وأين هذه الدقائق ممن تركوا هذه الأذواق واستعانوا بغير الله، وشبهوه بخلقه فقالوا: إنا نرى السلاطين والأمراء لا نصل إلى خيرهم وبرهم إلا بواسطة الشفعاء، فكذلك الله لا يوصل إلى خلقه إلا بواسطة من ندعوهم. وهذا القياس فاسد، لأن من ذكروا من السلاطين والأمراء لا يسمعون نداء الداعين، ولا يعرفون المحق من المبطل، ولا المحتاج من غيره، إلا بواسطة مبلغ لهم، والله بخلاف ذلك فإنه يسمع السرّ وأخفى، و﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)﴾ [غافر: ١٩] ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: ٤]، فأتوا بسلطان هذه صفته، ولم تجعلوا له واسطة؛ وأتوا بميت يسمع نداءكم أينما كنتم، ثم هو يقدر على إنقاذكم مما ألم بكم من حزن وسقم، فيا لندمكم يوم تبلى السرائر، ويا لخجلتكم يوم العرض على رب العالمين، مالك يوم الدين، ويا لكذبكم حينما تقفون بين يديه، ثم تقولون: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
ما أبعدكم عن مقام المشاهدة حيث يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه، وهو أن يتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة بالعرفان، حتى يصير الغيب كالعيان، ويصح قول الصادق ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ بكاف الخطاب، ولم يحم حول قلبه حلول ولا اتحاد، فالعبادة نوع من الخضوع بلغ نهايته، فوصل العابد به إلى مقام الإحسان، فاستشعر قلبه عظمة للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقد أن فوق قدرته سلطة لا يدرك ماهيتها وكنيتها، ولا يعرف منها إلا أنها محيطة به وهي فوق إدراكه.
والعبادة شرعت في كل الشرائع السماوية لتذكر بهذا الشعور، الذي هو منشأ التعظيم والخضوع المُؤثر في تقويم أخلاق القائم بها، وتهذيب نفسه، فكل عبادة خالية من هذا المعنى ليست بعبادة.
ولما كان هذا المعنى لا يتهيأ للعبد إلا بمعونته تعالى، ناسب أن يطلب ذلك من حضرة مولاه فيقول: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، مقرًا بالعجز واستشعار الافتقار والاعتصام بحوله وقوته، وتقديم المفعول للتعظيم والاهتمام به، والدلالة على الحصر، وأطلقت الاستعانة فلم تتقيد بالمفعول الثاني، كأن يقال: وإياك نستعين على كذا، لتتناول كل مستعان فيه، لأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب
1 / 40