قد كان من السهل على مصر وهي التي اكتشفت الكتابة، وهي التي تخرج البردي وتستعمله تلك الاستعمالات الصادرة عن المهارة والذكاء، أن تتصور أيضا إنشاء المكاتب، فإن الكتب متى كتبت وجب جمعها وحفظها لحفظ الذكر لكل ما اشتملت عليه، وعلى الرغم من قول طاموس وأفلاطون وسقراط فقد ظهر أن تلك المحفوظات مفيدة ونفيسة جدا. ذلك ما كان هو الواقع؛ فإن أوزيمندياس - أحد ملوك مصر - يعتبر أنه أول من اقتنى مكتبة أو من أوائل من اقتنوا مكاتب.
وتذكار هذا الحادث العجيب نقله إلينا ديودور الصقلي الذي زار مصر في الأولمبية 180 كما كان زارها هيرودوت من قبله بأربعمائة وخمسين عاما، ورأى بعينيه كل ما يتكلم عنه تقريبا، بعد أن قال كلمة عن قبور الملوك التي كان عددها سبعة وأربعين على رواية الكهنة، والتي لم تكن إلا سبعة عشر حين زارها ديودور.
24
وصف بغاية التفصيل الأثر الشهير لأوزيمندياس، ومن بين العمائر التي تنسب إلى هذا الملك دار الكتب المقدسة المنقوش على وجهتها «دواء النفس».
ولا يستنتج من كلام ديودور نفسه أن هذه المكتبة كانت لا تزال قائمة في زمنه، فأما أنها وجدت فذلك ما لا يكاد الشك يتطرق إليه. ولقد كان لدى الكهنة المصريين كتب بالغة في القدم مسجل فيها تاريخ البلاد سنة فسنة تسجيلا منتظما والوراثة غير المنقطعة على عرش مصر لأربعمائة وسبعين فرعونا وخمس ملكات، ولم يشأ ديودور أن يكرر بالنسبة لعهد كل فرعون ما كانت تحويه هذه الكتب التي يظهر أنه اطلع عليها، ولكنه وضع خلاصتها، وعلى تلك الوثائق بنى عمله، فإذا لم تكن هذه المكتبة موجودة قبل المسيح بخمسين عاما فلا أقل من أن يكون ذكرها واردا في تلك السنويات الرسمية التي كان لا يزال يمكن الاطلاع عليها مهما كان مبلغها من الضبط قلة أو كثرة.
25
وعلى رأي علمائنا المشتغلين بالآثار؛ فإن أوزيمنديوس الذي كان يسميه الإغريق أوزيمندياس هو فرعون من العائلة السادسة عشرة. وهذه العائلة يقترن عهدها تقريبا بعهد أناخوس؛ أي بتاريخ نحو ألفي سنة قبل الميلاد؛ فإن الهكسوس أو عرب الرعاة تكون العائلة السابعة عشرة.
مثل هذه الأحاديث ربما كانت تظهر لنا حديث خرافة؛ إذ لا يمكن التصديق بوجود كتب في زمن بالغ من القدم حد الغاية، إذا لم نكن حاصلين الآن في متاحفنا على الأدلة التي لا تقبل التهم، المثبتة لهذه الحوادث؛ ففي باريس وفي طورينو وفي ليدن وفي برلين ... إلخ أوراق البردي والمخطوطات التي يصل تاريخها إلى ثلاثة عشر وأربعة عشر قرنا قبل الميلاد المسيحي، بل إلى أبعد من ذلك، ولكل أن يراها، ولمعرفة تاريخها ليس عليه إلا أن يستفتي شمبوليون ودي روجي ومارييت وأميدي بيرون وليمانس ولبسيوس ... إلخ.
إن بردية طورينو الشهيرة التي تكلم عنها شمبوليون في خطابه إلى دي بلاكاس (ص42) هي على الأقل من القرن الثالث عشر قبل المسيح كما بينه لبسيوس (تودتنبوخ ص17). وفي كتاب الملوك نقل لبسيوس (لوحة 6) مخطوطة يصل تاريخها إلى العائلة الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، وذلك ما يبلغ بنا أقصى مما ذكرنا. ووصف مارييت في مذكرته عن دار الآثار ببولاق (ص148) برديا وجد في طيبة في نحو المترين طولا يتعلق بإحدى الثلاث العائلات الأولى للإمبراطورية الجديدة، وهذه المخطوطة لا يقل عمرها عن 1288 سنة قبل الميلاد يمكن أن تكون من سنة 1700، ومخطوطة أخرى (ص153) طولها أربعة أمتار ونصف على 0,35 ارتفاعا، وهي من متعلقات العائلة الثامنة عشرة، فتكون من سبعة عشر قرنا قبل الميلاد.
ويمكن إيراد أمثلة من هذا النوع إلى ما يشاء، ولكن حسبنا ما أوردناه، وما أظن بنا حاجة إلى المجاوزة بالإيضاح إلى أبعد من ذلك؛ فقد كمل.
Page inconnue