اختلال المعنى واضطرابه، من وضع ألفاظه في غير المواضع اللّائقة بها - كقول المتنبي
جفخت وهم لا يجفخونَ بهابهم شيمٌ على الحسَب الأغر دلائل (١)
أصله - جفخت (افتخرت) بهم شيمَ دلائل على الحسب الأغر هم لا يجفخون بها.
الرابع - «التعقيد المعنوي» كون التركيب خفىّ الدَّلالة على المعنى المراد (٢) - بحيث لا يفهم معناه إلاّ بعد عناء وتفكير طويل.
وذلك لخلل في انتقال الذهن من المعنى الأصلي إلى المعنى المقصود بسبب إيراد اللوازم البعيدة، المفتقرة إلى وسائط كثيرة، مع عدم ظهور القرائن الدّالة على المقصود «بأن يكون فهمُ المعنى الثاني من الأول بعيدًا عن الفهم عُرفا (٣)» كما في قول عبّاس بن الأحنَف.
سأصلبُ بُعد الدار عنكم لتقرُبوا وتسكبُ عيناي الدُّموع لتجمُدا (٤)
جعلَ سكبَ الدُموع كناية عمّا يلزم في فراق الأحبَّة من الحزن والكمد: فأحسن وأصابَ في ذلك، ولكنَّه أخطأ في جعل جمود العين كنايةً عمَّا يوجبه التَّلاقى من الفرح والسُرُور بقُرب أحبتّه، وهو خفىّ وبعيدٌ - (٥) إذ لم يعرف في كلام العرب عند
_________
(١) فلفظة جفخت مرة الطعم، وإذا مرت على السمع اقشعر منها: ولو استعمل (المتنبي) عوضا عن جفخت (فخرت) لاستقام البيت، وحظى في استعماله بالأحسن.
(٢) بحيث يعمد المتكلم إلى التعبير عن معنى فيستعمل فيه كلمات في غير معناها الحقيقي، فيسىء اختيار الكلمات للمعنى الذي يريده، فيضطرب التعبير ويلتبس الأمر على السامع نحو: نشر الملك السنته في المدينة، يريد جواسيسه والصوان نشر عيونه.
(٣) فالمناط في الصعوبة عدم الجريان على ما يتعاطاه أهل الذوق السليم، لا كثرة الوسائط الحسية، فانها قد تكثر من غير صعوبة، كما في قولهم: فلان كثير الرماد كناية عن المضياف - فان الوسائط كثيرة فيه ولكن لا تعقيد..
(٤) تسكب بالرفع عطف على أطلب، وبالنصب عطف على بعد: من قبيل عطف الفعل على اسم خالص من التأويل بالفعل، والمراد طلب استمرار السكب: لا أصله لئلا يلزم تحصيل الحاصل..
(٥) ووجه الخفاء والبعد: أن أصل معنى جمود العين جفافها من الدموع عند إرادتها منها، والانتقال منه إلى حصول السرور بعيد، لأنه يحتاج إلى وسائط بأن ينتقل من جمود العين إلى انتفاء الدمع منها، حال إرادة البكاء، ومنه إلى انتفاء الدمع مطلقًا، ومنه إلى انتفاء الحزن ونحوه «فان ذلك هو السبب غالبا في الدمع» ومن انتفاء الحزن ونحوه إلى السرور - ولا يخفى أن الشاعر قد طوى وحذف جميع هذه الوسائط فأورث بطء الانتقال من المعنى الأصلي الحقيقي إلى المعنى المراد - وخالف حينئذ أسلوب البلغاء، فنشأ من ذلك التعقيد المعنوي واعلم أن الشاعر أراد أن يرضى بالبعد والفراق، ويعود نفسه على مقاساة الأحزان والأشواق، ويتحمل من أجلها حزنا يفيض من عينيه الدموع، ليتوصل بذلك إلى وصل يدوم، ومسرة لا تزول - على حد قول الشاعر:
ولطالما اخترت الفراق مغالطا واحتلت في استثمار غرس ودادي.
ورغبت عن ذكر الوصال لأنها تبنى الأمور على خلاف مرادي..
1 / 34