عن حجرته، غرونوبل في 14 أيار سنة 1797
منذ عامين وأنا بين رجال الله ساكبا نفسي على موقد الفناء المقدس، غير أن منظر هؤلاء الرهبان، رهبان السلام والسكينة، لم يستطع أن ينزع الحسرات من مكامن قلبي!
إن حمل الأيام لخفيف الثقل على نفوس هؤلاء البشر! فبسمات العذوبة لا تفارق مراشفهم، ولا يسمع من صدورهم زفرة من زفرات الألم! آه لو أمكنك أن تسكن سكونهم أيها القلب الخافق! آه! لو قدرت رؤيا الماضي أن تتلاشى من عيني كما تتلاشى الأحلام، لو قدرت أخيلة هذه الجدران أن تحجبها عن نظري! ولكن لورانس لا تزال تتراءى لي ماشية أمامي كيف اتجهت؟ وأين تحولت؟ يخيل إلي أني أراها تضيء بين جدران الدير وتحت كل عمود من أعمدة الكنيسة، وإذا أغمضت عيني محاولا أن أهرب من ذلك الطيف الحبيب تتراءى لي ساجدة على هيكل نفسي!
إيه قمم الجبال! يا نسيم الأزهار الطاهر، يا أمواج الأنوار البهية، يا هواء الغابات العاصف، أيها الضباب المتلاشى على المرتفعات، يا مياه البحيرات العذبة، أيتها السيول المنحدرة من أعالي القمم، حيث كنت أضم باكيا جذوع الأشجار بدلا من هذا الرخام البارد، وحيث كنت أسمع قلب الله يخفق في كل ذرة من ذرات الطبيعة، إن نفسي لتحطم جدران هذا السجن بقنابل زفراتها باكية أول شفق للشباب ما كاد يبرز حتى توارى! يخيل لي أن هذا السقف المثقل علي يزيد الحياة آلاما ويضغط بشدة على القلوب، وأني أتمكن من استنشاق الهواء نقيا في غير هذا المكان، وأن الهواء الطلق يعينني، كما يعين النسور، على الارتفاع إلى عرش الخالق أكثر من هذه التقاليد الباردة!
بيد أن هؤلاء الناس لسعيدون تحت تلك الشرائع، فهم يتبعون طريقهم بدون أن تحدثهم نفوسهم بالعدول عنها، ذلك لأنهم لم يستنشقوا هواء العواصف الناري، ولم يدفنوا بين أذرعهم قلبا من القلوب، فأيامهم لا ظل لها، وأفئدتهم لا طية فيها!
في 25 تموز سنة 1797
ما كنت عارفا أن الظواهر الباطلة ستكدر براءتنا حتى القبر، وأن العالم سوف لا يؤمنون بطهارة قلبينا يوم كنا في تلك الجبال وحيدين لا حارس علينا سوى عين الله! فهذه الريبة مكتوبة على جميع الجباه، ويعتقد هؤلاء الكهنة بالرغم عن عذوبة كلامهم، أن وجودي بينهم خطر على فضائلهم! فيخافونني ويتجنبونني، كأني رجل بائس أصيب بالبرص! أجد نفسي وحيدا في كل مكان تطؤه قدماي: وحيدا على أقدام الهيكل، وحيدا على المائدة، وحيدا في الدرس، وحيدا في راحات المساء، ومذ يسمعون وطء أقدامي على أدراج الأروقة يخفتون أصواتهم ويقطبون حواجبهم ويتراجعون لدى مرور طيفي بينهم ولا يعودون إلى الحديث إلا عندما أكون قد تواريت!
غرونوبل، آب سنة 1797
قال لي الأسقف: «لقد كثرت عنك الأقاويل يا ابني، غير أن طاعتك وانقيادك ليكفران عنك، إن التوبة لنار تصهر القلوب فتجدد الحياة!» ••• «هناك في جبال الألب قرية تكتنفها الثلوج طيلة ثمانية أشهر من السنة فتغلق جميع الطرقات دون القرويين ولا يصبح المرور مستحيلا إلا متى جاء الصيف وذوبت الشمس تلك الثلوج، هناك، بعض قبائل من الفلاحين البؤساء منتشرة في بعض الأصقاع، لا راع عليها سوى عين الله بين تلك الغيوم المتلبدة والأعاصير الهدارة، أرى من الرحمة يا ابني أن تتخذ تلك المملكة مقرا لك، وأن تسهر على هؤلاء البائسين وتتعهد نفوسهم بالعناية الدينية التي وضعها الله في صدرك، فمعبد تلك المملكة من خشب الغابات وسقفه من القش اليابس، ولكنه أسمى من المعابد ذات الأردية الحريرية والبنايات الفخمة؛ لأن نفس الفلاح القروي لأطهر من نفس الرجل الذي يكون قد ربي في المدن بين فساد البشر ومطامع الإنسان! اذهب يا ابني وليحرسك الله!»
في 17 أيلول سنة 1797
Page inconnue