فسقراط يحط من شأن هذه المقالات الميتة في طي الكتابة التي يحويها ويرفع فوقها قدر المقال الذي ينقشه العلم في نفس الذي يتعلم، ذلك المقال الحي المليء بالحياة هو الذي يبقى في الذهن، وما منزلة المقال المكتوب منه إلا الشبح الباهت، هذا هو ما ينصح لفدر أن يكثر العناية بمزاولته. إن الشاعر والناثر يصححان ويحرران ألف مرة ما قد كتبا، يزيدان عليه أو ينقصان منه، ولكن يلزمهما قبل كل شيء أن يهتما بما في نفسيهما ويرعياه حق رعايته، تلك هي الوسيلة لاستحقاق ذلك اللقب الجميل: لقب الفيلسوف. ذلك هو الرأي الذي يمكن أن يعطيه فدر إلى ليزياس، وذلك هو الرأي الذي يعرف سقراط كيف يجعل أصحابه الشبان يتذوقونه، وعلى الأخص إيزقراط الجميل الذي عليه مخايل النبوغ.
أنا لا أناقش رأي الحكيم الآتيني مهما ظهر لي منه عدم ائتلافه مع ذوقه السليم المعروف، ولكن أيا كانت قيمته فإنه ينتج منه أن سقراط وفدر وجميع أصحابهما يستعملون الكتب كما نستعملها نحن، يكتبون مقالاتهم ومؤلفاتهم كما نفعل نحن، ويدرسونها ويصححونها ويهذبونها كما نفعل نحن، وينتج من هذا فوق ما تقدم أنه منذ زمن أفلاطون كان ينسب اكتشاف الكتابة واختراع الكتب إلى مصر. ولا شك في أن أفلاطون - وهو من ذرية سولون - يجب أن يعلم أكثر من غيره شأن تلك الأسطورة التي جاء بها جده الأمجد من البلد الأجنبي.
وعلى هذه الوقائع القاطعة نزيد وقائع من العصر ذاته. لما وصل إكسينوفون رئيس تقهقر عشرة الآلاف من بيزنطة إلى سلميدس آخر نقطة وصل إليها في الشمال، حكى أنه عند دخوله في البحر الأسود وجد سفنا كثيرة جانحة في الرمل تحت جرف الشاطئ، وأن أهل تراقيا - سكان تلك المنطقة - يسارعون إلى نهب أولئك الغرقى التعساء ويقاتلون على أيهم يسرق من السلب أكثر من غيره؛ ولذلك توجد منقولات كثيرة على هذا الشاطئ الخبيث ينقلها الملاحون في صناديق من الخشب، ومن بينها كتب لا شك في أن أولئك المتوحشين ما كانوا يفهمونها، ولكنهم يحفظونها ليبيعوها.
22
ونظرا إلى أنه كان يوجد عدد عظيم من الجاليات الإغريقية في تلك الجهات - بيزنطة وغيرها - فليس مستحيلا أن فكر أولئك الملاحون في الاتجار بالكتب، وربما كانوا ينقلونها من الشواطئ الآسيوية ومن آتينا والمدائن الأخرى لليونان النازلين والمهاجرين الذين مع بعدهم عن وطنهم تتوق أنفسهم إلى الاقتباس من نوره الذي هم أحوج ما يكونون إليه في غربتهم.
لا أقول بأنه في زمن أفلاطون، بل فيما قبله، لم يكن يوجد في آتينا أصلا كتبية يبيعون الكتب ويشترونها؛ فذلك محتمل جدا، ولكنه ليس عندنا على ذلك شهادات تقارن في قدمها ذلك الزمن؛ فإن أول شهادة من هذا النوع تنسب إلى زنون الستيومي، فإن زنون قبل أن يترك مدينة ستيوم - وهي مستعمرة فينيقية في قبرص - اشترى حمولة من الأرجوان ليربح فيها في آتينا، وذهب يستفتي الهاتف عن أحسن طريقة للعيشة، فنصح له الهاتف أن يصير في لون الموتى، وفسر زنون هذه النصيحة بأنه يجب عليه أن يعكف على قراءة كتب الأقدمين حتى يشحب لونه، فلما وصل إلى آتينا بعد غرق محزن دخل عند كتبي وأخذ يقرأ بلذة شديدة الكتاب الثاني من مذكرات إكسينوفون على سقراط، فسأل الكتبي وهو مسحور بلذة ما قرأ أين يمكنه أن يقابل المؤلفين الذين يكتبون مثل هذه الملح؟ فأشار له الكتبي بإصبعه إلى «قراطيس» الذي كان مارا وقتها في الشارع، فعجل زنون إلى الأستاذ يتعقب خطاه حتى وصل إليه وتتلمذ عليه، ولكن لما لم يستطعم ذلك الجفاء الغليظ اعتزل قراطيس؛ إذ أصبح في قدرته أن يضع مؤلفات لا تقل عن مؤلفات أستاذه، وأخصها كتابه على فيثاغورث.
23
وكان عمر زنون وقتئذ ثلاثين عاما، وعلى الاحتمال الغالب أن أرسطو وقتها كان لا يزال حيا، فإن ذلك كان في آخر ملك إسكندر.
أقص حادثة أخيرة أستعيرها من نظريات أرسطو؛ يتساءل المؤلف: لماذا قطع الكتب يعطي هيئات مختلفة على حسب ما إذا كان هذا القطع مستقيما أو بانحراف؟ أترك التفسير إلى ناحية؛ لأنه لا يهمنا هنا، ولكن ذلك يبين أن أرسطو كان لديه كتب من جنس كتبنا وعلى الأقل من جهة كونها مقصوصة على صورة منتظمة قليلا أو كثيرا. بعد ذلك في الفصل الثامن عشر يبحث أرسطو: لماذا تنيم القراءة بعض الناس؟ ولماذا بعضهم على الضد من ذلك يتناول الكتاب حين يريد أن يبقى ساهرا؟ كل ذلك يعين استعمالات للكتب أشبه ما تكون بما نفعل نحن. كان في آتينا بعضهم يقرأ في سريره وليس معدوما فيها هذا الصنف من الناس الذين يأتون هذه البدعة عندنا.
من أين جاءت هذه الكتب؟ وعلى أي مادة كانت مكتوبة؟ لا أتأخر في الجواب: كانت مكتوبة على ورق البردي، وكان البردي يجيء من مصر منذ أقدم الأزمان، كان بين مصر وبين إغريقا روابط مستمرة، ومن باب أولى كان بين مصر وآسيا الصغرى. وإن أقدم الهجرات التي اتبع فيها سبيل أناخوس وسكروفس وكثير غيرهم إنما عادت من شواطئ النيل جالبة معها إلى الهلين في عداد ما جلبته لهم أسماء جميع آلهتهم المتنوعة إلى اللانهاية، وبعد ذلك ضاعفت العلاقات دواعي التجارة والحروب. وفي تلك القرون التي نحن بصددها كانت مصر متدخلة دائما لمصالح شتى في سياسة جميع الأمم المجاورة لها، وعلى الأخص سياسة المدائن الإغريقية التي على الشاطئ. ولما أن فتح الفرس مصر صارت هذه العلاقات أكثر توثقا واستمرارا؛ فإن أسطول المصريين وجيوشهم كانت تشهد كل حين وقائع البر والبحر، ومن البديهي أن الأمم المختلطة على هذا النحو تتبادل كثيرا من الأشياء بحكم الضرورة. وكانت مصر وقتئذ الوحيدة تقريبا في إنتاج البردي؛ فكانت تصدر منه كميات وفيرة إلى بقية العالم.
Page inconnue