كتب ابن الأنباري إليه: جرى في مجلس الأمير ذكر الحسن بن هانىء والشعر الذي قاله في المجون وأنشده وهو يؤم قومًا في صلاة؛ وهو إن لكل ساقطة لاقطة، وإن لكلام القوم رواة، وكل مقول محمول. فكان حق شعر هذا الخليع ألا يتلقاه الناس بألسنتهم؛ ولا يدونونه في كتبهم، ولا يحمله متقدمهم إلى متأخرهم؛ لأن ذوي الأقدار والأسنان يجلون عن روايته، والأحداث يغشون بحفظه، ولا ينشد في المساجد، ولا يتحمل بذكره في المشاهد؛ فإن صنع فيه غناء كان أعظم لبليته؛ لأنه إنما يظهر في غلبة سلطان الهوى، فيهيج الدواعي الدنيئة، ويقوي الخواطر الرديئة؛ والإنسان ضعيف يتنازعه على ضعفه سلطان القوى؛ ونفسه الأمارة بالسوء، والنفس في انصبابها إلى لذاتها بمنزلة كوة منحدرة من رأس رابية إلى قرار فيه نار، إن لم تحبس بزواجر الدين والحياء أداها انحدارها إلى ما فيه هلكتها.
والحسن بن هانىء ومن سلك سبيله من الشعر الذي ذكرناه شطار كشفوا للناس عوارهم، وهتكوا عندهم أسرارهم، وأبدوا لهم مساويهم ومخازيهم، وحسنوا ركوب القبائح.
فعلى كل متدين أن يذم أخبارهم وأفعالهم، وعلى كل متصور أن يستقبح ما استحسنوه، ويتنزه من فعله وحكايته. وقول هذا الخليع: ترك ركوب المعاصي إزراء بعفو الله تعالى حض على المعاصي أن يتقرب إلى الله ﷿ بها تعظيمًا للعفو، وكفى بهذا مجونًا وخلعًا داعيًا إلى التهمة لقائله في عظم الدين، وأحسن من هذا وأوضح قول أبي العتاهية:
يخاف معاصيه من يتوب ... فكيف ترى حال من لا يتوب
جواب ابن المعتز
فأجابه ابن المعتز: لم يقل أبو نواس ترك المعاصي إزراء بعفو الله تعالى، وإنما حكى ذلك عن متكلم غيره، والبيت الذي أنشد له بحضرتنا:
لا تحظر العفو إن كنت امرأً حرجًا ... فإن حظركه بالدين إزراء
وهذا بيت يجوز للناس جميعًا استحسانه والتمثل به، ولم يؤسس الشعر بانيه على أن يكون المبرز في ميدانه من اقتصر على الصدق ولم يغو بصبوة، ولم يرخص في هفوة، ولم ينطق بكذبة، ولم يغرق في ذم، ولم يتجاوز في مدح، ولم يزور الباطل ويكسبه معارض الحق؛ ولو سلك بالشعر هذا المسلك لكان صاحب لوائه من المتقدمين أمية ابن أبي الصلت الثقفي، وعدي بن زيد العبادي؛ إذ كانا أكثر تذكيرًا وتحذيرًا ومواعظ في أشعارهما من امرىء القيس والنابغة. فقد قال امرؤ القيس:
سموت إليها بعدما نام أهلها ... سموّ حباب الماء حالًا على حال
فأصبحت معشوقًا وأصبح بعلها ... عليه القتام سيّىء الظنّ والبال
يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتّال
وقال النابغة:
وإذا لمست لمست أخثم رابيًا ... متحيّزًا بمكانه ملء اليد
وإذا طعنت طعنت في مستهدفٍ ... وابي المجسّة بالعبير مقرمد
وهل يتناشد الناس أشعار امرىء القيس والأعشى والفرزدق وعمر بن أبي ربيعة وبشار وأبي نواس على تعيهرهم، ومهاجاة جرير والفرزدق إلا على ملأ الناس وفي حلق المساجد؟ وهل يروي ذلك إلا العلماء الموثوق بصدقهم. وقد نفى حسان بن ثابت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فما بلغنا أن النبي ﷺ أنكر ذلك عليه في هجائه حيث يقول:
وأنت ربيط نيط في آل هاشمٍ ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
وقد زعم بعض الرواة أن النبي ﷺ قال للحارث: أنت من خير أهلي. وما نهى النبي ﷺ ولا السلف الصالح من الخلفاء المهديين بعده عن إنشاد شعر عاهر ولا فاجر.
ولقد أنشد سعيد بن المسيب وغيره من نظرائه تهاجي جرير وعمر بن لجأ فجعل يقول: أكله أكله. يعني أكله جرير ولم ينكر شيئًا مما سمعه.
رد ابن الأنباري
1 / 16