أيها القلب، أغلق نفسك كحفرة فارغة! أيتها الزفرات، ارقدي في طيات قلبي رقادك الطويل! وليختبئ اسمك إلى الأبد بين جدرانه القاتمة! واحذري أن تتصاعدي إلى شفتي من خلال أحلامي المنطفئة! وليجهل الناس المنخدعون أن حبي لهم إنما هو وقف لك وحدك! ولتفترس النار الإلهية، تلك النار المضطرمة في قلبي، اسمك المقدس بلهيبها الطاهر! وليخفف هذا السر العظيم عن كل إنسان، إلى أن يحجبه القبر في ساعتي الأخيرة!
ولكن لورانس، آه! فلتحي طويلا في هذا العالم، ولتتناس اسمي الدنس حتى يجيء الموت ويجمعني بها في العالم اللانهائي!
العهد السادس
26 آذار سنة 1796، في مأوى بيعي من مآوي غرونوبل أثناء اشتداد الحمى
تركت إلى الأبد عدن حياتي، حيث ظهرت حواء لقلبي كما ترك الرجل الأول عدنه الأولى! ولكن! كم أتمنى لو يتيح لي منفى كمنفاه! لقد قضي علي أن أطعن ذلك القلب الذي أهواه بمدية الظلم، وأن أخنق قلبي وألقيه في حسراته! أراني مضطرا أن أرمي سعادتي على قدمي غير متجاسر أن أحول إليها نظرة من عيني الباكية، ولا أن أتلفظ باسم من أندب وأرثي! أجل! يجب أن أحيا وأمشي بلا خيال، وحيدا، دائما وحيدا، ميتا بين الأحياء، ناسجا من ثوبي الأسود كفنا لآلامي! ميتا! آه! لا بل حيا بين هؤلاء الأموات أولي النفوس المثلجة، وإذا كنت في قبر من الظلمة فلكي أغذي الديدان من دمي! •••
آه! ماذا اقترفت أيتها العدالة الخالدة لأجازي صغيرا بمثل هذا العذاب؟ فلولاك، لولا مشيئتك ما لقيت في طريق الحياة ذلك الحب الطاهر الذي أمسى فخا معدا لقلبي! ألم أهرب، وأنا ملتهب بخمرة الشباب، من ذلك الخطر الإنساني لكى أنجي قلبي الطاهر وأبقي على طهارة عيني؟ ألم أقم جدارا مظلما بين العالم وبيني؟ وعندما لجأت إلى الكهف دافنا نفسي بين نواتئ الصخور، لائذا في وكنات العواصف، أعنها كنت أبحث يوم ذاك أم عنك يا إلهي؟ من جاء بها إلى ذلك المكان وألقاها أمانة بين ذراعي؟ من أمرني وأرغمني أن أشاطرها آلامها وهي غريبة عني ولا علم لي بكنه أمرها؟ من سكب علينا عنايته وتعهدنا في تلك الأصقاع الرهيبة؟ ألست أنت يا إلهى؟! فلماذا توجب علي إذن أن أتركها وأن يحمل كل منا نصف الآخر في مطارح غربته؟ ...
إذا كان الله هو الذي قد صنع ذلك، فلماذا أكفر عنه أنا، أمن الواجب أن يدفع البريء عن المجرم، ولكن، إذا كنت لا تخنق سواي بحديد مظالمك أيها الإله فأنا راضخ لشرائعك نازل عند رغباتك! أجل، سأعرف كيف أتحمل خدمتك هذه، تلك الخدمة الطاغية حتى الموت! ولكن لورانس! ... لورانس المأخوذة بحبائل الإنسان! لورانس المظلومة! لورانس البريئة؟! أمن العدل أن تسخط علي وتجدف على خالقها؟ •••
لورانس! رحمة وغفرا! عودي إلي! سامحيني! ضحيت بك في سبيل الله ولم يكن إلهي سوى قلبك الشريف! كنت أخال نفسي ربا! ... لا! ما أنا إلا رجل يلعن انتصاره قبل أن يحترق! إني أكفر عن فضيلتي المزورة! أتسمعين يا لورانس؟ إني أترامى على قدميك فاتحا ذراعي لاستقبال حياتك! آه! أتسمعين؟ عودي إلي! عودي حية أو ميتة! فأصعد بك إلى سماء قلبي، حيث نصم آذاننا عن لعنات الملأ الأسفل، ونغلق مسامعنا عن عجيج الملأ الأعلى! إن نقاوة القلب والشرف لأسمى من فضائل البشر! تعالي، ولنذهب إلى الأسرار، حيث نختبئ عن أعين الإنسانية بما في قلبينا من الحب الذي لا يحجبه إلا ظلمات القبور! عندما يحطم الموت كئوس الحياة بين أضراسنا، من يدري من كان العاقل ومن كان الجهول من الذين شربوا تلك الكئوس كما أراد الله أن يشربوها! حياة معك يا لورانس ثم موتا أبديا! حياة معك ثم جهنم ونيرانها! حياة معك ثم موتا لنفسينا! «يسمع جرس الكنيسة يعلن صلاة المساء وينادي الرهبان.» «الأحداث إلى المعبد.»
هو ذا النحاس المقدس يدوي في الفضاء، هو ذا الصراخ العلوي يناديني إلى أقدام الهيكل، آه! إن قلبي الضائع يستفيق لدى ندائك أيها النحاس! •••
إنك تطرد أفكاري المخجلة من جبيني التائه أيها الجرس! إنك تدفع الجريمة واليأس إلى هوة التلاشي، وتنحب نحيب نفسي الخاطئة وقلبي الأثيم! فكم من نفس معذبة حلمت بنعيك الرهيب! وكم من زفرة حرى صعدت إلى الله على أجنحة أنغامك! وكم مرة أعلنت نهاية الآلام عند حشرجة الروح! أنت تنشد أغاني الفجر وأنغام المساء على مسامع الموتى الراحلين! إيه، فبعد قليل من ساعات النفي الأليم تسمعين أيامك تدق في السماء يا نفسي! فلنمش، أجل فلنمش خافضي الرءوس كمن يتثاقلون تحت أحمال أفكارهم، إلى الله المواسي الرحيم!
Page inconnue