمكنه أن يحبس في نفسه أفكارا عن الرقي والإصلاح قد اختزنها ذهنه بالقراءة أو التفكير في حين يرى الوسط حوله وهو ينادي بل يصرخ بالحاجة إليها، فهو لا بد مناد أيضا بها، ولو اصطدم في ذلك بالعقبات التي تؤذيه في عيشه، وهذا الروح الشريف هو روح الاستشهاد في سبيل الحق والشرف والرقي الإنساني.
ومثل هذا الرجل المهذب لا يمكنه أن يمالئ الاستبداد؛ لأن ذهنه حافل بالجهود التي بذلت في سبيل الحرية، ولا يمكنه أن يتعصب لفكرة ما أو مذهب ما تعصب الاضطهاد والكراهة؛ لأنه يعرف قيمة التسامح في تاريخ البشر، ثم يكره الحرب؛ لأن تاريخ العالم قد أشعره بالأخوة البشرية، ثم هو إذا كان علميا في مزاجه التفكيري، متدينا في مزاجه العاطفي؛ فإنه يحب الرفاهية ويرجو الخير لمستقبل الإنسانية.
فما عندك من هذه الشروط الأربعة، وماذا أثمر فيك ما عندك منها؟ •••
ولكن يجب أن نلاحظ أن ولسون قد أهمل الفنون الجميلة، حتى لكأنه لا يبالي الأدب والموسيقا والشعر والرسم والنحت، وظننا أنه - حين عين الشروط الأربعة - إنما قصد إلى موقف الرجل المثقف من حيث فائدته للمجتمع، فهو يريد أن يربي ذهنه، ويصحح منطقه الاجتماعي، حتى يخدم المجتمع، أما الرقي النفسي والاستمتاع العاطفي فلم يبالهما، وهذا إهمال.
ثقافة بشرية
يعيش البشر في القرن العشرين وهم مرتبطون بروابط اقتصادية كثيرة الاشتباك؛ فالبيت العادي في القاهرة أو باريس أو نيويورك ونعني البيت المتمدن، يحوي من المحصولات والمصنوعات ما لا يمكن جمعه إلا من خمسين قطرا أو أكثر، وهذا الارتباط الاقتصادي قد جعل المواصلات تزداد في الوسائل، كما جعل هذه الموصلات تزداد في السرعة، والرجل المتمدن يحس لهذا السبب أن وطنيته كوكبية وليست قطرية، وهذا الإحساس يزداد حدة وقوة بتطور الثقافة الذي غرس في قلوبنا روحا بشريا جديدا يشعرنا بأننا أسرة واحدة، نملك هذا العالم نعيش عليه وليس لنا غيره، ولو أن هذا اليقين الجديد لا يمنعنا من أن نقرع جدران هذا الكون لعلنا نجد خلفه من الحقائق ما يزيد عقولنا فهما وحياتنا سعادة.
والجريدة اليومية، والمجلة الأسبوعية، والكتاب، بل كذلك السينماتوغراف والرديوفون، كل هذه تذكرنا بأننا مرتبطون بجميع البشر في أنحاء العالم، ونحن نقرأ الحوادث في بكين أو توكيو أو ريو دو جانيرو بنفس الاهتمام الذي نقرأ به الحوادث في الإسكندرية أو أسيوط، لا لأننا نحس فقط أن لهذه الحوادث «الأجنبية» صدى في وطننا، بل لأننا تعودنا النظرة العالمية، وربما كان للحرب الكبرى الماضية ولهذه الحرب القائمة أثر عظيم في إيجاد هذا المزاج العالمي في كل منا؛ فإن التطور الصناعي، ثم الحربي، قد جعل كل حرب أجنبية حربا أهلية عند جميع الأمم في هذا العالم، والمصري المثقف في عصرنا يناقش الديمقراطية والفاشية الاشتراكية والحرب والسلم والدين باهتمام كبير، حتى ولو لم يجد لهذه المبادئ أثرا عمليا في وطنه في الوقت الحاضر، فنحن نتطور في السياسة والاجتماع من النظرة القطرية إلى النظرة العالمية، وهذا التطور يجري على الرغم منا، وقد كان كارل ماركس يقول: «إن الحرب هي قاطرة التاريخ»؛ أي إن التاريخ يسرع خطواته فيها، وهاتان الحربان قد عملتا على نقلنا، أو على الأصح، نقل المثقفين والأذكياء منا، إلى الآفاق الرحبة في اهتمامنا، حتى صارت مشكلات القارات الخمس مشكلاتنا الوطنية.
وبكلمة أخرى نقول: إن ظروف العالم الاقتصادية والاجتماعية والحربية، وما اتفق لنا من وسائل سريعة للمواصلات، ثم هاتان الحربان وامتدادهما السرطاني إلى كل قطر تقريبا، كل هذا قد حملنا على أن نعتنق ثقافة عالمية، كما كان أسلافنا يعتنقون الأديان الجديدة، فنحن بقوة هذه الظروف وضغطها في «بشرية» جديدة، تحملنا على الإحساس بالإخاء والتضامن والرغبة في الخير والرقي.
والرجل المثقف في عصرنا ليس هو ذلك الذي يدعو إلى ثقافة عربية أو إنجليزية أو ألمانية، وإنما هو الذي يعتنق ثقافية عالمية، لا هي شرقية ولا غربية، وإنما هي ثقافة هذا الكوكب، وهي ثمرة المجهود البشري منذ ربع مليون سنة إلى الآن، يدرس تاريخ الصين ومصر وروسيا وغيرها لأنه تاريخه هو، وهو يدرس الجغرافيا في آسيا وأمريكا وغيرهما؛ لأن هذه القارات هي ملكه، والعالم هو قريته الكبرى التي يحق له ويجب عليه أن يعرفها ويطلب إصلاح دروبها وخططها، وهو يتحمس لحرية الهند والصين كما يتحمس لحرية وطنه، وهو يشتغل بالعلوم ويرقيها لأنها تحقق لنا الفتوحات الرائعة التي لم يفتح مثلها الإسكندر أو جنكيز خان؛ لأننا نطرق بها أبواب المستقبل ونتسلط بها على ما كان يسميه أسلافنا القدر.
والغاية من الثقافة البشرية هي الفهم أولا؛ وذلك بأن نتصل بالعقل العام ذلك العقل العالمي المتطور الذي يرود المجاهل ويخترع تلك المخترعات الاجتماعية والآلية التي تغير الدنيا، ثم بعد ذلك نسلك السلوك البشري الذي لا يرتبط نفسيا بوطن أو مذهب سوى وطن العالم ومذهب البشرية، أو بكلمة أخرى نقول: إن غاية الثقافة أن نجعل الإنسان إنسانيا، والآن قد يسأل القارئ: على الرغم من الظروف العالمية العصرية التي تجعل ثقافتنا بشرية كوكبية، ما هي الدراسة التي يجب أن تتبع كي نبلغ أحسن النتائج؟
وسيرى القارئ الإجابة على هذا السؤال مبسوطة في الفصول التالية، ولكن نقول هنا إن الشاب المصري يحتاج إلى أن يدرس: (1)
مشكلات العصر الحديث، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ لأنها خير الأبواب التي نفتحها لدراسات أخرى، والسبيل الأول لهذه الدراسات هو الجريدة. (2)
يجب أن يدرس علما معينا من العلوم العصرية كي يقف على كنه العوامل التي تغير الدنيا. (3)
وبعد ذلك عليه أن يدرس تاريخ هذا الكوكب بجميع أممه وأقطاره، منذ انفصلت الأرض عن الشمس إلى أن وقف هتلر يخطب ويحارب للدعوة النازية.
وهذا المجهود يبدو عظيما مرهقا، وهو كذلك في الوقت الحاضر، للروح الانفصالي العام بين المثقفين في التاريخ حين يكتبون تاريخ كل أمة على حدة، ولكن كتابا مثل كتاب ه. ج. ولز في التاريخ العام يدلنا على أنه من الممكن أن ندرس تاريخ كوكبنا بسهولة. (4)
ثم يجب أن يدرس الأديان، جميع الأديان التي تغيرت بها النفس البشرية منذ الأساطير الأولى، حين آمن بها الإنسان البدائي إلى المذاهب الفلسفية الجديدة التي تحاول أن تجعل المعرفة العلمية أساسا للإيمان بدلا من العقيدة الموروثة، والآداب والفلسفات القديمة تجري مجرى الأديان من حيث إنها تحاول الاهتداء إلى العيش الأمثل عن طريق التصور لا التجربة. (5)
وعلى الشاب المصري أن يدرس لغة أجنبية متمدنة كي يستعين بها على الاتصال العالمي؛ لأن لغتنا مع الأسف ناقصة، فالعلوم مثلا لا تزال خرساء في اللغة العربية، أو أكثرها كذلك، ولا يمكن شابا أن يحيط بعلم من العلوم العصرية إذا اقتصر على اللغة العربية، وخير اللغات الأجنبية هو الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، ولكن هاتين الأخيرتين شاقتان، تحتاجان إلى مجهود كبير لدراستهما؛ وعلى ذلك فإن إحدى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، تكفي للاتصال بشئون العالم والاتجاه البشري الذي يوسع آفاقنا ويكبر شخصياتنا ويكسبنا السلوك البشري.
لا نقرأ بل ندرس
لما كنت في المغرب الأقصى وجدت هناك كلمة «طالب» يستعملها الجمهور لمن نسميه في مصر «عالم»، وعندي أن هذه الكلمة أصح في المعنى والدلالة من كلمتنا؛ لأنها تحمل معنى الدرس والتطور والرقي، وإن أحدنا مهما بلغ من الثقافة لا يزال طالبا يدرس ويتعلم ولا يعتقد في نفسه الكمال أو التمام، والإنجليز يؤثرون هذا المعنى حين يصفون الرجل المثقف بكلمة «سكولار» التي تعني الطلب والجهد.
وما أحرانا بأن نستعمل هذه الكلمة؛ فإن كل إنسان يجب أن يكون طالبا طول حياته، وأن يموت كما مات الجاحظ «وعلى صدره كتاب».
والطالب لا يستهتر، ولا يقرأ جزافا، وكما أننا نحتقر الاستهتار في السلوك، ونطالب كل رجل بأن يلتزم الجد ويقصد إلى غايات شريفة في معيشته، كذلك يجب أن نطالب القارئ بأن يقرأ جادا وأن يعين لدراسته قصدا، وهو حين يتجه هذا الاتجاه يجد أنه في غنى عن قراءة القصص السخيفة، وعن قراءة هذه الغوغاء من مجلات القيل والقال التي تستهلك الوقت والمال، وتحارب الذكاء، وتحرض على البلادة.
والفرق بين القراءة والدراسة هو أن الأولى يقصد منها عند جمهور القارئين اللهو وقضاء الوقت أو قتله، أما الدراسة فتحتاج إلى مجهود بغية الانتفاع، ولكن الحقيقة أن الدراسة عادة واتجاه، إذا نحن تدربنا عليها وتعبنا في البداية لا تلبث أن تثبت؛ وعندئذ تصير أيضا استمتاعا عاليا يعوق ما نسميه اللهو بالقراءة الجزافية، وأنواع الاستمتاع في مجتمعنا كثيرة، منها ما ينحط إلى الترهل وأكل اللب والقعود على القهوة لتأمل العابرين، ومنها ما يرتفع إلى الألعاب الرياضية أو رؤية الدراما أو التنزه في الريف؛ فالنوع الأول من الاستمتاع لهو سخيف، يشبه القراءة الجزافية، ليس له غاية، والمستمتع لا يحس أنه يرقى بلهوه، أما النوع الثاني فيشعر بالغاية والانتفاع بالصحة أو الرفاهية الذهنية.
وكذلك الحال في القراءة والدراسة؛ فالأولى لهو بلا غرض ، والثانية استمتاع له هدف الرقي، والانتقال سهل بالتدريب؛ لأن الدراسة تعود بعد ذلك مزاجا لا يحتاج إلى جهد، فالجريدة التي نفطر بها في الصباح تقرأ عندئذ مع القلم الأحمر والمقص، إلى جنب الخريطة أو المعجم السياسي، والكتاب تعلق عليه الانتقادات والشروح، بل تؤخذ منه التلخيصات.
ونحن حين نقرأ بالقلم نشارك المؤلف في كتابه؛ لأننا نناقشه في غضون القراءة، وربما نصل إلى تفاريع ذهنية لم يصل هو نفسه إليها، وقراءتنا عندئذ إيجابية عاملة وليست سلبية عاطلة، فنحن لا نلتقي ونتطبع بل نفكر ونطبع الكتاب، ويجب على القارئ ألا يستسلم للوهم بأن الشعر والأدب لا يدرسان بل يقرآن فقط؛ فإن العكس هو الصحيح، ولسنا هنا ننكر أننا حين نقرأ قصة عالمية لمثل تولستوي أو دستؤفسكي لا نستطيع أن نمسك بالقلم ونتابع المؤلف من صفحة إلى أخرى بالتعليق، ولكن عجزنا هنا عن التعليق ليس برهانا على أن الأدب العالي ليس في حاجة إلى التعليق، وأنه استمتاع مصفى كالإصغاء للموسيقا؛ لأن الواقع أن الموسيقي العبقري يستطيع أن يعلق على أي لحن من الألحان الساحرة بما يملأ عشرات الصفحات، وكذلك الشأن في التعليق على الأدب؛ فإننا يجب أن نقرأ قصة من تولستوي ونستسلم للسحر الفني كما لو كنا نصغي إلى لحن مقدس في صمت وسكون، ولكن بعد قراءة الكتاب يجب أن نحلل ونؤلف في القصة، ونبحث كيف رفعنا الكاتب إلى السماء في هذه الصفحات، وكيف جعلنا نحس دينا جديدا في هذه الصفحات الأخرى، وبكلمة أخرى يجب أن ندرس القصص العالية كما ندرس أي كتاب ديني؛ لأنها هي أيضا من الدين، وكل دين يحتاج إلى نقد وشرح، وإذا تعودنا الدرس وصار مزاجا عندنا فإننا نتوخى من الجريدة والكتاب التنبيه بدلا من التخدير، بل عندئذ لا نطيق أن نقرأ صفحة من مجلات القيل والقال أو القصص السخيفة؛ إذ ليس فيها ما يدرس، ثم تغدو دراستنا نظامية لها برنامج وفيها اتجاه أو اتجاهات، لغاية نتدرج فيها ونرقى بها.
ويجب على من ينشد الثقافة ألا يترك كتابا قد قرأه إلا وله عليه حكم؛ وذلك بأن يقتني كراسة لتلخيص كل ما يقرأ، حتى إذا انتهى من تلخيص كتاب حكم عليه وأثبت الوجوه التي انتفع بها منه، وهل كان يساوي الوقت والمال اللذين أنفقهما فيه أم كانت قراءته ضررا أكيدا، وليس في الدنيا كتاب يعلو على هذا الامتحان، فنحن نقرأ وندرس كي ننتفع ونرتفع، وكي تتسع آفاقنا الذهنية، وتتربى نفوسنا وتستنير رؤيانا ونستمتع بالدنيا، فإذا لم يكن شيء من هذا، فإننا يجب أن نأسف على قراءتنا، وأن ننصح لغيرنا بألا يقع في الخطأ الذي ارتكبناه بقراءة كتاب سخيف.
ولو أن المؤلفين عرفوا أن القراء سوف يمتحنونهم بهذا الامتحان الدقيق، لما استهتروا في التأليف، وكذلك لو عرف المحررون للجريدة والمجلة أن القراء يطلبون أن ينتفعوا أو يرتقوا بقراءة ما يكتسبون لعمدوا هم أنفسهم إلى الدرس، وحاولوا ألا يكتبوا سوى ما ينفع ويرفع.
فلتكن الدراسة - بدلا من القراءة - عادتنا ومزاجنا، إذا شئنا أن نثقف عقولنا ونربي أنفسنا، ولتكن دراسة هادفة، نعين هدفها ونقيس المسافة التي بيننا وبينها ونرتب رحلتنا حتى نصل إليها.
تخريج الرجل العربي العصري
وجهت إلى مجلة الآداب البيروتية سؤالا عن الكتب التي تأثرت بها في حياتي، وكانت لها قوة التوجيه، وماذا أختار منها كي يترجم إلى لغتنا العربية؟
وهذا السؤال وأشباهه برهان على القلق الذي يكاد يبلغ السخط بشأن حالتنا الثقافية، ولكنهما قلق وسخط يدلان على الصحة والرغبة والقوة.
وكما ترغب الأمة في القوة العسكرية، وفي الأخلاق الإيجابية، وفي صحة الأجسام، وفي زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي، كذلك هي ترغب في القوة الثقافية التي تدرب بها ذكاء أبنائها وتوجههم بها نحو المستقبل.
وقد أرسلت إجابتي إلى مجلة الآداب، ولكني عدت بالتأمل، ثم التفكير، في الثقافة الشائعة في مصر والأمم العربية من حيث قدرتها على تخريج الرجل العصري الذي يستطيع المواجهة للمشكلات القائمة ويحيا الحياة السوية، بل الحياة العبقرية، إن استطاع. •••
وكما يختلف الجندي العصري عن الجندي القديم، من حيث سلاحه وعتاده ومرانته، كذلك يختلف رجل الثقافة العصرية عن رجل الثقافة القديمة من حيث دراستها ووجهته وهدفه، والجندي القديم، والجندي العصري، سواء في الشجاعة، ولكن الفرق العظيم بينهما هو تغير الظروف في حوافز القتال من ناحية وفي أدوات القتال من ناحية أخرى.
وكذلك الشأن بين رجل الثقافة العصرية ورجل الثقافة القديمة، فهما سوء في الذكاء والفهم، ولكن حوافز الثقافة في عصرنا تختلف أكبر الاختلاف من حوافز الثقافة قبل ألف أو ألفي سنة، فإن قدماءنا كانوا ينبعثون - في الأغلب - للدفاع عن العقائد والنظم الإقطاعية، وكان إحساسهم طبقيا؛ إذ كانوا يعيشون لخدمة الأمراء والملوك والزعماء، فكان أدبهم لا يخرج عن المعاني التي تلابس هؤلاء الحاكمين أو تخدمهم أما الشعب فلم يكن مذكورا.
وأكثر من هذا خطرا أن مجتمعهم، أي مجتمع هذه الطبقة الحاكمة، كان مجتمع الرجال فقط، ثم كان الرجل المثقف لا يكاد يحس أن هناك شعبا مؤلفا من الفلاحين والصناع، بل حتى التجار لم يكونوا مذكورين إلا في الأقل النادر، أما المرأة فلا تكاد تذكر في الأدب العربي إلا فلتة أو سهوا.
ومن هنا غرابة الأدب العربي القديم، بل الثقافة العربية القديمة جميعها للمثقف العصري؛ فإنها غريبة عن أذواقنا، أجنبية الأسلوب والهدف أمام أرواحنا.
وقبل أكثر من عشرة سنوات احتفل بعض أدبائنا من غير المفكرين بمرور ألف سنة على المتنبي، ولم أشترك في هذا الاحتفال لأني أحسست أن المتنبي لا يختلف عن شوقي، من حيث أن كليهما قد أرصد حياته لإطراء أميره، بل لعله أفسده بذلك، فكان المتنبي يكذب على سيف الدولة ويرفعه إلى السماء. أما الشعب، الناس، العامة، الكادحون، الذين كانوا يستحمون في عرقهم، فهؤلاء كانوا مجهولين لديهما.
واعتقادي أن الذين احتفلوا بالمتبني إنما انبعثوا إلى هذا الاحتفال بالإحساسات السقيمة التي أحسوها وهم يعيشون في ظل فؤاد وفاروق، ولو أن ميعاد هذا الاحتفال كان قد وقع بعد الثورة، بعد 23 يولية من 1952، لما أحس أحد أية كرامة أو شهامة في مدح المتنبي أو الاحتفال بذكره. •••
من هو الرجل العصري؟
هو رجل جديد، لا يرجع تاريخه إلى أكثر من خمس مئة سنة حين شرع الأوروبيون يعتمدون على المعارف العلمية بدلا من العقائد الموروثة.
أما كيف تسللت المعرفة والتجربة، فأخذتا مكان العقيدة والتسليم، فموضوع كثير التفاصيل، وسوف يعرفه القراء العرب حين تشرع الشعوب العربية في الأخذ بأسباب القوة العلمية.
وحسبي أن أذكر أن أمامي الآن، وأنا أكتب هذه الكلمات، صورة عجيبة رسمها رجل فرنسي يدعي «بيلون» في كتابه الذي ألفه في 1555، أي قبل 400 سنة، بعنوان «التاريخ الطبيعي للطيور».
والصورة هي رسمان متقابلان لكل من الهيكل العظمي للإنسان وللطائر، وهو يشير إلى العظام المتقابلة عظمة فعظمة.
لقد عرف الأوروبيون هذا الرسم منذ 400 سنة، ولم نعرفه نحن إلى الآن، وهو محاولة واحدة من آلاف المحاولات لوضع المعرفة مكان العقيدة، ولتخريج الرجل العصري العلمي.
وإذن الرجل العصري - كما أفهمه - هو الذي يعرف ويجرب ولا يعتقد ويسلم، هو الرجل الناضج الذي يزن نفسه، والدنيا، والكون، بالأوزان والقيم التي تمليها عليه العلوم.
هذه هي السمة الأولى للرجل العصري؛ إذ هو العارف المجرب، الذي يدأب في زيادة معارفه وتجاربه.
والحضارة العصرية هي حضارة الصناعة، أي حضارة العلم الذي يعتمد على المعارف المحققة المجربة.
أما السمة الثانية للرجل العصري فهي أنه ليس قرويا؛ لأنه قد تعود قراءة الصحف كما تعود غسل وجهه في الصباح، وقد غيرته هذه الصحف؛ لأنها جعلته عالمي النزعة ديمقراطي التفكير، فهو لا يعيش بعقله أو نفسه في القرية؛ إذ هو يصطدم كل صباح بما يجعله يحس أنه مع الهنود، يسمع كلمات الرجولة من نهرو، أو كلمات القداسة من غاندي، وهو يرتعش خوفا من الممكنات التدميرية في القنبلة الذرية ويتلهف لذلك على وسائل السلم، وهو يحس أنه يدين بدين الحب مثل ابن عربي، حين يقرأ عن أولئك الذين يبصقون على وجوه الزنوج في أفريقيا الجنوبية، ولكنه أيضا متقائل بالمستقبل لأنه إنساني، ولا يطيق أن يسلم بأن الشر سيتغلب على الخير، وهو لذلك أيضا اشتراكي النزعة في السياسة.
والسمة الثالثة في الرجل العصري أنه متطور، وهو يكاد يعتقد - ضد مزاجه العلمي - أن التطور ارتقاء.
وهذا شيء جديد في العالم نختلف فيه عن القدماء؛ إذ إننا نسأل في عصرنا عن أحد الناس: هل هو متطور؟ هل هو ارتقائي الذهن، يوقن بأنه ليس على الأرض، بل ليس في هذا الكون مادة أو نبات أو حيوان إلا وهي تتطور كل يوم بل كل لحظة؟
هذا الإيمان بالتطور هو الإيمان بالارتقاء وبالتفاؤل، وبأن الدنيا سوف تكون بعد عشر سنوات، أو مئة سنة، قريتنا الكبرى، حين نؤمن بأننا جميعا إخوة متضامنون، ليس فينا من يسأل قابيل: هل أنا حارس لأخي؟
والسمة الرابعة للرجل العصري أنه على الرغم من حبسه للطبيعة وإحساسه بأن كنوزها من نبات وحيوان يجب أن تصان، هذا الرجل العصري يعيش في وسط صناعي يستخدم فيه الحديد والنار وسائر القوة المادية للإنتاج الوفير الذي يلغي الفقير ويعمم الرفاهية.
هذه هي السمات الأربع للرجل العصري، وهي تميزه من غيره كما يتميز أي إنسان من غيره بأنف كبير أو عينين سوداوين أو قامة عالية أو ذكاء أو شجاعة. •••
فهل المكتبة العربية - بما أصدرت من مؤلفات في النصف الأول من هذا القرن - قد استطاعت تخريج الرجل العصري؟
الجواب هو قطعا «لا».
والتبعة تقع على أولئك الغافلين الذين يذكرون المتنبي ولا يذكرون داروين، ويؤلفون عن معاوية أو الرشيد وينسون العبرة في حياة بيكون الأول أو بيكون الثاني.
ويجهلون أن الأدب حياة وكفاح، وأسلوب للعيش، وتطور وثورة، ويجهلون إلى جانب هذا طبيعة الحضارة العصرية، حضارة العلم والصناعة؛ ولذلك لا يكادون يلتفتون إلى المشكلات البشرية والاجتماعية، وكثيرا ما أقع مع هؤلاء في نقاش فيفحمني جهلهم؛ لأني أجد أنهم يتحدثون عن المرأة مثلا كما يتحدث طفل عن حصانه الخشبي، كأنها لعبته الخاصة التي يعين لها الأكل والشرب والنوم والحياة والسلوك، وليست إنسانا لها حق تقرير المصير لنفسها.
ولكن التبعة تقع أكثر على الاستعمار والاستبداد اللذين تحالفا على أن يمنعا نهوض الصناعة، ولو أن المصانع كانت قد تفشت في بلادنا لتغيرت جميع مشكلاتنا، وكان يكون تغيرها إلى أعلى، فكان الأدب ينحاز إلى الشعب، وينطق بلهجته في بلاغة شعبية ، وكانت المرأة تجد الكرامة الاقتصادية التي تلقي الرعب في قلوب أولئك الذين يريدونها أنثى فقط، وكان الزعماء يحسون الديمقراطية ولا يتصنعونها، وكان العامل يحس كرامة الإنتاج، فلا يجرؤ سياسي على أن يشتري صوته أو يضربه للحصول عليه.
لا، لسنا نحن العرب شعوبا عصرية. لا، إن المستعمرين والمستبدين منعونا من حضارة الصناعة، ومنعونا بالتالي من ثقافة العلم التي تعتمد على المعارف والتجارب، ثم انساق مع المستعمرين والمستبدين «أدباء» قرويون في مزاجهم، فلاحون في عقائدهم، يؤلفون القصائد في مدح الملك فؤاد أو فاروق، أو يكتبون لنا عن الرشيد أو المأمون، بل إن واحدا من هؤلاء المؤلفين ارتضى لقلمه الدفاع عن تعطيل الدستور ثلاث سنوات تقبل التجديد إلى مئة سنة، ثم بعد ذلك صار يخرج لنا الكتاب تلو الآخر عن رجال الحق والعدل الذين عاشوا قبل 1300 سنة مثل معاوية وعثمان وأبي بكر، وكأنه نفى عن نفسه وجدان عصره، وفصل بينه وبينه بأكثر من ألف سنة.
إن هؤلاء الجهلة يفحمونني بجهلهم لأنهم يعيشون قابعين من حيث الحياة الفكرية في زقاق بال مظلم رطب، وهم لم يجرءوا قط على أن يرافقوا كولمبوس إلى مجاهل الموت والحياة، ولم يتذوقوا تلك المعارف الخطرة التي تجعل الفكر يتقزز ويتأمل ويقتحم، ولم يحسوا طربا عندما سمعوا عن سمكة السيلا كانت أو إنسان النيندرتال، ولم يأرقوا ليلة لعجزهم عن التوفيق بين تنازع البقاء وبين ما يستلهمون من الرحمة والشرف في الطبيعة.
وأنا ذاكر لك أيها القارئ هنا مشكلة قد شغلت رأسي منذ عشرات السنين، ثم زاد اشتغالي بها في السنوات الثلاث الأخيرة، وأنا واثق أنك لم تسمع بها إلا مني، إذا كنت قد تعودت قراءة مؤلفاتي أو لم تسمع بها بتاتا، وهذه المشكلة هي:
هل النبات والحيوان والإنسان مقيدون بالوراثة لا يخرجون عن الممكنات التي تولد معهم في جهازهم التناسلي، أم هم أحرار يتميزون بقوة ما يتعلمون، ويتأثرون بالوسط الطبيعي والاجتماعي واللغوي والحرفي؟
هو خلاف فلسفي لم تسمع عنه؛ لأن الثقافة العامة في مصر قروية قد حبست نفسها في سياج من التقاليد؛ ولذلك لا تنفسح إلى الآفاق العصرية ولا تشتبك في المشكلات الإنسانية.
فهناك رأي يقول: الحي لا يتغير بالوسط إذ هو مقيد بالوراثة.
وأذكر عندما تتأمل هذه المشكلة أو تقرأ تفاصيلها أثر كل منها في معاملة البيض للسود، وفي معاني الارتقاء البشري، وفي معاني التربية وأساليبها، وفي مستقبل الإنسان، ومرامي كل ذلك في السياسة والاجتماع واختراع السلالات الجديدة من الحيوان والنبات.
مشكلة عصرية للرجل العصري، لم نسمع بها لأننا غير عصريين، ولأن المكتبة العربية لم تهيئنا لدرسها وفهمها. •••
نحن في قروية أدبية وثقافية عجيبة حتى بتنا كأننا منفصلون عن العالم.
وجائزة نوبل تهدى إلى العشرات من أبناء الأمم في آسيا وأوروبا ولكنها لا تهدى إلى مصري أو عربي واحد.
إنها تهدى عن الأدب والكيمياء والطبيعيات والميكانيكات والجغرافيا والتاريخ وحركة السلم، ولكنها لم تصب عربيا في هذه السبعين أو الثمانين من ملايين البشر الذين يعيشون في مصر وغير مصر؛ لأن الثقافة العامة والأدب السائد فيها، كلاهما يعيش صغيرا، كأنه حديث القرية في غير هدف بشري أو نزعة عالمية، كما أنه يستلهم الأدب الشرقي القديم كي يعالج به الوسط العصري الجديد؛ وهو لذلك متناقض لا يستطيع التفوق، وهنا بالطبع لا أنسى الاستعمار والاستبداد وإصرارهما على منعنا من الصناعة.
وأقول - مرورا - إن المصانع هي التي أوجدت العلوم، وهي التي تحفز على الاختراع والاكتشاف، وليس العكس.
وكذلك أقول إن الحرية والديمقراطية والشخصية واستقلال المرأة هي جميعها نتيجة المصانع، ولا يمكن وسطا زراعيا أن ينتج هذه النتائج.
ولكن استيعاب هذا البحث يخرج عن موضوعي هنا. •••
والآن، وبعد أن انتهينا من أن المكتبة المصرية أو العربية لا يمكنها أن تخرج الرجل العصري، علينا أن نتقدم بالمقترحات.
وأول ذلك أن تتغير - أو بالأحرى تتطور - حياتنا من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي.
إن مصر تحتاج إلى ألف مصنع كل منها يحوي الآلاف من العمال.
ولكن إلى أن نصل إلى هذه الحال، وإلى أن نتغلب على الاستعمار وعلى التاريخ وعلى التقاليد وعلى العادات، نحتاج إلى الاعتماد على الوسائل الثقافية التي تحرك الأذهان إلى الأخذ بالروح المصري.
وعندي أن أسرع الوسائل إلى ذلك أن نترجم الموسوعة البريطانية (وهي 29 أو 30 مجلدا). واعتقادي أن نقلها إلى اللغة العربية جدير بأن يحدث نهضة تشبه الثورة، وتزودنا بهموم واهتمامات جديدة ترفع بلادنا، وتملأ قلوب شبابنا بالطموح والشهامة، كما تذكي عقولنا في معاني الحضارة والقوة، وتحرك عواطفنا نحو الرقي.
وترجمة هذه الموسوعة هي خير ألف مرة من إنشاء هذه المجاميع التي يقال إنها لغوية أو علمية، والتي تنفق عليها الدول العربية مئات الألوف من الجنيهات.
ترجموا لنا هذه الموسوعة، فهي السلاح والعتاد للثقافة العصرية، وهي التي يمكن أن تخرج الرجل العصري؛ لأن المعارف الجديدة التي تحويها عن تسلط الإنسان على المادة، وشروحها المسهبة لوسائل الإنتاج، وفكرة التطور التي تلهم صفحاتها، وآماد التاريخ البشري التي تبسطها قبل أن يكون الإنسان إنسانا إلى أن عرف كيف يخلق المادة، وحلقات الاكتشاف والاختراع التي تتبعها، من الفأس إلى الطائرة فالذرة، كل هذا جدير بأن يحفز القارئ العربي إلى الاجتراء على المستقبل والدخول فيه، وهو ما لم يفعله إلى الآن؛ إذ هو لا يزال قابعا في الماضي، لا يأكل الجديد ويمثله، ولكنه يجتر القديم ويقيئه.
الكتب التي غيرت الأفكار والمجتمعات
الكتب العصرية العظيمة هي الكتب التي تغير الناس لأنهم تكسبهم قيما جديدة في الأخلاق أو الاجتماع أو العلم أو الأدب أو الثقافة عامة.
والكتاب الذي لا يغيرنا لا يربينا؛ لأننا ننتهي من قراءته ونحن على حالنا التي بدأناها به.
وإنما نتغير بالكتاب لأنه جاء لنا بجديد، فأقنعنا بصلاح المذهب أو المبدأ الذي يدعونا إليه، وأوضح لنا السيئ في عادتنا ووجهات نظرنا؛ ولذلك نحن نجد في الكتاب الذي يغيرنا اتجاها جديدا في نفوسنا وبرنامجا جديدا لحياتنا.
لقد قيل عن داروين إنه غير وجه الثقافة البشرية حين وضع الحقائق مكان العقائد، وبسط للإنسان آفاقا للتفكير لم تكن معروفة من قبل، وكتابه «أصل الأنواع» الذي نشره في 1856 يعد من أعظم الكتب التي غيرت التفكير، وسوف يحتفل العالم بعد أقل من ثلاث سنوات (في 1959) بمرور مئة سنة على هذا الكتاب الذي عين لنا منهجا جديدا في البحث العلمي عن أصل الإنسان، وعمم فكرة التطور التي تسللت إلى عقول المفكرين، حتى من المحافظين، وأحدث في نفوسنا إنسانية وإحساسا جديدين نحو وحدة الأحياء.
ولا أكاد أعرف كتابا آخر في العالم غير الدنيا، وأعني دنيا المثقفين مثل هذا الكتاب الذي لا تزال حقائقه تجري في أوساطنا وتغيرنا وتوجهنا، وقد أصبح «التطور» بفضل هذا الكتاب مزاجا ذهنيا عاما بين المثقفين، يفكرون على منهجه ويهتمون بأهدافه في الارتقاء البشري وتغيير النباتات والحيوانات، بل تغيير الطبيعة نفسها.
الشعب الذي لا يتطور، أي الشعب الذي يجهل داروين، يمكن أن نسلكه في عداد الألوف من الأحياء المنقرضة التي لا نعرف عنها سوى نقوشها على الأحجار في الطبقات الجيولوجية، فإنه سائر إلى غايتها وعلى طريقها؛ إذ هي انقرضت لأنها جمدت ولم تتطور.
كتاب «أصل الأنواع» يجب أن تعد ترجمته واجبا مقدسا على كل دولة تحترم عقول أبنائها وتحب أن تحيطهم بسياج من التعقل في سلوكهم وأهدافهم، هو كتاب الكتب وأصل الأصول في التفكير العصري، وأيما شعب يجهله هو شعب غير عصري، هو شعب جامد قديم.
وهناك كتاب آخر غير الدنيا في النظام الاجتماعي للإنسان أكثر مما غيرها في نظام التفكير، هذا الكتاب هو «كوخ العم توم» الذي ألفته امرأة عظيمة هي السيدة الأمريكية هارييت ستو، ولم يكن كتابها هذا ممتازا من الناحية الفنية؛ إذ كان ساذجا، يكاد يكون مبتذل اللغة والتعبير، ولكن هذه الصفات أشاعته بين الجماهير التي تشربته كما لو كان رحيقا، بل كما لو كان سما هاجها، وحملها على العزم الصادق في إلغاء الرق، وألغته.
كان الإنسان - قبل أن يؤلف هذا الكتاب في 1852 - يباع بالقرش والمليم، كما تباع الخراف والكلاب والطماطم والذرة والقمح، وكانت له أسعار، وتجار يعرفون الميزات التي تختص بها العبيد وترفع أثمانهم، كما يعرفون نقائصهم التي تبخس أثمانهم، وكان العبيد يغتصبون، ويخطفون وهو أطفال من آبائهم في أفريقيا ويرحلون إلى أمريكا حيث يباعون للعمل في الحقول والمنازل والمصانع بلا أجر .
ووصفت هارييت ستو أسرة من العبيد في أمريكا، مزقت فيها ستائر النفاق، وفضحت فيها ألوان العذاب التي يعانيها الزنوج العبيد، واستيقظ ضمير الشعب الأمريكي، وهاجت النفوس، وغضبت القلوب، فكانت الحرب الأهلية التي قادها إبراهام لنكولن العظيم إلى الانتصار في 1860، والتي قررت إلغاء الرق ليس في الولايات المتحدة وحدها بل في العالم كله، وذهبت عن الإنسان وصمة، بل لطخة، بل عار، لزمه آلاف السنين الماضية.
وتغير المجتمع البشري بتأليف هذا الكتاب العظيم.
وكتاب ثالث قد غير كثيرا من المجتمعات هو كتاب كارل ماركس «رأس المال»؛ فإنه علمنا كيف ندرس التاريخ الماضي والحاضر، وكيف نفهم التطور الاقتصادي للشعوب، وأصل الاستعمار، وما منشأ الأحلاف، وما هي أسباب الثراء الفاحش والفقر الفاحش، في العالم الآن ألف مليون إنسان، قد انتقل مجتمعهم من المباراة الاقتصادية بكل شرورها إلى التعاون الاقتصادي بكل ما فيه من خير وإنسانية، ويرجع ذلك التغير لهذا الكتاب، أو لمجموعة مؤلفات ماركس.
ونستطيع أن نذكر عشرات الكتب التي غيرت المزاج الذهني للمفكرين، أو النظام الاجتماعي للشعوب، وإن لم تبلغ في القوة والتأثير مستوى هذين الكتابين؛ فإن مؤلفات فولتير ألغت التعصب الديني في أوروبا، ومؤلفات روسو جعلتنا نحس إحساسا دينيا نحو الطبيعة، ومؤلفات جوركي علمتنا كيف نؤمن بعظمة الإنسان، ومؤلفات برنارد شو جعلتنا ننضج، ونعالج مشكلاتنا بروح الرجولة والجد.
هؤلاء خمسة، وأستطيع أن أزيدهم إلى مئة.
فأين نصيب مصر من هؤلاء المؤلفين الذين غيروا وحركوا التطور والارتقاء في الناس والمجتمعات؟
أستطيع أن أذكر كتابا صغيرا غير المجتمع المصري، هو كتاب قاسم أمين «المرأة الجديدة»، وصحيح أن هناك عوامل كثيرة أخرى عملت لتحرير المرأة، ولكن هذا الكتاب الذي انفجر بيننا كما لو كان قنبلة قبل ستين سنة، كان بمثابة الراية التي انضوى إليها الأحرار والشعار الذي تعارفوا به وارتقت نفوسهم بكلماته ومعانيه.
وكل منا يعرف ما كانت عليه أمه من الحجاب، وما عليه ابنته أو زوجته من السفور، وكل منا يعرف مكانه وحزبه بين هاتين المرتبتين من التطور الاجتماعي، والفضل في كثير من ذلك يعزى إلى قاسم أمين.
إن قاسم أمين قد أدى لمصر من الخدمة الاجتماعية والارتقاء البشري مثلما أدت هارييت ستو للولايات المتحدة بإلغاء الرق بين الزنوج.
ولكن هناك - إلى جانب قاسم أمين - كتابا غيرونا بكفاحهم الصحفي أو التأليفي، وإن لم يحدثوا مثل هذا الانفجار الذي أحدثه قاسم أمين.
فإن مصطفي كامل استطاع أن يحيي - عن طريق الصحافة - شعبنا الذي أذهلته الهزيمة أمام الإنجليز في 1882، وغيره، وملأه أملا بعد اليأس، ونصب له هدف الاستقلال الذي لم ننحرف عنه إلى أن تحقق لنا.
واستطاع لطفي السيد - عن طريق الصحافة أيضا - أن يغرس في نفوسنا المبادئ العملية للوطنية المصرية، وأن يرفعنا من مستوى العواطف إلى مستوى العقل في معالجة شئوننا، وقد غضبنا منه في الأول عندما صدم عواطفنا، ثم هدأنا وسكنا إلى العقل الذي دعانا إليه، وتغير شعبنا بذلك.
ثم هناك طائفة من الكتاب أحدثت في مجتمعنا المصري أكبر التغير بمؤلفاتها، ومعظمها إن لم تكن كلها قصص، من حيث الدعوة إلى الحب كوسيلة للاستمتاع بين الشباب وتهيئة للزواج، وقد كانت الدنيا قبلهم تستمتع بالحب إلا مصر، وكانت كلمة الحب تعد عارا وشنارا إذا ذكرت أيام الخطبة بين الخطيبين، أما الآن فهي كلمة مقدسة، بل هي عند المرتقين من الآباء والأزواج شرط لازم يجب أن يسبق الزواج، وصار الحب حقا للشاب كما هو حق للفتاة.
والفضل في هذا لكتاب القصة الذين جعلوا كلمة الحب من الكلمات المقدسة في أدبنا ومجتمعنا، وكانت قبل ذلك من النجاسات والمحرمات، وتغير مجتمعنا بهذه الكلمة وأصبح مجتمعا إنسانيا.
إن عندنا كتابا يلتزمون التقاليد، ويحاولون أن يكتبوا كما كان يكتب الجاحظ، يقرءون الكتب ويؤلفون عنها كتبا أخرى، كتبا من كتب، وهؤلاء لم يغيروا مجتمعنا لأنهم لم يمسوه، بل لم يهتموا به، فمشكلات مجتمعنا لم تمس قط قلوبهم، وإنما الذي مسه هو أسلوب الجاحظ، ومشكلة الخوارج، وابتداعات المعتزلة، وأشعار أبي نواس، ولكن قاسم أمين إنما غيرنا لأنه لم يكن يؤلف الكتب عن الكتب، بل كان ينظر إلى المجتمع المصري ويقارن بينه وبين مجتمعات أوروبا، وكان يتنهد ويغضب، ثم ألف بعد ذلك، فانفجر كتابه بل كتاباه بيننا، وأحسسنا من قراءتهما أن ها هنا رجلا يحبنا ويغضب ويوبخنا ويطلب منا أن نتغير.
أجل، وعرفنا أمانته، فتغيرنا وتطورنا.
ومع كل ما ذكرت عن تأثير الكتب التي تغير الأفكار والمجتمعات، يجب ألا ننسى أن هذا التغير يحتاج قبل كل شيء إلى مهيئات اجتماعية اقتصادية، وأن الدعوة بالكتاب تذهب صيحة في الصحراء ما لم توجد هذه المهيئات.
ففي مصر مثلا كان أعظم ما حرر المرأة هو استخدامها في الحرف والمصانع والمتاجر، واختلاطها بالأجانب ونهضة 1919 السياسية الاقتصادية التعليمية.
وكذلك إلغاء الرق في الولايات المتحدة يعود إلى حد كبير إلى المباراة بين أصحاب رءوس الأموال في الشمال وبين زملائهم في الجنوب؛ فإن الأولين كانوا يستخدمون العمال، ويتكلفون دفع أجورهم، بينما الآخرون في الجنوب كانوا يمتازون عليهم باستخدام العبيد بلا أجر، وانتهت المباراة بينهما إلى حرب التحرير.
ولكن الكتاب يكسب حركة الإصلاح كلمات هي شارات، ويعطيها إيحاءات، فيحدث التجاوب بين المهيئات الاقتصادية الاجتماعية وبين الكتاب الأحرار ومؤلفاتهم التحريرية.
ينقصنا 10 كتب
أعتقد أننا في حاجة إلى نحو عشرة كتب نؤلفها أو نترجمها بحيث نهدف منها إلى فهم جديد وتوجيه جديد؛ لأن كتبنا ليست كافية الكفاية التامة لتخرج الرجل العصري.
وأنا أوثر التأليف على الترجمة، وأعتقد أن في مصر وسائر الأقطار العربية من يستطيعون أن يقوموا بالتأليف في الموضوعات التي سأذكرها، ومرجع إيثاري للتأليف أن المؤلف الأوروبي يفرض - حين يؤلف - جمهورا أوروبيا يقرأه؛ ولذلك هو يثبت ويحذف ما ربما نحتاج نحن لجمهورنا العربي ألا نثبته أو نحذفه.
ومع ذلك ليس هناك غنى عن الترجمة في بعض الموضوعات.
وأبدأ بحاجتنا إلى كتاب عن التطور نؤلفه ونعتمد في أمثلته على تاريخ الأمم القديمة في الشرق العربي، كيف نشأت الحضارة القديمة في أقطاره وكيف ارتقت نظمه وقوانينه، وما هي الأسباب لتدهوره في القرون الخمسة الأخيرة؟ ولكن يجب أن نضيف إلى تاريخ هذا التطور الاجتماعي شيئا من التطور الطبيعي، أي تاريخ مصر قبل الحضارة، ووصف الأحياء التي نشأت في الفيوم وانقرضت، وهذا بالطبع إلى تاريخ مجمل لتطور العالم.
وأنا أهدف من العناية بمثل هذا الكتاب إلى أن نجعل من التطور مزاجا في الشعب، بحيث يبقى على الدوام متجها نحو المستقبل راغبا في الارتقاء، لا يعارض التغيير ولا يجمد، وقد ألفت أنا كتابا موجزا عن هذا الموضوع ولكني أنشد كتابا أكثر إسهابا.
أما الكتاب الثاني فهو «التاريخ البشري» للدكتور إليوت سميث الذي كان في وقت ما أستاذ التشريح في كلية الطب بقصر العيني، فإن لهذا المؤلف نظرية، إن لم تكن صحيحة فإنها منيرة، وهي تدرس وتناقش في جميع العواصم الثقافية الآن.
وخلاصة هذه النظرية أن الذي أخرج الإنسان من العصر الحجري وحياة الغابة والتقاط الجذور الوحشية، هو مصر التي اخترعت الزراعة، وأن الزراعة هي العقدة أو المركب الذي تفرعت منه العلوم والأديان والأخلاق والقوانين والفنون القديمة.
وثق أيها القارئ أن الوطنية المصرية لا تدفعني إلى النصح بترجمة هذا الكتاب؛ إذ إن مما لا شك فيه أن فيه علما كثيرا وعقلا كبيرا وفطنة عميقة، وكل هذا يحتاج إليه الشاب المصري كي يرى رؤيا صادقة لتاريخ الحضارة.
أما الكتاب الثالث فأحب أيضا أن يكون مترجما، وهو مثل كتاب إليوت سميث قد يحتوي أخطاء، ولكنه ينير ويرشد، ويبسط لنا تاريخ الإنسان القديم، كيف هدى وكيف ضلل.
هذا الكتاب هو «الغصن الذهبى» لمؤلفه المؤرخ الإنجليزي فريزر، وهو يحتوي 22 مجلدا لا قبل لنا بنقلها كلها، وإنما ننقل الموجز الذي وضعه المؤلف نفسه، وهو نحو ألف صفحة، وأنا واثق أنه عندما ينقل هذا الكتاب إلى القراء العرب سيحدث نهضة أو انقلابا ذهنيا.
وموضوع الكتاب هو كما قلت كيف ضل عقل الإنسان وكيف اهتدى؛ أي إنه يعالج الأساطير القديمة ونشأتها، ثم أيضا تسللها إلى الثقافات التالية لها.
ولا أنسى أن أقول هنا إن هذا الكتاب يناقض الكتاب الذي ذكرته قبله، وهو «التاريخ البشري»؛ فإن هذا الكتاب يعزو كل شيء إلى مصر، أما كتاب فريزر فيعتمد على أن الأوساط البشرية متشابهة؛ ولذلك هي تنتهي إلى أخلاق وعادات وعقائد وفنون متشابهة.
ومن حق القارئ العربي أن يعرف هذين النقيضين، وأن يستنتج بقوة ما عنده من منطق ومعارف سوف يكشف عنها المستقبل.
أما الكتاب الرابع فهو كتاب خلاصة التاريخ لويلز، وأنا أعتقد أننا يمكن أن نؤلف كتابا يضارعه أو يفضله، والكتاب الأول الذي ذكرته هنا يشبه كتاب ويلز.
وقد نصحت بأن يكون مؤلفا وليس مترجما، ولكني أحب أن أضع كتاب ويلز هنا للمقارنة، وهو عندي خير من الكتاب الذي أشرفت وزارة المعارف على نقله وترجمته، وهو «التاريخ العام للعالم» الذي حرره ولم يؤلفه هامرتون؛ وذلك لأني أجد أن كتاب ويلز توجيهي، يهدف إلى اعتبار البشر أمة واحدة، كما أنه يعلو على التفاصيل التي لا تدل، وهو لذلك ممتلئ في إيجازه، مستقر في عبارته، أما كتاب هامرتون فمفصل، ومسهب، في غير تنوير أو توجيه.
أما الكتاب الخامس الذي ينقص المكتبة العربية، فهو كتاب جيبون عن تاريخ الدولة الرومانية، وهو رواية تجري على نسق الطبري، ولا أظن أنه يقرأ كثيرا في أوروبا، وخير منه ألف مرة كتاب مومسون.
كتاب جيبون هو رواية غير مدروسة، ولكنها صحيحة.
وكتاب مومسون هو دراسة غير ممتعة وإن تكن صحيحة.
وأنا أنصح بترجمة هذا الكتاب؛ لأن الأمم العربية اتصل تاريخها بتاريخ الدولة الرومانية نحو 700 أو 800 سنة، وهذه الدولة هي أشقى وأظلم وأبغى دولة نشأت في العالم، ويجب لهذا السبب أن نعرفها، ونعرفها من التاريخ الخام الذي فصله لنا جيبون.
أما الكتاب السادس فهو ترجمة بحياة ليوناردو دافنشي باعتبار أنه يمثل في شخصه نوازع النهضة الأوروبية، حين شرع الناس يسألون أسئلة الأطفال ويستطلعون في غير خشية أو وقار، وعندما يقرأ شبابنا هذه الحياة، فإنه سيقف منها على معاني النهضة التي ما زلنا نجهلها في مصر، ويستطيع عندئذ أن يميز بين أصدقائه وأعدائه، وأن يرسم منها خريطة المستقبل لبلاده.
ونستطيع أن نختار التأليف أو الترجمة لهذا الموضوع، ولكني أوثر التأليف بأقلام بعض مؤرخينا، الذين يجب ألا يقنعوا بالرواية بل يهدفوا إلى التنبيه والتنوير والتوجيه.
ومن أحسن الكتب التي تنير الذهن وتنضجه، وتسدد النظرة التاريخية للدنيا والمجتمع، والحاضر والمستقبل، تلك الكتب التي تشرح لنا قصة العلوم، كيف نشأت، وكيف تطورت وارتقت إلى أن بلغت مستواها الحاضر.
وقصة علم ما، هي قصة الإنسان، أو بالأحرى ذهن الإنسان، ونظام مجتمعه.
وأنا أوثر أن نؤلف تاريخا عن الطب، منذ كان طفلا في مهد السحر، إلى أن وصلنا به إلى الأوريوماسين؛ فإن تاريخ هذا العلم وحده ينقل القارئ من الخرافة إلى الحقيقة، وحسب القارئ أن يعرف أن شارة الطب الآن هي شارة الكهنة المصريين القدماء، وأن كلمة طب في اللغة العربية تعني السحر، والطبيب هو الساحر.
وأنا لا أقصد من اختيار هذه الكتب أن أزيد المعرفة، وإنما قصدي الوحيد أن أعين المنهج، ولم أشذ هنا إلا في اختيار كتاب جيبون عن تاريخ الجهل والفساد والتوحش والفسق في الدولة الرومانية؛ وذلك لاتصالها بتاريخنا.
وإذن كتابنا السابع هو «تاريخ الطب».
أما كتابنا الثامن الذي تحتاج إليه المكتبة العربية فهو تاريخ الثورة الفرنسية، وأحب أن أجد تاريخا مفصلا عن المبادئ والأشخاص والفضائل والرذائل، قبل الثورة، وفي أثنائها، ثم في أعقابها. ومثل هذا الكتاب يجب ألا يقل عن 700 أو 800 صفحة.
ذلك أن الثورات تعد جزءا من تطور الأمم وارتقائها، وأمة بلا ثورات هي أمة منكوبة بالجمود، ويجب أن نعرف الأساس الأساسي للثورة، وهو التغير في وسائل العيش، هذا التغير الذي يحمل الذين ظلموا منه على أن يطلبوا ويحققوا تغيرات في المجتمع.
ومن هنا انعدام الثورات في الأمم التي لا تتغير وسائل العيش فيها، أي وسائل الإنتاج.
والثورة الفرنسية الكبرى هي ثورة بشرية قد عينت مناهج ورسمت رموزا وحققت حقوقا، فزادت الإنسان ثراء في الروح والمادة كما زادته شجاعة واجتراء على اقتحام المستقبل؛ ولذلك يجب ألا يجهلها رجل حر متطور، وعلينا ألا ننسى أن كلمة «المساواة» لم تدخل القوانين البشرية إلا في الثورة الفرنسية.
أما كتابنا التاسع فيجب أن نخصه بتاريخ مصر، وأعني تاريخ الاحتلال البريطاني لبلادنا، وهناك كتب حسنة نزيهة في هذا الموضوع، وقد ترجمت أنا لجريدة البلاغ كتاب بلنت «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر» وهو الكتاب الذي جعلني أحب عرابي ولا أصدق كلام المغفلين عنه، وقد طبع هذا الكتاب ولكن نفدت طبعته، ومع اعتقادي بأنه من الكتب النافعة؛ فإني أحب أن أضيف إليه كتابا آخر عن بلادنا هو «خراب مصر» لروذنستين، وفي كلا الكتابين تنوير ليس عن مصر وحدها بل - بالمقارنة - عن الاستعمار ووسائله الخسيسة في قتل الأمم بعد إيقاعها في شباكه.
أما الكتاب الأخير فيجب أن يختص بالحرب الكبرى الثانية، أسبابها ونتائجها وما جد فيها من مخترعات وما سبقها من حروب قريبة أدت إليها؛ لأننا يجب ألا ننسى أن الحرب هي أكبر سبب للحرب.
هذه هي الكتب العشرة التي أعتقد أننا يجب أن نكمل بها النقص في مكتبتنا العربية، حتى نغدو بها أمة عصرية لا تعارض التطور بل تدعو إليه، وأنا لا أقصد من تأليفها أو ترجمتها أن تكون كتبا اختصاصية لطلبة الجامعات، وإنما هدفي هو الجماهير القارئة في مصر والأقطار العربية حتى تحيا على الحاضر وتستيقظ في غدها على المستقبل.
المعاجم العربية
حز في نفسي، وجرح كرامتي، وأذل كبريائي الوطنية، أن أقرأ أن بيت لاروس صاحب المعاجم الفرنسية قد شرع يعد معجما عصريا للغة العربية في باريس.
وقد فهمت أنه يستعين في ذلك بخبرة المعلمين للغة العربية في كلية اليسوعيين ببيروت، وفضل هذه الكلية على لغتنا كبير جدا؛ فإنها هي التي طبعت ونشرت المجلدات العشرة لمجاني الأدب قبل نحو قرن، وبعض هذه المجلدات هو معاجم أدبية صغيرة تنير وتشير إلى المراجع، وهي أيضا التي أخرجت مجلة «المشرق» التي كثيرا ما عنيت بالدراسات العربية، وإن تكن نزعتها الدينية قد صدت عنها الكثير من القراء.
وقد كان الفضل أيضا لبيروت؛ إذ هي أخرجت لنا معجمين عربيين عصريين هما «محيط المحيط» و«أقرب الموارد»، وعليهما إلى الآن معتمد الكتاب والمثقفين في الأقطار العربية جميعها، مع أنه قد مضى على تأليفهما نحو سبعين سنة.
ومع أن لنا وزارة المعارف كانت تنفق نحو مئة ألف جنيه كل عام على شراء الكتب؛ فإنه لم يخطر ببال وزير من وزرائها أن يكلف أحدا كي يقوم بتأليف معجم عربي عصري للطلبة، ومع أن عندنا كلية تتخصص لدراسة اللغة العربية منذ سبعين سنة، هي «دار العلوم»؛ فإنه لم ينبغ منها واحد يرصد نفسه وحياته لتأليف هذا المعجم الذي تصرخ حاجتنا إليه، بل إن في جامعاتنا كليات تتخصص أيضا لدراسة اللغة العربية، بل اللغات السامية، ومع ذلك لم نجد من خريجيها أو أساتذتها من يسعى إلى تحقيق هذا المعجم، وإلى هذا نجد مجمع اللغة العربية الذي يرى أعضاؤه ويسمعون عن لاروس ومعجمه العربي الجديد ولا يبالون.
واعتقادي أن هناك أسبابا عديدة لهذا الإحجام؛ فإن وزارة المعارف التي كانت تشترك في ألف نسخة في إحدي المجلات الغثة التافهة، وتؤدي لصاحبها ألف جنيه كل عام، كانت ترفض إنفاق مثل هذا المبلغ ثلاث أو أربع سنوات لإيجاد معجم نافع يخدم الطلبة والمثقفين؛ وذلك لأن المجلة الغثة التافهة كانت على استعداد لأن تمدح، ولكن المعجم لم يكن الوزير لينتظر مدحه أو يخشى قدحه.
ثم إلى هذا يجب أن نذكر أن كثيرا من معلمي اللغة وأساتذتها نشأوا نشأة اتباعية وليست ابتداعية، كما أن طريقة تعليمنا لهذه اللغة قد ربط بينها وبين الدين، فانتقل إحساس المحافظة على الدين إلى اللغة، ولم تعد اللغة علما، بل أصبحت - كالدين - عقيدة، كلماتها وقواعدها لا تتغير، ولا يزاد عليها كلمة أجنبية إلا في خوف وتردد وإحجام، كأن مثل هذه الزيادة تتاخم الكفر أو تقاربه، وأصبح معلمو هذه اللغة يشبهون معلمي الدين، يتبعون الماضي ولا يبتدعون للمستقبل، بل إن «دار العلوم» الكلية التي تخصصت لتخريج المعلمين للعربية، قد وضعت من الشروط ما يحول دون الطالب المسيحي أو اليهودي أن يلتحق بها ويتخصص فيها لدرس اللغة العربية.
وبهذا النظام تجمدت اللغة العربية عندنا ورفضت التطور، ولم يعد معلموها يفكرون في إيجاد معجم عربي عصري يضع كلمة بيولوجية أو سيكلوجية إلى جنب كلمتي مجاز أو استعارة؛ وهم لذلك قانعون بالمعاجم القديمة، وعلى شيء غير صغير من النفور من الكلمات العصرية، بل هم ينفرون من الروح العصري كله.
وهذا خلاف ما نجد في معلمي اللغة العربية في جامعة بيروت، وهنا العلة السيكلوجية لكراهة الإقدام على إيجاد معجم عربي عصري في مصر والرغبة في إيجاد في بيروت.
ومع المر الذي أتطعمه على لساني، ومع مضض الذهن الذي أحسه، أدعو لبيت لاروس الفرنسي ولعلماء اللغة في كلية اليسوعيين في بيروت أن ينجحوا في مشروعهم، وأن نرى معجمهم قريبا على مكاتبنا يؤدي لنا الخدمة اللغوية المنتظرة التي لم نجدها من مؤسساتنا ولا من رجالنا.
إن كل مثقف، بل كل من ينشد الثقافة، يحتاج إلى معجم بل إلى معاجم.
وأنا أكتب هذه الكلمات وأمامي من المجلدات ما عددته الآن فبلغ 69 مجلدا جميعها معاجم، بعضها للغة العربية، وبعضها للبيولوجية، وبعضها للأديان، وبعضها للأدب، وبعضها للفلسفة، وبعضها للعلم، وبعضها للغات الفرنسية والإنجليزية. واعتقادي أني أقل المثقفين في اقتناء المعاجم، ولكن هذا العدد الذي أمامي ليس كل ما اقتنيت؛ لأني سريع الاستغناء عن «المتقادم» سواء من الناس أم من الكتب.
وعناية الأوروبيين بالمعاجم كبيرة ليقينهم بأنها هي التي تيسر البحث والتحرير، وقد أصبحت المعاجم اختصاصية لكل علم أو فن.
وأعظم ما يبهجني أن أقف في إحدي المكتبات أتأمل وأتلبث في تصفح هذه المعاجم الصغيرة التي يؤلفونها للأطفال والصبيان؛ فإن الصبي الذي لم يتجاوز السنة العاشرة من عمره يستطيع بهذه المعاجم أن يقرأ كتابا عويصا في البيولوجية أو النبات أو الحيوان أو التاريخ؛ ذلك أن الكلمات مصورة، حتى الأفعال تصور بالألوان التي تغري الصبي بالقراءة والاستطلاع.
وتحديد المعنى في ذهن القارئ قد اكتسب قيمة كبيرة في أيامنا بهذا العلم الجديد الذي يسمى السيمائية، أي علم الإشارات، باعتبار الكلمة سيماء، أي إشارة أو إيماءة إلى شيء ما، وغاية هذا العلم إحكام المعنى في الذهن، بل إن هناك في أيامنا من يزعمون أن هدف الفلسفة لا يزيد على تعيين المعاني للكلمات التي تستعمل في العلوم؛ أي إن البحث الفلسفي إنما هو بحث لغوى .
وقد لا نرتضي هذا القول، ولكن مما لا شك فيه أن التفكير لا يمكن أن يكون سليما منظما إلا إذا عبرنا عنه بكلمات سليمة منتظمة؛ ومن هنا قيمة المعجم الحسن الميسر.
إننا نحتاج في ظروفنا الحاضرة إلى نحو عشرة معاجم عربية، كي ننظم بها ثقافتنا ونرتب بها أذهاننا.
نحتاج إلى معجم ابتدائي مصور لا تزيد كلماته على ألف، يمكن الصبي العربي أن يستعمله بلا أدنى مشقة، ويجب أن تكون كل كلمة مصورة؛ فكلمة غزال تلحق بها صورة هذا الحيوان، وكلمة عدا تلحق بها صورة صبي يجري، وكلمة رئة توضع بصورة هذا العضو ... إلخ.
ثم نحتاج إلى معجم وسيط يحتوي الكلمات العصرية دون أن نضعها بين قوسين، وذلك لتلاميذنا قبل أن يلتحقوا بالجامعة، ويجب أن يحوي من الكلمات الأدبية والعلمية والسيكلوجية والبيولوجية والمصرلوجية ما يترجح عدده بين 8000 و10000 كلمة.
ثم نحتاج إلى معجم كبير يحتوي نحو 30 ألف أو 40 ألف كلمة، مع موجز عن اشتقاق كل منها، وهذا هو ما يحتاج إليه طالب الجامعة وعامة المثقفين خارجها.
ثم فوق ذلك نحتاج إلى معاجم اختصاصية.
وأولها معجم للاشتقاق، مع التوسع في أصول الكلمة اللاتينية أو الإغريقية أو العبرية أو البابلية أو الفارسية ... إلخ، ومثل هذا المعجم ينير بصيرتنا بشأن التاريخ اللغوي، وهو في صميمه دراسة أنثربولوجية وتاريخية معا.
ثم معاجم خاصة للعلوم، مثل المصرلوجية أي آثار مصر القديمة، ومثل المعجم الطبي، أو المعجم البيولوجي، أو المعجم الجيولوجي ... إلخ.
ولا أنسى هنا ضرورة طبع معاجمنا القديمة، مثل أساس البلاغة للزمخشري، أو لسان العرب لابن منظور أو القاموس للفيروزابادي؛ فإنها تراث لا يسع مثقفا أن يستغني عنه.
ونحتاج إلى أن نذكر هنا مرورا تلك المعاجم الأخرى التي تترجم الكلمات الأجنبية إلى ما يقابلها من كلمات عربية؛ فإن ما يوجد منها يحفل بالأخطاء اللغوية والطبعية، كما هو يخلط أحيانا بين لغة الكتابة واللغة العامية، مما يضلل الطالب فضلا عن التلميذ الناشئ، وهذا إلى غلاء أثمانها؛ فإن المعجم الذي يباع بجنيهين أو ثلاثة جنيهات لا تزيد كلماته على معجم إنجليزي أو فرنسي أو ألماني يباع بسبعة أو ثمانية قروش، بل أحيانا تنقص كلماته عما في هذه المعاجم الأجنبية الرخيصة.
ويجب على وزارة التربية أن تضطلع بإيجاد معاجم صحيحة ورخيصة لطالبي اللغات الأجنبية.
وأخيرا أقول عسى أن يكون من الجرعة المرة التي تجرعناها بمشروع لاروس، بشأن طبع معجم عربي لنا، ما يحفزنا ويبعث فينا النخوة لإيجاد نهضة معجمية نخدم بها الثقافة العربية العصرية.
الثقافة الصبيانية
ليس هذا العنوان للاحتقار، وإنما هو للاحترام، احترام صبياننا؛ فإن في مصر نحو مليون صبي أو أقل أو أكثر، تترجح أعمارهم بين ثماني سنوات وست عشرة سنة، ومن حق هؤلاء الصبيان أن يقولوا لنا: أين حقنا من ثقافة العصر الذي نعيش فيه؟ أين الكتب؟ أين المجلات؟
وقد انتهيت إلى هذا الموضوع بمناسبة الكتاب الصغير الذي ترجمه الدكتور أحمد زكي مدير جامعة القاهرة بعنوان «حيوانات عرفناها»، وهو كتاب يقرؤه الكبار وينتفعون به، ولكن الصغار يقرءونه فيطربون ويزأطون فوق انتفاعهم به؛ لأنه كتب لهم خاصة، وجدير بأحسن رجالنا بأن يكتبوا للصغار.
وليس شيء يثير الاستطلاع عند الصغار مثل هذه القصص التي تردهم إلى طبيعة أرضنا، بناسها وحيوانها ونباتها وجبالها وأنهارها، وقد كانت هذه الظواهر الطبيعية شهوتي الذهنية الأولى، ثم شغفي العلمي بعد ذاك، وقد عبرت عليها، ومنها، إلى نظرية التطور التي أشعلت خيالي وزادتني إنسانية وإحساسا حميما نحو العالم والبشر وسائر الأحياء.
ولست أعرف أدبيا عظيما أو مفكرا عميقا لم يرتبط بالطبيعة بهذا الشغف منذ صباه؛ فإن داروين، وسبنسر، وجان جاك روسو، ومكسيم جوركي، وأندريه جيد، وعشرات غيرهم، كانوا على حنين وشوق إلى الطبيعة منذ صباهم، وكان هذا الإحساس بذرة وجدانهم الثقافي الأول الذي توسعوا فيه بعد ذلك، وتعمقوا حتى صاروا كتابا إنسانين.
وقبل نحو عشرات السنوات وقع في يدي كتاب باسم «طيور مصر» لرجل عظيم يدعى أحمد حماد الحسيني، فتلقفته كما لو كان جوهرة وأحسست أن ها هنا مؤلفا يزيد على وطنيته علما وعلى علمه وطنية، فهو يذكر في كتابه أكثر من مئة أو مئتي طائر في مصر من تلك الطيور الأصيلة المقيمة، والدخيلة المهاجرة، الصامت منها والمغني، والوديع والمفترس، وهو يصورها ويسميها.
والمعرفة سبيل إلى الحب، ونحن نحب مصر حين نقرأ هذا الكتاب، ولكني الآن تختلجني حسرة؛ لأن جميع الصور في هذا الكتاب سوداء لا تنقل إلينا جمال الطيور في أذنابها الصفراء أو صدورها الحمراء أو مناقيرها البيضاء.
والطيور هي أزهار السماء، وهل يمكن أن نقنع بتصوير الأزهار بالحبر الأسود فقط؟
ولو أن هذه الطيور كانت مصورة بألوانها الطبيعية، لكان هذا الكتاب قنية ثمينة للصبيان والكبار، يتعرفون به إلى هذه الأحياء وينبعثون منه إلى التجوال في الحقول والصحراء لتعيينها والوقوف على تنقلاتها وعاداتها، وتأمل بيضها وعشاشها، وفي هذا الاهتمام بالحياة فرح وطرب وزيادة في الوجدان، وإحساس بالرابطة المقدسة التي تربطنا بالوجود، واتصال حميم بالأم الأولى: الطبيعة.
ولكني أعرف لماذا لم يخرج هذا الكتاب بالألوان الطبيعية، وهو أن هذه الألوان تحتاج إلى نحو 700 أو 800 جنيه، ولعلها لم تكن في مستطاع المؤلف. بل هي حتى لو كانت لما جرؤ على إنفاقها؛ إذ من كان يكفل له عودة هذا المبلغ إليه عند نشر هذا الكتاب؟ ولم يكن هناك أقل دليل وقتئذ على أن وزارة المعارف التي كانت تشتري أغث الكتب وأتفه المجلات، كانت تشتريه وتوزعه على صبيان المدارس.
ولكن ما لم يكن متاحا في العهود الماضية يحب أن يتاح في العهد الحاضر، وطبع هذا الكتاب بالألوان ليس خدمة للعلم فقط؛ إذ هو خدمة وطنية إنسانية أيضا لأنه يصف لنا بلادنا من زاوية محببة إلى كل نفس حساسة. •••
كيف نثقف صبياننا؟
إن الرغبة في الثقافة والاستطلاع والنمو الذهني عادة مثل سائر العادات، وهي أثبت وأرسخ عندما تغرس أيام الطفولة والصبا، بل أيام الطفولة أكثر من أيام الصبا.
وما أعجب ما يؤلفه الأوروبيون للأطفال الذين تترجح أعمارهم بين الثالثة والسابعة؛ ففي القاهرة مكتبات نستطيع أن نشتري منها كتابا تبرز فيه الصور وكأنها تتجسم.
فهنا عزبة قد برزت فيها صور الناس والحيوانات والنباتات والآلات، هي لعبة بلا شك، ولكنها تبعث على الاستطلاع والسؤال في الصبي الذي لم يتجاوز الخامسة من العمر.
وهنا كتاب آخر هو حديقة حيوان، اشتريته أنا بخمسة وثلاثين قرشا، ومع أنه باللغة الفرنسية فقد شغف به الصبي الذي سلمته إليه وعمره لا يزيد على السابعة، وقد استطاع في أقل من أسبوع أن يعين الحيوانات بأسمائها وأن يرسم رسما صبيانيا لصورها بألوانها.
وبديهي أن رؤية الحيوانات في حديقة الحيوان أبلغ في تفطين الصبي وتعليمه من الكتاب، ولكن ميزة الكتاب هي إغراؤه بالكتب، وغرس الحب الثقافة في ذهنه الصغير، حتى إذا كبر صارت الكتب بعض الأثاث لعقله وبيته، بل الموضوع لحديثه والوسيلة لارتقائه.
ولست أقصد بما قلته هنا بأنه ليس عندنا كتاب للأطفال والصبيان؛ فإن أحمد عطية الله وكامل كيلاني يثبان إلى ذهني، وقد كف الأول عن التأليف لصغارنا، أما الثاني لا يزال في هذا الكفاح للتنوير والتثقيف، وقد جعل من كفاحه هذا رسالة الحياة.
ولست كذلك أجهل المجهود الذي تبذله بعض المطابع في إخراج مجلاتها الخاصة بالصبيان، أو الابتداع الذي ابتدعته «الأخبار الجديدة» في خص الصغار بزاوية أسبوعية يشرف عليها بابا شارو.
ولكننا نحتاج إلى المزيد، أي نحتاج إلى «طيور مصر المصورة بالألوان»، وإلى «نباتات مصر المصور بالألوان»، وإلى كتاب عن الغابات، وإلى آخر عن السلالات البشرية، وإلى آخر عن الفراعنة، ثم إلى آخر عن الحضارة العصرية، وكل هذا بالألوان الزاهية المغرية التي تغري الصبي بالقراءة والتفكير، وتبعث أحلامه وتثير تخيلاته وتأملاته. •••
لقد ذكرت بعض المؤلفات الأوروبية للأطفال، ولكن مكتبة الأطفال والصبيان تتجاوز ما نتخيله عندما نعرف عناية الأوروبيين بأبنائهم، فهناك معاجم خاصة بهم يستطيع الصبي الذي لم تزد سنه على الثامنة أو التاسعة أن يبحث فيها عن الكلمات ويعرف منها المعاني التي يجهلها، بل لقد رأيت معجما أمريكيا يصور الأفعال، مثل ضرب وقتل وأكل بالصور، حتى ليمكن طفلا في الرابعة أو الخامسة من عمره أن يفهم معانيها.
بل ماذا أقول؟
إن هناك موسوعات للصغار «جونيور إنسيكلوبيديا» لا يقل ثمن الواحدة منها عن عشرة جنيهات أو أكثر ، قد ألفت للصبيان إلى سن السادسة عشرة، وهي بضعة مجلدات تحفل بالصور الملونة، كما هي مجلدة بالقماش أو الحور المتين، واعتقادي أن الصبي الذي يقتني إحدى هذه الموسوعات سوف ينشأ على أخلاق تسمو به في النظرة والنبرة إلى الحياة العلمية الفلسفية التي يشق على غيره أن يحياها لأنه لم يؤثث ذهنه بهذه المعارف الموسوعية ولم يؤلف شخصيته على الاهتمام بهذه الآفاق البعيدة المتعددة.
بل إني أعرف من المجلدات الصبيانية الأوروبية ما كنت أقرأه أنا وأنتفع به وأنا فوق الخمسين، وقد كانت تكتب في سهولة بحيث لا تشق على صبي في العاشرة.
إن مثل هذه الكتب والمعاجم والمجلات تخصب أذهان الصبيان، وتبسط لهم آفاقا من الثقافة، وتحبب إليهم الدرس والبحث حتى لأكاد أقول إنها تزيد ذكاءهم. •••
إني ما زلت أذكر طفولتي القاحلة حين كنا نتعلم المطالعة في كتاب يسمى «الفوائد الفكرية» أو في آخر يدعى «كليلة ودمنة» أو في غيرهما مما يخلو من الإغراء وبسط الآفاق.
كتب بلا صور، بل حتى كتاب كليلة ودمنة الذي يتسع لعشرات الصور المغرية المضحكة كان ولا يزال بلا صور.
بل إن تعليم حروف الهجاء، وكذلك قواعد اللغة، لا يزالان من المشقة بحيث يسأم الصبيان دروسهما، وما زلنا نسمي الحرف الأول «ألف» كما كانت الحال أيام الفينيقيين قبل ثلاثة آلاف سنة، مع أن الأوروبيين قد جعلوا هذا الحرف «أ» وذلك حتى لا يختلط على الطفل صوتا اللام والفاء في هذا الحرف الذي حين يتصل بالكلمة لا يزيد نطقه على «أ»، وقل مثل هذا في قواعد اللغة العربية.
لماذا نعذب صغارنا هذا العذاب؟
لقد أخبرني الأستاذ حسني العرابي أن المستشرقين الألمان قد جمعوا قواعد لغتنا التي يحتاج إليها القارئ والكاتب في اثني عشر درسا فقط، فلماذا لا نسأل ونبحث عن هذه الطريقة التي اتبعوها، ونتخذها ونعمل بها للتخفيف والتيسير؟
وللأستاذ أحمد جمعة طريقة لتعليم الأطفال القراءة بالألعاب، عرضها على وزارة المعارف التي درستها ونصحت باتخاذها، ولكن الموضوع عاد فركد.
يجب أن نخدم صغارنا ونعودهم الحب للثقافة، والاستطلاع للدنيا والناس والطبيعة؛ وذلك منذ بلوغهم الرابعة والخامسة من العمر، بالتأليف المغري لهم، وكذلك بتيسير التعلم للهجاء والقراءة للكتب، وهذا حقهم، وهذا واجبنا.
وأقول أخيرا إن الصبي هو أبو الشاب، وإنه على قدر العادات الحسنة التي تعودها الشاب وتربى عليها في صباه تكون شخصيته وتربيته الناضجة. •••
من غريب المصادفات أنه بعد أن تم جمع هذا الفصل، وصل إلى الملحق الأدبي لجريدة التيمس المؤرخ في 27 نوفمبر الماضي فوجدت عشرين صفحة (أي عشر صفحات من حجم أخبار اليوم) عنوانها: «قسم الكتب الخاصة بالأطفال».
وقد وجدت أنه ذكر نحو ثلاث مئة كتاب مصور، بعضها يليق للصبيان فيما بين السادسة والعاشرة، وبعضها للصبيان فيما بين العاشرة والخامسة عشرة، وبعضها لمن فوق هذه السن إلى العشرين أو أكثر.
وهذه الكتب تتناول جميع الموضوعات التي يهتم بها البشر، ولكن في أسلوب سهل وبكلمات مألوفة، وهذا إلى مئات الصور الملونة التي تغري بالاقتناء والقراءة.
فهنا نجد القصص والأشعار، وعجائب البحار، والنجوم والكواكب، والطيور والوحوش، وحياة الفلاحين وحياة المخترعين، وقصص المغامرات في كشف البحار والجبال، والأحياء التي تحيا على الشواطئ، والأحياء التي تحيا في الأعماق، والتاريخ القديم، والسياحات العظيمة.
عوالم تستفز الصغار إلى التفكير والتساؤل والاستطلاع، فيحيون بعد ذلك وهم يحبون الكتب ويتعصبون للعلم والإنسانية.
وتقول جريدة التيمس إنه يصدر من هذه الكتب من بريطانيا إلى الأقطار الأجنبية ما تبلغ قيمته كل عام مليونين من الجنيهات.
هذه هي صناعة الثقافة الصبيانية، وهذا قيمة ما يصدر منها، فما هي قيمة ما يستهلك منها داخل بريطانيا؟
متى تكون لنا ثقافة صبيانية نمتع بها عقول صبياننا ونعودهم منها القراءة واقتناء الكتب؟
أجل، ونصدر منها إلى الأقطار العربية الأخرى؟
لنكن موسوعيين
نعني بكلمة «الموسوعة» ما يسمى عادة «دائرة المعارف»، وهذه العبارة الثانية ليست تسمية وإنما هي تعريف للكلمة الأولى، ونستطيع أن نقول إن هذا الكاتب موسوعي؛ أي أنه يتناول في كتاباته موضوعات كثيرة مختلفة ومتنوعة، وكثير من كتاب عصرنا قد ارتفعوا إلى هذا المستوى، فالكاتب الأديب يدرس العلوم، والعالم يفلسف ويكتب في الأدب أو الفلسفة أو العلم سواء.
وعلى الشاب الذي يتوخى الثقافة أن يدرس جميع المعارف البشرية، ولسنا نقصد من هذا القول إلى أنه يجب أن يقرأ أو يدرس جميع المؤلفات؛ ففي المتحف البريطاني مثلا نحو أربعة ملايين كتاب، وليس من المعقول أن ننصح بدراستها، ولكنا نعني ألا نتخصص ونتضيق، بل «نتعمم» ونتوسع، فإن المعارف البشرية مرتبطة، ولن نستطيع أن نفهم الحضارة العصرية حق الفهم إلا إذا ألممنا بهذه المعارف، وعرفنا القواعد التي تنبني عليها المبادئ التي تسير هذه الحضارة على ضوئها، وقد يعترض هنا بأن هذا الاتجاه الموسوعي ينتهي إلى أن نكون سطحيين حاطبين نجمع من هنا وهناك، ولكن الذهن البشري ليس آلة ميكانية يتقبل ويرتسم وينطبع، بل هو جسم حي يقبل ويرفض، ولا بد أنه ستنشأ بينه وبين المعارف علاقة فسيولوجية كما بين المعدة والطعام، وهو لذلك سينتهي بالتخصص أو التوسع في بعض المعارف دون غيرها؛ لأن للأولى اتصالا حيويا أو فسيولوجيا بكيانه النفسي وجهازه الذهني، ثم هو يتعرف إلى سائر المعارف عن بعد تعرفا سطحيا أو كالسطحي، على قدر مساسها بكفاءاته واتجاهاته واهتماماته.
وفي مجتمع ديمقراطي كالذي تعيش فيه الشعوب المتحضرة، وهو أيضا الذي نتوخى تحقيقه عندنا، يحتاج الشعب إلى تناسق فكري فلا يكون جهل وحماقة إلى جنب المعرفة والحكمة؛ لأن نتيجة هذا التفاوت تؤدي إلى أن يعرقل بعض الشعب تلك الإصلاحات أو التغيرات التي يطلبها بعضه الآخر المستنير؛ لأنه - لجهله - لا يدري قيمتها، فقد يقترح وزير مثلا تعقيم بعض الناس حتى لا يتناسلوا فيرث أبناؤهم عاهاتهم، أوقد بقترح آخر تقديم اللبن بالمجان لتلاميذ المدارس؛ ففي الأمم الديكتاتورية تكفي إرادة الديكتاتور لسن هذين القانونين، ولكن الأمم الديمقراطية تحتاج إلى رأي الشعب، فإذا لم يكن أفراده مستنيرين بثقافة عامة عن البيولوجية والطب، فإنهم في الأغلب يعارضون الإصلاح.
هذه هي القيمة العامة للشعب من التوسع الثقافي، ولكن هناك قيمة شخصية للفرد، وهو أنه يفهم الحضارة التي يعيش فيها حتى يلتئم بها، ولا يصطدم بالغريب فيها ويحسبه لجهله ضارا أو زائدا ، فنحن مثلا نستخدم السيارة ، ونستعمل التلغراف والتليفون، ونستمع إلى الرديوفون، ونركب القطار أو الطائرة أو الترام، ونسكن المباني الكبيرة أو الصغيرة، ونستمتع برؤية التحف من تمثال أو رسم، ونقتني الأثاث الفاخر ونتعالج بالطب، وليس من المعقول أن ندرس العلوم الكيماوية والبيولوجية أو الميكانية والفيزيائية التي تحتاج إليها كل هذه الأشياء، كما ليس من المعقول أن يطلب من أحدنا وهو غير متخصص أن يعرف علم الجراحة وفنها، أو أن يركب سيارة ويصلح تلفونا إذا حدث به خلل أو تعطل، ولكن المعقول أن يعرف كل منا المبادئ العلمية التي يهتدي بها الطبيب والمهندس والمعمار والقاضي، كما يجب أن يكون كل منا أديبا وفنانا إلى حد ما حتى ولو لم يحترف الأدب أو الفن، فنحن مثلا حين نقصد إلى النجار الذي يصنع لنا الأثاث يجب أن نعرف شيئا عن الخشب وأنواعه النفيسة والخسيسة، وإلا كنا عرضة للغش، وكذلك يجب أن نكون على شيء من الذوق الفني، والدراية بالطرز العصرية في الأثاث؛ وإلا صرنا أيضا عرضة للسقوط في جلافة أو فجاجة فنية لا تغتفر، وكل هذه المعارف مع ذلك لا تؤدي بنا ولا تؤهلنا لأن نكون نجارين.
وكذلك الشأن في المعارف الأخرى؛ فإننا حين ندرس مبادئ الطب أو الهندسة أو البناء أو الكيمياء أو الزراعة لن نحترف هذه العلوم، ولكننا نعرفها ونلم بمبادئها كي نعرف الحضارة التي نعيش فيها، ونعين القيم التي تهتدي بها في تقديراتنا الاجتماعية والروحية؛ وعندئذ نستطيع أن نرتئي الرأي السديد المبني على المعارف في أي مشروع يعرض علينا لمصلحة الأمة أو أي طائفة منها، ونستطيع أن نفهم النظام الذي يسعد به ناس، والفوضى التي يشقى بها آخرون، وقد نشقى بها نحن أنفسنا، وعندئذ لا تكون شكايتنا خاصة بنا، بل عامة للشعب، بل ربما للعالم كله.
فلنكن إذن موسوعيين، ندرس التاريخ والأدب والفلسفة، كما ندرس الاقتصاديات والاجتماع والكيمياء، والأصول العلمية التي بنيت عليها الحضارة والصناعة القائمة، والرجل الذي يقصد من الثقافة إلى أن يكون موسوعيا يجد بعد سنوات من الدراسة أنه انتقل من الركود إلى التطور؛ لأنه يجد في مجموعة المعارف البشرية الحاضرة ما يمكن أن يغير الدنيا إذا استعمل في خدمة البشر، والمعرفة قوة لا تطيق الحبس، ومن هنا نشأت كراهة الحكومات الإمبراطورية والاستبدادية للتعليم، بل محاربتها له.
وعندما نكون موسوعيين نصبح أيضا عالميين، فلا ننشد الرقي المادي فقط لوطننا، بل ننشد تلك المثليات العالمية الكبرى، فنحقق لأنفسنا الرقي الروحي بالجهاد لهذه المثليات، وتتكون لنا - بكل ذلك - شخصية جهادية متطورة.
الهواية في الثقافة
إذا كانت الثقافة هواية، يهواها الصبي في المدرسة، ثم ينشأ عليها شابا، فإنها ستلازمه إلى الكهولة فالشيخوخة، ومعظم الأوروبيين في إنجلترا وروسيا وألمانيا وفرنسا ينشأون ولهم غرام بالثقافة؛ لأنهم تعودوها من الصبا بل من الطفولة، ولكن الحال ليست كذلك في مصر؛ لأن الطفل لا يجد من الكتب المغرية ما يجعله يهوى الثقافة في طفولته ثم في صباه، وهنا يجب أن نشيد بما يقوم به بعض المؤلفين المتخصصين من تزويد صبياننا بالكتب التي تجعلهم يقرءون ويفكرون، ولكن هذا المجهود يجب أن يضرب في مئة حتى يفي بالغاية.
ويجب على الآباء أن يشجعوا صبيانهم على اقتناء الكتب والاشتراك في المجلات وقراءة الجرائد، حتى تصير هذه الأدوات بعض المناخ الحضاري الذي يعيشون فيه ولا يمكنهم في المستقبل الاستغناء عنه، كما يجب أن ينفقوا على الهواية الثقافية التي يتعلق بها الصبي حتى يحثوا ذكاءه على الالتماع ويبعثوا نشاطه على التفكير، وبعض الآباء يبخل على ابنه أو ابنته بالنفقات لهذه الهواية، أو يضن بوقتهما كي لا يضيع في دراسة ليس لها قيمة في الامتحانات والشهادات، ولكن هذه الدراسة هي التي ستعيش وتبقى مع الصبي على حين يصير رجلا وشيخا. وهي التي ستجعله إنسانا إنسانيا، حين ينسى ما تعلمه في المدرسة أو الجامعة من دروس لعله لم يكن يقصد منها سوى الاحتراف للكسب.
وقد يعترض القارئ بأنه لم يجد التشجيع في صباه، وهو الآن لا يجد الرغبة في الثقافة، ولكن هذه الأمية يمكن علاجها؛ فإن أي شاب يمتاز بذكاء متوسط أو حتى دون المتوسط بقليل، يجد في نفسه اهتمامات ثقافية مختلفة من قراءة الجريدة اليومية إلى الاستماع للرديوفون إلى غير ذلك، ولا بد أنه سيجد البؤرة تتشعب اهتماماته، فيجد الرغبة في الدرس.
وعلى من ينشد الثقافة أن يختار أصدقاءه من المثقفين، حتى يجد فيهم المشورة الحسنة والاختيار السديد، ويتجنب أولئك الأميين الذين غرست فيهم المدرسة أو الجامعة الكراهية للكتب، أو أولئك الذين حملتهم الاعتبارات المادية في مجتمعنا على ألا يقيموا وزنا لأي نشاط إلا إذ كان حرفيا يزيدهم درجة أو يأتي لهم بعلاوة في الوظيفة.
فإذا وجد الشاب البؤرة التي يتجمع فيها نشاطه فعليه أن ينفق بسخاء ويشتري كل ما يتصل بها كي يتوسع ويتعمق، وقد تكون هذه البؤرة فنا أو علما، وفي العالم منهما نحو 130 أو أكثر، ومن البعيد ألا يجد شاب في هذا العدد شيئا يتعلق به؛ فإن الأغلب أنه سيجد أكثر من علم أو فن، فهو قد يهوى دراسة الحيوان أو التاريخ أو الكهرباء أو السيكلوجية أو الاقتصاديات أو السياسة أو الاجتماع، أو هو قد يتعلق بفنون الرسم أو النحت، أو بتلك الفنون العصرية التي يغرم بها بعض الشباب، وهي التي تتعلق بالرديوفون أو السينماتوغراف أو التليفزيون.
وكل واحد من هذه الفنون أو العلوم سيتفرع إلى فن أو علم آخر لارتباط المعارف، فلست تجد رساما إلا وهو يدرس التاريخ والحركات الاجتماعية التي غيرت الطراز والاتجاهات، ولست تجد مؤرخا إلا وهو متنبه إلى السياسة العالمية، للتجاوب المستمر بين السياسة والتاريخ، ولست تجد بيولوجيا إلا وهو اجتماعي، بل هو يدرس أيضا الدين والسيكلوجية والأخلاق؛ لأن نظراته البيولوجية قد ولدت في ذهنه رؤيا جديدة، وهلم جرا.
فالشاب يبتدئ في الثقافة هاويا، وكأنه يتخصص، ليس له غير اهتمام واحد، فإذا به ينتهي وهو مشغول باهتمامات ثقافية عديدة، وهو هنا سريع إلى التبريز؛ لأنه قد اختار عن هوى وحب، فالعاطفة هنا تؤيد العقل وتخدمه، ثم هو يستخدم فراغه لهذه الهواية، وفي كل مجتمع متمدن يزيد الفراغ على مدة العمل الحرفي، واستخدامه للثقافة يتيح أحسن الفرص للتربية الذاتية، واستخدامه في غير أغراض ثقافية قد يفتح أبوابا للفساد لا تحصى، ثم هذا الفراغ يزداد كلما اتسعت الحضارة وشملت بعض الطوائف من العمال، مثل أولئك الذين يعملون في المصانع الكبيرة، والعامل الذكي الذي يشغل هذا الفراغ المتزايد بتربية نفسه يجد أنه في رقي لا ينقطع، وأنه يحصل على مقدار من الثقافة قد يغبطه عليها أولئك الذين وهبهم القدر الاقتصادي تعليما مدرسيا أو جامعيا لم يحصل هو عليهما.
الجريدة والمجلة
الجريدة والمجلة هما أعظم المواد الثقافية خطرا وخطورة في مجتمعنا؛ لأنهما بطبيعة الظهور الدوري لأعدادهما تهيئان القارئ لألوان من الإيحاء أو الدعاية قد تكون حسنة مرجوة الخير، أو سيئة حبلى بالشر، والجريدة رخيصة يسهل شراؤها، كما إنها تجذب القارئ بمختلف الألوان على مائدتها، من خبر إرجافي في السياسة إلى صور مغرية إلى قصص مسلية إلى غير ذلك، وهي في أيدي التجار تجارة، وقد تكون مثل تجارة النخاسة في بيع الرذائل، فالمتجر بالصحافة يستكتب العوام كي يكتبوا للعوام، ويخاطب أحط الرذائل في القراء، ثم يجعل جريدته إعلانات في ظهورها بعض الأخبار والصور التي تخضع للغاية من هذه الإعلانات؛ فالجريدة التي تعينها إحدى الشركات التي تبيع الخمر أو الدخان مثلا لا يمكنها أن تكتب مقالا في الضرر الذي يعود منهما على صحة الجمهور.
والجريدة أو المجلة التجارية، كما هي خاضعة لإعلانات التجار، كذلك هي خاضعة للإعلانات التي تحصل عليها من الأحزاب، فكي نقرأ الجريدة أو المجلة بفهم وتمييز، يجب أن نقدر هذه العوامل الخفية، وأن نزن الخبر أو المقال أو الصور في ضوء هذه العوامل.
كما يجب علينا أن نقدر على الدوام أثر الإيحاء من التكرار، ويجب أن نسأل عن المال الذي يدور به دولاب الجريدة، ومن أين مأتاه؛ فقبل سنوات مثلا أفلست إحدى شركات التأمين، فلم ينشر هذا الخبر في الجرائد في مصر مع أن كثيرا من قرائها كانوا يملكون أسهم هذه الشركة، وترك هؤلاء المساكين على جهل بهذا الإفلاس حتى تخلص غيرهم من حاملي هذه الأسهم ووقعوا هم في الإفلاس أو الخسار؛ وذلك لأن وراء هذه الشركة شركة أخرى كانت تنتفع بالإعلان عنها في الجرائد المصرية.
وعندنا غوغاء من المجلات الأسبوعية هي شر ما يمكن أن يتناوله قارئ كي يثقف ذهنه ويربي نفسه، وهي نوعان: أحدهما للقيل والقال عن الشواطئ والسباق ولهو الأغنياء، والآخر يرصد صفحاته للثقافة العربية القديمة ويكاد يقتصر عليها، وكلاهما مضر؛ لأن الأولى تفسد الذهن بإيحاءات تبعث اهتمامات وعادات سخيفة في القراء، والثانية لا تفتأ تكتب المقالات في الدعوة إلى مجتمع شرقي آسن، وإلى النفور من المجتمع الغربي الناهض، حتى لقد بلغ بأحد الكتاب البارزين أن يقول في إحدى مقالاته فيها في سنة 1942:
يرحمك الله يا أبي لقد كنت لا تشتري حذاء جديدا إلا بعد أن تجربه على رءوس زوجاتك ... إنه يفخر بشرقيته!
وهذا المعنى للمجتمع الشرقي الذي يدعو إليه هذا الكاتب هو الذي يجب أن يكافحه كل رجل بار بالمرأة والأمومة، وليس على هذا الكوكب شرق وغرب، وإنما عليه أمم منحطة وأمم راقية.
والجريدة أو المجلة الحسنة هي التي تنزع إلى الفلسفة، وتنبه الضمير، وتستفز الذهن إلى التفكير، ولو كانت مخالفة لآرائنا، وإذا تحرى القارئ الانتفاع والارتفاع بالجريدة فإنه لا بد مستغن عن كثير مما يطبع وينشر، وهو إذا كان عارفا بلغة أجنبية فإنه يجب أن يشترك في الجرائد والمجلات الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية؛ كي يتصل بالعقل العام على هذا الكوكب، ولكنه حتى مع امتيازه هذا محتاج إلى قراءة جريدة يومية عربية على الأقل، فعليه أن يختارها مع العناية، ويدرس أغراضها الخفية الظاهرة، وعليه أن يحاسب نفسه من وقت لآخر عن الإيحاءات السيئة التي ربما تلتبس بها لأنه يقرأ أخبارا لم يتنبه إلى الدعاية المختفية وراءها، وعليه أن يذكر أن هناك «أكاذيب سلبية» هي تلك الأخبار التي منعت الجريدة نشرها، كما حدث في خبر الشركة التي أشرنا إليها.
أما كيف نختار الجريدة، فإننا قبل كل شيء يجب أن ننظر إليها كما ننظر إلى مدرسة أو مكتبة مفيدة تخدمنا في رقينا، فيجب على الأقل أن يكون بها كاتب عصري مستنير يفهم التيارات الاجتماعية والاقتصادية التي تكتسح العالم، ويجب أن تكون حاوية لطائفة من الأخبار الأصيلة التي تنقل إلينا صورة صحيحة عن التغير أو التطور العالمي.
وفي الجريدة - كما في الكتاب - يجب أن نقرأ بالقلم، فنبرز الخبر الخطير بعلامة واضحة، ونستشير الخريطة، ونقرأ الصفحة المالية، ونتعلم كيف تكون تقلباتها أحيانا دلالة على تغير السياسة، بل يجب أيضا أن نقرأ الخبر الذي لم يكتب، ونتعرف على الأسباب التي تمنع النشر لهذا الخبر أو ذاك.
وفي مدة الحرب تعود الجريدة ضرورية؛ لأن الحرب - كما قال ماركس - هي قاطرة التاريخ لسرعة الحوادث فيها، فنحن نقرأ في الجريدة تاريخا حيا لعصرنا، وهي لذلك تجذبنا بقوة الحوادث، بل إن أيام الحروب كثيرا ما كانت سببا لجذب العامة إلى قراءة الجريدة واعتياد شرائها مدى الحياة.
والجريدة والمجلة كلتاهما يجب أن تكون بعض أثاث البيت المتمدن، ويجب أن يتعلق الصبيان بالقراءة فيهما، وربة البيت الذكية التي تنشد الثقافة لأبنائها تنفق على المجلات والجرائد كما تنفق على حاجات المنزل الأخرى، ويجب أن تعنى باختيار النفيس منها؛ لأنها تعلم أن إيحاء الخبر أو الصورة أو المقال كبير الأثر جدا في إيحاء الفضيلة أو الرذيلة وتربية الشخصية أو إضعافها، ثم يجب أن نراعي هذه الاعتبارات التالية: (1)
يجب أن نتعلم القراءة السريعة للجرائد والمجلات، وأول ما نحتاج إليه في ذلك ألا نحرك الشفتين أو اللسان ونحن نقرأ، وعندئذ لا تستغرق الجريدة من وقتنا في المتوسط أكثر من عشر دقائق. (2)
يجب ألا نقرأ الجريدة التي تزكي آرائنا وتمالئ حزبنا فقط، بل يجب أن نقرأ تلك الأخرى التي تمثل رأيا آخر، وإذا استطعنا فلتكن لنا جريدتان تختلفان في الرأي. (3)
يجب أن نحدث أعضاء البيت عن موضوعات الجريدة؛ كي نرفعهم من لغو القيل والقال إلى أحاديث السياسة والاجتماع، وقد نصل من ذلك إلى تكافؤ ثقافي بين أعضاء العائلة. (4)
من الحسن أن نصطنع عادة القص، فنخصص ملفا أو ملفات نقص فيها الأخبار أو المقالات أو الإحصاءات التي نحتاج إليها في المستقبل للمراجعة، وقد يكون أحد الملفات للأدب والآخر للسياسة، والاجتماع ... إلخ. (5)
وعلى كل حال يجب ألا تغنينا الجريدة والمجلة عن الكتاب؛ لأن الكتاب هو أساس الثقافة.
على أننا مع هذا يجب ألا ننسى أن في جرائدنا ومجلاتنا مساوئ أصلية تؤدي إلى نقص التربية الثقافية لقرائها، أبرزها هي: (1)
أنها غير متصلة بالعقل العام على هذا الكوكب، فقارئها - بخلاف القارئ للصحف الأوروبية - يجهل التيارات العالمية في السياسة والاقتصاد والاجتماع. (2)
أننا لا نجد فيها الكاتب المربي الذي كنا نجده مثلا في شخص لطفي السيد في «الجريدة» قبل خمسين سنة، أو الكاتب الذي يرفع الصحافة إلى مقام الأدب. (3)
أن الإقبال على المجلات قد عظم، ولكن المجلات مع ذلك قد انحطت بدلا من أن ترتقي، وليس عندنا مجلة تمثل ما سميناه «العقل العام» فتنقل إلينا تطورات الصين أو الهند الاجتماعية، ومشكلات الولايات المتحدة، وتجعلنا نحس أن مصر جزء من الكرة الأرضية وأنها لم تنسحب من التاريخ. (4)
أننا في حاجة إلى مجلات أسبوعية وشهرية لدرس السياسة العالمية والتطور الاجتماعي والتوجيه العلمي، وتربيتنا ستبقى ناقصة ما لم تنشأ هذه المجلات في مصر. (5)
أن معظم المجلات في مصر يعيش بالتحرش بالغريزة الجنسية، سواء بالصورة أم بالكلمة، وهي كبيرة الضرر لهذا السبب.
هذا ما يقال للقارئ، ولكن يجب أن تقال كلمة أخرى للحكومة المصرية، وهي أنه لا يجوز في القرن العشرين أن تفرض غرامة على التفكير حتى ولو أسميت هذه الغرامة باسم التأمين أو الضمان؛ فإنه لا يجوز الآن لأحدنا أن يخرج جريدة إلا إذا أدى مبلغ 300 جنيه، ولا يخرج مجلة إلا إذا أدى 150 جنيها، أو قدم ضمانا بأحد هذين المبلغين.
ومن المؤلم أن نقول إن شعبا صغيرا مثل الشعب الفنلندي الذي لا يتجاوز عدده 3800000 تصدر له 209 من الجرائد اليومية و550 من المجلات، وكل جريدة أو مجلة من هذه الصحف هي بمثابة الجمعية الثقافية أو السياسة لأنها تجمع حولها طائفة من القراء الذين يقرءون ويدرسون، ولكل طائفة نظر عالمي خاص، أو مذهب اجتماعي معين يفيد في التنوير والتثقيف، ونحن في مصر نزيد أربعة أضعاف على سكان فنلندا ومع ذلك ليس لنا سوى سبع أو ثمان من الجرائد اليومية ونحو عشر من المجلات.
أجل يجب أن يكون إصدار الجرائد والمجلات حرا بلا قيد ولا شرط، ولا حاجة إلى دفع أي ضمان مالي؛ لأنه في حقيقته غرامة على التفكير الحر، وهو يؤخر تطور الأمة.
وآراء الأمة تتعدد وأذهانها تتفاعل بتعدد هذه الجرائد، فينشط التفكير.
التربية للحياة
الاعتقاد السائد أننا نعلم أولادنا كي يحصلوا على عيشهم في المستقبل، يتعلمون الطب أو الهندسة او التجارة، ثم يعملون ويكسبون، والنجاح في الحياة ينتهي - بهذا الاعتقاد - إلى أن يكون نجاحا في الكسب.
وليس شك في أن تحصيل العيش، أي الكسب في مجتمع يقوم على المباراة الاقتصادية، يجب أن يكون في المقام الأول من التعليم، ولكننا نكسب لنعيش ولا نعيش لنكسب، والحياة لهذا السبب يجب ان تكون أكبر من الحرفة، والنجاح فيها أهم وأخطر من النجاح في الكسب.
يجب أن ننجح في الحياة؛ أي ننجح في الأسرة بعلاقات زوجية حسنة وعلاقات أبوية بارة، وننجح في المجتمع بأن نكون اجتماعيين نقدر الصداقة، ونمارس الضيافة، ونشتغل بالسياسة، وننغمس في المشكلات الاجتماعية، ولنا أهداف نحو خير المجتمع.
ولكن كما نكون اجتماعيين يجب أيضا أن نكون انفراديين، لنا حياة مستقلة نستطيع أن نخلو فيها أحيانا بأنفسنا، وخلواتنا يجب أن تكون للدرس وتامل، أي للفهم.
وهناك من يقول إن غاية الحياة هي السعادة، والفهم يؤدي إلى السعادة، إذا اعتبرنا أن السعادة هي الزيادة في الوجدان والدراية وليست الامتداد في العاطفة؛ لأن ما نأخذه من العاطفة إنما هو السرور فقط: نلتذ بالأكل والتزاوج واللعب والسيادة والفخر، ولكن هذه اللذه تزول بزوال ظروفها التي بعثتها وزوال العاطفة التي جعلتنا نلتذ بها، ولكننا نسعد السعادة العظمى حين نزداد وجدانا، أي دراية بهذه الدنيا؛ ومن هنا يجب أن تكون التربية للفهم حتى نحيا الحياة السعيدة، والسبيل إلى الفهم، الفهم العام المحيط، هو الثقافة.
ولكن الثقافة في أيامنا لم تعد عامة ولا محيطة؛ وذلك لأسباب كثيرة، منها ان المعارف قد كثرت وأصبحت الإحاطة بها شاقة، ومنها أن هذه الكثرة في المعارف قد بعثت على التخصص، وإذا أنت قرأت «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة وجدت أن الطبيب قبل ألف سنة كان «حكيما» كما لا يزال جمهورنا يدعوه؛ أي إنه لم يكن يعرف الطب فقط، بل كان أيضا يعرف الفلسفة واللغة والأدب والتاريخ والدين، وربما يقال إن هذه «الحكمة» لم تكن تنفعه في العلاج، وهذا ما نشك فيه، وخاصة في أيامنا حين نعرف أن المرض يلابس البيئة الاجتماعية وينطوي في كثير من الأحوال على حال نفسية معينة، وإذا قلنا «حال نفسية» فقد قلنا «حال فلسفية»؛ فالطبيب الحق هو في النهاية «الحكيم» الذي لا ينظر إلى المريض بعينيه فقط، وإنما ينظر إليه من خلال عينيه، فيفكر في حالته الاجتماعية واتجاهه النفسي وموقفه الفلسفي، وإذا فرضنا أن الطب يجب ان يتجزأ، وأن الطبيب يجب أن يتخصص في فنه لتيسير العلاج؛ فإننا مع ذلك لا نستطيع أن نقول إن المختصين سواء في الطب أم في غيره قد حصلوا على تربية للحياة، وقصارى ما نصفهم به أنهم حصلوا على مهارة في الحرفة، فإذا اقتصروا على هذا التخصص فإنهم بذلك يبقون أميين في فن الحياة.
والحق أن الانتقال من «الحكيم» الذي يقص علينا ابن أبي أصيبعة حياته في كتابه، إلى «المتخصص»، هو وثبة من النور إلى الظلام، أو من الثقافة إلى العامية، وهناك رأي عام أو خاص بين الأطباء يعبر عن الكراهة للمبالغة في التخصص كما تدل على ذلك هذه النادرة التالية التي ترويها الدوائر الطبية الإنجليزية.
فقد تخرج أحد الطباء في الجامعة وقابل طبيبا كبيرا، فأدلى إليه بأنه يريد أن يتخصص، فسأله الطبيب الكبير: ما هو الفرع الذي تريد أن تتخصص فيه؟ فقال خريج الجامعة الجديد: «أريد أن أتخصص في الأنف وحده؛ لأن المألوف هو التخصص في الأنف والحلق والحنجرة، ولكن أجد أن الطبيب لم يعد يسعه أن يعالج كل هذه الأعضاء، وعليه أن يكتفي بواحد منها». فقال الطبيب الكبير ساخرا: وهل تبغي التخصص في المنخر اليمين أو المنخر اليسار؟
ومع أن القصة خاصة بالأطباء فإن قيمتها الرمزية تتجاوز حرفة الطب إلى الحياة التي يحياها كل منا؛ ذلك أننا نتخصص ونعين حدودا لاهتماماتنا النفسية والذهنية، بل أحيانا تغمرنا الحرفة حتى نعيش لها كأنها هدف الحياة وليست وسيلتها، وكذلك البقال الذي كان يرصد كل وقته للبقالة، فلما مات كتب على قبره: «ولد إنسانا ومات بقالا».
وكلنا على هذه الحال أو حال قريبة منها، وقليل منا من يرفض هذا التخصص الحرفي ويغزو ما حوله من شئون اجتماعية وفنية، فالطبيب لا يدرس الهندسة والأديب يجهل الكيمياء، والعلميون لا يقرءون الشعر، ولذلك لا يستطيع واحد من جميع هؤلاء أن يقول إنه مثقف؛ لأن الثقافة يجب أن تكون عامة محيطة تؤدي إلى فهمنا للطبيعة والإنسان، أي يجب أن نعرفها جميعا على سبيل الإحاطة الاجمالية حتى نعرف ارتباطاتها، وحتى نستطيع أن نسددها إلى الخدمة البشرية، وعندما أتامل الدمار الذي أحدثته مشروعات الري في مصر بصحة التربة والنبات والحيوان والإنسان أحس الحسرة والأسف لأن المهندسين الذين وفروا المياه كانوا يجهلون الطب والبيولوجية، ولو أنهم عرفوا القليل عنهما لما وفروا هذه المياه التي فتكت بصحة الفلاحين ومزقت لحومهم بالديدان، فضلا عن الدمار الذي أحدثته للتربة المصرية، إلا بعد الاحتياط من الأضرار التي كانت ستنشأ من توفيرها.
فهناك ارتباط بين الطب والهندسة كان جديرا بنا - لو عرفناه وعملنا به - أن ننقذ صحتنا العامة ونصونها من البلهارسيا والإنكلستوما والأسكاريس، ولو أن الذين كانوا يعملون في استغلال الذرة كانوا قد درسوا الفلسفة أو الاجتماع أو الدين لما ظهرت هذه القنبلة الذرية التي تهدد الحضارة بالفناء، وقصارى ما نقول هنا إن هؤلاء العلماء الذين كشفوا عن ماهية الذرة، واستخدموها لصنع القنابل، لم يحصلوا على تربية للحياة، وإنما حصلوا على تربية للحرفة، ثم تخصصوا فكان تخصصهم هذا بمثابة الغمامة التي توضع على عيني الجواد حتى لا يرى ما حوله، بل يقصر نظره على ما أمامه فقط.
وأنا لا أعني ضرورة التثقيف العام لمنفعة المجتمع فقط، وإن كانت هذه المنفعة لا تنكر ، وإنما أقصد إلى أن هذا التثقيف ضروري للفرد نفسه حتى يؤدي غاية الحياة وهي الفهم، أي زيادة الوجدان، أي السعادة؛ لأنه ما دامت الحياة أكبر من الحرفة فإن التثقيف يجب أن يكون للحياة قبل أن يكون للحرفة، وأضرب مثلا لاثنين من عظماء المفكرين أحدهما الجاحظ والثاني داروين.
ومع أن داروين قد غير الاتجاه الثقافي لجميع البشر حين وضع نظريته المادية مكان العقائد الغيبية القديمة؛ فإنه بالمقارنة إلى الجاحظ يعد ناقصا لم يحصل على تربية للحياة كما حصل الجاحظ، وهذا بالطبع مع اعتبار العصر الذي عاش فيه كل منهما؛ ذلك أن داروين قد تخصص في البيولوجية فأهمل الأدب والفلسفة والدين والشعر والفنون عامة، حتى لقد كتب وهو في شيخوخته يقول:
إلى أن بلغت الثلاثين من العمر كانت أشعار ملتون وجراي وبيرون ووردزورث وكوليردج وشيلي تثير في نفسي البهجة، وكنت وأنا تلميذ أجد سرورا عميقا في أشعار شكسبير، وخاصة في دراماته التاريخية، وقد سبق أن قلت إن رؤية الرسوم الفنية والاستمتاع للموسيقا كانا يشيعان السرور العظيم في نفسي، ولكني الآن ومنذ سنين لم أعد أطيق قراءة بيت من الشعر، وقد حاولت أن أقرأ شكسبير فوجدته من التفاهة، بحيث أثار الغثيان في نفسي، وفقدت الذوق للرسوم الفنية والموسيقا، وفقداني لهذا الذوق هو فقدان السعادة، وربما يكون أيضا مضرا بالذهن، بل المرجح أنه يضر بالأخلاق؛ لأنه يضعف الناحية العاطفية في طبيعتنا.
هذا ما يقوله داروين عن الضرر الذي أحدثه التخصص في نفسه، وهو ضرر أكيد، وكلنا عرضة له، وكان يمكن أن يزيد داروين فيقول إنه ربما كان توسعه في الثقافة وامتداد ذهنه إلى ميادين أخرى غير درس النبات والحشرات والحفريات ... هذا التوسع وهذا الامتداد كانا جديرين بأن يزيداه فهما في موضوع دراسته بالذات، أي النبات والحشرات والحفريات، وكان ما كأن يكسبه من هذه الثقافة العامة كان حريا أن يزيده فهما للتطور.
وهنا يجب أن أذكر حادثا له علاقه بموضوعنا؛ فإن شركة شل التي تملك منابع البترول في القارات الخمس تمنح موظفيها الاختصاصيين في بحث المواد البترولية مبلغ مئتي جنيه في العام كي ينفقها كل منهم على دراسة شئون أخرى غير البترول، وهي بالطبع لم تقدم هذا المبلغ عطاء وسخاء، وإنما هي وجدت أن التخصص يضيق الذهن ويحدد الآفاق، والثقافة العامة تجذب المتخصص إلى ميادين أخرى فيتحرر ذكاؤه من الضيق.
وفي هذا المثال أيضا قيمة رمزية للحياة، وكيف يجب أن تكون تربيتنا للحياة وليست للحرفة والكسب، وضرورة الثقافة العامة لكل منا. «الثقافة العامة» هذه هي شعار الجاحظ الذي كان أديبا، عالما، فلكيا، نباتيا، يدرس الحيوان والكواكب والسياسة والاجتماع والدين والطب؛ ولذا كان من حيث أسلوب الحياه أفضل من داروين، ولم يحتج إلى أن يشكو شكوى داروين من شيخوخته.
وهنا يجب أن نذكر كلمة كتبها فولتير عن نيوتن؛ فإن نيوتن في الطبيعيات قد وضع من الأسس ما يقارن بتلك الأسس التي وضعها داروين في البيولوجية، وقد كان فولتير يعجب به أكبر الإعجاب، ولكنه لم يغفل عن حدوده الثقافية؛ ولذلك قال فيه:
إني أود لو أن نيوتن كان فيه ألف قصة مسرحية من طراز الفودفيل، حيث تجتمع السخرية بالفكاهة والرقص بالموسيقا، ولو أنه فعل لزادت قيمته عندي؛ وذلك أن الرجل الذي ينبغ في فن قد يكون عبقريا، ولكنه يعود شخصية محببة إذا تعددت فنونه؛ لأن النفس هي النار التي استودعنا الله إياها، فيجب أن نغذوها بكل نفيس وثمين، وأن نفتح نوافذها لفروع المعارف وألوان الإحساسات، بشرط ألا تدخل هذه المعارف والإحساسات في فوضى وتخبط، وفي النفس متسع للعالم كله.
وبكلمة أخرى كان فولتير يأسف على التخصص الذي اتبعه نيوتن، وكان يؤثر أن يراه أديبا شاعرا فنانا كما هو عالم في الطبيعيات والرياضيات.
والخلاصة أننا يجب ألا يحدنا التخصص؛ لأن التربية للحياة قبل كل شيء، وليست لعلم أو فن معين، والوسيلة إلى ذلك هي الثقافة العامة.
سيكلوجية الدرس
ما دمنا قد وصلنا إلى هذه المرحلة، حيث سنشرع في وصف الطرق الناجعة لدراسة المواد؛ فإننا نحتاج إلى بعض الإرشادات السيكلوجية التي تجعل الدارسة سهلة محببة.
وكل دراسة تحتاج إلى شيئين، هما الحافز والذكاء.
فأما الحافز فنعني به العاطفة، حتى تبعث الرغبة أولا ثم الإرادة للدراسة، وهي بمثابة الاشتهاء للطعام، فإننا لا نأكل إلا إذا اشتهينا الطعام، فإذا تولانا حزن أو غضب فإننا نجد أن هذا الاشتهاء قد زال، ولا يجدينا أن تكون لنا معدة سليمة مستعدة للهضم، وكذلك الحال في الدرس، فلا يعنينا أن نكون أذكياء قادرين على الفهم ما دامت النفس نافرة كارهة، وهناك آلاف من الشبان لا ينقصهم الذكاء ولكن ينقصهم الحافز، وهؤلاء يحتاجون إلى أن تتغير نفوسهم، وأن يحسوا هذا التغيير الذي لا يقل في قيمته عن التغير الديني لأن الشخصية تجد أهدافا جديدة في الحياة.
وقد حدث في الحرب الماضية (1914-1919) أن جند بعض الشبان في الولايات المتحدة ونقلوا إلى ميدان القتال في فرنسا، وكان آباؤهم من المهاجرين يجهلون كتابة اللغة الإنجليزية، وكان بعضهم فوق الستين، ومع ذلك شرع يتعلم الهجاء والكتابة كي يستطيع أن يراسل ابنه في فرنسا، وثبت أن هؤلاء الشيوخ تعلموا القراءة والكتابة بسرعة غريبة لأن الحافز كان قويا، بعث العاطفة والإرادة، من الحب الأبوي للأبناء.
وثم حادثة أخرى لها دلالتها السيكلوجية، ففي بعض سنوات الكساد والتعطل في النمسا وجد في إحدى المدن الصغيرة بإحصاء القراء في المكتبة العامة، أنه على الرغم من توافر الوقت للعمال (بسبب التعطل) فإنهم لم يقرءوا من الكتب نصف ولا ربع ما كانوا يقرءون وقت عملهم وتكسبهم؛ وذلك لأن العامل وقت التعطل كان حزينا فاترا لتعطله، فلم تنشط نفسه إلى الدرس والقراءة، أما وقت العمل فكان - على الرغم من قلة فراغه - نشيطا مسرورا، فكان يقرأ.
فهذان المثالان يدلان على قوة الحافز في الدراسة، فعجز الشيخوخة لا قيمة له ما دام الحافز قويا، وفراغ اليوم كله لا يجدي في الدرس ما دامت النفس محزونة بالتعطل.
ولذلك يجب على الراغب في الثقافة أن يجد الحافز في نفسه، وذلك بأن يعين أهدافه في هذه الدنيا، فيقعد مثلا في خلوة غرفته ويسأل لماذا يعيش؟ وهل يصح أن يقضي 70 أو 80 سنة على هذا الكوكب وهو لا يعرف غير أحاديث القيل والقال في المجلات الأسبوعية وألعاب الحظ وقضاء الوقت في خواطر اليقظة السخيفة؟
وهو لا بد واصل يوما ما إلى إقناع نفسه بضرورة الرقي بالتثقيف الذاتي؛ وعندئذ يحس الحافز وتنشأ فيه العاطفة، وهنا البداية أي الرغبة العامة في الدرس، ثم تنتهي إلى التخصص في دراسة موضوع معين، وهنا الإرادة.
وفي بعض الأحيان نجد الحافز طبيعيا، قد أحدثته الطبيعة في شوهة ميلادية تلازم الشخص مدى حياته وتحفزه على التفوق عن سبيل الثقافة؛ ذلك أنه يجد الاحتقار من زملائه لأنفه الضخم، أو لعوج في جسمه، أو لدمامة وجهه أو نحو ذلك، فتكون الثقافة سبيلا إلى الامتياز من حيث لا يستطيع غيره أن يباريه فيه؛ لأنه يبذل عندئذ مجهودا أكبر منه، وكلنا يعرف المثل المألوف في تلك الفتاة الجميلة ترى الإعجاب بها من كل ناحية فلا تبذل المجهود الذي تحتاجه الثقافة وتبقى طوال حياتها بذكاء غشيم غير مدرب، في حين أن تلك الأخرى التي لم تتمتع بمثل هذا الجمال تجهد وتمهر وتحصل، فيتفتح ذكاؤها، وتجد السبيل إلى الثقافة العالية.
فالحافز هنا هو نوع من مركب النقص، نقص يحمل على التكمل، وحاجة تبعث على النشاط للتفوق.
ولكن يجب ألا يحتاج كل منا إلى شوهة يولد بها كي تبقى مهمازا ينخس نفسه ويحثها على التفوق.
والقصد من الدرس هو التعلم، أي نقل المعارف إلى حياتنا بحيث ننتفع بها في الفهم وفي سلوكنا واتجاهنا وميولنا وتصرفنا الخاص والعام، وواضح أنه لا قيمة لأية دراسة لا تتفاعل مع حياتنا، أي ليس لها وظيفة عضوية في كياننا النفسي.
فإذا أحسسنا الحافز، فإننا لا نبالي بعد ذلك مقدار مانملك من ذكاء؛ لأن قليلا من الذكاء مع كثير من الرغبة في الدرس هما خير ألف مرة من ذكاء عبقري مع انعدام الرغبة.
ويجب في دراستنا أن نراعي هذه الإرشادات: (1)
أن نتصفح الكتاب جملة، فنتعرف الفهرست ونقدر ما نمنح المؤلف كلا من الموضوعات من الأهمية، وهذا لا يكلفنا أكثر من بضع دقائق. (2)
بعد ذلك نقرأ الكتاب بترتيب المؤلف فلا نختار فصولا قبل أخرى. (3)
يجب أن نجعل الوجبة الذهنية مثل الوجبة الطعامية؛ أي يجب ألا تكون كبيرة نتخم بها، فكما أننا لا نستطيع أن نأكل وجبة تكفينا أسبوعا، كذلك يجب أن نقتنع بما يكفي الذهن يوما حتى لا نكل ونصد، بل حتى نفهم ونهضم. (4)
يجب أن نجعل دراستنا مزدوجة؛ أي لا نقنع بالقراءة بل نزيد عليها كتابة، فإذا قرأنا فصلا لخصناه مع التعليق والنقد، وأحسن الطرق لأن نفهم الكتاب أن نلقي عنه محاضرة؛ لأننا عندئذ نشارك المؤلف في تأليفه، ونستذكر أشياء كثيرة ما كنا لنستذكرها لو إننا كنا قد قنعنا بالقراءة.
وعلى القارئ أن يذكر هنا أننا نقرأ الإنجليزية أو الفرنسية ولكنا نعجز عن كتابتهما، ولا نستطيع الكتابة إلا بعد مرانة طويلة، فليذكر هذه الحقيقة في دراسة أي موضوع، فالقراءة أسهل من الكتابة، ونحن نعرف الموضوع أكثر إذا مارسناه قراءة وكتابة. (5)
إذا وجد القارئ أن ذهنه يتشتت في وقت الدرس فعليه أن يذكر أن هذا التشتت يدل على أنه بدأ يعمل عملا ما قبل الدرس ولم يتممه، والتشتت برهان على أن نفسه تنزع إلى إتمام هذا العمل.
فربما كان قد شرع في قراءة قصة ولم يتمها، وربما كان ينوي قراءة المجلة ولكنه آثر عليها الدرس، وربما نفسه تنازعه إلى الرد على خطاب وصل إليه وأجل هو الإجابة، وربما هو يذكر ميعاد المقابلة لأحد الأصدقاء أو تأدية عمل آخر ... إلخ، فما دامت هذه الأعمال قائمة في ذهنه ولم تتم فإنه مشتت عاجز عن حصر ذهنه في الدرس؛ ولذلك يجب عليه أن يتم كل هذه الأشياء قبل الدرس. (6)
أحسن الأوقات للدرس هو الصباح؛ لأن النوم مع الأحلام التي نذكرها أو لا نذكرها، يكون قد مسخ العواطف السيئة التي تكونت في نهار الأمس، وهذه العواطف تشتت الذهن؛ لأنها تذكرنا بحوادث لم نسر منها أو لم ننته منها، ودراسة المساء سيئة من هذه الناحية. (7)
ولكن دراسة المساء قد تكون حسنة إذا كانت إيحاءات النهار حسنة . (8)
يجب أن نعين الوقت والمكان للدرس، بحيث يصير الدرس عادة، فإذا دقت الساعة تنبهت النفس، وإذا دخلنا الغرفة وجدنا أن جوها ينادينا بالقراءة والدراسة.
يجب أن نتجنب النفس الأخير، ونعني بهذا أننا عندما نشرع في مجهود ذهني نجد أن الإرادة تحملنا على بضع ساعات من العمل، وهذا هو النفس الأول، ومن الحسن أن نقنع به، ولكن ربما نجد أن العمل يحتاج إلى نفس ثان، فنستأنف العمل مجهودين ونحس الجهد في الأولى ثم تحملنا الإرادة على العمل ونقطع شوطا فيه وهذا هو النفس الثاني، وإلى هنا يجب وجوبا حتميا أن نقف كي نرتاح بالنوم أو النزهة.
ولكن يحدث أحيانا أن نضطر إلى إنهاء عمل ما فنستأنف العمل مجهودين كارهين، وهذا هو النفس الثالث، وهو يحملنا على قطع شوط أكبر مما قطعنا في النفس الثاني، بل وربما أكبر من النفس الأول.
ولكن يجب مع ذلك أن نتجنب هذا النفس الثالث؛ لأننا في الحقيقة نؤديه ونحن محمومون، وهو مرض، ويجب ألا يخدعنا ما نحسه من حماسة وقدرة.
وهذا النفس الثالث قد يؤدي بنا إلى انهيار نفسي يحتاج إلى أشهر من العلاج.
كيف نقرأ الكتاب
إذا كانت الجريدة كبيرة الخطورة في مجتمعنا لقوة الإيحاء الذي تحدثه بالتكرار، وإذا كانت خطورتها هذه تعظم مدة الحرب لأن العالم يسرع عندئذ في تغيره وتطوره، فإن الكتاب لا يزال وسيبقى قوي الأثر في التثقيف الذاتي، ولن تعادله، بل لن تقاربه الجريدة في ذلك.
والشاب الذي ينشد الثقافة يجب أن يجعل معظم فراغه وقفا على دراسة الكتب، ولا نقول قراءتها؛ لأن الدراسة هنا يجب أن تكون عادة المثقف، أي يجب عليه أن يقرأ بالقلم، يعلق هنا، ويشرح هناك على الهوامش، ولا يبالي أن يبلى الكتاب، وهو حين يفعل ذلك إنما يشارك المؤلف في التأليف، ويعود هذا الكتاب «العام» ملكا خاصا له قد طبعه بشخصيته بما ترك في هوامشه من شروح وتعليقات، وخير من هذا أن نكتب ملخصات في كراسة عن كل كتاب، حتى نعين درجات انتفاعنا بها، وكما أننا نعنى بطعامنا، نختار أفضل ما يباع منه كي ننتفع به في صحتنا، وكما نختار أجود الأقمشة لملابسنا، كذلك يجب أن نختار أفضل الكتب لتثقيفنا، وذلك بأن نعمد إلى خير المؤلفين الذين نعرف أننا ننتفع بهم فنقتني مؤلفاتهم، ويجب أن نؤثر المطولات على المختصرات.
ثم يجب أن نتوخى التخطيط دون التسكع، فلا نقرأ جزافا بل ندرس ونهدف عن تبصر إلى الغاية التي نريد تحقيقها في الدرس، وليس من الشاق على الشاب أن يخلو إلى نفسه ويتعرف إلى حاجاته الثقافية ثلاث أو أربع جلسات، يخرج منها ببرنامج لسنة أو سنتين يعين فيها المواد التي يجب أن تدرس في هذه المدة، والشاب هو خير من يختار لنفسه المواد التي يريد أن يدرس؛ لأنه في هذا الاختيار يصدر عن حاجة نفسية، ولكنه قد يحتاج هنا إلى من يرشده إلى أسماء بعض الكتب التي ينتفع بها.
وفي عالم الثقافة كتب تعد أمهات يجب أن يعرفها كل مثقف، ونعني كل مثقف في العالم، كي يصل إلى ما نسميه «العقل العام»، وقد وضع بعضهم قوائم «بمئة كتاب» وجدوا أنها ضرورية لكل دارس، وسنبحث هذا الموضوع في فصول قادمة.
وعلى القارئ - أو بالأحرى الدارس - أن يعنى بمكتبته، فيقتني أفخر الخزائن والرفوف، ويجلد الكتب؛ وذلك كي لا ينفر من بذاءتها، ويجب أن يجد في مكتبته كل إغراء لجذبه إليها، سواء من ناحية اعتدال الهواء فيها أو من ناحية اختيار الأثاث.
والشاب المحظوظ هو الذي يهوى الثقافة؛ أي إنه يكون قد تعودها عن هواية لازمته منذ الصبا، فهذا لا يكاد يحتاج إلى قراءة هذا الكتاب؛ لأن بين الكتاب وبينه علاقة فسيولوجية، فهو يختار الكتب عن حاجة نفسية يحسها، ونفسه تنمو بالكتب كما ينمو جسمه بالطعام.
ومما يحسن بالشاب أيضا أن يعمد إلى أحد المؤلفين العالميين الذين أحبهم ووجد لهم الأثر الكبير في عصرنا، فيقرأ ويدرس كل كتبه هذا المؤلف منذ شرع يكتب، ولا يترك شيئا له يستطيع الحصول عليه؛ لأنه حين يفعل ذلك يضم إلى اختباراته الشخصية اختبارات هذا المؤلف ورؤياه في الدنيا، وهو حين يتعرف إلى تطور المؤلف، وكيف تغير في أربعين أو خمسين سنة، إنما يتعرف إلى تطور العصر أيضا.
فلنفرض أن القارئ يحب طه حسين مثلا، فعليه عندئذ أن يترجم هذا الحب إلى دراسة كل ما كتبه طه حسين مما يباع ومما لا يباع، وعليه أن يتقصى كتاباته، وهو طالب بالأزهر قبل 45 سنة، وعليه أن يقرأ كل ما كتب ضده كما يجمع مؤلفاته، وهو بهذا النشاط ينتفع باختبارات طه حسين ورؤياه وكأنه قد عاش حياته وشاركه في مؤلفاته، وهكذا الشأن في سائر المؤلفين؛ فإننا يجب أن نختار واحدا أو أكثر، نتعرف إلى حياتهم واختباراتهم، ونجمع مؤلفاتهم، حتى نستبصر بالتطور الفكري الذي كانوا يدركونه فترة بعد فترة من حياتهم.
ولسنا نبالغ في قيمة الكراسة للتلخيص والتعليق؛ فإن الطالب الذي يحقق ويدقق يجب أن يقتني هذه الكراسة، ولكن يجب عليه أيضا أن يقتني كراسة أخرى يقيس أو يعين فيها مراحل رقيه الذهني بصرف النظر عن هذا الكتاب أو ذاك؛ أي إن الكراسة الأولى تختص بتقدير، الكتب أما الثانية فبتقدير رقيه الشخصي والذهني.
ويجب على الطالب ألا يسأم من التساؤل: هل أنا ارتقيت بدراسة هذا الكتاب؟ هل أنا ارتقيت في السنوات الثلاث الماضية؟ وما هي أوجه الرقي التي أستطيع أن أقول إني حققتها في هذه السنوات؟
وإذا كان هذا التساؤل قد يؤدي إلى شيء من النفور من الكتب فلا بأس في ذلك؛ لأن هذا النفور هو في صميمه زهد روحي وحديث نفسي سوف يؤديان إلى زيادة التحقيق والتدقيق في التثقيف الذاتي، بل ربما تكون هذه الفترات فرصة لتغيير القيم الثقافية والانسلاخ في الشخصية، كما تنسلخ العذراء وهي في فيلجتها - أي خدرها - إلى الفراشة، فيخرج الطالب بعد هذا النفور إلى اهتمامات جديدة لم تكن له من قبل، وقد يصل منها إلى آفاق أرحب، وأفلاك أبعد، فيعرف كتابا جددا يحصل منهم على تربية جديدة تثرى بها نفسه، وربما تتغير بها أهدافه.
دراسة اللغة العربية
اللغة العربية هي لغة الثقافة للأقطار العربية، نقرأ بها الكتاب والجريدة، وعلى ألفاظها بني المجتمع الذي نعيش فيه، فيجب أن ندرسها ونتعرف إلى ما جل ودق من معانيها، وهناك من السيكلوجيين من يزعم أننا لا نستطيع أن نفكر بلا لغة؛ أي إن معانينا إنما هي ألفاظ قبل كل شيء، وتفكيرنا إنما هو كلام صامت.
وهناك من يرجح صحة هذا الزعم إلى حد بعيد، والكاتب الذي مارس الكتابة هو أول من يحس صحة هذا الزعم؛ فإن المعاني كثيرا ما تأتي عقب الألفاظ، وقلة الكلمات في لغة المتوحشين هي من أكبر الأسباب لتوحشهم؛ لأنهم لا يجدون المعاني الراقية، لعدم وجود كلمات التي تعين هذه المعاني، واللغة التي تحتوي الكلمات الدقيقة التي تعين المعاني المفهومة المحدودة، تساعد الأمة على الرقي، بخلاف اللغة التي تحتوي الكلمات المترادفة، أو التي تحمل معاني مختلفة وأحيانا متناقضة، فإنها تؤخر الأمة لأنها تفسد المنطق وتعطل التفكير، وهي - أي كلمات - تكون عندئذ بمثابة النقد الزائف الذي لا يشترى بمقدار ما كتب عليه من قيمة، أو أن قيمته تزيد أو تنقص بلا حساب.
ولغتنا العربية، مع العناية في الاستعمال، وتخير الحسن من الألفاظ، وترك السيئ، تعد من أفضل اللغات، ونستطيع مع هذه العناية أن نصل منها إلى الأسلوب الاقتصادي، أو حتى إلى الأسلوب البرقي في التعبير، ولكنا ورثنا عادات كتابية جعلت للغة العرب عند أمم العرب الآن كما كانت اللاتينية عند الأوروبيين في القرون الوسطى؛ أي مجموعة من الزخارف اللفظية السخيفة، وافتخار بالمترادف، وإمعان في الألاعيب البلاغية الصبيانية، حتى انقطع التفاعل بينها وبين المجتمع، فالمجتمع يتطور بعيدا عن اللغة العربية التي أصبحت خرساء لا تنطق بنحو مئة علم وفن يستمتع وينتفع بها جميع الأمم المتمدنة دوننا.
ولهذا الانفصال القائم بين اللغة والمجتمع نجد أن الأدب متأخر لا يعبر عن النفس المصرية، بل إننا لا نكاد نعرف ما هو فن الدرامة لهذا السبب أيضا، وهناك من يزعم أننا سوف نكتب - كما نتكلم الآن - باللغة العامية، بل يجب أن نسعى ونجد كي نصل إلى هذه الغاية، والخبط كثير في هذه المشكلة التي يرجو مؤلف هذا الكتاب أن يدلي فيها برأي في القريب؛ لأن مشكلة اللغة العربية هي مشكلة التفكير والثقافة للمصريين، واللغات في مباراة سوف تسقط فيها اللغة التي تعجز عن التثقيف والخدمة، وهناك حركات ذهنية جديدة مثل الحركة السيمائية أي البلاغة الجديدة التي تطارد الزخارف وتبتكر الألفاظ الخادمة، وهناك «الإنجليزية الأساسية» التي تعتمد على 946 كلمة أساسية فقط لدراسة اللغة، ويقصد منها تعميم الإنجليزية في العالم كله بتسهيلها إلى أقصى حد حتى لا يحتاج الأجنبي عنها لتعلمها إلا بضعة أسابيع أو أشهر، وأول ما نحتاج إليه في مصر لإصلاح لغتنا أن نجعل زيادة كلمة في التعبير خطأ لا يختلف من الخطأ في نصب الفاعل أو رفع المفعول.
وطالب الثقافة في مصر، أو أي قطر عربى، يحتاج إلى أن يعرف اللغة العربية معرفة دقيقة ووافية حتى لا يجد نفسه غريبا عندما يقرأ الأغاني أو مؤلفات المعري أو ابن خلدون، وخير الطرق لتعلم اللغة أن ندرس الموضوعات التي نهتم بها فتنتقل إلينا كلمات اللغة في الجو الذي استعملت فيه؛ فالطبيب العصري يمكنه أن يقرأ في لذة وفهم كتاب ابن أبي أصيبعة «طبقات الأطباء»، وهو عندئذ لا يبالي بعض الكلمات التي تصادفه مهما تكن غريبة عليه؛ لأنه سيفهمها في جو المعاني المحيطة بها، ودارس الفلسفة يستطيع أن يتابع ابن رشد أو ابن سينا في التعبيرات الغريبة التي يعجز المتخصص في اللغة عن فهمها، وبكلمة أخرى يجب ألا ندرس اللغة مباشرة، أي يجب ألا نتعمد دراسة اللغة كأنها مادة منفصلة؛ لأن الواقع أن اللغة هي أسلوب للتعبير، والتعبير يعني في النهاية معالجة موضوعات.
ولسنا نقصد من هذا إلى أننا لا نحتاج إلى معجم نستشيره كلما صادفتنا صعوبة لغوية، بل العكس؛ فإن طالب الثقافة لا يمكنه أن يستغني عن الرجوع إلى المعجم واستشارته من وقت لآخر، وعليه أن يدرك أن دقة الفهم والتمييز تعني دقة التعبير، والكتاب الذي يرضى بالجملة المفككة، ويهمل العبارة المحبوكة على قدر المعاني المطلوبة، إنما يؤذي القارئ لأنه يحمل إليه تفكيرا مفككا غير محبوك.
ويجب ألا نترك دراسة اللغة للمختصين؛ لأننا إذا فعلنا هذا أهملنا الوسيلة الكبرى للتفكير، لأننا نفكر باللغة، ومن الحسن لكل مثقف أن يمارس الكتابة، إما بمراسلة الصحف وإما بتأليف رسالة أو كتيب في موضوع يهتم به؛ لأن الكتابة تحمله على التدقيق في اختيار الكلمات والدقة في استعمالها، والفائدة تعود عليه في النهاية لأنه يتعود هذه الدقة في دراسته وتربيته الذاتية.
ويجب أن نميز بين الفهم السلبي والفهم الإيجابي للغة؛ فإننا حين نتعلم اللغة الإنجليزية مثلا إنما نعني أن نتعلم قراءتها، فنحن نقرأ كتابا إنجليزيا فيكون فهمنا سلبيا، ولكن إذا كنا نقرأ هذا الكتاب، ثم نعالج تلخيصه باللغة الإنجليزية فإن فهمنا له يعود فهما إيجابيا.
فالقدرة على القراءة تعد فهما سلبيا، ولكن القدرة على الكتابة تعد فهما إيجابيا، وليكن لنا دلالة من هذه الحقيقة في دراستنا للكتب العربية؛ فإذا عمدنا إلى تلخيص ما نقرأ، أو إذا ألقينا محاضرة عما نقرأ، فإن هذا يحملنا على زيادة الدرس للموضوع، وأيضا للغة.
وربما يجد القارئ لهذا الفصل تعمقا وتوسعا في كتابي «البلاغة العصرية واللغة العربية».
الأدب العربي القديم
هذا المجتمع المصري، بل كل مجتمع عربي، إنما نشأ في حضن الثقافة العربية ورضع من تقاليد الإسلام، ولا يمكن مصريا أو عربيا أن يهمل الثقافة العربية القديمة لهذا السبب، والشاب المثقف، سواء أكان مسلما أم غير مسلم، يحتاج إلى دراسة القرآن كي يفهم الأصول التي بني عليها مجتمعنا، كما يحتاج إلى دراسة الأدب العربي، بل الثقافة العربية العامة، كيف نشأت ونضجت ثم انحطت وتدهورت، وعليه أن يتعرف إلى العلل التي منعت العرب من أن يبعثوا النهضة الحديثة بدلا من الأوروبيين، على الرغم من أن العصور الوسطى عندهم لم تبلغ في الظلام تلك الحلكة التي بلغتها في أوروبا، وعليه أيضا أن يعرف حدود النهضة العربية القديمة.
وخلف كل نهضة في الأدب أو العلم أو الدين حالات اقتصادية هي التي تحرك وتحدث التغير والتطور، وحسبنا أن نقول هنا إن المجتمع العربي كان إقطاعيا في كل عصوره حربيا في بعض عصوره ، وإن الثقافة العربية تأثرت بهذا الوضع الاقتصادي، وإذا شئنا التلخيص استطعنا أن نقول: (1)
إن الأدب العربي كان يخدم الطبقة العالية من الأمة، من خليفة أو أمير أو ثري، وإنه لم يكن قط ديمقراطيا إلا في حالات قليلة جدا في مصر حين أثرت أيام الفاطميين والمماليك بنقل التجارة بين أوروبا وآسيا، فألف الكتاب للشعب كتبا مثل ألف ليلة وأبي زيد وقصة بيبرس. (2)
إنه كان فردي النظر، لم يجعل العالم موضوعه ولا المشكلات البشرية أساس اهتمامه. (3)
تأثر الأدب العربي تأثيرا سيئا جدا بانفصال الجنسين. (4)
النظرة العالمية في الأدب العربي هي - كما كانت في أوروبا مدة القرون الوسطى - نظرة إلهيه غيبية وليست إنسانية عالمية. (5)
كاد العرب ينهضون في الفلسفة، ولكن الغزالي وأمثاله قتلوا هذه النهضة؛ لأنهم وصموا الفلسفة بالكفر.
أما لماذا لم يحدث العرب النهضة التي أحدثها الأوروبيون في منتصف القرن الخامس عشر، فإني أنقل إلى القراء الأسباب التي يراها «كروثر»، فهو يقول إن الذي حال دون النهضة عند العرب هو: (1)
الرق؛ لأن العمل اليدوي وصم به، ولم يعد المجتمع العربي يحتاج إلى اختراع آلات تخفف منه أو تغني عنه. (2)
تحريم الربا؛ لأن إنشاء المصارف أصبح شاقا أو متعذرا، والمصارف ضرورية للتجارة وراء البحار أو حتى بين مدينة وأخرى. (3)
منع التشريح؛ لأن الطب والبيولوجية لم يعودا من العلوم التجريبية. (4)
منع التصوير، ولهذا المنع علاقة بالطب والبيولوجية والبناء والنحت ... إلخ. (5)
قلة الخشب وعدم وجود الفحم؛ لأن بناء السفن والمصانع واعتمال المعادن يحتاج إليهما.
هذه هي - في رأي كروثر - الأسباب التي منعت العرب من القيام بالنهضة، وهي أسباب في ذاتها وجيهة، ولكن الموضوع لا يزال بكرا يحتاج إلى زيادة في البحث والدرس؛ فإننا مثلا لا نعرف لماذا لم يعرف العرب البرلمان أو المجلس البلدي كما عرفهما الأوروبيون حتى في القرون الوسطى، وربما كان أعظم الأسباب لتأخر العرب ينحصر في استيلاء الأتراك والفرس والتتار عليهم، مع عجز العرب عن إدماغهم في جسم الأمم العربية؛ إذ بقوا منفصلين يمارسون السيادة الدينية فقط ، ويجب على كل حال أن نذكر أن ظلام القرون الوسطى عند الأمم العربية كان أقل حلكة مما كان في أوروبا، وأن الثقافة العربية فيما بين سنة 700 و1400 كانت أرقى بكثير من الثقافة الأوروبية في هذه الحقبة، وربما تكون الأسباب التالية جديرة بالنظر والاعتبار: (1)
لم يكن عند العرب كهنة يستأثرون بالثقافة ويحدون من حرية الفكر، وإن كان كثير من الخلفاء العباسيين قد اصطنعوا حقوق الكهنة، وهذا بخلاف الحال في أوروبا حيث استأثر الكهنة بالتفكير وقطعوا الصلة بينه وبين الشعب. (2)
بساطة الإسلام وخلوه من الارتباكات الغيبية، جعلت المسلمين أكثر حرية في التفكير من الأوروبيين. (3)
لسعة العالم الإسلامي، من حدود الصين إلى المحيط الأطلنطي، ولحرية العرب في الوصول إلى الشرق الأقصى، صار من الممكن إنشاء مدن كبرى، والمدينة الكبيرة التي تتسع دائرة تجارتها إلى الأقطار البعيدة هي أساس الثقافة الخصبة، أما أوروبا فإن ثقافتها عادت قروية؛ لقطع المواصلات بينها وبين أفريقيا وآسيا (والعرب هم الذين قطعوا هذه المواصلات). (4)
كان البحر وسيلة للمواصلات عند العرب، ولم يكن كذلك عند الأوروبيين. •••
والآن قد يتساءل القارئ: لماذا كل هذا الشرح عن الأدب العربي أو الثقافة العربية القديمة، مع أن الغرض الأصلي من هذا الفصل أن نعرف الطرق التي تمكننا من دراستهما؟
فنجيب على هذا السؤال بأنه يجب التقدير والتقويم؛ فإن كثيرين من الراغبين في الدراسة والثقافة في مصر يقتصرون على أدب العرب كأنه خير ما أنتجت عقول البشر، وكأن هذا الكوكب، وما أنتجته عليه عقول الإغريق والصينيين والهنود والألمان والإنجليز وغيرهم، لا قيمة له إلى جنب الثقافة العربية القديمة؛ فإن من أوجب واجباتنا أن ندرس الأدب العربي، ولكن بشرط أن نعرف مكانه في الآداب العالمية؛ لأنه قبل كل شيء موسوم بالقرون الوسطى، وهو بعيد عن النهضة العصرية البشرية.
أما ماذا نقرأ في الأدب العربي القديم، فهذا ينقسم قسمين:
أحدهما أمهات الكتب التي يجب أن نقتنيها ونحتفظ بها للمراجعة والاستشارة، وأما القسم الأخر فتلك الكتب التي نستطيع أن نستغني عن بعضها أو نتوسع في بعض دون بعض منها.
وعندي أن كل شاب ينشد الثقافة، ويريد أن يكفل لنفسه معرفه عامة بالثقافة العربية القديمة، يحتاج إلى أن يقتني هذه الكتب الستة التالية، وهي تبلغ نحو 70 أو 80 مجلدا: (1)
القرآن، باعتباره الأساس الذي بني عليه المجتمع العربي، وليس هذا واجب المسلم فقط بل واجب المسيحي أو اليهودي أو الملحد أيضا. (2)
تاريخ الطبري، ومنه نعرف الحقائق والأساطير التي تكونت بها العقلية العربية، وهذا إلى سرد محقق لتاريخ العرب في القرون الثلاثة الأولى. (3)
معجم الأدباء لياقوت، فإنه موسوعة أدبية في غاية السمو، وتراجم الأدباء مع التعليق على أشخاصهم ومؤلفاتهم بقلم أديب مثل ياقوت تنير القارئ عن البيئات التي زكا فيها الأدب العربي القديم. (4)
الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، فإنه موسوعة أدبية عظيمة أيضا، وهو يشرح لنا المجتمع العربي في الطبقات العالية. (5)
لسان العرب لابن منظور، وهو معجم يشبه الموسوعة كتب على الطريقة القديمة في المعاجم. (6)
نفح الطيب للمقريزي عن تاريخ الأندلس، وهو يشرح لنا ألوانا من الرقي والانحطاط في هذا الحلم العربي الذي أوشك أن يكون حقيقة، ولو أنها كانت قد تمت في أوروبا لتغير تاريخنا.
هذه الكتب الستة يجب أن تقتنى وتحفظ، وتعد أساسا للثقافة العربية القديمة. •••
وأحسن ما ننصح به في دراسة الأدب العربي القديم هو كتابان للدكتور على الوردي، الأول هو «وعاظ السلاطين»، والثاني هو «أسطورة الأدب الرفيع»؛ فإن في هذين الكتابين ما يفتح العقول والعيون معا على حقائق تواطأ كثيرون على إخفائها، ولا يمكن لذلك فهم الأدب العربي بدونها.
الكتب العربية القديمة
في الفصل السابق ذكرنا ستة من الكتب التي تعد مراجع تدرس وتقتنى للرجوع إليها من وقت لآخر، وهي جميعا ضرورية. أما في هذا الفصل فسنذكر بعض الكتب العربية القديمة في الأدب والسياحات والتاريخ والعلوم، ويمكن القارئ أن يأخذ منها بالقدر الذي يريد، وأن يتوسع هنا ويتزيد، أو يقنع هناك ويقتصر، فلعله يؤثر الأدب على التاريخ أو العكس، ولعله يميل إلى الدارسات الفلسفية ويجب أن يقتني مؤلفاتها بدلا من كتب التراجم أو السياحات، والشاب الذي يدرس الثقافة العربية ، ويهوى فنا منها، يستطيع بعد قليل من الدراسة أن يسترشد مستقلا بفنه، كما يستطيع أن يتجاوزه إلى فنون أخرى تتصل به.
والثقافة العربية القديمة هي قبل كل شيء ثقافة الأدب، فهي غنية في هذه الثروة، وكي نعرف الأدب العربي على أحسنه وأنضجه وأفحله يجب أن نقرأ الجاحظ، بل يجب ألا نترك للجاحظ كلمة كتبها دون أن نعرفها ونتأملها؛ فإنه أعظم أدباء العرب قاطبة، وهو رجل موسوعي الذهن يكاد يكون بشري النزعة، وهو يتحمل المقارنة مع أي أديب أوروبي، ويخرج أحيانا من هذه المقارنة مزكى بل ظافرا، وربما يحسن بالقارئ أن يتقدم إليه بعد أن يقرأ الفصل البديع الذي كتبه في ترجمته ياقوت. وجمهور المثقفين يذكرون «البيان والتبيين» كأنه خير مؤلفاته، ولكن الواقع أن جميع مؤلفات الجاحظ من الطراز الأول وليس فيها شيء من الطراز الثاني أو الثالث، والانتقال من الجاحظ إلى أي أديب عربي آخر هو انحدار كبير؛ لأنه ليس بين أدباء العرب أيام الأمويين أو العباسيين من يقاربه، فضلا عن من يساويه؛ لأن الجاحظ كان في كل ما كتب يدل على اهتمامات ذهنية حيوية وكان يعالجها بنضج، إن لم نقل بفحولة، وهو عبقري في مجادلاته الدينية، كما هو في فكاهاته، بل كما هو في جولاته حتى في دراسة الحيوان؛ ولذلك فإننا نستطيع أن نقول إن الشاب الذي يجهل الجاحظ إنما يجهل شيئا كثيرا من أجود ما كتب قديما في اللغة العربية، ويأتي بعد الجاحظ الشعراء من أمثال المتنبي وابن الرومي وأبي تمام وأبي العتاهية والأخطل والمعري، ومن الحسن أن ندرس ترجمة طه حسين للمعري، ورسالة الغفران بتعليق كامل كيلاني.
ونصيحتنا للطالب هنا أن يدرس أديبا واحدا كل الدرس، فلا يترك له شيئا، وأن يلتفت إلى غيره بعد ذلك التفات المتنزه المختار؛ ولذلك فإن شرح ابن أبي الحديد على «نهج البلاغة» مثلا يعد من الكتب الفريدة التي نحتاج إليها في دراسة الجاحظ وغيره من الأدباء كما نحتاج إلى كتب أخرى قد تفرقت فيها أخباره وكتاباته، ونستطيع أن نسترشد بمؤلفات أحمد أمين في دراسة التطور الفكري في القرون الثلاثة الهجرية الأولى، وبكتاب عصر المأمون لفريد الرفاعي، وعندي أن الشخصيتين البارزتين في الأدب العربي القديم هما الجاحظ والمعري، أما من عداهما من الشعراء والكتاب فيمكن دراسته على مهل، بل في الضوء الساطع لهاتين الشخصيتين، بل أحيانا أظن أنه يمكن إهماله كله.
وهناك من يكبر من شأن المتنبي، وعندي أن قيمته تنحصر في دلالة الصراع الذي قام بين الروم والعرب، وكانت الدولة الحمدانية بؤرة في هذا الصراع، أما الهمذاني والحريري وأمثالهما فمؤلفاتهم يتداولها القراء، وهي كبيرة الدلالة التاريخية، أما القيمة الفنية فشأنها صغير جدا.
وعلى القارئ أن يسترشد في الشعر بحماسة أبي تمام ومختارات البارودي، وكلتاهما تفتح له الباب للتوسع.
ويجب أن ندرس كتب السياحات العربية، مثل ابن بطوطة وابن جبير؛ فإن ابن بطوطة رحل من شاطئ المحيط الأطلنطي (عند طنجة) إلى شاطئ المحيط الهادي (في الصين)، وهو يكشف لنا عن دنيا عظيمة في القرون الوسطى كنا نجهلها، أو نجهل الشيء الكثير منها لولاه، وأقل منه - ولكن أعقل منه - ابن جبير؛ فإنه يصف لنا أقطار البحر المتوسط، وإلى هؤلاء يجب أن نضيف الجغرافيين، أمثال الإدريسي، وكتاب ياقوت في البلدان، وهو معجم يحفظ للمراجعة.
أما العلوم العربية القديمة فثروتنا فيها صغيرة؛ فإن حياة الحيوان للدميري، ثم طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وكتاب الأنطاكي في العقاقير، وكتاب البيروني عن الرياضيات، ومؤلفات ابن سينا، كل هذه العلوم التي تعالج الطب والمواد والرياضيات والحيوان قد اختلطت فيها الأساطير بالحقائق، وقيمتها كلها تاريخية، ويجب أن نسترشد هنا بكتاب «تراث العرب العلمي» لمؤلفه قدري حافظ طوقان.
واللغة العربية حافلة بالمؤلفات التاريخية، وقد ذكرنا الطبري في الفصل السابق وعددناه مرجعا للاستشارة، ونزيد هنا مؤلفات ابن الأثير والمسعودي وابن خلدون وابن خلكان (وهذا الأخير يترجم بحياة البارزين إلى عصر صلاح الدين).
أما الفلسفة فإن مؤلفات ابن سينا والفارابي والرازي وابن رشد (وهو أعظمهم) وجماعة إخوان الصفا، يمكن أن تقرأ للفائدة التاريخية لا أكثر؛ لأن اهتماماتهم الفلسفية لم تعد لها أية قيمة في عصرنا، وعلى القارئ هنا أن يسترشد بكتاب ج. دي بور «الفلسفة في الإسلام» ترجمة م. ع. أبو ريدة.
مصر والأدب العربي القديم
نحتاج في دراسة الأدب العربي القديم أن نخص مصر بقسم كبير من مجهودنا؛ فإن مصر كانت ولا تزال بعض العالم العربي، وقد قضت قرونا وهي تابعة للخلافة، كما قضت قرونا أخرى وهي منفصلة منها، وكانت ألمع أيامها الأدبية أيام الانفصال؛ لأن تعاقب الولاه عليها من الخلافة في دمشق أو بغداد (أو القسطنطينية) كان يخربها وينزف منها أموالها ورجالها، وحسب القارئ أن يعرف أنه تولى على مصر في خلافة هارون الرشيد وحده 22 واليا كان هم كل منهم بالطبع أن يحصل على أكثر ما يستطيع من مال كي يعود إلى بغداد ويعيش في بذخ.
وليس من المنتظر من وال أجنبي بأن يؤسس المؤسسات أو يصلح أو يرم المرافق، إذا كان يعرف أنه لن يبقى أكثر من عام، فمصر مع الولاة هي مصر الحلوب التي كانت تستدر حتى تنزف؛ ولذلك فقدت الأمة شخصيتها أيام ولاة العرب، ثم انحطت إلى ما دون مستوى التاريخ البشري أيام ولاة الأتراك، فنحن بلا تاريخ أيام هولاء الولاة.
أما أيام الاستقلال في عصر الطولونيين والإخشيديين والفاطميين والمماليك، فإن مصر كانت تنتعش؛ لأن الوالي كان يستقر فيها فتعود وهي وطنه الوحيد الذي يعمل ويجهد لرفاهيته وتزيينه.
ولكن هذا الانتعاش كان على السطح فقط؛ لأن جسم الأمة كان يرزح بالمظالم، حتى هوت مساحة الأرض المزروعة من ستة ملايين فدان إلى ربع مليون فدان.
ونحن ننقل الجدول التالي عن الزراعة المصرية منذ دخول العرب أيام الفاطميين من كتاب «المجمل في التاريخ المصري» للأستاذ حسن إبراهيم حسن، فهو يقول في صفحة 169:
بلغت مساحة الأرض المزروعة في عهد الخليفة الفاطمي المعز 285.714 فدانا، وفي عهد وزارة بدر الجمالي نحو هذا القدر، وانعدمت - أو كادت - في أوساط حكم الخليفة المستنصر، ولم يكن سبب هذا انخفاض النيل أو الوباء، وإنما كان ذلك راجعا إلى سوء الحكم ... ويمكننا الوقوف على اطراد النقص في مساحة الأرض المزروعة في مصر ... في الثبت التالي:
الوالي
السنة
المساحة المزروعة
عمرو بن العاص
20
6 ملايين فدان
هشام
125
2 مليون فدان
المأمون
218
2128000 فدان
ابن طولون
270 ؟ فدان
الإخشيد
334
500000 فدان
المعز
358
285714 فدان
انتهى كلام الأستاذ حسن إبراهيم حسن، وإني أوصي القارئ بدراسة كتاب محمد كامل حسين «في الأدب العصري الإسلامي» فإنه يشرح لنا هذا الأدب إلى بداية الدولة الفاطمية، ونحن نحتاج إلى نحو عشرة كتب أخرى من هذا النوع، توضح لنا تاريخنا الأدبي منذ دخول العرب إلى بداية القرن الماضي، وهذا بالطبع مجهود كبير قد لا يتم إلا بعد سنوات كثيرة.
وبالطبع لم تلمع مصر في الأدب العربي كما لمع العراق، مقر الخلافة، التي كانت ترد إليها من أنحاء السلطنة الإسلامية أموال وخيرات، وكانت تجذب إليها المتطلعين والنابغين من جميع الأمم العربية، فلم ينبغ في مصر شاعر مثل البحتري أو ابن الرومي أو أبي نواس، ولا نجد الموسوعات الأدبية العظيمة مثل الأغاني، إلا إذا اعتبرنا «لسان العرب» إحدى هذه الموسوعات.
ودراسة الأدب العربي في مصر لا تزال مشوشة، والكتب المطبوعة عن هذا الأدب قليلة، ثم هي ليست أفضل ما يقرأ، ومن المؤلفين المشهورين الذين يجد القارئ مؤلفاتهم مطبوعة المؤرخ المعروف المقريزي، وكتاب النجوم الزاهرة لابن تغري من خير ما يقتنى لأنه يصل بتاريخ مصر إلى سنة 750 هجرية.
وهناك كتابان يقرآن لما فيهما من ضوء ساطع على تاريخ مصر في القرون الثلاثة الأولى للإسلام، هما «المكافأة» لابن الداية و«الولاة والقضاة» للكندي، والأول قصص طريفة، والثاني تاريخ، ويحسن القارئ إذا قرأ كتاب البغدادي عن رحلته في مصر، وكذلك حياة ابن خلدون بقلمه، فإنه أرصد صفحات كثيرة لوصف الأحوال في بلادنا عند قدومه ومقامه فيها.
وشعراء مصر الإسلامية ليسوا - كما قلنا - من الطراز الأول، والقارئ يجد لابن نباتة والبوصيري والبهاء زهير دواوين شعر.
والراغب في درس مصر الإسلامية يجب ألا يهمل الكتب العامية مثل قصة الظاهر بيبرس، فإنها مع ما تجمع فيها من أساطير تدل على الحال الاجتماعية بين الشعب أكثر مما تدل عليه كتب الأدباء ودواوين الشعراء التقليديين.
وعلى القارئ أن يسترشد في دراسة تاريخ مصر الإسلامية بالكتب التالية: (1)
البهاء زهير لمصطفى عبد الرزاق. (2)
المماليك في مصر تأليف وليم موير وترجمة محمود عابدين وسليم حسن. (3)
الظاهر بيبرس تأليف محمد جمال سرور. (4)
النظم الإسلامية تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن وعلي إبراهيم حسن. (5)
كنوز الفاطميين تأليف زكي محمد حسن. (6)
تاريخ الإسلام السياسي تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن.
وتتضح من أسماء الكتب والموضوعات التي تعالجها، ويمكن أن نضيف الكتب التالية لدراسة أواخر القرن الماضي: (1)
تاريخ الجبرتي. (2)
فتح مصر الحديث لحافظ عوض بك. (3)
السيد عمر مكرم لفريد أبو حديد. (4)
محمد علي لكريم ثابت. (5)
علم الاقتصاد للمصريين لمحمد فهمي لهيطه (وهو عرض تاريخي). (6)
من عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل تأليف يونج وترجمة على أحمد شكري. (7)
المجمل في التاريخ المصري لحسن إبراهيم حسن.
ويضاف إلى هذه الكتب جميع مؤلفات عبد الرحمن الرافعي بك دون إهمال أي مجلد منها، ومهما أطريت في هذه المؤلفات فإني لن أفيها حقها، وخلاصة ما أقوله عنها إن القارئ المصري الذي يجهلها يجهل تاريخ مصر أو أسس هذا التاريخ في العصر الحديث.
الثقافة العربية الحديثة
لا يكاد القارئ يحتاج إلى هذا الفصل؛ فإنه يجد الكتب العربية الحديثة معروضة في المكتبات، وأحيانا تعلن عنها إعلانات زاعقة في الجرائد والمجلات، ولكنه لنفس هذه الأسباب يحتاج إلى بعض الإرشادات.
فإن الجمهور القارئ في مصر ينقسم قسمين، أحدهما مؤلف من أولئك الذين تعلموا وأتقنوا (والإتقان هنا يستحق التأكيد) لغة أوروبية، وهؤلاء قلما يقرءون كتابا عربيا حديثا لأنهم يرتعون في مرعى خصيب من الآداب الأوروبية الراقية يصلون عن سبيلها إلى جميع ألوان الثقافة التي يرغبون فيها، وقل أن نجد واحدا من هؤلاء يحمل كتابا من هؤلاء يحمل كتابا عربيا أو يتحدث عن أديب عصري؛ لأن وطنه الأدبي هو الوطن الفرنسي أو الإنجليزي أو الألماني.
وهذه حال نأسف عليها نحن المؤلفين في مصر، ولكنا لا نستطيع أن نستصغر شأن هذا الجمهور، ويجب أن نعترف أنه هو الجمهور الراقي الذي يشرب من رحيق لا يستطيع سائر القراء العرب أن يعرفوا كيمياءه، بل حتى حين نكون لهؤلاء القدرة على تذوق هذا الرحيق، فإنهم لا يجدون في المناخ الأدبي العربي الذي يعيشون فيه ما يعين أدبهم على الاختمار.
والقسم الثاني مؤلف من أولئك الذين لم يتعلموا اللغة الأجنبية، أو تعلموها ولم يتقنوها؛ فلذلك لا يقرءون المؤلفات الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، وهؤلاء هم جمهور القراء في مصر والأقطار العربية، ومستوى هذا الجمهور مع الأسف ليس عاليا، وقدرته الشرائية ليست كبيرة؛ ولذلك فإن المؤلفين الذين أرصدوا أقلامهم لتنويره لا يجدون التشجيع الكافي منه، وقد عاش العالم العربي في طاعة إمبراطوريات استعمارية في الخمسين أو الستين من السنين الأخيرة منعت تعليمه، أو أقامت العقبات للحد من هذا التعليم، فصار الجمهور القارئ الذي يشتهي الثقافة العالية صغيرا لا تستطيع الكتب العلمية أو الاجتماعية أو الأدبية الراقية أن تجد عنده الرواج الكافي للإنتاج الخصب الوفير.
وإذا تركنا الإمبراطوريات جانبا وجدنا عقبة أخرى، هي هذا النزاع المضمر أو الصريح بين الثقافة العصرية والثقافة العربية القديمة، وليس شك في أن قيام الجامعة المصرية في ناحية والجامعة الأزهرية في ناحية أخرى في القاهرة هو رمز إلى هذا الصراع المضني، ففي كل من هاتين الجامعتين نحو 40 ألف طالب، يتفرقون في أنحاء البلاد بعد تخرجهم، ويقسمون الرأي العام في مصر قسمين سواء في السياسة أم الاجتماع أم الاقتصاد أم الغيبيات، وليس بين الفريقين تجانس في الثقافة، فالأمة المصرية مع هذا الاختلاف تشبه الشخصية المنشقة التي نعرفها في السيكلوجية الحديثة، وهذا الانشقاق نراه واضحا في بعض كتابنا، فهم إما متأثرون ب «مركب العرب» وإما ب «مركب أوروبا»، وأحيانا نجد التعصب لأحد المركبين قويا كأننا في حرب أهلية، ولهذا كله آثار سيئة، بل غاية في السوء في الرأي العام.
وبدهي أننا نعيش للعالم وليس للعرب، وأننا يجب أن نتصل بالعقل العام على هذه الكرة الأرضية، ورابطتنا بالبشر كلية، ورابطتنا بالعرب جزئية، فإذا كان يجب علينا أن نعرف تاريخ العرب وثقافتها، فأولى من هذا مئة مرة أن نعرف تاريخ العالم وثقافته، ولن نكون أمة متمدنة عصرية ما لم نتوسع في ثقافتنا ونقيس مجتمعنا وخططنا الاقتصادية بالمقاييس العالمية.
وبعد هذه المقدمة الصغيرة نقول إن القارئ الذي يرغب في ترقية ذهنه بالكتب العصرية، يجب أن يمتحن نفسه ويقيس مقدار الانتفاع والارتفاع مما يقرأ، فيجب أن يسأل نفسه:
ما هو التوجيه الذي يوجهني إليه هذا الكاتب ثقافيا وروحيا واجتماعيا؟
هل هذا الكاتب الذي قرأت له جملة مؤلفاته قد خدمني في تطوري؟ فأنا شخص آخر غير ما كنت قبل أن أعرفه؟
هل هذا الكاتب يرشد الجمهور ويقوده، أم ينقاد به ويتملقه، حتى تروج مؤلفاته بينه؟ هل هو يسلي الجمهور أم ينفعه؟ هل هو ناضج الذهن، راشد النفس، قادر على النظر الواسع للأمداد العالمية، أم هو صبياني النزعات تافه الأفكار؟
كل هذه الأسئلة وأكثر منها يجب أن يسألها القارئ لنفسه من وقت لآخر، وهذا التساؤل ينقله إلى وجدان جديد يحس فيه تبعات خطيرة في تربيته الذاتية.
ويحسن القارئ إذا هو تتبع أحد المؤلفين الذي يحبهم فلم يترك له صغيرة أو كبيرة حتى يقرأها أو يدرسها، وهو حين يفعل هذا ينتفع بحياة هذا المؤلف، فكأنه هو - أي القارئ - قد عاشها، لأنه يتتبع تطورها من عقيدة إلى رأي، أو من انفعال إلى وجدان، أو من ضمير مصري عربي إلى ضمير عالمي بشري، والقارئ لا بد واجد واحدا من المؤلفين يجذبه أكثر من غيره.
فيجعل هذا الواحد بؤرة ثقافته، وليتعرف إلى كل كتبه، بل ليتعرف إلى حياته، فإن أحسن ما نؤلف هو حياتنا التي نعيشها، وخير الأساليب التي يجب أن نتبعها مع أي مؤلف ليس أسلوب الكتابة، بل أسلوب العيش، ومع ذلك لا يمكن أن نفصل بين الاثنين، وإذا لم يكن الأدب قد أثمر حياة طيبة للأديب المؤلف، فلن يثمر شيئا طيبا للقارئ. •••
وعندنا أدباء نشأوا في أحضان الأحزاب السياسية، فعلموا في الأدب والسياسة معا، وتعلموا من السياسة ألفاظ الوقاحة والواقعية، والتسلق بالغش والخداع، ونقلوها جميعا إلى الأدب، فهؤلاء يمكن إهمالهم؛ لأن دراساتهم ملوثة، مغرضة ، هدفها الكسب فقط؛ إذ هم لا يؤمنون بالخرافات ولكنهم يدافعون عنها تملقا للعامة، وهم يخدمون الدول الاستعمارية ويؤجرون أقلامهم لها، وهم يلوثون الجو الأدبي في مصر بكلمات السباب والبذاء التي تعلموها ومارسوها من الخلافات الحزبية في ميدان السياسة.
مشكلة الثقافة في مصر
مسسنا هذا الموضوع في الفصل السابق من بعض النواحي، ونحتاج هنا إلى أن نمسه من نواح أخرى كي نهتدي إلى مراسينا في الأدب العالمي، أو بالأحرى نتعرف إلى الأسباب التي عملت لتأخير أدبنا وتخلفه عن سائر الآداب العالمية، فليس شك في أننا في تاريخنا القريب، أي منذ ستين سنة، توالت علينا محن سياسية واقتصادية واجتماعية لا يجهل أحد منا الأصل الوحيد الذي ترجع إليه وهو الاستعمار، وقد أصيبت النهضة الأدبية في مصر بقسطها من هذه المحن، فكوفح التعليم، وخاصة تعليم النساء، كما منعت الأمة من تأسيس جامعة مدى خمسين سنة تقريبا، وفرضت غرامات على التفكير، فمن شاء مثلا أن يخرج مجلة جديدة، فإن عليه أن يؤدي «تأمينا» هو في الحقيقة غرامة لا أقل ولا أكثر.
وبهذه الوسائل حيل بيننا وبين النزعات العالمية الجديدة؛ ولذلك فإن كثيرا من تفكيرنا العصري هو تفكير القرن التاسع عشر أو ما قبله، وليس تفكير القرن العشرين، وقد تغير العالم، ولم نحس نحن هذا التغيير. لهذه الحيلولة بيننا وبين التفكير الجديد.
بل إننا نجهل حتى التفكير القديم ومبادئ الثقافة العامة التي يحتاج إليها كل مبتدئ، فليس في اللغة العربية كتاب عصري عن الصين أو الهند أو تاريخ ألمانيا أو أمريكا الجنوبية أو نحو ذلك من المؤلفات التي لا يمكن أن تصطدم بالأغراض الإمبراطورية إلا من ناحية أنها ثقافة عامة قد تحدث عطشا إلى القراءة والدراسة، وعندئذ يعدو تأليف الكتب تجارة رابحة يقبل عليها القراء فيحترفها المفكرون.
وقد جهلنا النزعات الجديدة بسبب هذه الأمية التي شملت الشعب، حتى لو أن أحدنا نقل إلى العربية كتابا حديثا عن نظرية التطور أو الحركة الاشتراكية أو النزعات الفنية الجديدة أو التحليل النفسي؛ لما استطاع أن يؤدي المعاني في دقة باللغة العربية لقلة ألفتنا لهذه الموضوعات أو لأننا لم نألفها بتاتا؛ ولذلك نحن من ناحية التفكير العصري في جهل بل في غيبوبة نفسية أو ذهنية.
وبؤرة الأدب العربي اللامعة في وقتنا هي القاهرة، ولكن هناك بؤرا صغيرة أخرى في بغداد أو بيروت أو دمشق، وبعض هذه البؤر يمتاز بالتجدد أكثر من القاهرة؛ فإن بيروت تعالج مشكلات العالم بحرية فكرية ليس لها نظير في مصر، وكذلك تفعل أحيانا بغداد، أما دمشق فلا تزال تجعل همها الأول دراسة العرب القدماء والتزام التقاليد العربية.
وميزة بيروت أنها كانت منذ أكثر من ثمانين سنة مقر جامعتين عصريتين، هما الجامعة الفرنسية والجامعة الأمريكية، وهذا غير عشرات المدارس التبشيرية في المدن والقرى الصغيرة؛ لأن اللبنانيين لم يعارضوا التبشير، فانتفعوا بهذه المدارس وتعلموا العلوم العالية قبلنا، وقد مرت علينا سنوات كنا نجلب الأطباء للجيش المصري والموظفين للسودان من جامعتي بيروت، وبالطبع هناك أسباب أخرى لهذا العمل، ولكن مما لا شك فيه أن اللبنانيين انتفعوا كثيرا بمدارس المبشرين، وبهاتين الجامعتين، حتى يمكن أن نقول إن الأمية قد محيت من لبنان منذ أكثر من ثلاثين سنة في حين هي لا تزال متفشية بيننا.
والمدارس التبشيرية، على الرغم مما قد تحدث من مخالفة للعقائد، تخدم الأمة التي ترضى بتعليم أبنائها فيها، ونهضة الصين تعزى إلى حد عظيم إلى هذه المدارس، ولكن الهند لم تنتفع مع الأسف بهذه المدارس؛ لأن الحكومة المتسلطة أيام الإنجليز كانت تمنع المبشرين المسيحيين من تجاوز الشواطئ إلا على مسافة لا تزيد على خمسة أميال، ولست في حاجة هنا إلى إيضاح مسهب لهذا العمل؛ فإن المستعمرين الإنجليز كانوا يخشون المدارس التبشيرية لأنها تعلم وهم يطلبون الجهل.
وما فعلته حكومة الهند (الإنجليزية) من منع المبشرين، قد فعلناه نحن شعبا وحكومة، ولو أننا تسامحنا، كما فعل اللبنانيون، لكان في أنحاء بلادنا الآن نحو ألف مدرسة راقية ينفق عليها الأبرار من الغربيين وغيرهم؛ وعندئذ كنا نكون أمة متعلمة مئة في المئة مثل اللبنانيين، ولكنا آثرنا خطة الحكومة «الهندية» أي الإمبراطورية البريطانية على الخطة اللبنانية، وأصبحنا ونحن والهنود سواء في تفشي الأمية.
وسوريا - بعكس لبنان - رجعية التفكير لهذا السبب أيضا، ونحن نعرف في مصر أن الطبقة المستنيرة من الأمة هي تلك التي تعلم أفرادها في مدارس المبشرين الفرنسيين، وهم مع الأسف أفراد قلائل، ولكنهم يتصلون - عن طريق اللغة الفرنسية - بالعقل العام، ويدرون بالتطورات العالمية، ويقرءون الصحف والكتب الفرنسية، ويمتاز شبان اليهود واللبنانيين والإيطاليين واليونانيين في قطرنا بهذا التعلم الفرنسي في مدارس المبشرين الفرنسيين، وهم بالطبع لا يقرءون المؤلفات العربية، ولكن ثقافتهم عصرية، وهم يضعون أناملهم كل يوم على نبض العالم يعرفون حركاته وتطوراته ونزعاته.
على أن ما فقدناه توشك الجامعات العصرية بالقاهرة والإسكندرية وأسيوط على أن تعوضنا منه، فهنا دراسات عصرية جديدة هي الآن خميرة صغيرة. ولكنها مثل الخمائر ستربو وتتفشى في أنحاء البلاد، وتكون لنا ثقافة جديدة سوف تجعلنا نعيش بأذهاننا ونفوسنا في القرن العشرين.
وقد احتجت إلى هذا البيان، مع قلة قيمته في الإرشاد الشخصي للشاب، كي نعرف العوامل الخفية والجلية التي عملت في تأخير ثقافتنا العصرية.
وأدبنا العربي - لهذه الأسباب التي ذكرنا - يعجز عن ترقية الروح المصري، وما فيه من حياة إنما هو دبيب أو بصيص نرجو أن يكون نورا مشرقا، ونحن لا نزال في مشكلة لم تحل، وإنما نرجو حلها. ولباب هذه المشكلة أننا يجب - بالمدرسة والجامعة والكتاب - أن نربي جمهورا عصريا مستنيرا يستطيع أن يتفاعل مع المؤلف العصري ويطلبه.
الحضارة المصرية القديمة
هناك ثلاثة أسباب تحملنا على دراسة التاريخ المصري القديم، أولا أنه تاريخ مصر، ونحن مصريون نعيش في جو من العقائد والعادات التي تغلغلت في بيوتنا ومعابدنا، وتأثرت بها عواطفنا، والتي يرجع كثير منها إلى أيام الفراعنة، وقد يقال إن جميع هذه العقائد أو معظمها خرافي، ولكن للخرافة قيمتها في التطور الاجتماعي، ثم هناك كثير من الكلمات الفرعونية التي لا تزال حية في البيئة العائلية وبيئات الريف لا يصح لمثقف مصري أن يجهل أصلها.
وسبب ثان لدراسة هذا التاريخ الفرعوني، أنه في الحقيقة ليس تاريخ مصر وحدها بل تاريخ الحضارة الأولى للعالم، ونحن حين ندرسه إنما ندرس البواعث البشرية الأولى لإيجاد ثقافة زراعية، وكيف نشأت الأديان والحكومات والقوانين والأخلاق، ولا يمكن إنجليزيا أو صينيا أو برازيليا أن يعد نفسه مثقفا ما لم يدرس تاريخ مصر، ففي مصر - دون أقطار العالم - انتقل الإنسان من ذهول الطبيعة والغابة إلى وجدان الزراعة والحضارة، ومن مصر تفشت المعارف، أو بالأحرى العقائد الأولى، وعمت الدنيا القديمة وأوجدت الحضارة الأولى في القارات الخمس، والأساطير التي شاعت في مصر في العصور الفرعونية انتقلت إلى كثير من الأقطار، واتخذت أشكالا محلية مع احتفاظها بالأصول المصرية؛ فإن عبارة «ابن الإنسان» التي نجدها في الإنجيل نجدها أيضا في الدولة الثانية عشرة في مصر، وصلوات إخناتون تذكر أحيانا - بحروفها - في التوراة، وتحنيط الموتى قد وجد عاما في جزر الشرق الأقصى وأمريكا على الطريقة المصرية، وكثير من عقائد الفراعنة شأن الدين لا تزال حية في بعض الأديان الراهنة، بل إن رندل «هاريس» يعتقد أن كثيرا من أسماء المدن في بريطانيا إنما هو أسماء مصرية قديمة، ولعل القارئ لا يعجب بعد ذلك إذا عرف أن الأسماء الأربعة العربية للقمح، إنما هي مصرية فرعونية، ومن هنا تخصص عشرات المجلات الأوروبية لدراسة عصور الفراعنة.
ولا يسع الشاب المثقف أن يهمل كل هذا، ثم هنا سبب ثالث يحملنا على دراسة الفراعنة، وهو أن مصر معرض من أفخم المعارض في العالم للآثار القديمة، فنحن نمتاز بمتحف ليس له نظير في أي قطر آخر، يحوي من الآثار ما يعد أحقرها تحفة فذة في تاريخ البشر، ثم هناك مئات الآثار المتفرقة في مدن الصعيد والوجه البحري، آثار السذاجة البدائية للإنسان قبل الزراعة، ثم آثار الحضارة الأولى حين شرع الإنسان يتهجى كلمات الحكومة والدين والفضيلة والعائلة. وكثير من أبناء الأمم الأخرى لا يعدون ثقافتهم كاملة ما لم يزوروا مصر ويعاينوا آثارها.
وعلى كل مصري قادر أن يحج إلى هذه الآثار، وأن يدرسها ويفحص عن أصولها، وهو حين يفعل هذا يدرس كثيرا من أصول الدين والأخلاق والسيكلوجية، وهو إذا كان على معرفة بإحدى اللغات الأجنبية؛ فإنه واجد مئات الكتب عن تاريخ الفراعنة، ومنها المطول والموجز والعام والخاص بل هو يجد المجلات التي تتخصص في تاريخ مصر الفرعونية، وحسبه أن يسأل عن أسماء برستد وبروجس وبتري وإليوت سمث وبيري وماسبيرو، هذا غير المؤرخين القدماء مثل هيرودوتس وبلوتارك.
أما في اللغة العربية فيمكن القارئ أن ينتفع بقراءة مؤلفات سليم حسن وأنطون ذكري، وما ترجم عن برستد إلى اللغة العربية، وعبد القادر حمزة وسلامة موسى.
وهنا نحتاج إلى التنبيه، وخاصة لإخواننا العرب في العراق أو سوريا أو لبنان أو فلسطين أو تونس وغيرها، بأن دراسة الشاب المصري للفراعنة لا تعني بتاتا تحيزا للثقافة الفرعونية دون الثقافة العربية؛ فإنه ليس هناك أسخف من التعصب للتاريخ القديم، ولكنا نحن ندرس الفراعنة لأنهم أسلافنا وجدودنا، ولأننا نكشف بهذه الدراسة عن أصل الحضارة عامة، ولأن مصر حافلة بالآثار الفرعونية التي لا يسع شابا مثقفا أن يجهلها، ويجب كذلك على العراقي أن يدرس تاريخ البابليين والسومريين والكلدانيين الذين سكنوا بلاده، كما يجب على الفلسطيني واللبناني والسوري أن يدرسوا تواريخ بلادهم. وليس في شيء من هذا دعوة إلى الانشقاق أو كراهة للانتهاض الثقافي العربي.
لقد عنينا في فصول سابقة بإيضاح القيمة الكبيرة لدراسة الثقافة العربية القديمة، ويجب ألا تقل عنايتنا بدراسة الثقافة الفرعونية عنها.
اللغة الأجنبية
كان جوتيه الأديب الألماني الكبير يقول: «من لا يعرف غير لغته لا يعرف لغته»؛ وذلك لأنه - بالمقارنة - يستطيع أن يصل إلى الحقائق اللغوية التي لا يدريها المقتصر على لغته، وهو يترقى بهذه المقارنة إلى إدراك الميزات للغته الأصلية كما يقف على عيوبها، وفي كل لغة راقية ميزات وعيوب، ونحن حين نقرأ الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية نقف من المعاني فيهن على أضواء وظلال تختلف عما عرفناه في لغتنا العربية، وهذه المعاني تجعلنا أعمق فهما للغتنا وأكثر إدراكا وتقديرا للمحاتها وإيماءاتها الخفية.
وهذا إلى أننا نتصل عن سبيل اللغة الأجنبية بعشرات من العلوم والفنون، التي لا نقول إنها لم تعالج المعالجة الحسنة في اللغة العربية بل نقول إن مجرد أسمائها لم يعرف إلى الآن في لغتنا؛ وذلك لأن اللغات الأوروبية سبقت لغتنا في النهضة الكبرى، وارتفعت برقي الشعوب التي تتكلم بها، وفي القرون الخمسة الأخيرة، حين كان الأتراك يسحقوننا، والمماليك يتهتكون في الاستبداد بنا، كان الأوروبيون يغرسون الأصول لحضارة بشرية عالمية، وقد عالجوا لغاتهم بحيث صارت تؤدي المعاني الدقيقة، وتعين المفكرين على الابتكار والتوليد بما فيها من كلمات جديدة نمت بها وارتقت.
واللغات الأوروبية العصرية تختلف - زيادة على ما ذكرناه - من لغتنا في المزاج الأدبي؛ فإن لغتنا اقتباسية تقليدية، كثيرا ما يقوم الاقتباس فيها مقام التفكير، أما اللغات الأوروبية فيعتمد كتابها على الابتكار في تأليف المعاني، فيكسبونها حيوية ونشاطا لا تصل إليهما لغتنا في وقتنا الحاضر، وظني أن هذا الجمود الذي نجده في لغتنا، أو بالأحرى أن هذا الجمود الذي يعمد إليه بعض كتابنا، في الاعتماد على الاقتباس والتقليد بدلا من الابتكار والتفكير، إنما يرجع إلى أن لغتنا محرومة من نحو مئة علم وفن، وهذا الحرمان قد جعلها في قحط للمعاني المبتكرة، فانتكس الكتاب إلى المعاني القديمة، واقتصروا عليها، يجترونها ويقتبسون عبارات القدماء المزخرفة كأنها تفكير وابتكار.
والشاب المصري أو العربي الذي يريد أن يستنير في عصرنا يجب أن يعرف لغة حية مثل الإنجليزية أو الألمانية أو الروسية أو الفرنسية، وهو إذا لم يعرف إحدى هذه اللغات فلن يستطيع أن يعد نفسه حاصلا على ثقافة عصرية، وربما سنبقى على هذه الحال مدة طويلة، إلى أن يتغير مزاج الأمة كما تغير مزاج الأتراك والصينيين والهنود، فنقبل على الحضارة العصرية ونعيش فيها بنفوسنا كما نعيش فيها بأجسامنا.
وليس شاقا على الشاب المصري أن يتعلم لغة أجنبية؛ فإنه إذا أرصد من وقته كل يوم ساعة لقراءة جريدة فرنسية أو إنجليزية تصدر عن القاهرة، مع بعض الكتب من الأدب العالي الفرنسي فلن يمضي عليه عام حتى يكون قد قطع شوطا كبيرا في فهم هذه اللغة، وبالطبع يحتاج الراغب في هذه الدراسة إلى دروس ابتدائية تمهد العقبات الأولى على يد مدرس متمرن، ولكنه لا يحتاج إلى هذا الدرس أكثر من شهرين أو ثلاثة أشهر، ثم هو بعد ذلك يستطيع أن يستقل.
ويمكننا أن ندرس أي لغة أجنبية بإغفال النحو إغفالا تاما (في الإنجليزية مثلا) أو جزئيا في سائر اللغات، وأن ننجعل الجملة، لا الكلمة، وحدة التعليم والفهم، ونحن بالطبع نغفل قواعد النحو لأننا لا نريد أن نكون كتابا، بل نطمع إلى أن نكون قارئين فقط، وتمتاز اللغة الإنجليزية امتيازا عظيما جدا بسهولتها وخلوها من الجنس؛ إذ ليست الأشياء فيها مذكرة أو مؤنثة، وقد يكون هذا الامتياز أحد الأسباب لأن تصبح يوما ما لغة عالمية، والمفكرون من الإنجليز مثل أوجدان يزيدون هذا الامتياز قوة بإلحاحهم في تيسير اللغة الإنجليزية بحذف الكلمات الزائدة التي يمكن الاستغناء عنها.
وعندما نقارن بين خريجي المدارس الفرنسية والمدارس الحكومية التي تعلم الإنجليزية نجد أن أولئك يمتازون بالقدرة على قراءة الكتب الفرنسية في حين يعجز هؤلاء عن قراءة كتاب في اللغة الإنجليزية، بل لقد رأينا صبيانا في السنة الثانية أو الثالثة بالمدارس الفرنسية الثانوية يقرءون الكتب الفرنسية ويتذوقون أدبها في حين يحتاج طالب الجامعة المصرية الذي تعلم الإنجليزية إلى مجهود كبير جدا لفهم كتاب بالإنجليزية، وليس ننكر أن التفوق في اللغة الفرنسية قد تحقق على حساب اللغة العربية التي تهملها المدارس الفرنسية، ولكننا نعتقد أن من الممكن مع ذلك أن نبتكر برنامجا دراسيا للمدارس الثانوية يجمع بين إتقان اللغتين العربية والأجنبية، وذلك بالاستغناء عن بعض المواد العقيمة، مثل الجبر، وعن اللغات الأجنبية الإضافية، حتى يتوافر الوقت لدراسة لغتنا مع لغة أجنبية واحدة، ويجب على مدارسنا الثانوية أن تخرج مثقفين ولا تقنع بإخراج متعلمين، والفرق بين المتعلم والمثقف أن الأول يدري بعض المواد التي امتحن فيها، فتعلمه فعل ماض، أما المثقف فيرغب في التعلم، وثقافته شهوة حية تعيش معه في المستقبل، فنحن حين نعلم التلميذ في المدارس الثانوية اللغة الإنجليزية بحيث نفتح له المرعى الخصيب لهذه اللغة في الآداب والفنون والعلوم، إنما نهيئه بثقافة سوف تجعله يشتري الكتب ويقرأ الجرائد والمجلات في هذه اللغة مدى حياته، فنحن لن نكسبه تعلما بل أكسبناه خطة وبرنامجا، أما حين نعلمه الجبر، فإننا نثق بأنه لن ينتفع به بعد تخرجه وخاصة إذا لم يلتحق بجامعة.
وعنايتنا بالمدارس الثانوية يجب أن تكون كبيرة؛ لأن المدارس الابتدائية لا تكفي للتثقيف، ولأن الالتحاق بالجامعة من حظ الأغنياء فقط، ولسنا نقصد بهذا إلى أن خريج المدارس الابتدائية لا يمكنه أن يطمع في تثقيف نفسه؛ لأننا نعتقد أن كل شاب حتى ولو لم يحصل على دراسة ابتدائية يستطيع أن يثقف نفسه إذا كان عنده النشاط والإرادة، ولكن نعني أن المدارس الثانوية تفتح للشاب أبوابا يطل منها على ميادين مختلفة تحرك ذكاءه، فيجب أن ينتفع بهذه المرحلة من التعليم، وأن نجعل غايتنا منها تدريب الطالب على تربية نفسه، وخير للشاب أن يعرف لغة أجنبية واحدة يتقنها ويقبل عليها، ويتعلق بها، من أن يتعلم لغتين سرعان ما ينساهما لأنه لم يعشق أدبيهما، وكل ما يذكر منهما هو عناء الدرس واستظهار الكلمات.
ولو شئنا أن نختار للقارئ الذي يجهل اللغات الأجنبية، وينشد تعلم إحداها كي تكون مفتاحا لتثقيفه الذاتي ونموه الدراسي، لاقترحنا الإنجليزية، فهي تمتاز بسهولتها كما تمتاز بوفرة الكتب التي تطبع فيها والتي لا تقل في اليوم عن مئتي كتاب جديد، وهي لغة مئتي وخمسين مليونا من أرقى البشر في أمريكا وأوروبا وأستراليا والشرق الأقصى، ولا يكاد يستغني عنها أوروبي متمدن، ومستقبلها مع ذلك سوف يكون أعظم من حاضرها.
والشاب المصري الذي لم ينشأ على لغة أجنبية، والذي قضى فترة من شبابه وهو لا يقرأ سوى المؤلفات العربية، سوف يجد بعد تعلمه إحدى اللغات الأجنبية واطلاعه على آدابها والاشتباك في مشكلاتها الثقافية، أنه قد حقق لنفسه تطورا بل انقلابا عظيما، وأنه قد خرج من النظر القروي المحدود إلى الأمداء البعيدة والآفاق الفسيحة.
وليذكر القارئ ما سبق أن قلنا عن الفهم السلبي والفهم الإيجابي في الفصل الخاص بدراسة اللغة العربية؛ فإنه يمكنه أن ينتفع به هنا. •••
وأعظم ما يحتاج إليه طالب اللغة الأجنبية هو معجم أجنبي عربي، وكذلك معجم عربي أجنبي، وللأسف جميع المعاجم المستعملة ليست من الإتقان بحيث تستحق النصح باستعمالها؛ فإن في مصر معاجم يباع أحدها بثلاثة جنيهات مثلا لا يحوي من الكلمات مقدار ما يحويه معجم إنجليزي صرف، أو فرنسي صرف، يباع بخمسة أو عشرة قروش في لندن أو باريس.
وتحسن وزارة التربية إذا تولت إخراج المعاجم الوافية الصحيحة وباعتها للمتعلمين بأثمان منخفضة.
الآداب العالمية
الأدب هو التفسير الخيالي للحياة، وهو مثل الفلسفة يجب أن يتبع فيه كل قارئ مزاجه الخاص فلا يتقيد بآراء الغير، ولكن يجب أن نقرأ وندرس الآداب القديمة والحديثة، كي نطلع ونفهم، ثم نستنبط منها رأينا أو آراءنا الخاصة في ماهية الأدب، وربما كانت كلمة «الذوق» هنا أوفق للتعبير من كلمة «الرأي» لأننا نتذوق الأدب والموسيقا والفلسفة أكثر مما نرتئي فيها، ولكن هذا الذوق غير موروث؛ لأنه إنما يكسب بالدراسات والاختبارات، نعني الدراسات التي تشمل التاريخ والدين، ونعني الاختبارات التي تمر بنا في حياتنا، ومن كل هذه - أي الأدب والفلسفة والدين - نستقطر تلك الحكمة التي نعيش بها فترة حياتنا على الأرض، وكل من هذه الثلاثة يحتاج إلى الآخر، والتوسع في أحدها يحملنا على دراسة الاثنين الآخرين، وفي النهاية نجد أنه قد تكونت لنا من هذه الدراسات ديانة بشرية وضمير عالمي وتبعات سامية، هي مزيج من العناء واللذة اللذين يتألف منهما الحب، كحب الأم لأولادها، فنحن عندئذ نرأم بالدنيا، ونعنى بتطورها ورقيها، ونلتذ الألم في سبيل هذا الرقي.
وقد سبق أن كتبنا فصولا في ضرورة الدراسة للأدب العربي.
ولكنا لن نحصل على التربية الحقة إذا اقتصرنا على دراسة هذا الأدب، فيجب أن ندرس الآداب العالمية ونقرأ أحسن ما كتب في القرون الخمسين الماضية من صلوات إخناتون المصري إلى قصص دستؤفسكي الروسي.
وفي العالم مؤلفات استقرت وبرزت قيمتها على توالي القرون، فلسنا في حاجة إلى تعديد وشرح لها، ويسهل على القارئ أن يعرف تولستوي ودستؤفسكي وجوركي في روسيا، وكذلك جوتيه وشيلر في ألمانيا، وبيرون وبرنارد شو في إنجلترا، وفولتير وروسو وأناطول فرانس في فرنسا ... إلخ.
واللغات الكبرى مثل الألمانية أو الإنجليزية أو الفرنسية تحوي جميع هذه المؤلفات الأدبية لأنها ترجمت إليها مع العناية والدقة، وبدهي أننا في حالنا الحاضرة لا نستطع أن نقول مثل هذا القول عن اللغة العربية.
وقراءة هذه الآداب تخرجنا من الأنانية الوطنية إلى الآفاق العالمية، وتزيد قدرتنا على الحب للبشر، وليس شيء أقرب إلى الدين من الأدب، ونعني الأدب العالي؛ فإن مقامات الحريري تعد مثلا نوعا من الأدب، ولكن لا يثير في أنفسنا الحاسة الدينية، ولا يربي ضميرنا؛ لأنه تسلية خفيفة سخيفة لا أكثر، ولكن قصة «الإخوة كارامازوف» للكاتب الروسي دستؤفسكي تغرس فينا الروح الديني، وتستنبط منا البر، وتجمعنا على الصلاح بل القداسة، وأذكر أني قبل نحو عشرين سنة حين قرأتها، كتبت مقالا في إحدى المجلات قلت فيه إن هذه قصة يجب أن تضاف إلى الكتب المقدسة، وليس في العالم كتب كثيرة يمكن أن توصف بهذا الوصف.
وكبار الأدباء في العالمين القديم والحديث كانوا ينبعثون بهذا الروح الديني إلى تأليف كتبهم الأدبية، وكانت حياة كل منهم لهذا السبب حياة الجهاد الديني؛ فإن جوتيه كان يقصد إلى تربية الشخصية والنمو النفسي، وبرنارد شو قد أرصد حياته لتغيير العالم من الانفرادية إلى الاشتراكية، وولز قد ضحى حتى بفنه كي يصل إلى حكومة عالمية تعم التعليم والسلام والرخاء، وفولتير قد كافح طغيان العرش والكنيسة ... إلخ، ويمكننا أن نقيس الأدب بجملة مقاييس ليس أقلها قيمة هذا المقياس الذي نعين به الناحية الدينية للكاتب ومؤلفاته، نعني حياة المؤلف ومادة مؤلفاته، فالكاتب الذي لا يحملنا على الصلاح والقداسة قد نعجب بفنه وبراعته وذكائه وعبقريته، ولكنه يبقى مع ذلك ناقصا لأنه لم يرفعنا إلى الحياة الدينية، أولم نصل به إلى ذلك التوتر الفني الذي نحس به المظالم فنثور عليها؟ أولم يخرجنا من النظر القروي الضيق إلى النظر العالمي الواسع، أو لم يرفعنا من الاستهتار في الحياة إلى الجد والخدمة.
ويمكن أن نقرأ الكتب المقدسة نفسها باعتبارها كتبا أدبية ، والواقع أن الأدب والدين يتلاقيان إذا ارتفعا، حتى لا نكاد نستطيع التمييز بينهما؛ فإن قصة «نشيد الإنشاد» في التوراة تعد مثلا قطعة أنيقة من الأدب الذي يدعونا إلى إيثار الحب الساذج الطاهر مع الفاقة على استخدامه للوصول إلى الثراء والجاه، وهذه القصة يمكن أن تضاف إلى قصة بول وفرجيني للمؤلف الفرنسي سان بيير، أو إلى مؤلفات جان جاك روسو، كما أن جهاد ولز لتوحيد العالم في عصرنا هو في صميمه جهاد ديني، ولا عبرة بأن يكون ولز مع ذلك ملحدا؛ فإن بوذا الذي لا يزال يؤمن به خمس مئة مليون من البشر كان أيضا ملحدا.
وهكذا الشأن في مؤلفين آخرين ليس من الشاق على المعارف بإحدى اللغات الأجنبية أن يطل إليهم، وهو ينمو بمؤلفاتهم ويربي شخصيته، ويرقي نفسه وذهنه بدراستهم، وهنا يحتاج القارئ إلى نصيحة سيجد لها تكرارا في كتابنا، هذا هي أنه يجب عليه أن يتعمق في دراسة كاتب واحد قد يكون تولستوي أو شو أو جوتيه أو فولتير، وهو بالطبع يختاره لأنه - لجملة اعتبارات - يميل إليه أكثر مما يميل إلى غيره، وعليه عندئذ أن يتوسع في دراسة هذا الكاتب يدرس حياته ومؤلفاته معا، ويتعمقها حتى يعيش في عصره ويحس بمشكلاته الفنيه والدينية والاجتماعية والسياسية، وهي بالطبع مشكلات تتكرر، ولكن رؤيا الأديب العظيم تجعلنا نزداد فهما وبصيرة، وهذا إلى دراسة غيره من الأدباء.
وإلى هذا يجب الاشتراك في المجلات الكبرى الأوروبية والأمريكية حتى يبقى هذا القارئ على دراية بالتيارات العامة في الأدب؛ لأن هذه المجلات تعني كثيرا بإبراز الجديد من النزعات الأدبية والالتفات إليها بالتقدير العادل.
دراسة العلوم
من أعظم الغايات التي نرمي إليها من التثقيف الذاتي أن نفهم العصر الذي نعيش فيه، بل إن دراسة عصرنا يجب أن تكون أولى الدرجات لدراسة أي عصر آخر، وحضارتنا القائمة يجب أن تكون المقياس الذي نقيس به أي حضارة أخرى في العصور الماضية.
والحضارة العصرية، أي حضارة القرن العشرين، بما فيها من فوضى أو نظام ، ومن مشكلات قد حل بعضها وبعض منها لا يزال قيد الحل، هذه الحضارة هي في كثير من وجوهها ثمرة العلم.
ولكن ما هو العلم؟ إن مجلة نيتشر التي تتخصص لنشر العلوم ترفض استعمال هذه الكلمة، فنقول إن هناك موضوعات للدراسة مثل علم البيولوجيا أو علم السيكلوجية ولكن ليس هناك علم مطلق؛ لأننا حين نقول علم «البيولوجية» إنما نعني ترتيب المعارف الخاصة بالحياة بدقة وعناية تجمع الصحيح وترفض الخطأ، فقد كانت البيولوجيا تدرس منذ أيام الإغريق، بل قبل ذلك، ولكنها لم تكن علما، إنها كانت معارف مجموعة قد اختلط فيها الخطأ بالصواب، ولم تكن لها مقاييس دقيقة جامعة ومانعة، فلما تقدمت هذه المعارف ورتبت بالدقة والعناية صار عندنا منها علم البيولوجيا.
فعند كتاب هذه المجلة أن كلمة «علم» لا تعني سوى الطريقة الدقيقة للدراسة والبحث، أي دراسة وبحث أي موضوع في العالم سواء أكان هذا الموضوع نحو اللغة أو الجيولوجية أو نظام العائلة، فلا يمكن أحدا منا أن يقول إنه يدرس علما، وقصاراه أنه يدرس هذه المادة أو تلك بالطريقة العلمية، أي بطريقة الترتيب والدقة اللذين يجمعان الصحيح ويمنعان الخطأ، والمعارف التي تبحث في عصرنا، بالطريقة العلمية كثيرة جدا، بل إن منا من يرفض المعارف ما لم تجمع وترتب بهذه الطريقة، والطريقة العلمية هي ثمرة القرون الثلاثة الماضية، وأعظم ما هيأ لها وجعلها ممكنة هو الأرقام الهندية التي نقلها العرب إلى أوروبا من الهند، ثم أعظم ما جعلها في خدمة البشر هو التجربة.
وليس شك في أن النظر العلمي الجديد سوف يغير الدنيا، ليس فقط من حيث الإنتاج والتوزيع، بل أيضا من حيث الأخلاق والاجتماع والدين؛ لأن الأخلاق والاجتماع والدين تتوقف جميعها في كل مكان وزمان على طريقتي الإنتاج والتوزيع، وما نكابده في الوقت الحاضر من مشكلات التعطل والاستعمار، والإمبراطوريات، والاستيلاء على الأسواق والحروب، كل هذا هو ثمرة الإنتاج العظيم الذي أوجدته الآلات الكبيرة؛ أي «ثمرة العلم الميكاني» مع التوزيع القليل الذي لا يزال يتبع الطرق التقليدية غير العلمية.
ويجب على كل من ينشد الثقافة لهذا السبب أن يدرس الطريقة العلمية، كي تتفتح بصيرته لفهم المشكلات العالمية القائمة، وأيضا كي يستنير ذهنه برؤيا العالم الجديد فلا ييأس من الجهل الفاشي بين الساسة والقادة.
ولكن كيف ندرس العلوم؟
وجوابنا هو أن ندرس تلك العلوم التي تتصل اتصالا صميما بعصرنا الحاضر والتي أوجدت لنا مشكلاته، وكلما كان اتصالها أوثق كانت ضرورة الدراسة أوجب، غاية الدراسة هي الفهم، ولن نستطيع أن نفهم عصرنا إلا إذا عرفنا الجذور التي نبتت منها مشكلاته، ومتى عرفنا هذه الجذور استطعنا أن نهتدي إلى الحلول.
وأكبر المشكلات في عصرنا هي مشكلة التعطل الذي يصيب العمال لوفرة الإنتاج، فيجب أن نبحث الأسباب لهذه الوفرة، وهي بالطبع تعود إلى المخترعات الميكانيكية والكيماوية في مدى المئة والخمسين من السنين الأخيرة.
والمصري الذي تعود أن يستمع للقول بأن القطن هو ركن الثروة المصرية، يجب أن يعرف من الكيمياء ما يدرك به قيمة الأقمشة الكيماوية التي تطرد القطن من العالم وتوشك على أن تمحو زراعته، والعالم الآن قد تغير تغيرا كبيرا، يشبه الانقلاب، بعلمين اثنين هما الميكانيات والكيمياء، ومن الحسن لكل راغب في التثقيف الذاتي أن يتابع هذين العلمين في نموهما الذي يمكن أن يعد نموا للحضارة.
وهناك مشكلة أو أكذوبة السلالات البشرية وتفاضلها والتناسل من حيث تحديده وترقيته، وقد أسمعنا هتلر عنهما الشيء الكثير، فيجب أن ندرس الانثربولوجية واليوجنية.
وهذا العلم الثاني نحتاج إليه في مصر كثيرا، حتى تسن القوانين التي تمنع غير الأكفاء، للأبوة والأمومة الحسنة من التناسل.
ثم هناك العلوم التي ترقي الفرد ذهنيا ونفسيا وجسميا وروحيا؛ فإن البيولوجية ضرورية لكل مثقف؛ لأنها توسع الآفاق الروحية وتعقد بيننا وبين الحيوان صلة لها أكبر الدلالة في الإدراك السامي وفي فهم الأسباب التي عملت وما زالت تعمل للرقي البشري، ثم هناك السيكلوجية التي نفهم بها تصرفنا وسلوكنا وحركة أدمغتنا، ولسنا في حاجة إلى شرح مسهب كي نوضح ضرورة الدراسة لعلوم طبية مختلفة، مثل الاغتذاء والفسيولوجية، كي نتوقى الأمراض ونتحفظ بصحتنا في شبابنا وشيخوختنا .
وكي نحصل على المرانة الذهنية العلمية يجب أن نتعمق دراسة علمية معينة لأحد الموضوعات، مثل البيولوجية أو الفلك أو أي موضوع آخر مما نحب، ونجعل هذه الدراسة هواية الحياة، ثم نتوسع - بلا تعمق - في دراسة الموضوعات الأخرى على سبيل الإلمام، ومتى استطعنا أن ندرك أن كثيرا من الارتباك الذهني، في السياسة والدين والاقتصاد وغيرهما، إنما يعود إلى أننا لا نعالج هذه الموضوعات بالطريقة العلمية، بل نتركها بما تراكم عليها من تقاليد وعادات تحول دون تطورنا ورقينا، عرفنا قيمة العلم. •••
ولا نظن أننا في حاجة إلى كتابة فصل للتمييز بين الأدب والعلم ولكنا نحتاج إلى كلمات موجزة يسترشد بها من يتوخى التثقيف الذاتي.
فكتب الأدب القديمة هي تراث بشري يجب أن يقف عليه كل مثقف، ولكن الاقتصار عليها يجعل النظر خلفيا، والتصرف رجعيا، والاتجاه تقليديا، والأديب بطبيعة دراسته تليدي الذهن وليس بطارفه، وهو قد ينعي على عصره ما يحسبه شططا، مع أن كل ما فيه أنه يسير على إيقاع ولحن ليسا مطابقين لإيقاع العصور القديمة ولحنها.
ودعاة الآداب القديمة يزعمون أنها مستودع الحكمة البشرية، وهي كذلك إلى حد ما. ولكن قليلا من التفكير يوضح لنا أن المستودع الأصلي للحكمة البشرية هو الإنسان، وأن الآداب القديمة هي بعض حكمته وليست كلها.
ونحن نحس وجدانا بشريا جديدا يعزى كثير منه إلى العلم وليس إلى الأدب؛ فإن العلم هو الذي ربط الأمم الحديثة برباط جديد ورفع الإنسان من وطنية الوطن إلى وطنية العالم، وهو الذي يجعل النظر أماميا نحو المستقبل.
ولكن مع كل هذا يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن العلم يبحث ماهية الأشياء ويقتصر على ذلك، فهو معرفة، أو وسيلة للمعرفة، ولكن استخدام هذه المعرفة يحتاج إلى الحكمة التي نستخلصها من الآداب والفلسفات والأديان.
والأديان في نظري هي بعض الآداب والفلسفات، والضمير الراقي هو الذي تكون وتربى بالثقافة العالمية التي تعد الاديان بعضا منها، والإحساس الديني الراقي هو الإحساس الإنساني الذي ينكر الغيبيات إنكارا تاما.
دراسة السياسة
الجريدة هي فطورنا الذهني في الصباح ، ونحن نقرأ أخبارها ونتأمل صورها فننتعش ، ونجد المواد للحديث والتفكير سائر اليوم، والجرائد تعنى أكبر عناية بالسياسة الداخلية والخارجية، ولكن عنايتها مقصورة على الأخبار أو الدعاية.
وكي نفهم الجريدة يجب أن ندرس السياسة؛ أي الأسس التي تنبني عليها السياسة، وهي التاريخ والاقتصاد والسيكلوجية، ومن سوء حظ العالم كله أن السياسة في الوقت الحاضر يتولى شئونها هواة وصوليون يعجزون عن المعالجة العلمية لمشكلاتها، ومن هنا تعلقهم بالخطابة الانفعالية بدلا من اعتمادهم على الوجدان والتعقل، ومن هنا أيضا هذه الفوضى العامة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بل هذه الحروب التي تزلزل الأمم.
وإذا تركنا الأمم البدائية والمتوحشة، وكذلك الأمم الشرقية التي لا تزال تشقى بالمستعمرين أو بأمرائها المستبدين أو شيوخها الرجعيين، وجدنا ثلاثة أنواع من النظم تستحق من الرجل المثقف الدراسة الجدية، هي النظام الديمقراطي والنظام الفاشي والنظام الاشتراكي.
فأما النظام الديمقراطي فهو على أحسنه في أمم أوروبا الصغيرة مثل سويسرا وسويد ونرويج ودنمركا، وتأتي بعد هولاء الولايات المتحدة، وهذا النظام ينشد حرية الفرد، ويحاول أن يتوقى التفاوت الاقتصادي بضرائب تخفف من قسوته، ومع هذا التخفيف يستطيع الإنسان أن يعيش في حرية نسبية وقد يجتاز القلاقل الاقتصادية بعض الأحيان، وليس شك في أن الديمقراطية المدنية ستنتهي يوما إلى ديمقراطية اقتصادية.
وهذه الديمقراطية الاقتصادية هي ما نجد في عصرنا في الدولة البريطانية، حيث يسود النظام الاشتراكي في كثير من المرافق، وحيث تجبي الحكومة 95 ألف جنيه من الثري الذي يبلغ دخله 100 ألف جنيه، ويجب على كل مثقف أو من ينشد الثقافة السياسية أن يدرس هذا النظام، وهذا النظام الاشتراكي حين يتم هو النهاية التي سوف تنتهي إليها جميع النظم الديمقراطية.
فأما الفاشية فقد كانت دخانا من الاستبداد خيم على ألمانيا وإيطاليا وبعض الأمم الأخرى، وقد انقشع عنهما، وسوف ينقشع عن الأمم الأخرى؛ لأنه خلو من ميزات الديمقراطية والاشتراكية وليس فيه شيء من عوامل البقاء، وهو يعيش الآن بقوة الآلة الحربية الضخمة التي أوجدها والتي لا يستطيع أن يعيش بدونها.
وهناك مفتاح نفهم به أدق فهم تلك الانقلابات التي تحدث في عصرنا في السياسة العالمية، نعني به نظرية التفسير الاقتصادي للتاريخ، فإذا درسنا هذه النظرية عرفنا البواعث والمحركات التي انتهت بالفاشية في إيطاليا وألمانيا، والاشتراكية في بريطانيا، بل عرفنا أيضا البواعث والمحركات للإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والهولندية، وللاستعمار في جميع ألوانه العصرية، والفرق ليس عظيما فقط، بل هو فاحش، بين من يملك هذا المفتاح ومن لا يملكه؛ لأن الخبر الصغير في إحدى الجرائد عن اتفاق سياسي بين دولتين أو اندغام شركتين أو دعوة إلى دين أو تأييد لرجعية في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، كل هذه الأخبار ومئات غيرها تعود لها دلالة جديدة إذا كنا نقرؤها ونحن نسترشد بالتفسير الاقتصادي للتاريخ.
والقارئ المصري يحتاج إلى أن يدرس أكثر من الديمقراطية والاشتراكية والفاشية؛ فإن القارئ الأوروبي يمكنه أن يقنع بدراسة هذه النظم؛ لأن مناخه السياسي يتألف منها جميعا، أو يتقلب فيها، أو يستقر على واحدة منها، أما القارئ المصري فيحتاج إلى دراسة أخرى، هي دولة تركيا التي انسلخت من الشرق وانضمت إلى الغرب بقيادة رجلها كمال أتاتورك الذي يزيد في عظمته وصدق فراسته وقوة خياله على آلاف ممن يسمون عظماء منذ الإسكندر إلى يومنا، ويجد القارئ في كتاب عزيز خانكي (بك) عن هذا الزعيم التركي ما يقفه على شيء من عظمته، ويحثه على الاستزادة من الدراسة للنهضة التركية الرائعة، وهو في هذه الدراسة سيجد أسبابا كثيرة لتأخرنا نحن في مصر.
وفي اللغات الأوروبية كثير من الكتب التي تشرح النهضة التركية وتوضح فلسفة هذا الانقلاب.
وكذلك يجب أن ندرس الهند ونظامها الجديد بعد جلاء الإنجليز عنها؛ فإنها بقيادة غاندي أولا، ثم نهرو ثانيا، قد فصل الدين عن الدولة، وألغت النجاسة، ومنحت المرأة الحقوق الدستورية التي ساوتها بالرجال في التصويت والانتخاب، وعينت المرأة وزيرة وسفيرة، وساوت في الميراث بين الذكر والأنثى.
وفي ظروفنا القائمة يجب أن ندرس الإمبراطوريات العصرية الفرنسية والبريطانية والهولندية، وألوان الحكم التي تفشت في مصر والهند وجاوة وتونس وغير هذه الأقطار، كما ندرس الاستعمار بأشكاله المختلفة في الأمم المتأخرة، والمرجو أن ينتهي الاستعمار وتموت المبادئ الإمبراطورية عقب هذه الحرب، ولكن هذا الرجاء في الوقت الحاضر يشبه الأمنية الخيالية أكثر مما يشبه الأمل الذي يتحقق، والعالم لا يزال في حاجة إلى كفاح لتحرير الشعوب الخاضعة، كما احتاج من قبل إلى كفاح لإلغاء الرق، ويجب أن نتزود بالإحصاءات السنوية والتعداد الذي يتم كل عشر سنوات مع أطلس جغرافي، وكل هذا متوافر في لغتنا، ولكن هناك أطلسا سياسيا ينشر في اللغات الأوروبية ويبين التغيرات الإقليمية التي تنص عليها المعاهدات أو تحدثها الحروب، وهذا أيضا ضروري لكل من يدرس السياسة ويقرأ أخبارها اليومية، ومما يؤسف له كثيرا أن بعض القراء يهملون الإحصاءات، مع أنها المواد الخامة التي يتألف منها كل مشروع إصلاحي، والعقلية الإحصائية هي العقلية العلمية، وهي أكثر العقليات سدادا لدرس السياسة والاجتماع.
ومن الحسن أيضا أن يشترك القارئ في مجلة أوروبية سياسية من تلك المجلات الأسبوعية التي تنقل التطورات السياسية وتعنى بإيضاحها. •••
كتبت هذا الفصل في 1945؛ ولذلك تحاشيت ذكر دولة الاتحاد السوفيتي اتقاء السجن، فلم أقل بضرورة الدراسة لهذا النظام. أما الآن - في 1948 - فإني أحتاج إلى تذكير القارئ بأن في العالم ألف مليون إنسان يعيشون في الاتحاد السوفيتي والصين وغيرها في نظام اشتراكي كامل، ومن الحمق والغباوة أن يعد أحدنا نفسه مثقفا إذا لم يدرسه، وإذا لم يتابع التطورات الاشتراكية فيه.
دراسة التاريخ
لا نستطيع أن نفهم الاقتصاد والاجتماع والأخلاق والسياسة إلا إذا درسنا التاريخ، وزيادة على هذا فإن التاريخ يكسبنا العقلية الروحية البشرية؛ لأنه يشرح جهاد الإنسان نحو الرقي والحرية والحضارة، وهو بهذه المثابة يقوي في أنفسنا روح الخير، ولكنا نعني هذا التاريخ الحسن الذي يكتب بلا دعاية وطنية، بل ينظر إلى البشر كأنهم أمة واحدة تكافح من أجل الحضارة على الرغم من الأخطاء المتكررة.
وقد كان التاريخ يدرس قديما باعتباره فنا يراد منه الدعاية الوطنية أو المذهبية، وهو كذلك الآن في الأمم الفاشية، حيث هو وسيلة للتعصب والكراهية والحرب مع أن الرجل المثقف الذي عني بدراسة التاريخ في نزاهة ودقة يجد فيه الوسيلة للحب البشري والسلام والتسامح.
ويجب أن نجعل للتطور البيولوجي - أي انتقال الإنسان من الحيوانية إلى البشرية - أكبر قسط من دراستنا، أي يجب أن ندرس تاريخ الإنسان قبل التاريخ، وعلى القارئ أن يذكر كتابي هنا، وهو «نظرية التطور وأصل الإنسان»؛ فإنه على إيجازه يفتح بصيرته وقد يحمله على الاستزادة.
ثم يجب أن ندرس تاريخ الحضارة في مصر؛ لأن هنا في وطننا انتقل الإنسان البدائي من حياة الغابة وجمع الطعام البري إلى حياة الزراعة واستنتاج الطعام، وكانت الزراعة الطور الأول للحضارة القديمة، فظهر على أثرها الحكومة والدين والكتابة والثقافة الصناعية البدائية، ويمكن القارئ أن يسترشد بكتابي عن هذا الموضوع «مصر أصل الحضارة».
وكتب التاريخ في اللغة العربية، ونعني الكتب القديمة، هي مواد خاصة لدراسة التاريخ ولتأليف الجديد منها، فلا يمكن القارئ العادي أن يعتمد عليها، وليس في المخلفات العصرية العربية موجز في التاريخ العام الذي ألفه ه.ج. ولز، وليس فيه مطول في تاريخ العالم، ونحن في هذه الناحية في نقص خطير يجعل الصورة البشرية مشوهة في أذهاننا، ويجعل كل مقتصر على اللغة العربية رجلا ناقص التربية يعيش على كوكب يجهل تاريخه وتطور سكانه.
وقد سبق في كلامنا عن الأدب العربي القديم أن ذكرنا كثيرا من كتب التاريخ، ولكنا - كما قلنا - نعدها مواد خامة للدراسة، ثم هي محدودة لأنها تحصر أخبارها في العرب ومصر، وتروي الحوادث رواية زمنية بلا تمييز أو وزن للخطير منها والتافه، ونحن نقصد من دراسة التاريخ إلى أن نصير بشريين، وليس عربا أو مصريين فقط، وحرمان لغتنا من كتب التاريخ المسهبة هو تحديد للتفكير العالمي بين شبابنا، والكتب المدرسية الشائعة صغيرة القيمة، وهي أشبه بالهيكل العظمي للتاريخ منها بالتاريخ.
والكتب القليلة التي يمكن أن تقرأ في التاريخ القديم هي كتاب برستد «العصور القديمة» ترجمة داود قربان، وكتاب عبد القادر حمزة باشا «التاريخ المصري القديم»، وقد ترجم قسم كبير من كتاب ه. ج. ولز.
وليس في لغتنا كتب عن تاريخ الإغريق أو الرومان أو الهنود أو الصنيين أو اليابانيين أو الأمريكيين، ولا تزال القرون المظلمة مخيمة في ظلامها الحالك على القارئ العربي، والنهضة البشرية الكبرى في القرن الخامس عشرة ليس فيها مؤلف في لغتنا، مع أنها جديرة بأن تحدث في قارئها العربي ثورة فكرية.
ولا بد لهذا السبب أن نقول إنه يجب أن نتعلم لغة أجنبية كي ندرس التاريخ البشري، وقد أنفق على المجمع اللغوي إلى الآن نحو مئتين وخمسين ألف جنيه كي يسك لنا كلمات جديدة، ولو أننا كنا أنفقنا هذا المبلغ على ترجمة الكتب الأوروبية الحسنة لأغنينا لغتنا بنحو مئة كتاب في التاريخ وغير التاريخ، ولما كانت تربيتنا لهذا السبب ناقصة.
ودراسة التاريخ تحتاج إلى هذا النظام التالي الذي نذكره.
ونحن نعرف أن لا فائدة منه للقارئ الذي يجهل اللغات الأجنبية العصرية. (1)
يجب أن ندرس تاريخ هذا الكوكب منذ تكون إلى أن ظهر عليه الإنسان، أي ما نسميه التطور. (2)
ثم ندرس حياة الإنسان البدائي إلى أن اهتدى إلى حضارة الزراعة في مصر. (3)
وهنا يتحتم علينا درس أربعة آلاف سنة من تاريخ مصر والفراعنة؛ لأنه تاريخ التطور الاجتماعي والاقتصادي والديني في أشكاله الأولى. (4)
يجب بعد ذلك أن ندرس الأمم القديمة، كالبابليين والفينيقيين والإغريق والرومان والصينيين والهنود. (5)
ثم دراسة العرب، مع زيادة في التفصيل لعلاقتنا الخاصة بهم. (6)
دراسة القرون الوسطى. (7)
دراسة النهضة. (8)
ثم دراسة التطور الاقتصادي الذي نشأ في أوروبا منذ 170 سنة والذي ما زلنا في سياقه، وهنا نحتاج إلى دراسة نظرية التفسير الاقتصادي للتاريخ.
وعلى القارئ أيضا أن يدرس نحو عشر ثورات عالمية، كثورة الإنجليز على الملك تشارلس الأول، وثورة الفرنسيين على البوربون، والثورة الأمريكية، وثورات روسيا وتركيا والصين والهند؛ فإن الرقي البشري احتاج مرات كثيرة إلى الثورة.
وكتابي «الثورات» يستحق هنا عناية القارئ.
وخير من أن نقرأ تاريخ أمة، بعد أمة، يجب أن ندرس تاريخ العلوم والفنون، فإذا درسنا مثلا تاريخ الكيمياء، وكيف انتقلت من مصر إلى أوروبا وانتهت بإيجاد عوامل اقتصادية في الصناعة والزراعة، أو درسنا تاريخ الطب أو تاريخ القوانين انفتحت بصيرتنا للفهم أكثر مما لو قرأنا تاريخ مصر أو تاريخ إنجلترا؛ لأن الطريقة الأولى توجهنا وجهة بشرية عالمية، أما الثانية فتحد من تفكيرنا بحدود القطر الذي ندرس.
دراسة الاقتصاديات
قبل نحو مئتي سنة لم تكن «الاقتصاديات» علما يدرس؛ لأن قيمتها لم تكن معروفة، أو بالأحرى لم يكن الناس في حاجة إلى هذا العلم لأن طريقة الإنتاج كانت الزراعة، وكانت الصناعات يدوية، وكانت كل أمة تقريبا تعيش عيشة الاستكفاء، تنتج حاجاتها وتستهلكها بنفسها، وكانت التجارة بين أمة وأخرى قليلة، وأحيانا معدومة؛ لأن المواصلات كانت بطيئة، وأحيانا معدومة.
وبكلمة أخرى نقول إن جميع الأمم كانت زراعية، فكانت اقتصادياتها راكدة، وحضارتها قروية، وكان التغير الاجتماعي بطيئا أو معدوما.
ولكن منذ نحو 170 سنة تغيرت الدنيا بتغير الوسائل في الإنتاج وانتقال الصناعات من اليد إلى الآلة، وبكثرة وسائل الانتقال وسرعتها، فاتصلت الأقطار البعيدة، وتحرك «رأس المال» وتضخم، وأصبحت الشركة «المساهمة» قوة اقتصادية كبيرة الأثر في الاستغلال والاحتكار والتحكم في الأسواق الداخلية والخارجية وبعث الاستعمار واستخدام السياسة، وهذه الحركة الاقتصادية الجديدة قد جلبت معها كوارث لا تحصى للعمال وللأمم الزراعية في أفريقيا وآسيا، ولكنها أيضا قد أحدثت وجدانا جديدا بوحدة العالم، أي بضرورة توحيده، وأن رأس المال إذا ترك حرا في الاستغلال فإنه سيعمم الفوضى والحروب والشرور.
ولذلك تغيرت المشكلة السياسية في عصرنا، فلم تعد خلافا بين أمة أو أمة، أو بين ملك وشعب، بل صارت خلافا بين طبقة الصناعيين والماليين والاستغلاليين وبين طبقات العمال الذين تستغلهم القوات المالية والتجارية والصناعية، وأصبحنا ندرك العوامل التي تحمل الأمم المتمدنة على الحرب والاستعمار والتسلط الإمبراطوري على الأمم الزراعية الضعيفة.
بل أكثر من ذلك، فإن كارل ماركس قد استطاع أن ينير أبصارنا وبصائرنا بما سماه «التفسير الاقتصادي للتاريخ»، وبدون أن نقتني هذه الآلة الماركسية، ونستعملها في درس الحوادث الجارية في عصرنا، أو في التاريخ الماضي، فإننا لن نفهم التطورات السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية في وطننا أو في غيره.
ومع الأسف لا نستطيع أن نرشد عن الكتب العربية التي تشرح هذا النظر الماركسي ؛ لأنه ليس في لغتنا مؤلفات عن هذا الموضوع؛ فإن قوانيننا - مع غموضها - تجعل إخراج مثل هذه الكتب باعثا على الشكوك من ناحية المسئولية، وعجيب بل غاية في العجب أن الحكومة المصرية التي بعثت إلى موسكو سنة 1911 ببعثة كي تتعلم أساليب القيصر نقولا في مطاردة الأحرار ونفيهم إلى سيبريا لا تزال تكره الآراء الاشتراكية وتحاربها، مع أن هذه الآراء تعمل بها الآن بريطانيا التي أممت الفحم والمواصلات وغيرها وهي تنوي تأميم مصانع الفولاذ.
وتاريخ مصر في مدى السبعين من السنين الأخيرة يوضح هذا النظر الماركسي توضيحا عظيما، والمصري الذي يجهل التفسير الاقتصادي لكوارثنا وفقرنا وأمراضنا وتعطيل مواهبنا بمنع الصناعة مدى السبعين من السنين الماضية الأخيرة، يجهل تاريخ مصر، ولن تتفتق له بصيرة في فهم الحوادث الجارية الآن إلا بهذا التفسير الماركسي، والحكومة التي تمنع دراسة كارل ماركس لا تستحق الغضب من فولتير وحده لأنها تعمل على تقييد أقدس ما في الإنسان، وهو الذهن، بل تستحقه كذلك لأنها تعمل هي أيضا لتعميم الفقر بشأن الأسباب الأصيلة التي جعلت مثل مصر أمة زراعية متأخرة في خدمة الماليين، تؤدي لهم الأقساط، وكأن الغاية من وجودها في الدنيا تأدية هذه الأقساط فقط.
ودراسة بريطانيا في عصرنا الجديد هي دراسة بريطانيا في عصرنا الجديد هي دراسة للاقتصاديات أيضا؛ لأنها هي الأمة التي جعلت الاشتراكية المندرجة بالتأميم نظاما للدولة، فعلى كل من يبغي التثقيف الذاتي أن يجعل هذه الدراسة بؤرة يتفهم على ضوئها السياسة العالمية في تطوراتها القادمة، وهذا بالطبع لا يعني أن حكومة العمال البريطانية قد تخلصت من تقاليد الاستعمار.
ولكن الدراسة المثلى للاقتصاديات العالمية، الدراسة التي تبعث على الفهم والتبصر لسير التطور الاقتصادي، هي الدراسة الماركسية مع تطبيقها على ما يجري الآن بين ألف مليون اشتراكي في الصين والاتحاد السوفيتي وغيرهما.
وفي الوقت الحاضر كل ما أستطيع أن أقول في دراسة الاقتصاديات للقارئ الذي لا يعرف غير العربية، هو أن قراءة الأخبار اليومية العالمية في الجريدة خير من قراءة أي كتاب عربي؛ لأن القارئ إذا تتبعها بفهم وفراسة ذهنية، استطاع أن يرى خلفها العوامل الاقتصادية المحركة.
أما القارئ الذي يعرف اللغات العصرية مثل الإنجليزية أو الفرنسية فلا يحتاج هنا إلى أي إرشاد.
دراسة الفلسفة
كثيرا ما حملتني دراستي للسيكلوجية على أن أتعمق درس الأمراض النفسية، من أخف أنواعها كالقلق والهم، إلى أخطرها كأنواع الجنون المختلفة مثل الشيزوفرنيا والمانيا.
والمتعمق لهذه الأمراض يستطيع أن يصفها بأنها «أمراض فلسفية» فهي توصف بأنها «أمراض نفسية» من حيث إن الجسم سليم ولكن النفس معتلة، وقد يؤدي اعتلالها إلى اعتلال للجسم أو لا يؤدي.
ولكن الأساس لاعتلال النفس أن النظرة الفلسفية للحياة في أسلوبها وغايتها سيئة، لا تتفق والقوى البشرية، أو لا تلائم المجتمع، أو لا تشبع شهوات النفس وأمانيها.
وعلى الرغم من الجهل العام في سواد الأمم، لا يزال لكل فرد نظرية فلسفية يمارسها عن وجدان ودراية في كامنته، أو عقله الكامن الذي لا يدري به، ولكل مجتمع اتجاهات في الحياة، وقيم معينة لبعض الممارسات دون بعض، وهي تحمل الأفراد على بذل المجهود كي يصلوا منه إلى ما ينشدونه من كرامة وعزة ووجاهة.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا يتجه الفرد إلى اقتناء الثروة وهو يؤمن بإنجيل النجاح، ولا يبالي في سبيله ما يجني على نفسه من هموم تجعله يبكر في الصباح ويتأخر في المساء، وهذا مجهود كل أمريكي يريد أن يصل إلى القمة، المباراة عامة، تجعل اقتناء الثروة يسير بالعدو والهرولة ويغطي على أي مجهود آخر، ثم سرعان ما تنفق الثروة بعد جمعها، فتكون مباراة في الإنفاق كما كانت في الجمع.
فهذا النظر للحياة هو في صميمه نظر فلسفي؛ إذ هو يجحد القناعة والبساطة في العيش، ويحمل على الطموح والرغبة في الإسراف والبذخ، وليس في الولايات المتحدة شاب أو فتاة إلا وهما في هم وقلق كيف يحصلان على الثروة وكيف يفوزان في المباراة الاقتصادية العامة، والهم والقلق هما تعب مرهق يؤدي إلى انهيار نفسي في حالات كثيرة، يدلنا على ذلك أن أكثر من نصف الأسرة في مستشفيات الولايات المتحدة يملؤها مرضى النفوس وليس مرضى الأجسام، وليست حال فرنسا أو ألمانيا أو هولندا بأفضل من حال أمريكا إلا قليلا.
وإذا شئنا أن نعالج أحد هؤلاء المرضى فليس أمامنا سوى العلاج الفلسفي، وهو أن للقناعة وبساطة العيش قيمتهما في الدنيا، وأنهما يفضلان البذخ والترف، وأنهما يتيحان لنا الوقت كي نلهو ونستمتع بالدنيا، وأن نستبدل بالتوتر المضني استرخاء يريح ويسعد، وأن قيصر الرومان «مرقس أوريليوس» كان يصف السعادة بأنها رغيف مع الجبن نأكلهما في ظل شجرة، فإذا تغير النظر الفسفي لهذا المريض فإنه يشقى وإلا فإن روح المباراة يلازمه حتى يقتله.
أجل يقتله؛ لأن مرض النفس عندئذ ينقلب مرضا جسميا؛ ذلك أن الهموم تزيد ضغط الدم فتنتفخ الشرايين، ثم تتصلب، ويتحمل القلب أكثر من طاقته في دفع الدم لهذه الشرايين المتصلبة، وعندئذ قد يفشل القلب، فيموت صاحبه بالسكتة، أو قد ينفجر شريان في الدماغ فيموت بالنقطة، وقبل هذا الموت يقضي سنوات في حال جسمية منحطة.
وهذه المبالغة في المباراة هي مثال واحد من أمثلة النظر الفلسفي السيئ، وهناك الغيرة عند النساء، بل هناك الرغبات الطفلية تبقى معنا إلى سن الشباب والكهولة، وتغمر سلوكنا النفسي بل سلوكنا الجسمي، وكل هذا يدل على أننا في حاجة إلى الصحة والسداد في النظر الفلسفي كي نعيش المعيشة الطيبة.
وقد أصبح معنى الفلسفة في عصرنا يخالف معناها التقليدي المعروف في أوروبا وفي العالم القديم كله، فقد كنا نفهم من الفلسفة أنها تأمل في الخلق والخالق، وتفسير لمعميات الكون، ودرس للمذاهب القديمة والحديثة في عهد الإغريق إلى العصر الحاضر، وموازنة بين مختلف النظريات، أو محاولة للتوفيق بينها بالزيادة هنا والحذف هناك، والفيلسوف في نظرنا هو الرجل الذي انصرف عن معترك الحياة، ووضع نظارتيه على أرنبة أنفه، وغرق في أكداس الكتب يقلب صفحاتها ويستوعب محتوياتها، فإذا رفع عينه عنها فذلك كي يجتر أفلاطون وأرسطو ويفكر في ديكارت وسبينوزا.
ولكن التفكير الجديد يتجه اتجاها آخر وينحو نحوا جديدا، من ذلك أن الأستاذ «ديوي» زعيم حركة التجديد في الفلسفة الحديثة يرى أن الفلسفة وسيلة من وسائل الكفاح والنجاح في الحياة، شأنها في ذلك كشأن جميع أنواع الثقافات، وأن همها ينبغي أن ينصرف كله إلى ترقية عيشة الإنسان والمجتمع الإنساني كله؛ ولذلك يجب أن يكون هذا المجتمع أساس النقد والتجديد في الفلسفة، ومن هنا نرى هذه الظاهرة الجديدة وهي أن الدراسات الفلسفية قد انطلقت من مخابئها في مكتبات العلماء المتزمتين إلى الحياة العامة، ونرى مثلا أن الحكومة الأمريكية تعين مستر «ماكيفر» أستاذا للفلسفة في كلية الزراعة في تكساس.
فلنتأمل هذا الخبر الصغير في مبناه، الكبير في معناه، هذه كلية تلقن الطلبة كيف يزرعون القطن ويعنون بالطماطم ويحلبون البقر، ولكن إلى جانب هذا يجب أن يتعلموا الفلسفة، وأن يعرفوا أثرها في حياتهم الزراعية المستقبلية، ويجب أن ينيروا بصائرهم في قيمة الحياة، وأن يستعينوا بالفلسفة كي يعينوا ويحددوا مطامعهم الفردية ومكانتهم الاجتماعية في الأمة.
فالفلسفة لم تعد من الكماليات التي يتذوقها المتحذلقون أو المتخصصون، وإنما أخذت تتصل بالزراعة والصناعة، فيجب أن يكون اتصالها وثيقا بالبيت والمصنع كما يجب على الشاب والفتاة أن يتساءل كلاهما في بداية أي مشروع: هل هذا العمل يتفق والنظر الفلسفي الحسن أم لا يتفق؟
وهذا يحملنا على القول بأن كل شاب في حاجة إلى تدريب فلسفي أي يجب أن نألف الفلاسفة وأن ندرب الذهن ونربي العاطفة على معالجة مشكلاتنا بالفلسفة، وإذا فعلنا ذلك فإننا نرفض الانسياق وراء غايات تستأثر بمجهودنا ووقتنا بلا طائل، مثل «المركز الاجتماعي» او التباهي باقتناء المال أو نحو ذلك.
والذهن المدرب بالفلسفة هو الذي يوازن بين شراء عقار بمئة جنيه أو شراء مكتبة بهذا المبلغ؛ لأنه هنا يقف بين التوسع الذهني أو الرقي الشخصي، وبين التوسع العقاري أو التكبير المركز الاجتماعي، وهو قيمة الحياة وغايتها.
والدين يكمن في الفلسفة، أو الفلسفة تكمن في الدين؛ لأن كليهما يرسم لنا الاتجاهات في السلوك ويعين لنا القيم في المعيشة والأخلاق، وقد ظهرت في اللغة العربية بعض الكتب التي لا تفي ولا تشبع، ولكن ليس هناك أفضل منها، ومنها كتاب الأستاذ أحمد أمين بك عن قصة الفلسفة، ومنها أيضا سلسلة موجزة للأستاذ عبد الرحمن بدوي، وكتاب الأخلاق لأرسطوطاليس (ترجمة أحمد لطفي السيد باشا) وكتاب الدكتور طه حسين بك المترجم عن أرسطوطاليس في نظم الحكم، كل هذه يمكن أن تقرأ مع الفائدة، ولكنها فائدة ضئيلة.
أما كتب الفلسفة القديمة في اللغة العربية فهي غيبيات عقيمة، وهي خلاصة التفكير الإغريقي بعد إخراجه مزيفا في خدمة المجادلات المذهبية المسيحية.
والفلسفة بطبيعتها بطيئة التجديد، ولكن يجب أن نعرف أنها تنحط بمقدار اتجاهها نحو الغيبيات، وترقى بمقدار اتجاهها نحو البشريات، وهي تبحث القيمة في حين يبحث العلم الماهية، أو هي بمثابة الدفة التي توجه في حين يؤدي العلم مهمة الشراع أي القوة، وعلم بلا فلسفة هو قوة بلا دفة، قد تسير بالسفينة نحو الصخرة، والفلسفة الراقية هي ديانة راقية، وربما نحتاج إلى تعبير جديد يحملنا على الانتفاع بدراسة الفلسفة والدين معا، وهو أن نقول «الفلسفة التطبيقية» و«الديانة التطبيقية». وعلى قدر استعداد الفلسفة والدين للتطبيق في خدمة البشر تكون قيمتهما، وإلا فهما غيبيات سخيفة أي تفكير وخبط في الخواء.
وربما يكون في التحديدات التالية بعض ما ينير عن ماهية الفلسفة بالمقارنة إلى العلم: (1)
العلوم مجزأة والفلسفة كلية، وهي لذلك تبحث العلوم المستقلة كي تجمع بينها وتستخرج الدلالة العامة منها. (2)
العلوم تبحث ماهية الأشياء، في حين أن الفلسفة تبحث قيمتها للإنسان، فالعلم كشف عن الطاقة الذرية ولكن على الفلسفة أن تبين الغاية من هذا الكشف. (3)
ولذلك ليس من شأن العلوم أن تتحدث عن الجمال والفضيلة ومستقبل البشر؛ لأن كل هذه الأشياء تتصل بالقيمة وليس بالماهية. (4)
العلم يبحث السبب المباشر، والفلسفة تبحث الهدف النهائي. (5)
العلم يعطينا الحقائق والفلسفة تعين لنا المناهج. (6)
العلم يشرح الواقع والفلسفة تعين الأهداف. (7)
العلم للمعرفة والفلسفة للحكمة.
ومن هذه التحديدات الموجزة يتضح أن الفلسفة لا تختلف عن الأدب والدين إلا من حيث الوسيلة والتعبير، ولكن الثلاثة تتفق في الهدف وهو تعيين القيم البشرية.
دراسة الدين
دراسة الدين يجب أن تكون من الاهتمامات الكبرى للمثقف؛ لأن غاية المثقف لا يمكن أن تخرج عن أن يعيش المعيشة الذكية الطيب، وهذه المعيشة غير مستطاعة إلا مع الدين.
ونحن ندرس الآداب والفلسفات كي نستنبط منها القيم التي نقيس بها شرف الحياة وغايتها، وما فيها من جمال أو قبح، ونعين الغايات التي نسترشد بها في معيشتنا، ونجهد لتحقيقها، وهذه الغايات هي الدين.
ونحن نأخذ الدين عن أبوينا تقليدا، ونعيش في صبانا وبعض شبابنا ونحن نستند إلى الدين التقليدي كما نستند إلى معونة الأبوين، ولكن التكشف الديني للرجل المثقف يحتاج إلى سنين عديدة ودراسات مختلفة وتغيرات نفسية متوالية تنشأ من الاختبارات الدنيوية، وحوالي سن الخمسين نجد أن ما ورثناه من عقائد ليس شيئا في جنب ما استنبطناه من بصيرة دينية هي ثمرة الحياة الفهيمة على الأرض نصف قرن أو أكثر، وقد تؤيد هذه البصيرة بعض العقائد أو لا تؤيدها، ولكن محال أن يبلغ الإنسان المثقف هذه السن، وأن يكون قد عاش عيشة الجد الثقافي مع الفهم الأصيل، ثم يجد نفسه بلا دين أي يجد نفسه بلا ضمير إنساني، وهناك بالطبع كثيرون يعيشون حياتهم بما ورثوه من عقائد لم يبحثوها قط بالنقد والتمحيص، وهذا هو الدين العرفي الذي طلبه أحد الكتاب حين قال: «اللهم ألهمني إيمان العجائز»، وهذا الإيمان قد يؤدي إلى السعادة الاجتماعية، ولكنا لا نطلب الدين لمثل هذه السعادة العرفية وإنما لنحس بمسئولياتنا البشرية، وكي نجد الحافز من هذه المسئوليات لأن نعيش الحياة الذكية الصالحة، ويجب لهذا السبب أن ندرس الدين بعناية، وأن نجعل جميع المواد الثقافية في خدمة البصيرة الدينية، والرجل المتدين الذي تكون دينه بعد دراسات بشرية خالية من الغيبيات هو أذكى الثمرات للتثقيف الذاتي، أجل هو الذي يفكر بقلبه ويحس بعقله، ويسلك كأنه مسئول عن ارتقاء العالم والبشر.
وقد يسأل القارئ بعد هذا: ما هو الدين الذي تقصد؟
فأجيب بأن الدين هو خلاصة الثقافة التي حصلنا عليها إلى جنب اختباراتنا الدنيوية فيما لا يقل عن خمسين سنة، ومن هذه الثقافة وهذه الاختبارات قد تعين لنا موقف واتجاه في الدنيا، وتكون لنا ضمير وبصيرة، وهذا هو الدين، وهو دين حسن إذا كنا على ذكاء أصيل، قد نعمنا بوسط حسن وثقافة بشرية، وهو دين سيئ إذا كنا على ذكاء ناقص قد عشنا في وسط سيئ واغتنينا بثقافة منحطة.
وليس القارئ في حاجة إلى أن ننصح له بدراسة الكتب المقدسة التي أخذ عنها ديانته التقليدية؛ لأن المجتمع الذي ينتمي إليه يطالبنا بهذا الواجب، ولكنه محتاج أيضا إلى أن يدرس الكتب المقدسة للأديان الأخرى، العصرية والقديمة، الإلهية وغير الإلهية، وعلى القارئ العربي أن يذكر أن البوذية والكونفوشية - وهما دينان يؤمن بهما أكثر من ألف مليون إنسان في آسيا - لا يعترفان بالله، فيجب ألا نجحد دراستهما لهذا السبب.
وليست دراسة الأديان قائمة على بحث الخلافات أو المشاغبات المذهبية في الفرق المسيحية أو الإسلامية أو اليهودية؛ لأن هذه الخلافات قامت على «غيبيات» يعرف كل من حاول التغلغل في تفاصيلها أنه كان يتغلغل في خواء، وأن المقياس الذي نقيس به ميزات أي دين في العالم إنما هو مقياس المجتمع الحسن الذي استطاع هذا الدين أن يلهمه ويوجهه نحو البر والخير والشرف.
ويجب أيضا ألا نتغاضي عن سمو الفكرة الدينية في نظرية التطور التي جعلت الأفق الديني لكل منا يتجاوز بضعة ألوف من السنين إلى الملايين بل مئات الملايين، والتي شرحت لنا المجهود الرائع الذي بذلته الطبيعة كي يصل الإنسان إلى مقامه الحاضر، وقد أكسبتنا نظرية التطور فكرة جديدة لم تعرفها الأديان الأخرى، هي احترام الحياة كائنة ما كانت للنبات أم الحيوان؛ لأن بيننا جميعا قرابة تطورية، ولأن المجهود الذي بذلته الطبيعة كي نصل إلى مقامنا الحاضر هو مجهود مشترك بين الكائنات الحية، فنحن وهي عائلة واحدة قد حاولت الطبيعة عن سبيل كل فرد منا ومنها أن تتسلط على المادة، وكذلك يحسن أن نقرأ كتاب «الغصن الذهبي» تأليف فريزر، وهو للأسف لم يترجم إلى العربية، كما نقرأ - بل ندرس - مؤلفات إليوت سمث عن العقائد المصرية الأولى؛ فإن هذه المؤلفات تبسط لنا نشأة الأديان البدائية.
وإلى جانب الكتب المقدسة يجب أن ندرس كتب الأدب والفلسفة العظيمة كما ندرس نظريات العلم الحديث، وعلى المسلم أن يدرس الإنجيل والتوراة كما على اليهودي والمسيحي أن يدرسا القرآن؛ لأن هذه الكتب الثلاثة كانت من العوامل الكبيرة في تكوين الضمير البشري، بل يجب أيضا أن ندرس حتى من يتهمون بالكفر؛ لأن هذا الكفر قد يكون برهان الإيمان، وقد أعجبت بكلمة قالها ألفريد نويس في كتابه عن فولتير، فإن المؤلف هنا كاثوليكي يؤمن بالمسيحية ويحترم الكنيسة، ولكنه مع ذلك وصف فولتير الذي حارب الكنيسة الكاثوليكية بأنه كان «مسيحيا طيبا».
وهذا حق؛ لأن جهاد فولتير ومحاربته للكنيسة في عصره كان من لباب المسيحية.
ولا يمكن أن تؤدي الدراسة مع الذكاء الأصيل إلى الضرر، ويجب لهذا السبب أن تجد الآراء الجديدة ضيافة حسنة في أذهاننا، ولا بد أننا بعد الدراسة سنقول كما يقول برناردشو: «رجل بلا دين هو رجل بلا شرف»، وهو يعني الإنسانية بكلمة الدين.
وهناك من يعيشون في قبو من العقائد والتقاليد بعيدين عن الآفاق الرحبة للمعارف كما أن هناك من ينغمسون في جبرية الغيبيات لم يعرفوا قط حرية الماديات وهواءها المنعش، ولهؤلاء جميعا الرثاء.
ومن الحسن أن نلخص هنا بعض الاستنتاجات في التميز بين العلم والأدب والفلسفة والدين، على الرغم مما يكون في هذا من تكرار: (1)
العلم محايد، يبحث ماهية الأشياء ولا يبحث قيمتها، وهو موضوعي. (2)
العلم يميز بين الحقيقة والوهم، ولكنه لا يدلنا على الفرق بين الحق والضلال، أي بين العدل والظلم؛ لأن كل هذه الصفات ذاتية. (3)
العلم يعين الوسائل، ولكنه لا يعين الغايات؛ إذ ليست له غاية. (4)
الأدب والفلسفة والدين هي التي تعين الغايات. (5)
مثال ذلك اختراع العلم الطائرة، فقد أوضح لنا «ماهية» آلاتها، ولكن الدين يعين الغاية منها، وهل هي لقتل الناس وتدمير المدن أم لتقريب المواصلات على هذا الكوكب وزيادة الاتحاد البشري. (6)
في العلم نجد المعرفة، وفي الأدب والدين والفلسفة نجد الحكمة. (7)
المعرفة تنير الحكمة، ولكن الحكمة هي التي تستخدم المعرفة وتوجهها لخير البشر.
دراسة الفنون
جميع الفنون هي نظر أو سلوك نتسامى فيها بما ورثنا من كفايات طبيعية، فالمشي من الطبيعة، والرقص من الفن؛ لأننا قد تسامينا بحركة المشي إلى الإيقاع الموسيقي في الرقص.
ونحن نتحدث في كلام مرسل، ولكننا حين ننقل هذا الكلام إلى الشعر نحس جمالا هو جمال الفن.
والفن هو التعبير البشري عن الإدراك الروحي؛ ولذلك فإن الفلسفة والدين يعدان من الفنون البشرية؛ لأننا نستطيع مثلا أن ننظر إلى الكون نظرا ماديا مؤلفا من الأرقام والكيمياء والطبيعيات، وليس هنا فن، ولكننا حين ننظر إليه نظرا فنيا نتجاوز الأرقام والكيمياء والطبيعيات إلى ما وراءها من معاني الشعر والموسيقا والإيقاع، فنجد الفلسفة والدين.
وفي الإنسان رغبات وشهوات وغرائز ومطامع، ونستطيع أن نتوخى الهدف المادي لهذه جميعها، وعندئذ لنا فيها شيء من الفن، فنحن حين نجوع ونشتهي الطعام، أو حين نحس الرغبة في الجنس الآخر، أو حين نطمع في الامتلاك أو ننقاد لغريزة الخوف العادية، في كل هذه الأشياء قد يجري تصرفنا على المستوى المادي، فلا نصل إلى الإدراك أو الوجدان الروحي.
ولكن الإنسان، منذ خرج من أسر الغابة، لم يقنع بالماديات، وتاريخ الحضارة يمكن أن يكون إلى حد ما تاريخ الانتقال أو التطور من النظر المادي إلى النظر الروحي، فالمائدة المتمدنة هي متعة للنفس كما هي متعة للمعدة، ونحن لا نقنع فيها بأن نشبع أيضا من أدواتها الفنية وزهورها وأطباقها وحديث المجتمعين حولها، وكذلك ليست بيوتنا لإيوائنا من الحر والبرد، بل هي أيضا - أو على الأقل نحن نتوخى فيها أن تكون - متاحف حافلة بما يعجب العين ويمتع النفس.
واشتهاء الجنس الآخر، إذا سار على المستوى المادي فإنه يخلو من الفن، ولكن لم يقنع الإنسان قط بهذا، فإنه ارتفع من هذا النظر المادي إلى النظر الروحي، فنشأ من الشهوة حب، وحفل تاريخ الإنسان بأقصيص الحب التي نقرأها وننشدها أشعارا كأنها تراتيل الدين.
وفي عصرنا رأينا القمرة الفتوغرافية تنقل الصور بأسلوب مادي ونظر مادي، فلا نجد وراء الصورة معنى روحيا، وهذا هو الفرق بين الرسم الذي يؤديه الرسام، ويرى من خلال ما يرسمه معاني روحية، وبين الصورة الفتوغرافية الصماء.
وقد ينظر رجل العلم المادي إلى البئر فيبحث الماء هل هو عذب أم ملح، سليم أو وبيء، ولكن رجل الفن يرسم أشعة الشمس التي تنكسر في هذا الماء وتنعكس ألوانا زاهية وجمالا فاتنا.
والحضارة العالية هي مجموعة من الفنون التي تربي الذوق وتمتعنا بإحساس الطرب في رؤية أدواتها واستعمالها، وإذا انحطت الحضارة انحطت فنونها إلى صناعات لكسب العيش فقط، وعندئذ تنخفض إلى مستوى الضرورة، فتصير الحياة للبقاء بالحصول على الضروريات كما هي مثلا حياة فلاحنا البائس الآن.
والفنون تراث المدينة ولم تكن قط تراث الريف أو البداوة، وتراثنا الثقافي من الفنون صغير بل ضئيل؛ فإن العرب كانوا بدوا جهلوا البناء والنحت والرسم وصناعات المدن، ولم نرث منهم سوى الشعر، وهو مع ذلك شعر البداوة الذي تؤثر فيه الشطرة أو البيت على القصيدة، وتؤثر القصيدة على العلياءة.
وما عندنا في مصر من اتجاهات فنية إنما يعزى كله إلى العصر الحديث، وإلى تجديد الفنيين المصريين سواء في الرسم أو العمارة أو النحت، وليس عندنا أي تجديد في الغناء الذي لا يزال تنهدات منقحة، وقد نجحنا في الرسم والعمارة والنحت بعض الشيء لأننا عمدنا إلى الأوروبيين فتعلمنا هذه الفنون منهم ولم ندع في سخف وتنطع أن لنا تراثا فيها، ولكننا لم ننجح في الغناء والموسيقا لأن دعوانا فيهما دعوى متورمة منتفخة، ولو تواضعنا وتعلمنا من الأوروبيين أصول هذين الفنين لكانت لنا فيهما نهضة.
وكل هذا الذي ذكرنا يبين للقارئ أن دراسة الفنون لا تعني شيئا آخر سوى دراسة الكتب الأوروبية ورؤية المدن والمتاحف الأوروبية، ولما كانت غاية الفن هي في النهاية أن نعيش الحياة الفنية، وأن نجد الطرب الروحي الذي نحس من الجمال؛ فإن التربية الفنية تعني في النهاية التدريب المستمر للتسامي بشهواتنا ورغباتنا وتعود النظر الديني والفلسفي لشئون هذه الدنيا، حتى تسير حياتنا وكأنها القصيدة الرائعة وليست النثر المبتذل.
ولا أستطيع أن أنصح للقارئ بأن يقرأ شيئا عن الفنون في العربية، وقد يكون في كتابي «أشهر الصور» بعض الفائدة، ولكنه فتات ضئيل من المائدة الأوروبية، وعلى الراغب في الدراسة أن يوالي زيارة المتاحف والمعارض، ويتأمل ويدرس، وهذا إلى الآن قصارى ما يقال.
وغاية الفن هي بعد كل شيء أن نعيش الحياة الفنية، وأن يكون لنا مأرب فني في معايشنا ومعارفنا وسلوكنا وتصرفنا، وأن نرتفع من عيشة الضرورة البيولوجية إلى الاستمتاع المدني.
ليكن لنا كفاح ثقافي
يجب على كل مثقف أن يكون له كفاح؛ لأن الدراسة تحتاج إلى حوافز من العواطف الظاهرة أو المختفية تدفع إلى المثابرة والجهد، ولكن الحافز يضعف أو يقوى باختلاف البيئة والدراسة والشخص، فنحن نقرأ الجريدة في الصباح لأن عاطفة الاستطلاع تدفعنا إلى ذلك، ونحن ندرس الكتاب كي نتهيأ به للوصول إلى الهدف الذي قد يكون تكملا في الفن الذي نمارس أو رغبة في الرقي الذهني أو نحو ذلك؛ فالطبيب يقرأ كتابا في شرح أحد الأمراض لا أقرأه أنا؛ لأنه يجد الحافز الذي لا أجده، وأنا أقرأ كتابا في السيكلوجية لا يرضى غيري بقراءته ولو أجر عليه.
فلكل منا حافزه الذي يبعثه على الدرس، وقد يزداد هذا الحافز قوة حتى يحمل القارئ أو الدارس على الجهاد، وعندئذ يفتح هذا الجهاد أبوابا للدرس مدى الحياة، فالشاب المصري الذي عاش فيما بين 1918 و1943 وعاين الحركة الوطنية واشتبك فيها، وأصبح مجاهدا للوطن يدعو للاستقلال والحرية، قد حمله هذا الجهاد على دراسة لا تنقطع، بالحديث وقراءة الجريدة ودراسة الكتاب، لكل ما يتصل بالاستقلال والحرية والاستبداد والدستور والإمبراطوريات واستغلال الشعوب الصغيرة وخيانات الملوك والأمراء والوزراء لأوطانهم رغبة في الانتفاع بسلطان الدول المتسلطة ونحو ذلك، وهو يجد نفسه مشتاقا لدرس تاريخ الولايات المتحدة، وكيف استقلت، وهو يدرس مبادئ الثورة السوفيتية، بل جميع الثورات، وهو يعطف على الحركة الهندية التي يتزعمها غاندي أو نهرو، وهو أيضا مضطر إلى التغلغل في الاقتصاديات، كي يقف على ألاعيب الماليين الذين جروا على وطننا الخراب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وهو يقرأ الجريدة بعناية واختيار ومراجعة، واشتباكه في الحركة الوطنية يرشده إلى الكتب التي يحتاج إلى قراءتها.
فهنا مثال الجهاد السياسي، يحمل على دراسات مختلفة تشع من بؤرة مفردة هي إرادة الاستقلال، وألوان الجهاد مختلفة متنوعة، فهنا مثلا سيدة تسعى لمنع الخمور، وهنا سيدة أخرى تسعي للمساواة بين الجنسين في الحقوق المدنية والاقتصادية، وهنا شاب يدعو إلى الاشتراكية، وآخر يجاهد من أجل الفلاح، فكل هؤلاء يجدون الحافز الذي يعبئهم على الدرس والاستزادة من الثقافة التي تتصل بموضوعاتهم، وليس هناك موضوع مستقل؛ فإن الدعوة إلى المساواة بين الجنسين تتصل بدراسات اجتماعية وتاريخية وفسيولوجية، بل دينية، ومن ينصب نفسه لهذه الدعوة محتاج إلى المثابرة والجهد في دراسة عميقة، وهو بهذه الدراسة يستنير وينتفع من هذه الناحية بدعوته كما أن دعوته تنتفع به.
انظر مثلا إلى شاب قد أحس أنه يجب أن يجاهد لتحقيق المجتمع الاشتراكي؛ فإن جهاده سيحفزه على الدرس الذي لا ينقطع طيلة حياته، وتاريخ البشر يعد عندئذ بعض موضوعاته، واقتصاديات الصناعة والزراعة، وكذلك الأخلاق والأديان، بل كذلك الاستعمار والحروب وإمبراطوريات المدفع والجنيه، كل هذا يعد من ميادينه الدراسية، وهو يرقى بهذه الدراسات، وينظر النظرة العلمية الفلسفية للمجتمع، وفي عصرنا الحاضر أجد الفرق عظيما جدا بين شاب يجهل الاشتراكية وآخر يدرسها؛ لأن الأول تجري الحوادث أمامه وهي لا تعني المعنى ولا تدل الدلالة، في حين يجد الثاني معناها ودلالتها واضحين، كما أن الأول يقرأ وهو راكد متثائب أما الثاني فيقظ متنبه، وقل أن تجد للأول مكتبة بل هو قد يهمل شراء الجريدة، أما الثاني فيعرف الشأن العظيم لهما في ترقية ذهنه، الأول ينظر إلى الحوادث متفرجا والثاني يبصر بحركة التاريخ في الحوادث الحاضرة والمستقبلة.
وأستطيع أن أقول إن كل ثقافة حسنة تؤدي إلى جهاد من نوع ما، والثقافة السيئة هي وحدها التي لا تؤدي إلى جهاد؛ لأن الثقافة السديدة المتصلة بالمجتمع تسبق هذا المجتمع بمسافة قصيرة أو طويلة، وهي لهذا السبب تدعو إلى التغيير؛ لأنها ترسم لنا مثلا جديدة نشتاق إلى تحقيقها، ومن هنا - أي من الرغبة في التغيير - نحس الجهاد.
وقيمة أخرى للجهاد في الثقافة أنه يكبر شخصيتنا ويجعلنا نشعر بأن لنا قيمة تاريخية، أي لنا رسالة نؤديها بالدعوة إلى إصلاح معين، وهو يكسبنا الفلسفة التوجيهية التي يحتاج إليها كل شاب أو فتاة متمدنين في عصرنا، ونحن بهذا الجهاد نسير وقد رفعنا رءوسنا عالية وشخصنا إلى القمم، بل إننا لنحيى عندئذ حياة تاريخية.
ولست أستطيع أن أعين للقارئ الجهاد الذي يجب أن يختار؛ لأن لكل إنسان بيئته وظروفه واستعداده، فلعل القارئ المصري يطلب إصلاحا للغة العربية، أو تعميم الكيمياء الصناعية، أو نشر المبادئ الاشتراكية، أو مكافحة الإسراف في الطلاق أو الزواج، أو تحديد النسل، أو غير ذلك، وهو وحده القادر على أن يقول أي الأنواع تحتاج إلى بيئته ويقوى هو على الاضطلاع به، إنما الذي أقرر هنا هو أن الجهاد حافز عظيم للدراسة، وقد وجدت هذا باختباراتي الشخصية؛ فإني أذكر أني في سنة 1930 أنشأت جمعية «المصري للمصري» وكانت غايتها أن تدعو المصريين إلى أن يشتروا السلعة التي يصنعها، أو على الأقل يبيعها المصري دون الأجنبي. وذلك كي ترفع المستوى الاقتصادي بين المصريين وتشجع المصانع المصرية على الإنتاج، اعتقادا بأن أساس مشكلاتنا هو الفقر، وبأن الأمة التي لا تمارس الصناعات العصرية هي أمة غير متمدنة، وقد كنت أعجب العجب العظيم حين كنت أجد الشاب لم يتجاوز سنه العشرين ومع ذلك يحضر إلى ومعه مستندات حافلة بإحصاءات عن وارداتنا من الأطعمة والأقمشة التي كان يمكن أن نصنعها في بلادنا، فهذا الجهاد من أجل الصناعة المصرية عند هذا الشاب قد استحال إلى حافز لدراسة الاقتصاديات المصرية بجميع أنواعها.
وعندما أراجع ذاكرتي أجد أن معظم الموضوعات، بل ربما كلها، التي شغلتني دراستها، إنما كنت مكافحا فيها، فكانت الدراسة بهذه المثابة عضوية، تتصل بشهواتي الذهنية ومشكلاتي النفسية، وأحتاج إلى تحليل عميق كي أعرف البؤرة التي تشممت منها اهتماماتي الثقافية، وظني أنها الوطنية المصرية ومكافحة الإمبراطورية البريطانية.
والآن يطفر إلى ذهني حادثان كان لهما عندي أكبر الوقع النفسي ، فقد صدمني حادث دنشواي وأنا في الثامنة عشرة، وبقيت أسبوعا وأنا كالصائم لا أستمرئ الطعام، وحادث آخر كان له وقع في نفسي كله مرارة وأسى، ذلك أني كنت في باريس وأنا في التاسعة عشرة أو العشرين، وقد قعدت إلى بعض الفرنسيين في بهجة وأنسة تزيدهما الكأس نشوة حلوة، وإذا بالحديث يجرنا إلى السياسة، ثم استحال الحديث إلى مناقشة حادة، فإذا باحدهم يقول لي بصوت عال في لهجة الزجر والاحتقار: «لا شان لك بهذه المناقشة، أنتم أمة مهانة، والإنجليز أسيادكم».
وكان هذا القول حقا، وتولاني غضب وحزن لم يخفف منهما توبيخ الحاضريين لهذا الشاتم، فقد كان عطفهم علي أكثر إيلاما لي من شتمه، وقد بكيت كثيرا تلك الليلة، وذهبت إلى الطبيب جملة مرات أشكو إليه ألما في الأمعاء وإسهالا دمويا مخاطيا لم أعرف أنا ولم يعرف هو سببهما الذي يتضح لي الآن، وظني أن هذا الطبيب لم يستطع وقتئذ أن يتخيل شابا في سني يمكنه أن يتحمل هما وطنيا كبيرا يفتت أمعاءه إلى هذا الحد.
وعندما أنظر إلى جميع مؤلفاتي أرى أن جميعها أو معظمها يتشعع من بؤرة الوطنية ومكافحة الإمبراطورية البريطانية، بل أستطيع أن أقول إنه حتى دراستي البيولوجية وما تفرع منها لم تكن لشهوة العلم وحده، كما يتضح للقارئ من النية المضمرة في كتابي «التطور» وهي الإصلاح بقشع الخرافات العقيدية حتى تصير مصر أمة مصرية.
ولا أقول إن هذا التعليل مقنع، ولكن هذين الحادثين يومئان على الأقل إلى بعض البواعث الكفاحية لثقافتي، وعلى كل حال أقول إني لم أعش قط في البرج العاجي، وكانت كل دراستي كفاحية، ووجدت في هذا الكفاح خصوبة ثقافية وتوسعا ذهنيا لما أصل إلى حدودهما، والعبرة أننا يجب أن نمارس الثقافة لا متفرجين أو محايدين بل مكافحين مشتركين.
كتب رمزية وكتب بذرية
هناك مؤلفون كثيرون قد كتبوا في الأدب والفلسفة والعلوم، كالطب والكيمياء والفلك، وقد عاشوا في عصور مختلفة منذ ألفين أو ثلاثة آلاف سنة، ونحن حين نقرأ لهم لا نقصد إلى الانتفاع بمحتويات مؤلفاتهم ، وإنما نرمي إلى أن نفهم العصور التي عاشوا فيها عن طريقهم، فهم بهذا رموز عصورهم، أي إن قيمتهم رمزية.
فكتاب الحيوان للدميري أو تذكرة الأنطاكي الطبية أو طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، هذه الكتب الثلاثة لا ننتفع بفوائدها الطبية أو البيولوجية لأنها إما مخطئة وإما غامضة، وهي حافلة بالخرافات، ولكنها تنكشف لنا عن صفحات تاريخية، فنتعرف عن طريقها إلى الأحوال الثقافية، بل أحيانا الاجتماعية، التي كان يعيش فيها هؤلاء المؤلفون.
ولهذا السبب يجب ألا نرفض قراءة كتاب لأنه يحوي الخرافات، أو لأن المعارف التي يشرحها تخالف الصحة، ما دامت لهذا الكتاب دلالة رمزية عن العصر أو الأمة التي ظهر فيها؛ فإن قوانين حمورابي البابلي، وكذلك دعوات أخناتون المصري، تدلنا على الحال الاجتماعية في مصر وبابل قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، ورحلة ابن بطوطة من أحفل الكتب بالخرافات، ولكن قل أن يجد القارئ كتابا منيرا عن الأمم التي جول فيها المؤلف في القرن الثالث عشر مثل هذا الكتاب؛ فإننا نطل من فصوله على الأحوال الاجتماعية في أقطار مختلفة من المغرب الأقصى إلى الصين، وكذلك الحال في كتاب البغدادي عن مصر، بل كذلك يجب أن نقرأ الكتب القديمة في التاريخ، مثل هيرودوتس وبلوتارك والطبري.
والقرون الوسطى سواء عند الغرب أو الأوروبيين حافلة بالمؤلفين الذين ليست لهم قيمة كبيرة من حيث الموضوع الذي بحثوا، ولكنهم في اختيارهم الموضوع، وأيضا في أسلوبهم في البحث وحدود المعارف التي وصلوا إليها، كل هذا له قيمة رمزية للعصر الذي عاشوا فيه، فنحن نعرف منهم الاهتمامات الثقافية التي شاعت بين المثقفين في القرن الثالث أو الرابع للميلاد مثلا.
ونعرف كيف مارس العرب الطب، مع أنهم كانوا يحرمون تشريح الجثة البشرية، ونعرف كيف خلطت الأساطير بالحقائق عن النبات والحيوان إلى عصر قريب.
ولا يمكن القارئ أن يكون مثقفا، وأن يعرف قيمة العصر الحاضر ونزعاته العلمية التدريجية أو الانفجارية إلا إذا عرف الحضيض الذي هوى إليه الذهن البشري في المجادلات الدينية العقيمة والأبحاث الغيبية السخيفة في القرون المظلمة، وكذلك مجموعة الأساطير عن الكيمياء والطبيعيات ونشأة الإنسان وغير ذلك. •••
وهناك نوع آخر من الكتب نسميها الكتب البذرية، نعني بها تلك الكتب التي تنزل من نفوسنا منزلة البذرة في التربة الخصبة، بل هي أكثر من البذرة في التربة؛ لأنها زيادة على نموها لها قوة الخميرة؛ إذ تبعث النمو في غيرها مما كنا نظن أنه بعيد ليس له علاقة بما ندرس، مثال ذلك كتاب داروين «أصل الأنواع» في نظرية التطور؛ فإن القارئ لهذا الكتاب لا يكاد يجد فيه سوى البحث، بل البحث الساذج، في تربية الناس للحيوان وعلاقة الحيوان بالبيئة الطبيعية التي يعيش فيها، ثم استنتاج واضح بأن الحيوانات جميعها من أصل واحد أو من أصول قليلة جدا، ولكن على الرغم من هذه السذاجة نستطيع أن نقول إنه لم يؤلف في تاريخ البشر كتاب غير الاتجاه الثقافي مثله؛ فإن كلا من المذاهب الفاشية والشيوعية والاشتراكية والديمقراطية تأخذ منه، وقد تأثرت به جميع العلوم، فأصبحت فكرة التطور عامة، وانتقل التاريخ من بضعة آلاف من السنين إلى ألف مليون سنة، وصرنا بهذا الاتجاه نبحث عن الأصول «البشرية» للأخلاق والأديان والمجتمع، بل صرنا نبحث مستقبل البشر في تبصر دون أن نتخبط؛ لأن الماضي قد وضح أمامنا فاستضاء لنا المستقبل، بل زادتنا هذه النظرية إحساسا دينيا لارتباطنا بالكون، كما صرنا نحس قرابة تطورية بالحيوان والنبات، زيادة على ما نجد من سبب بيولوجي للإخاء البشري، وقد بدأت هذه النظرية رأيا ثم صارت عقيدة ومذهبا، أما الآن فهي منطق المفكرين عامة.
ومن الكتب البذرية أيضا مؤلفات جان جاك روسو التي تتلخص في أن الطبيعة البشرية حسنة وأن ما فينا من سوء، إنما يرجع إلى مظالم الملوك والحكومات وإلى عادات اجتماعية بالية، وقد أحدثت هذه الفكرة الساذجة خمائر لا تزال إلى وقتنا هذا تعمل وتحرك المجتمعات، ويمكن أن نعزو الانقلاب الروسي إلى هذه النظرية إذا عدنا إلى جودوين وأوين وبرودون ودعاة الاشتراكية الطوبوية الأولى قبل ظهور ماركس الذي دعا إلى الاشتراكية العلمية، بل إن في عصرنا من مظاهر النشاط الاجتماعي ما نستطيع أن نرده إلى جان جاك روسو؛ فإن الاستحمام في البحر، والتجوال في الريف، وحركة الرواد، والاعتماد على المعالجة الطبية، بل حركة العري نفسها، كل هذا وأكثر منه، يعزى إلى فكرة روسو في أن الطبيعة حسنة والعادات الاجتماعية سيئة.
ومن الكتب البذرية أيضا مؤلفات فرويد الذي كشف عن الكامنة، أي العقل الكامن، وأوضح أن نشاطنا الذهني يعود إلى محركات خفية من الشهوات والرغبات؛ فإن السيكلوجية الحديثة، على الرغم من كثير من متناقضاتها وانفلاتها من فرويد تعود إلى هذا الكشف.
ولا أذكر كتاب «رأس المال» لكارل ماركس؛ فإنه الخميرة التي تحرك المجتمعات الأوروبية في رفق التطور أو عنف الحروب، ولما نصل إلى نهاية الاختمار، ولكن ثق أيها القارئ أن الرجل الذي يجهل هذا الكتاب هو رجل غير متعلم، أي إنه يجهل حتى فهم الجريدة اليومية التي تروي له الأخبار، وقد دعا كارل ماركس إلى الاشتراكية، وقد يكره القارئ هذا المذهب ولكن حتى مع هذه الكراهة لا يمكنه أن يستغني عن التحليل الماركسي أو عن نظرية التفسير الاقتصادي للتاريخ، وقد وصلنا في مصر إلى أن نعرف أن المرض والجهل والفقر ثالوث مدنس يحطم كيانات لا تتألم بدرس كارل ماركس، وعرفنا أن عرقلة الصناعات في مصر وعرقبتها من القيصريين الإنجليز تعود إلى التطور الصناعي البريطاني في التفسير الماركسي، والحرب الكبرى الثانية لا يمكن أن نفهمها بدون هذا التفسير. •••
وخلاصة هذا الفصل أننا يجب أن نعنى بالكتاب إذا كانت له قيمة رمزية للعصر أو البيئة التي ظهر فيها، حتى ولو لم يكن للمؤلف براعة أو عبقرية؛ لأن هذا الكتاب، مع ما يحتويه من خرافات أو تفاهات، يكشف لنا عن الجو الذي وضعه فيه المؤلف.
وأهم من هذه الكتب الرمزية تلك البذرية التي بعثت الخمائر في النشاط الثقافي العام، وقد ذكرنا أربعة من المؤلفين لهذه الكتب، وهم داروين وروسو وفرويد وماركس، والذهن المثقف الذي ينشد النظام والنظافة والوضوح، في فهم المشكلات البشرية العصرية، يحتاج إلى دراسة هؤلاء الأربعة وأكثر منهم. •••
ولكن ذكر الأسماء للكتب لا يعني كثيرا، وليس هو «الوصفة» التي تنفع لكل قارئ؛ ذلك أننا نطلب الكتاب كما نطلب الغذاء أو الدواء، ولذلك يختلف كل منا عن الآخر؛ ولهذا نقول إن الأساس للثقافة هو الاهتمام الذي يمكن أن نعده حالة نفسية اقتضتها الظروف مكانا وزمانا وهو - أي الاهتمام - الحافز الأصيل الذي يحمل الشاب على الفهم والاستزادة من الفهم، وهو الذي يعين له الأسماء الكتب وموضوعاتها.
بذور ثقافتي
من حق القارئ أن يسأل ما هي بذور ثقافتي التي أرعاها بالنمو وأسترشد بها في معنى الحياة ودلالتها، بل لعله يرى أن مثل هذا الكتاب الذي يقرأ يجب أن يكون مؤلفه مغرما بالثقافة، ينفعل ويجدد نفسه بها في تطور لا ينقطع.
ولكن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى كتاب مستقل تسرد فيه ظروف البيئة العائلية أيام الطفولة، ثم التعليم والتربية في الصبا والشباب، إلى التكون والنضج بالتفاعل المستمر بين الشخصية وظروف الثلاثين أو الأربعين من السنين الأخيرة، وهذا ما لا يستوعبه فصل موجز، وهذه دراسة موضوعية شاقة.
على أن المؤلف يستطيع مع ذلك إلى أن يشير إلى القليل من أعلام الطريق البارزة في حياته الثقافية، لعل القارئ يجد فيها بعض الفائدة في الاسترشاد.
وأول ما أقول وأنبه عنه أني لا أكاد أجد شيئا من ثقافتي يعود الفضل فيه إلى المدارس التي تعلمت فيها، فقد تعلمت في هذه المدارس مواد، وأخذت معارف لم تكن كبيرة القيمة، ولكني لم أتعلم فيها سلوكا، ولم أتخذ منها أسلوبا لتربيتي، وقد نسيت معظم ما تعلمته في المدرسة من قواعد النحو، وأسماء في الجغرافيا والتاريخ، وعمليات في الجبر والهندسة إلخ ... نسيت كل هذا أو معظمه عن ظهر قلب، متعمدا، راجيا النسيان، حتى أخلي ذهني لما يستحق أن يدرس ويعرف من شئون هذا الكوكب.
وكثير ممن يعرفونني يعجبون لسعة ثقافتي، ولهم الحق في هذا؛ فإني كثيرا ما أجدني بالمقارنة مع غيري قادرا على أن أناقش الأديب والطبيب والسيكلوجي والجيولوجي والمؤرخ والديني والمادي وغير هؤلاء على قدم المساواة، ليس في كل ما يعملون، بل في كثير منه مما له دلالة في ثقافتنا، وهذه السعة في الثقافة تتيح لي، بل تحملني على النظر التكويني التأليفي البنائي للشئون العالمية البشرية، بدلا من النزوع إلى التحليل والنقض والهدم، ولكني مع ذلك أذكر أني في حمى الثقافة التي أصابتني حوالي الثامنة عشرة من عمري كنت أنزع إلى التحليل والنقد، بل النقض، كما يرى القارئ مثلا في أول ما نشر لي سنة 1909 في مجلة المقتطف وعنوانه «نيتشه وابن الإنسان»، وليس أكثر إمعانا في الهدم من افتتاح الحياة العلمية الصحفية بنيتشه، فقد كان هذا المؤلف رمزا لحياتي الكفاحية.
وقد كان من المصادفات الحسنة أن أعرف المقتطف في سن مبكرة وأشترك فيها، وآخذ عنه ذلك الأسلوب الاقتصادي البعيد عن الثرثرة اللفظية، كما آخذ أيضا عنه تلك النزعة العلمية، وما زلت إلى الآن علمي المزاج تلغرافي الأسلوب، حتى إني لأوثر أن أقرأ كتابا عن الغدد الصم أو عن جيولوجية الفيوم على قصة روسية من الطراز العالي، ولست أعني أني أهمل القصة، بل أرجئ قراءتها إلى ما بعد الكتاب العلمي، أحاسب نفسي فيه على الكلمة الزائدة كما لو أخطأت في نصب الفاعل أو رفع المفعول.
ثم أتاح لي الحظ أن أعيش في باريس ولندن سنوات استطعت فيها أن أجد التربية والتوجيه والفلسفة؛ فإن الجرائد اليومية والمجلات الشهرية والأسبوعية في كلتا العاصمتين، وخاصة في لندن، كانت تنظر النظر العالمي للشئون السياسية والاقتصادية، حين كانت جرائد مصر تنظر النظر القروي، وكان كفاحنا للإمبراطورية البريطانية في مصر يجعل التفكير في الرقي الاجتماعي أو في أي رقي آخر بعيد عن أذهاننا؛ لأن كل همنا واهتمامنا كان منصبا على الاستقلال، وكنا على حق في هذا، ولكن هذا الكفاح كان يحول دون الرؤيا العالمية والتوسع الثقافي لقارئ الجريدة المصرية.
فكانت الجريدة والمجلة في باريس ولندن من بذور ثقافتي، فقد وجدتني أدرس وأهتم بالمزاحمة التجارية بين بريطانيا وألمانيا، وأدرك ما وراءها من عوامل، كما صرت أقرأ عن الصين والهند وتركيا ببصيرة تسبر الحاضر وترصد المستقبل، وعرفت كارل ماركس، فصرت أجد الدلالة التي لا يجدها غيري ممن يجهلون الاشتراكية في الأحداث العالمية الكبرى.
ومن هنا يجب أن نكثر من شأن التعرف إلى لغة أوروبية حية كي نجعلها وسيلة الثقافة العصرية؛ لأن لغتنا في طورها الحاضر لا تكفي لتخريج الرجل المثقف الذي يمتاز بالعقل العام.
ولست أعني أني أهملت تراثنا العربي العظيم؛ إذ لا يكاد يوجد كتاب عربي قديم لم أقتنه الاقتناء الذهني، ولكني أشك في الاقتناء النفسي، ومعظم الذين يدرسون الآداب العربية من الكتاب في مصر يقصدون إلى اكتساب الأسلوب القديم والتأنق اللفظي، وهذا آخر ما عنيت أنا به؛ لأن نزعتي ليست تليدية تقليدية، وقد كان غرضي الأول في دراسة الآداب العربية الاستنارة عن حياة العرب؛ ولذلك عنيت بقراءة طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة وتاريخ الطبري المطول وتراجم ابن خلكان وياقوت وكتب الرحلات لابن بطوطة وغيره، ومع إعجابي العظيم بالجاحظ والمعري، من حيث النزعة الثقافية الموسوعية في الأول والتفكير الإنساني الحر في الثاني، فإني أتوقى الأسلوب الجاحظي كما أستهجن زهد المعري.
وفي كنوز الآداب العربية، وخاصة في الشعر، جواهر لا تزال تتلألأ كلما كشفنا عنها وأنعمنا التأمل في معانيها، ولكن الآداب العربية في مجموعها هي آداب القرون الوسطى؛ ويجب لهذا السبب ألا نطلب منها تكوين الشخصية الأدبية في العصر الحاضر، وعبرتها هي قبل كل شيء تاريخية، والأديب الذي يقتصر عليها يعيش في عزلة ثقافية بعيدا عن التيارات العالمية، بل يعيش في عزوبة أدبية بالمقارنة إلى الذين تزوجوا الآداب الأوروبية.
أما المؤلفون الأوروبيون الذين كانوا بذورا حية في تكوين شخصيتي وإنماء ثقافتي فكثيرون - وذكر أسمائهم فضلا عن تبيان ميزاتهم - يشغل الكثير من الصفحات، ولكني أقول إني التفت التفاتا خاصا إلى الإغريق القدماء، وكسبت منهم كثير من الخصائص الذهنية وخاصة في حرية الضمير ونزاهة الفكر، كما أني عنيت بدراسة الأدب الروسي في سن مبكرة، فارتفعت به إلى مستوى عال من التمييز الفني حال دون ذلك الشغف الذي نجده في الشبان يغرمون بالقصص والمجلات التي تتحرش بالغريزة الجنسية، وإنه لحظ حقا أن يعرف الإنسان دستؤفسكي وجوركي وتولستوي قبل سن العشرين ويحبهما.
ومنذ سنة 1908 إلى الآن وأنا أقرأ ه. ج. ولز، وقد وجدت فيه التوجيه العالمي والإرشاد العلمي، وكذلك وجدت في برناردشو، ولا أظن أن هناك كتابا كتبه أحدهما لم أقرأه.
ولكن مزاجي النفسي يعود في أكثره إلى داروين ونظرية التطور؛ فإن هذه النظرية هي منطق في ثقافتي، وأسلوب في دراستي، ودين في حياتي، وقد كانت بذرية من حيث إنها فتحت لي أبوابا في دراسات أخرى كالسيكلوجية والاجتماع والجيولوجية والتاريخ والسياسة والاقتصاديات والأدب وغيرها؛ لأن نظرية التطور أكسبتني أساليب جديدة واتجاها جديدا في دراستي، وأنا لهذا السبب أمتاز من كثير من الكتاب بأني أنظر النظر التطوري للغة والأدب، ومن يجهل نظرية التطور يعتقد الركود أو الجمود صفة عامة في الحضارة والثقافة والطبيعة، وهو لذلك قد يكره التغير في اللغة والأدب، ويخشاه، ويبرر هذه الكراهة بالولاء مهما كانت حال كل منهما آسنة متعفنة.
وهذه النظرية هي التي حملتني على أن أتوقى الغيبيات، فأغتني عن إضاعة الوقت والجهد فيما لا طائل وراءه من أبحاث مظلمة، كما صرت أحسن الفهم والولاء لهذا الكوكب بهذا التوقي.
ولو شئت أن أذكر المؤلفين العشرة الذين أوثرهم على غيرهم لأني وجدت لهم أكبر نصيب في تربيتي لقلت أنهم: أفلاطون ودستؤفسكي ونيتشه وجوتيه وروسو وداروين وشو وولز وماركس وفرويد.
أما أفلاطون فلأني تعلمت منه النزاهة في التفكير، والجرأة على الترسيم الاجتماعي، كما نجدهما في كتابه الجمهورية.
وأما دستؤفسكي فلأنه علمني التمييز الفني، وحملني على أن أفكر بقلبي وأحس بذهني وهذا واضح في قصته العالمية «الإخوة كرامازوف» وسائر مؤلفاته التي تجعل قارئها إنسانيا.
وأما نيتشه فلأنه علمني شيئا كثيرا عن الأخلاق، من حيث تاريخها وقيمتها وبشريتها.
وأما جوتيه فهو الشخصية المثلى التي أذكرها كلما ذكرت الرقي الشخصي والتوسع الذهني، بل هو الضمير الواخز الذي يبعثني على النهوض كلما ركدت أو يئست.
وأما روسو زعيم الحركة الرومانسية في أوروبا، فقد تأثرت به لأني لا أستطيع أن أفهم الثورة الفرنسية الكبرى وتطور الآداب والانقلاب الروسي بدونه، ودعوته إلى العودة إلى الطبيعة هي البذرة لعدد كبير من الحركات الاجتماعية والأدبية.
وأما داروين أبو التطور فحسبي ذكر اسمه.
وأما شو فلأني انتفعت بذهنه الصافي في التعليق مدى خمسين سنة على الحوادث السياسية والاجتماعية، فهو الصحفي الذي يدرس شئون هذا الكوكب بروح الاحترام الديني.
وأما ولز فقد وجهني الوجهة العالمية، وجعل الثقافة عندي عطشا لا يطفأ، وكثير من تفكيري يجري بلا وجدان على الأساليب الولزية.
وأما ماركس فحسبي أن أقول إنه لولاه لكنت أعد نفسي أميا لا أفهم مجرد قراءة الجريدة اليومية، بل لا أفهم كيف تنشأ العواطف والأخلاق وتتغير المجتمعات.
أما فرويد فقد فتح لنا أبوابا كانت مقفلة من الدراسة في السيكلوجية جعلتني طالبا أبديا لهذا العلم وبسطت لي عوالم جديدة. •••
لقد ذكرت هؤلاء العشرة كي أتوخى الإيجاز، ولو أطلت لجعلتهم مئة أو أكثر، ولكل قارئ ظروفه ومزاجه، ونصف القرن الماضي يختلف عن نصف القرن القادم، فلا بد أن يتغير البرنامج الثقافي للقارئ، وهو وحده القادر على الاختيار والإيثار للمؤلفين البذريين.
على أن القارئ يجد من هؤلاء العشرة أني طلبت الثقافة لشيء واحد هو ترقية شخصيتي وفهم المجتمع عن سبيل دراسة العصر الحاضر، على أني يجب أن أنبه أنه ليس واحد منهم معصوما من الخطأ، ولم أسلم قط التسليم الأعمى لأحدهم.
وقد كان نابليون يقول في ستراتيجية الحرب إن الجيش المحارب يجب أن يمتاز امتيازا كبيرا في سلاح معين، قد يكون سلاح البطريات أو المشاة أو الفرسان، ولا يبالي بعد ذلك أن يكون عاديا في سائر الأسلحة، وهذا هو أيضا ما يجب على المثقف؛ فإنه يجب أن يمتاز في مادة معينة ولا يبالي بعد ذلك أن يكون عاديا في سائر المواد، وهو في تعمقه لإحدى الدراسات المتوهجة التي يخرج منها عشرات الأشعة إلى موضوعات أخرى، يجد أن الأبواب تفتح أمامه لاهتمامات جديدة.
وقد كانت البيولوجية - أي علم الحياة - بؤرة ثقافتي، تكونت عندي في حمى الشباب حوالي الثامنة عشرة من العمر حين يستحيل القلق الجنسي بكمياء النفس إلى قلق ثقافي، فكانت الحيرة الدينية مثلا بشأن المذهب الدارويني، ثم حملتني دراسة هذا المذهب إلى دراسات عديدة ما زالت إلى الآن - بعد ما يقرب من أربعين سنة - في شبكتها، وحسب القارئ أن يعرف عن تعمقي لهذا المذهب أني ألفت كتابا «نظرية التطور وأصل الإنسان» مقالات متوالية أولا في جريدة البلاغة دون أن أحتاج إلى الرجوع إلى كتاب؛ فإنه كله من الذاكرة.
ثم حملتني دراسة البيولوجية إلى دراسة السيكلوجية والاجتماع والدين والتاريخ والجيولوجية.
واحترفت الصحافة، فبل أن تنحدر إلى القيل والقال والتسلية، فتموت بها، وصار التفكير في الشئون الاجتماعية والسياسية عالمية ووطنية حرفتي التي تحملني على الدوام على التكمل والاستزادة.
التعمق للدراسة
العبرة في الحياة - كما في الحرب - بالخطة التي تتبع، وكذلك الشأن في الثقافة؛ فإن في مكتبة المتحف البريطاني أكثر من أربعة ملايين مجلد ليس من المعقول أن أحدا يطمع في قراءتها أو قراءة نصفها أو عشرها؛ لأن العمر البشري في حدوده الحاضرة يفنى قبل أن ننتهي من قراءتها، وبدهي أننا لسنا في حاجة إلى قراءة هذه الكتب، فإن كثيرا منها بل أكثر ما فيها لا تزيد قيمته على الغبار الذي يعلوها.
فيجب لذلك أن تتبع خطة حتى تنتظم جهودنا في التثقيف الذاتي، وحتى نأخذ بالأهم قبل المهم، فضلا عن ترك السخيف والعقيم، ويجب لذلك ألا نتسع فنقرأ جزافا، فليس في الدنيا أثمن في الحياة البشرية من الذهن البشري؛ ولذلك يجب أن تكون أكبر عنايتنا في الحياة به، نربيه ونثقفه وننميه، ويجب أن نفكر في الخطط الدراسية التي نستطيع باتباعها أن نقتصد في وقتنا وجهودنا.
ولا بد أن من ينشد الثقافة سيجد نفسه حائرا بين أن يتوسع ويعرف أكثر ما يمكن من المعارف السطحية، وبين أن يتعمق ويتخصص في فن أو علم يعرفه بكل ما فيه وبكل هوامشه ونواحيه، أو هو بكلمة أخرى سيقف بين التعميم والتخصيص، فأي الخطتين يجب عليه أن يتبع؟
لقد سبق أن ذكرنا خطة نابليون في الحرب، وهي أنه كان يصر على أن يكون متفوقا على سلاح معين على العدو، وقد يكون هذا السلاح هو فرق الفرسان أو فرق المدافع أو فرق المشاة، ولكن لا بد من التفوق في واحد منها، أو في غيرها، كي ينفذ عن سبيل هذا التفوق إلى نقطة ضعف العدو فيضربه فيها ويتجاوزها إلى سائر قواته فيفتتها.
ونحن أيضا في حاجة إلى خطة يجب أن نتبعها في دراستنا كي نصل إلى الظفر المنشود، والظفر المنشود هنا هو أن ننمو بالثقافة، ونمتلك بأذهاننا أوسع وأكبر ما يمكننا من المعارف التي تربي بصيرتنا في الحياة، فإذا لم تحمل إلينا السعادة فلا أقل من أن تحمل إلينا الفهم، بل إن الفهم عند الرجل المثقف هو السعادة، بل أهم من السعادة.
والراغب في التثقيف الذاتي سيأخذ أولا في التعميم، ويتعرف إلى مختلف الفنون والعلوم، ولا غبار عليه في ذلك؛ فإنه سيمد مجساته الذهنية إلى مختلف الموضوعات، كأهداب الحشرة، حتى يقع على الغذاء الذي يحب، أي حتى يهبط على المادة التي تحملنا ظروفنا ومزاجنا ومعيشتنا ومشكلاتنا على تعمقها، وعندئذ لن يكون أمامه أربعة ملايين كتاب يجب عليه أن يقرأها، بل هو يكتفي بمئة كتاب أصلي، وسائر ما يقرأ يعد فرعيا في شرح هذه المئة أو في التعليق عليها.
والخطة في الثقافة هي أيضا كالخطة في الحرب عند نابليون، أي إننا نتعمق نقطة، ثم نتوسع من هذه النقطة، ونتفرع هنا وهناك في مختلف المعارف التي تصل بهذه النقطة أو المادة، وهذه الخطة هي الخطة الفسيولوجية التي تنهض على مقدار ما عندنا من كفايات وما لنا من ميول، ففي العالم الآن نحو 130 علما وفنا ومحال أن يكفي العمر البشري لدراستها، بل محال أن يقبل أحد الأذهان هذه الدراسة العامة؛ لأنه لا بد سيصد عن بعض ويقبل على بعض، فما يجب على الراغب في الثقافة إنما هو أن يرسل مجساته الذهنية حتى تهبط على المادة التي تحمله معيشته على التعرف إليها وتعمقها، ثم ينشر مجساته بعد ذلك إلى مختلف الفنون التي تتصل بها، فالمادة الأصلية التي يدرس هي النقطة البؤرية التي يحدث منها الإشعاع إلى المواد الأخرى، فالدراسة لا يمكن أن تجري جزافا، بل يجب أن تكون لها علاقة فسيولوجية بأذهاننا وما تتطلبه معيشتنا الفردية والاجتماعية.
والذهن المتوسط، ولا نذكر الذهن العالي، لا يقنع فيها الثقافة بأن يحسو من كل مورد جزافا وتسكعا، بل هو لا بد بعد فترة من الفوضى سيقع على المورد الوحيد الذي يعب منه، فعلى القارئ الذي يجد نفسه عازفا عن التعمق ألا ييأس؛ فإن الوقت لن يطول به حتى يجد شبكة المعارف التي تتصل بفسيولوجيته، كما لو كانت شبكة من الأعصاب تتداخل في أنحاء ذهنه؛ فإنه سيطلب هذه المعارف بالشهوة التي يطلب بها الطعام، بل أحيانا أحد وأقوى.
ولا يمكن إنسانا أن يسمي نفسه مثقفا ما لم يتعمق مادة معينة، وصحيح أن هناك علماء جهلاء تعمقوا مادة ثم لم يخرجوا منها إلى سائر المواد، ولكن لا أسمي هؤلاء متعمقين وإنما أسميهم «متخصصين».
وهم في الغالب لم يختاروا هذه المادة التي تخصصوا فيها وإنما حملوا على التخصص قبل أن يقضوا من حياتهم فترة التسكع والاختيار، ونجد أمثال هؤلاء في المتخصص مثلا في الكيمياء، لا يدري شيئا من الاقتصاديات أو الأديان، وهذا لأنه قد بدأ يتخصص منذ صباه تقريبا في المدرسة، فلم تتح له الفرصة كي يرعى في المروج الخصبة للثقافة ويختار منها ما يحب، فتثقيفه في الكيمياء لم يكن «ذاتيا»، وهذا الكتاب قد خصصناه للتثقيف الذاتي، أي لأولئك الذين يبغون تربية أنفسهم، وكل منهم معلم وتلميذ، وكلاهما حر في اختياره، وأولئك الذين اخترعوا القنبلة الذرية كانوا بلا شك متخصصين، وكانوا لتخصصهم هذا يجهلون الأدب والدين والفلسفة؛ لأنهم لو كانوا قد عرفوا هذه الدراسات لما اخترعوا هذه القنبلة.
على أن القارئ يجب أن يذكر - على الدوام - أنه لن يكون مثقفا حق الثقافة ما لم يتعمق علما معينا، يكسب منه التدريب العلمي والتميز بين الحقائق والبواطل، وهذا التعمق يجعله قادرا على النقد في سائر المواد التي يدرس حتى الدراسة السطحية، وعليه هو أن يختار؛ لأن اختياره ينبع من أعماق شخصيته، بحيث يلائم كفاياته ؛ أي يجب في لغة نابليون أن يتفوق في سلاح معين ولا يبالي أن يكون بعد ذلك عاديا في سائر الأسلحة، والخطة هنا للحياة كلها وليست للثقافة والحرب فقط.
والقارئ الذي تمضي عليه السنوات ونفسه جامدة لا تنزع إلى المادة التي يتعمقها إنما هو مريض يحتاج إلى العلاج، فعليه أن يسأل ويستشفي.
مئة كتاب
كثير من القراء يحتاج إلى تعيين الكتب «الأصلية» التي يحتاج المثقف إلى قراءتها، وهذه الكتب عامة لا يراد منها التخصص، أو هي تعد ضرورة كي نصل بقراءتها إلى الرقي البشري الذي يحملنا إلى مستوى الروح العالمي السامي.
وواضح أن الشاب الذي عني بتربية ذهنه لا يحتاج إلى أن ندله على أسماء هذه الكتب؛ لأنه هو يعرفها، أو سوف يعرفها إذا كان قد سلك الطريق السوي في الثقافة، ولكن هناك مع ذلك مؤلفات قد تخفى قيمتها على من لم يسمع بها، ومن هنا فكر كثير من رجال الذهن في تعيين بعض الكتب وإيثارها على غيرها من حيث قيمتها في التثقيف العام، وللدكتور إليوت «مدير عام» جامعة هاردفرد سابقا بالولايات المتحدة قائمة مؤلفة من مئة مجلد، نشرتها شركة «كوليار أند صن» في مجلدات على نمط واحد من حيث الطبع والتجليد والورق، وأنا أنقل للقارئ الاسم والعنوان بالإنجليزية كي يتصل بالناشرين إذا شاء:
DR. ELIOT’S
FIVE SHELF OF BOOKS (The Harvard Classics)
240 Park Avenue, New York city, U.S.A
ويجب على القارئ أن ينتبه أن هذه السلسة مؤلفة من مئة مجلد، وليس مئة كتاب؛ لأن هذه المجلدات تحوي 302 من الكتب؛ أي إن الدكتور إليوت وضع نحو ثلاثة من المؤلفين في كل مجلد، وهو بالطبع قد بنى الاختيار على قواعد معينة من حيث وحدة الموضوع أو مشابهة المؤلفين أو نحو ذلك، وهو يبدأ بمؤلفات الإغريق القدماء حتى يصل إلى عصرنا، والحق أنه جمع أفضل المؤلفين في جميع العصور الماضية، وليس بين هذه الكتب واحد يمكن أن يقال إن في مستطاع المثقف الاستغناء عنه.
ومئة اسم آخر وضعه الدكتور «هتشنز» مدير جامعة شيكاجو الآن، وهي أيضا تبدأ من عصر الإغريق إلى عصرنا، ولكنه يختلف عن الدكتور إليوت في التفاته الأكبر إلى مؤلفي الولايات المتحدة الأمريكية، وقد نشرت «مجلة التربية الحديثة» التي تصدرها الجامعة الأمريكية بالقاهرة أسماء هذه الكتب في سنة 1943، ويجب أن ننبه هنا إلى أن هذه المئة إنما هي مئة مؤلف، وقد يكون لكل مؤلف بضعة كتب، فالمجلدات تزيد على مئتين.
وقد يحسن بأحد الأساتذة في كلية الآداب بجامعة القاهرة أن يذكر لنا مئة كتاب عربي يمكن أن يقتنيه من ينشد الثقافة على النمط الذي سنه الدكتور إليوت والدكتور هتشننز، ولكن كلا من هذين إنما يقصد إلى ثقافة بشرية عامة، وإلى مؤلفين عالميين في عصور وأمم مختلفة، ولم يقصد أحدهما إلى تعيين قائمة بأسماء المؤلفين الأمريكيين أو الإنجليز وحدهم.
والمؤلف يرى أن مجموعة الدكتور إليوت من خير المجموعات التي تستحق الاقتناء.
وإلى جنب هذه المجلدات المئة يحتاج القارئ إلى موسوعة للمراجعة والاستشارة، وأكبر الموسوعات هي «الموسوعة البريطانية»، ولكن غلاء ثمنها الذي يبلغ الآن نحو 160 جنيها يحول دون تعميمها؛ ولذلك يمكن اقتناء أي موسوعة أخرى أصغر منها.
وفي كل موسوعة عيب أصيل، وهي أنها تموت بسرعة؛ لأن المعارف التي تنشرها سرعان ما تتفرع أو تتغير، فتبقى هي راكدة بمعارفها القديمة؛ ولذلك أخرج الفرنسيون موسوعة جديدة (عطلتها الحرب) على مبدأ «الورق السائب»؛ أي إن المقتني لهذه الموسعة يحفظها عنده بمجلداتها، ثم يتسلم كل شهر تقريبا ورقا سائبا عن المعارف التي تجددت أو تغيرت، فيضع ورقة جديدة في مكان الورقة القديمة التي ينزعها ويطرحها، وهكذا تتجدد الموسوعة إلى الأبد، والورق بالطبع يوضع بطريقة الدوسيهات التجارية، أي إنه مخرم من أسفل ويوضع السلك في الخروم بين دفتي كل مجلد، ويمكن القارئ أن يسأل عن هذه الموسوعة التي لم تكمل إلى الآن باسم دومونزي
De Monzie .
والموسوعات بالطبع لا تقرأ، ولكنها تراجع، وفائدتها كبيرة إذا كانت حسنة، ولكن يجب الحذر من الموسوعات الإنجليزية (التي تنشر في إنجلترا) لعظم عنايتها بالألعاب الرياضية والأرستقراطية البريطانية والتاريخ البريطاني، وأيضا لأنها مستغرضة حولاء في نظرها إلى سياسة الاستعمار والمبادئ الإمبراطورية خاصة ، ولا يمكن قارئا أن ينتفع بهذه الموسوعات ، ويجب أن نذكر هنا أن «الموسوعة البريطانية» تطبع وتنشر في الولايات المتحدة الأمريكية على الرغم من اسمها، وهي عالمية النزعة.
ولكن مع هذا الذي ذكرنا عن قيمة الموسوعات، يجب أن نؤكد قيمة الكتاب أولا وآخرا؛ فإن الكتاب يثير العاطفة كما ينبه الذهن، ومؤلفه لا يكتب موجزا في موضوعه، بل يتوسع في الموضوع أو في ناحية معينة منه، ويمكن الاستغناء عن الموسوعات، ولكن لا يمكن الاستغناء عن الكتب، ولو خير القارئ بين المجلدات المئة التي وضعها الدكتور إليوت أو الدكتور هتشننز وبين الموسوعة البريطانية لوجب عليه أن يؤثر الأولى على الثانية؛ لأن الأولى ثقافة عامة أما الثانية فدليل فقط.
وفي الفصول السابقة ذكر لأسماء عدد غير صغير من الكتب يجب ألا تهمل.
البرنامج للتثقيف الذاتي
نقصد من إعداد البرنامج للتثقيف الذاتي إلى نقل النشاط من العقل الكامن إلى العقل الواجد؛ أي من الكامنة إلى الوجدان، أو من الرغبة العامة في الرقي الذهني إلى الإرادة الخاصة لتحقيق هدف معين، أو من بعثرة النشاط، يجري جزافا ويتفرق في نواح أخرى مختلفة، إلى بؤرة يحتد فيها ويلتهب، ثم يتشعع إلى أنواع أخرى، فيكون التوسع والتعمق معا عن مركز أصلي.
والواقع أن هذا ما يحدث بالفعل لكل شخص يقصد إلى الثقافة؛ فإنك لن تجد رجلا مثقفا إلا وله بؤرة أو بؤرات قليلة، يتجمع فيها نشاطه، بل يلتهب، ثم يتشعع منها. فهو يتخصص في مادة، ثم ينتقل منها إلى مواد أخرى. وهذا هو الشأن حتى في الذهن العادي إذا أخذ صاحبه نفسه بالجد في الدراسة.
وإعداد البرنامج يهيئ هذا التخصص، أي تكون البؤرة؛ فإن ظروف الحياة تستهلك الوقت والمال والجهد، وتبعثر هذه القوات، فلا يجد الراغب في التثقيف كفايته منها كي يدرس، ولكنه إذا أعد البرنامج، استطاع أن يوفر منها الكثير لهذه الغاية، فإذا شاء مثلا أن يدرس لغة أجنبية فإنه يحتاج أولا إلى دراسة على يد أحد المعلمين كي يقطع المرحلة الأولى، حتى إذا وصل إلى الاستقلال الدراسي احتاج إلى شراء الكتب وتخصيص الوقت، ثم هذه الدراسة يجب أن تكون متصلة، لا تنقطع شهرا أو ستة شهور ثم تعود؛ لأن هذا الانقطاع يبعثر النشاط وقد يؤدي إلى الفتور.
فكي نتثقف يجب أن نعد البرنامج، فنعين الوقت الذي سنتخيره للدراسة، ساعتين أو ثلاثا كل يوم، ويجب أن نعد المال الذي سننفقه على الدراسة بشراء الكتب أو المجلات، نحو عشرة جنيهات أو عشرين جنيها في العام، قد يذهب بعضها في استخدام معلم للابتداء في المادة والاسترشاد بنصيحته، ثم نوالي الدراسة مدة عامين أو ثلاثة أعوام، فلا نجيز لاهتمامات أخرى تستهلك الوقت والمال اللذين خصصناهما للدراسة.
والعجب أن أحدنا يؤدي لابنه خمسين جنيها في العام لنفقات تعليمه بالجامعة، أو عشرين جنيها لنفقات تعليمه بالمدارس الثانوية، ثم يبخل على نفسه بثلاثين أو أربعين جنيها يشتري بها الكتب كل عام، يعلم بها نفسه ويوالي تربيته الذهنية، ومجتمعنا للأسف لا يشجع على هذه التربية للعوائق التي سبق أن ذكرنا، مثل المباراة الاقتصادية المهلكة التي تجعلنا مسخرين في جمع المال خوفا من المستقبل، ومثل الزوجة الجاهلة التي تعارض في شراء الكتاب ولا تدرك أن رف الكتب هو أشرف الأثاث في البيت.
والقارئ لهذا الكتاب قد يحس أننا نكبر من شأن الثقافة كأنها فوق الحياة، وأننا يجب أن نعيش لنقرأ، وليس شك في أن هناك أشخاصا يفعلون ذلك؛ أي إن التثقيف قد أصبح الهواية التي تحتوي كل حياتهم، وهم سعداء بالجهد الذي ينفقونه في هذه الغاية، ولو قيل لأحدنا إن غاية الحياة هي المعرفة لما استطاع أن ينكر قيمة هذه النظرية إنكارا تاما، وإن كان في قدرته أن يتحيفها من بعض نواحيها؛ فإن الإنسان الراقي لا يجد في هذه الدنيا أسمى ولا أثمن من الفهم الذي تثمره المعرفة.
ومع ذلك يجب أن نقول إن التثقيف للحياة، وليست الحياة للتثقيف؛ لأن بيت القصيد في الحياة هو الحياة نفسها، بل إننا حين نقول هذا القول نوجه تثقيفنا إلى الوجهة المثمرة للفهم، فلا ننشد دراسات عقيمة كانت حية في عصر ما ماتت ولم تعد لها دلالة في حياتنا الحاضرة.
أجل، يجب أن نحيا من أجل الحياة؛ أي إن غاية الحياة هي الحياة، وحتى حين نقول إن الفهم أو الحكمة أو الفلسفة أو المعرفة أو الصحة أو الطمأنينة هي غاية الحياة، فإنما نعني في الواقع أن كل هذه الأشياء تؤدي في النهاية إلى الحياة، ونستطيع بعد ذلك أن نصف هذه الحياة بأنها هي الحياة الشريفة والسعيدة أو السامية أو الفهيمة أو الدالة.
وعندئذ نستطيع أن ننشد بدلا من أسلوب الكتاب أسلوب الحياة، ويجب أن يعيب الكاتب أو الدارس أن يتوخى النثر الفخم الرائع، والشعر العالي الرصين، في حين هو لا يطلب من حياته أن تكون قصيدة سامية أو على الأقل نثرا رائعا؛ أي إنه لا يطلب أن تكون حياته فنية يطرد سيرها رقصا وتلحينا، وليس مشيا مشوشا، أجل بدلا من أن نتوسع في الكيمياء أو التاريخ يجب أن نتوسع في الحياة ونتعمقها؛ لأن الحياة هي الأصل وهي الغاية.
ولكن، لأجل أن نتوسع، ونتعمق الحياة، ونستمتع بأشرف وألذ ما فيها، ولأجل أن نعيش الحياة البليغة الدالة، حياة النفس والجسم والذهن، ويؤلف كل منا من حياته علواء، كل خطوة فيها بيت من الشعر، أجل لأجل هذا كله يجب أن نثقف عقولنا ونربي أنفسنا.
والوسيلة إلى ذلك هي المعرفة التي نحصل عليها بالدراسة، فإذا تجمعت لنا المعارف من ميادين مختلفة في العلم والأدب والفلسفة، وإذا عالجنها بالفهم، فإننا نكون منها الآراء السديدة.
على أن الآراء تستهلك مجهودا نفسيا وذهنيا كبيرا، ولا يمكننا أن نسلك في حياتنا بالرأي فقط؛ ولذلك فإن من قيم الثقافة هنا أن نحيل الرأي إلى عاطفة، ونعني الرأي السديد الذي وصلنا إليه بتقليب المعارف وتفهمها، فإذا صار الرأي عاطفة دخل في نظامنا النفسي وتغلغل في كياننا، ونحن نمارس العاطفة في سهولة وبلا وجدان، وعندئذ تستحيل العاطفة جزءا من أسلوب الحياة.
والمعرفة تؤدي إلى الفهم والرأي والحكمة.
والرأي والحكمة يؤديان إلى أسلوب الحياة.
فغاية الثقافة، بل غايتها السامية، هي الحياة، أي الوصول إلى أسلوب سام نعيش به، ومن هنا يجب أن تكون الثقافة «تطبيقية» غايتها مثل غاية الفلسفة وغاية الدين: معرفة ثم فهم ثم رأي ثم عاطفة، ثم الأسلوب الذي نعيش به، والمقياس الذي نقيس به الثقافة يجب ألا يختلف عن المقياس الذي نقيس به الديانة والفلسفة؛ أي: ما هو مقدار الفهم الذي حققناه منها؟ وما هي العواطف النبيلة التي بعثها في نفوسنا؟ وما هو أسلوب العيش السامي الذي أدت إليه؟
Page inconnue