إنها في نظر توفيق الحكيم مجرد امرأة فقدت زوجها وليس لها هم في الحياة إلا استرداده. ولم تكن الإلهة إيزيس في تاريخنا المصري القديم بهذه السطحية، إلا أن رؤية توفيق الحكيم المحدودة للمرأة حجبت عنه شخصية إيزيس بأبعادها المتعددة، ومنها أنها كانت إلهة الحكمة والمعرفة والحركة السريعة، اكتشفت الزراعة وعلمت المصريين الزراعة والكتابة وصناعة الخبز من الحنطة والشعير.
ولم تكن إيزيس تحب العدل فحسب، ولكنها كانت تسعى لتحقيق العدل، وكانت تحب الإنسان الطيب؛ ولذلك أحبت أوزوريس ولم تحب «سيت»، مع أن «سيت» كان أخاها أيضا مثل أوزوريس ابن أمها نوت وأبيها جيب، لكنها لم تحبه لأنه كان ظالما. إن الفيصل في علاقتها بالرجل هو مدى حبه للعدل، الرجل الفاضل عندها كان هو الرجل العادل، والعدل هو الشرف، والشرف هو الجمال.
وقد استطاعت «إيزيس» أن تحارب «سيت» حتى هزمته، وكان يمكن لها أن تحكم عليه بالموت وتقتله كما قتل أوزوريس، لكنها ارتفعت فوق الانتقام وعفت عنه رغم غضب ابنها حوريس؛ العفو عند المقدرة كان من مبادئها أيضا.
لكن أين هذه الإيزيس الإلهة الحكيمة ذات العلم والفلسفة والمبادئ من تلك الإيزيس الأخرى التي لم تكن إلا ظلا لزوجها في حياته ومماته، ومن بعده أصبحت ظلا لابنها حوريس؟
إن هذه المسرحية التي أقدمها الآن هي إيزيس المصرية كما فهمتها من التاريخ، ومن حق كل مؤلفة أو مؤلف أن يفسر التاريخ بعقله ويعيد قراءته من جديد، إن القصص والأساطير التاريخية ليست ملكا لأحد وليس لها تفسير واحد، وهي أحد المنابع الخصبة أمام كل عقل يفكر. التاريخ ملك لكل من يمتلك الخيال والعقل والإخلاص لمعرفة الحقيقة، وتملك الكاتبة أو الكاتب حرية تفسير الأساطير في إطار الحقائق المعروفة.
ومن حقائق التاريخ المصري القديم أن الآلهة والحكام والملوك لم يكونوا ذكورا فحسب، وأن المرأة المصرية شاركت الرجل مناصب الألوهية العليا، بل إن أهم هذه المناصب شغلتها المرأة. كانت «نوت» أم إيزيس إلهة السماء، وكانت «معات» هي إلهة العدل، وإيزيس إلهة الحكمة والعقل والإرادة، بل إن «حواء» زوجة «آدم» كانت إلهة للمعرفة، ألم تكن هي أول من تحدى الإله ومدت يدها إلى شجرة المعرفة؟
وهل هناك في حياة الدول والشعوب أهم من مناصب العدل والمعرفة والحكمة وعرش السماء؟ وكلها مناصب فكرية وسياسية تتعلق بالقدرة العقلية والقدرة السياسية والاجتماعية، بخلاف منصب إلهة الخصوبة والولادة الذي فرض على المرأة فيما بعد واقتصر دورها على القدرة البيولوجية والإنجاب، وارتبطت المرأة بالجسد والجنس، ثم انحدر الجسد بانحدار المرأة وأصبح يرمز إلى الدنس والإثم بعد أن كان رمز الخصوبة والخير.
كيف تحولت إيزيس ونوت ومعات وغيرهن من إلهات السماء والحكمة والعدل والعقل إلى «حواء» رمز الخطيئة وحليفة الشيطان؟! لقد ارتبط هذا التحول في التاريخ بنشوء العبودية واحتكار الرجل لمنصب الألوهية وحده دون المرأة، واحتكاره السلطة في السماء وفوق الأرض، في الدولة وفي العائلة، وطرده للمرأة من جميع مجالات الفكر والفلسفة والدين واعتبارها جسدا مدنسا.
أصبحت هذه هي الصورة للمرأة في الدين اليهودي. وهو أول دين سماوي يعكس الفلسفة العبودية. وأصبحت المرأة جسدا بغير رأس، ورأسها هو زوجها. أصبحت «حواء» هي التي عصت الإله وأكلت من شجرة المعرفة وتسببت في سقوط آدم من الجنة، فكأنما الجنة هي الجهل، ومن يأكل من شجرة المعرفة يسقط من السماء إلى الأرض. أو كأنما الإله كان يفرض على الإنسان الجهل، وجاءت حواء وأعلنت العصيان والثورة على الإله وحررت البشرية من ظلام الجهل إلى نور المعرفة.
ولا تزال قصة «حواء» في التاريخ مثل قصة «إيزيس» ومثل قصة «مريم العذراء» في حاجة إلى رؤية خلاقة جديدة تعيد إلى هذه الشخصيات التاريخية النسائية قدراتها العظيمة التي أهدرها مؤرخو العبودية ثم الإقطاع ثم الرأسمالية، وكلها أنظمة أبوية طبقية قائمة على الفلسفة العبودية التي تفرق بين الإله والإنسان والسيد والعبد والرجل والمرأة.
Page inconnue