Anciens et Modernes : études, critiques et discussions
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
Genres
إن الدنيا كلها تختفي تحت برقع الرياء والطمع، وأحسن عمل فيها يسبب الخجل، وليس فيما حولنا ما يستحق احترامنا الكامل، وليس في أنفسنا ما يحب، فلجة شهواتنا عميقة، ثائرة أبدا، ومدها وجزرها يعملان كالقلب، ليل نهار.
كيف رأيتني؟ أما تفلسفت كثيرا اليوم؟ فالمعذرة يا أخي، من حضر السوق باع واشترى، إن هذه القضايا التي لا تحل، هذه المعضلة التي مات لأجلها يسوع، واضطهد محمد، وشقي موسى وبوذا، هي التي شغلت بال أديبنا فرح أنطون فتشنجت أعصابه حتى التوتر، وتهور قلبه الكبير، ففي كتابه «الدين والعلم والمال» أراد إصلاح المدينة التي بناها «الشيخ سليمان» فلم يقدر، فعمل بها عمل الله في سدوم وعمورة، كما زعموا وبنى على أنقاضها مدينة «الرفق والإخاء».
إن مكان مدينة «الدين والعلم والمال» غير معروف؛ لأنها من استنباط فرح، أما تخطيطها فهكذا كان، كما روى شيخ قرية «الدخول» لحليم النازل عليه: «اشترى الشيخ سليمان - سيظهر أيضا هذا الشيخ في أورشليم الجديدة - هذا السهل الواسع الذي أمامنا، ومساحته 5000 فدان، وأسكن فيه فتيانا وفتيات من طبقة الرعاع، وأحضر لهم زراعا وصناعا يدربونهم على الزراعة والصناعة،
1
وأقام لهم حكومة، وسن لهذه الحكومة قوانين ... إلخ (ص3) فغدا حليم - هو فرح بعينه تظهر لك صفاته في صفحة 4 و5 و6 - إلى المدينة ومعه رفيقه، فرأى مدينة المال كبيروت، أو أعظم مدينة رأيتها أنت، وفتش فيها عن فتاته ذات الحلة البيضاء التي رآها في الطريق، فما وجدها في مدينة المال، وتقدم فرأى مدينة العلم كمصح بحنس: هدوء شامل وصمت رهيب، أما مدينة الدين فهي كما قال أعمى المعرة:
قس يعالج دلبة
والشيخ من حنق يصيح
ويجول حليم في المدن الثلاث، فيلتقي في الحديقة العامة بمن يعرفونه، فيدعونه لجلسة المساء العامة بين رجال الدين والعلم والمال، فيحضر ويحمى الجدال والخصام بين العمال والرأسماليين، وبين رجال الدين والعلم، ثم يستتب النظام فتدرس مشكلة العمال وأرباب الأموال، فيعرفنا فرح بكارل ماركس - أرأيت كيف سبق فرح زمانه؟ فأين بلاشفة البلد يكرمون واحدا اعتنق القضية يوم كانوا في أحضان أمهاتهم - وينادي بمذهبه في ذلك الزمان، فيقول زعيم العمال ما قاله ماركس: إن معامل الأمة ومصانعها ومتاجرها وأرضها هي من مرافقها ومنافعها كالأنهر والأبحر والهواء، فعلى الأمة أن تتولى إدارتها بنفسها وتوزع أرباحها بين أبنائها - أي إن تجعل الحكومة نفسها التاجر الكبير» (ص19).
ثم ينذر فرح بثورة العمال (سنة 1903)، وقد تحقق حلمه الذي رآه، ولكنه لم يخل من مرارة الخيبة الممزوجة بالرجاء.
وينتصر رجل العلم للعمال، فيناهضه رجل الدين، ويتناطحان حول تنازع البقاء وبقاء الأنسب، فيستشهد فرح بنيوتن الضعيف ضد مذهب القوة الذي أذاعه حين عرف نيتشه، أو حين تغيرت أحلامه وتبدلت أوهامه كما قلنا. وفي الحوار بين رجال العلم والدين يندد فرح بزنمات في الدين يجب قطعها، كما يرى فيه أشياء نخرة يجب ترميمها، وأخيرا يتراءى له أن الكمال البشري ممكن دون الدين.
Page inconnue