ثم نقول لهم: أليس الله تعالى قد سمى نفسه بانيا، وهو بان على الحقيقة، لأنه قال: " أم السماء بناها رفع سمكها فسواها " ولم نر بانيا على الحقيقة، إلا بآلة من عدة وآجر وحجر وخشب وغير ذلك: أفتقولون إنه مفتقر في بناء السماء إلى ذلك، حتى يكون قد بنى على الحقيقة. فإن قالوا: نعم، كفروا لا محالة، وإن قالوا: هو بناء منه على الحقيقة ولا يفتقر فيه إلى آلة وعدة. قلنا: وكذلك كلامه مسموع منه على الحقيقة بواسطة وغير واسطة، ولا يفتقر في إسماعه إيانا إلى آلة من حروف وأصوات وغير ذلك.
### || فصل
فإن احتجوا بجهلهم أن الصفة القديمة تحل في الظروف والأوعية كحلول الشيء المخلوق في الشيء المخلوق. فتفسير هذا القول منهم لو عقلوا كان إقرارا منهم بخلق الله تعالى، لأن القديم لا يتصور عليه النقلة، والتحويل، وتفريغ مكان، وإشغال مكان، وأمكنة، وحصر، وعد، وإفساح، وفراغ، فإن أصروا على الجهل والضلال واستدلوا على حلول كلام الله القديم في المخلوقين بما يظنون حجة لهم، وهو جرأة، وحجة عليهم، أقروا بقول إخوانهم من النصارى، بل زادوا عليهم في سوء الاعتقاد، وخبث المذاهب والمقال على ما سنبينه في ثاني الحال، إن شاء الله.
فإن احتجوا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو قالوا: فصح أن الكلام القديم يصح عليه الحلول والنقلة والتحول، فالجواب من وجوه عدة: أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم أراد بذلك المصحف، لأنه قد بين ذلك فقال مخافة أن تناله أيديهم ولم يرد أن كلام الله القديم انتقل ولا تحول من بلاد الإسلام إلى بلاد العدو، والمصحف قد يسمى قرآنا، لأن فيه كتابة القرآن، وقد روى ذلك صريحا عنه صلى الله عليه وسلم، فإنه كتب إلى عمرو بن حزم: ولا يمس القرآن إلا على طهارة فأراد بذلك: المصحف الذي حل فيه كتابة كلام الله القديم لا يجوز عليه المس بالأيدي.
جواب آخر: وهو أنه أراد لا تسافروا بكتابة القرآن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كما قال تعالى: " واسأل القرية التي كنا فيها " يعني أهل القرية " والعير " يعني أهل العير. وقوله تعالى: " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " قال أكثر أهل العلم موضع الصلاة. وقد قال تعالى: " والشجرة الملعونة في القرآن " أراد الملعون أهلها في القرآن. وكذلك قال: " والطور " " والضحى " وجميع الأقسام إنما معناها ورب الطور ورب الضحى، وهذا كثير جدا في كلام العرب، يحذفون لعلمهم بفهم أهل اللسان والبيان ذلك، وأنهم ليسوا كأهل الجهل والهذيان، والعرب تقول: بنو فلان تطؤهم الطريق، يريدون يطؤهم أهل الطريق، وأبين من هذا قوله تعالى: " إن الذين يؤذون الله " يريد أنبياء الله وأولياء الله.
وجواب آخر وهو: أنا نعلم وكل عاقل يعلم أن الرسول عليه السلام إنما أراد بالقرآن ها هنا شيئا محترما يتصون عليه من الأيدي، ولم يرد نفس كلام الله القديم، والذي يدل على صحة ذلك: أن الحافظ للقرآن: القرآن في صدره عندنا حفظا، لا أن كلام الله القديم يحل في صدر الحافظ حلول الجسم في الجسم، وعندهم على حسب عقدهم أنه حال في صدور الحفاظ كحلول الشيء في الشيء، ومع ذلك فإن الرسول ما نهى أحدا من الحفاظ أن يدخل بلاد العدو، فلم يبق إلا أنه صلى الله عليه وسلم أراد مصاحف القرآن التي يتصور عليها نيل أيدي العدو، ولم يرد أن القديم يحل في المخلوق حلول الجسم في الجسم حاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم.
فصل
فإن احتجوا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لو جعل هذا القرآن في إهاب ثم ألقى في النار ما احترق قالوا: وقد أطلق عليه صلى الله عليه وسلم أن القرآن يجعل في الإهاب، فدل على أنه حال. فالجواب أن أهل العلم رضي الله عنهم ذكروا في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن هذا كان في زمانه صلى الله عليه وسلم دليلا على صدقه، وكان معجزة له، وكان إذا كتب في جلد أو رق أو غير ذلك ثم ألقى في النار لم يحترق. ذلك الجلد أو الرق، فيكون معجزة له صلى الله عليه وسلم؛ كانشقاق القمر وغير ذلك من المعجزات، ثم انقضى ذلك بعد موته: بدليل أن الرقق التي كتب فيها القرآن قد احترقت في زمن الصحابة وغيرهم.
Page 53