المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال القاضي الإمام السعيد، سيف السنة، ولسان الأمة، أبو بكر: محمد ابن الطيب بن محمد رضي الله عنه.
الحمد لله ذي القدرة والجلال، والعظمة والكمال. أحمده على سوابغ الإنعام وجزيل الثواب، وأرغب إليه في الصلاة على نبيه محمد المختار وعلى آله الأبرار، وصحابته الأخيار، والتابعين لم بإحسان إلى يوم القرار.
أما بعد: فقد وقفت على ما التمسته الحرة الفاضلة الدينية أحسن الله توفيقها لما تتوخاه من طلب الحق ونصرته، وتنكب الباطل وتجنبه. واعتماد القربة باعتقاد المفروض في أحكام الدين. واتباع السلف الصالح من المؤمنين، من ذكر جمل ما يجب على المكلفين اعتقاده، ولا يسع الجهل به، وما إذا تدين به المرء صار إلى التزام الحق المفروض، والسلامة من البدع والباطل المرفوض. وإني بحول الله تعالى وعونه، ومشيئته وطوله، أذكر لها جملا مختصرة تأتي على البغية من ذلك، ويستغنى بالوقوف عليها عن الطلب، واشتغال الهمة بما سواه. فنقول وبالله التوفيق: أن الواجب على المكلف.
أن يعرف بدء الأوائل والمقدمات التي لا يتم له النظر في معرفة الله عز وجل وحقيقة توحيده، وما هو عليه من صفاته التي بان بها عن خلقه، وما لأجل حصوله عليها استحق أن يعبد بالطاعة دون عباده. فأول ذلك القول في العلم وأحكامه ومراتبه، وأن حده: أنه معرفة المعلوم على ما هو به، فكل علم معرفة وكل معرفة علم.
وأن يعلم أن العلوم تنقسم قسمين: قسم منهما: علم الله سبحانه، وهو صفته لذاته، وليس بعلم ضرورة ولا استدلال، قال الله تعالى: " أنزله بعلمه " وقال: " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " وقال: " فاعلموا أنما أنزل بعلم الله " فأثبت العلم لنفسه، ونص على أنه صفة له في نص كتابه.
والقسم الآخر: علم الخلق. وهو ينقسم قسمين: فقسم منه علم اضطرار، والآخر علم نظر واستدلال: فالضروري ما لزم أنفس الخلق لزوما لا يمكنهم دفعه والشك في معلومه؛ نحو العلم بما أدركته الحواس الخمس، وما ابتدى في النفس من الضرورات.
والنظري: منهما: ما احتيج في حصوله إلى الفكر والروية، وكان طريقه النظر والحجة. ومن حكمه جواز الرجوع عنه والشك في متعلقه.
وجميع العلوم الضرورية تقع للخلق من ستة طرق: فمنها: درك الحواس الخمس، وهي: حاسة الرؤية، وحاسة السمع، وحاسة الذوق،، وحاسة الشم، وحاسة اللمس. وكل مدرك بحاسة من هذه الحواس من جسم، ولون، وكون، وكلام، وصوت، ورائحة، وطعم، وحرارة، وبرودة، ولين، وخشونة، وصلابة، ورخاوة فالعلم به يقع ضرورة. والطريق السادس: هو العلم المبتدأ في النفس، لا عن درك ببعض الحواس، وذلك نحو علم الإنسان بوجود نفسه، وما يحدث فيها وينطوي عليها من اللذة، والألم، والفم، والفرح، والقدرة، والعجز، والصحة، والسقم. والعلم بأن الضدين لا يجتمعان، وأن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق، وكل معلوم بأوائل العقول، والعلم بأن الثمر لا يكون إلا من شجر، أو نخل، وأن اللبن لا يكون إلا من ضرع وكل ما هو مقتضى العادات.
وكل ما عدا هذه العلوم وهو علم استدلال لا يحصل إلا عن استئناف الذكر والنظر وتفكر بالنظر والعقل فمن جملة هذه الضرورات العلم بالضرورات الواقعة بأوائل العقول، ومقتضى العادات التي لا تشارك ذوي العقول في علمها البهائم والأطفال والمنتقصون؛ نحو العلم الواقع بالبديهة، ومتضمن كثير من العادات، ونحو العلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان، وأمثال ذلك من موجب العادات وبدائه العقول التي لا يخص بعلمها العاقلون.
Page 1
وأن يعلم أن الاستدلال هو: نظر القلب المطلوب به علم ما غاب عن الضرورة والحس، وأن الدليل هو: ما أمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يعلم باضطراره، وهو على ثلاثة أضرب: عقلي: له تعلق بمدلوله، نحو دلالة الفعل على فاعله، وما يجب كونه عليه من صفاته. نحو حياته، وعلمه، وقدرته، وإرادته. وسمعي شرعي: دال من طريق النطق بعد المواضعة، ومن جهة معنى مستخرج من النطق، ولغوي: دال من جهة المواطأة والمواضعة على معاني الكلام، ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ، وقد لحق بهذا الباب: دلالات الكتابات والرموز، والإشارات والعقود، الدالة على مقادير الأعداد ، وكل ما لا يدل إلا بالمواطأة والاتفاق. والدال هو ناصب الدليل: فالمدلول هو ما نصب له الدليل. والمستدل الناظر في الدليل، واستدلاله نظره في الدليل وطلبه به علم ما غاب عنه.
وإن يعلم أن المعلومات على ضربين: معدوم وموجود، لا ثالث لهما ولا واسطة بينهما. فالمعدوم: هو المنتفي الذي ليس بشيء. قال الله عز وجل: " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " . وقال تعالى: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " فأخبر أن المعدوم منتف ليس بشيء، والموجود هو الشيء الكائن الثابت. وقولنا شيء إثبات، وقولنا ليس بشيء نفي. قال الله تعالى: " قل أي شيء أكبر شهادة قل الله " وهو سبحانه موجود غير معدوم.
وقول أهل اللغة علمت شيئا، ورأيت شيئا، وسمعت شيئا؛ إشارة إلى كائن موجود، وقولهم: ليس بشيء هو واقع على نفي المعدوم، ولو كان المعدوم شيئا كان القول ليس بشيء نفيا لا يقع أبدا إلا كذبا، وذلك باطل بالاتفاق.
وأن يعلم أن الموجودات كلها على قسمين. منها: قديم لم يزل وهو الله تعالى، وصفات ذاته التي لم يزل موصوفا بها ولا يزال كذلك. وقولهم: أقدم، وقديم موضوع للمبالغة في الوصف بالتقدم وكذلك أعلم وعليم، وأسمع وسميع.
والقسم الثاني: محدث، لوجوده أول، ومعنى المحدث ما لم يكن ثم كان، مأخوذ ذلك من قولهم: حدث بفلان حادث. من مرض، أو صداع؛ وأحدث بدعة في الدين، وأحدث روشنا، وأحدث في العرصة بناء، أي فعل ما لم يكن من قبل موجودا.
وأن يعلم أن المحدثات كلها على ثلاثة أقسام: جسم، وجوهر، وعرض. فالجسم في اللغة هو: المؤلف المركب. يدل على ذلك قولهم: رجل جسيم، وزيد أجسم من عمرو، وهذا اللفظ من أبنية المبالغة، وقد اتفقوا على أن معنى المبالغة في الاسم مأخوذ من معنى الاسم؛ يبين ذلك أن قولهم: أضرب إذا أفاد كثرة الضرب كان قولهم: ضارب مفيدا للضرب، وكذلك إذا كان قولهم: المؤلف المركب مفيدا كثرة الاجتماع والتأليف، وجب أن يكون قولهم جسم مفيدا كذلك.
والجوهر : الذي له حيز. والحيز هو المكان أو ما يقدر تقدير المكان عن أنه يوجه فيه غيره.
والعرض: هو الذي يعرض في الجوهر، ولا يصح بقاؤه وقتين، يدل على ذلك قولهم: عرض لفلان عارض من مرض، وصداع إذا قرب زواله، ولم يعتقد دوامه. ومنه قوله عز وجل: " تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة " وقوله، " هذا عارض ممطرنا " فكل شيء قرب عدمه وزواله، موصوف بذلك، وهذه صفة المعاني القائمة بالأجسام، فوجب وصفها في قضية العقل بأنها أعراض.
وأن يعلم أن العالم محدث، وأنه لا ينفك علوية وسفلية من أن يكون جسما مؤلفا، أو جوهرا منفردا، أو عرضا محمولا. وهو محدث بأسره. وطريق العلم بحدوث أجسامه وحدوث أعراضه. والدليل على ثبوت أعراضه: تحرك الجسم بعد سكونه، وتفرقه بعد اجتماعه، وتغير حالاته، وانتقال صفاته، فلو كان متحركا لنفسه، ومتغيرا لذاته لوجب تركه في حال سكونه، وتغيره واستحالته في حال اعتداله، وفي بطلان ذلك دليل على إثبات حركته، وسكونه، وألوانه، وأكوانه، وغير ذلك من صفاته، لأنه إذا لم يكن كذلك لنفسه وجب أن يكون لمعنى ما تغير عن حاله واستحال عن وصفه.
Page 2
والدليل على حدوث هذه الأعراض: ما هي عليه من التنافي والتضاد، فلو كانت قديمة كلها لكانت لم تزل موجودة، ولا تزال كذلك، ولوجب متى كانت الحركة في الجسم أن يكون السكون فيه، وذلك يوجب كونه متحركا في حالة سكونه، وميتا في حال حياته، وفي بطلان ذلك دليل على طروق السكون بعد أن لم يكن، وبطلان الحركة عند مجيء السكون، والطارىء بعد عدمه، والمعدوم بعد وجوده محدث باتفاق؛ لأن القديم لا يحدث ولا يعدم، ولا يبطل.
والدليل على حدوث الأجسام: أنها لم تسبق الحوادث، ولم تخل منها، لأننا باضطرار نعلم: أن الجسم لا ينفك من الألوان، ومعاني الألوان من الاجتماع والافتراق، وما لا ينفك من المحدثات، ولم تسبقه كان محدثا. ولأنه إذا لم يسبقه كان موجودا معه في وقته أو بعده، وأي ذلك وجد وجب القضاء على حدوثه، وأنه معدوم قبل وجوده.
وأن يعلم أن للعالم محدثا أحدثه. والدليل على ذلك وجود الحوادث متقدمة ومتأخرة مع صحة تأخر المتقدم وتقدم المتأخر، ولا يجوز أن يكون ما تقدم منها وتأخر متقدما ومتأخرا لنفسه، لأنه ليس التقدم بصحة تقدمه أولى من التأخر بصحة تأخره، فوجب أن يدل على فاعل فعله، وصرفه في الوجود على إرادته وجعله مقصورا على مشيئته، يقدم منها ما شاء ويؤخر ما شاء. قال الله تعالى: " فعال لما يريد " وقال: " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " ويدل على علمنا بتعلق الفعل بالفاعل في كونه فعلا كتعلق الفاعل في كونه فاعلا بالفعل، فإن تعلق الكتابة، والصناعة بالكاتب والصانع كتعلق الكاتب في كونه كاتبا بالكتابة؛ فلو جاز وجود فعل لا من فاعل، وكتابة لا من كاتب، وصورة وبنية محدثة لا من مصور، لجاز وجود كاتب لا كتابة له، وصانع لا صنعة له، فلما استحال ذلك وجب أن يكون اقتضاء الفعل للفاعل ودلالته عليه كاقتضاء الفاعل في كونه فاعلا. لوجود الفعل وحصوله منه، ومن صفات هذا الصانع تعالى أنه: موجود، قديم، واحد، أحد، حي، عالم، قادر، مريد، متكلم، سميع، بصير، باق " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " وستدل على ذلك فيما بعد إن شاء الله بعد البداية بفرائض المكلفين، وشرائع المسلمين مما يقرب فهمه ولا ينبغي جهله، ولا بد للمكلف من علمه والعمل به فإذا أتينا على هذه الجملة رجعنا إلى القول في التوحيد، وإثبات أسماء الله تعالى وصفاته، وذكر ما يجوز عليه وما يستحيل في صفته، وما توفيقي إلا بالله.
وأن يعلم: أن أول نعم الله تعالى على خلقه الحي الدراك خلقه فيهم إدراك اللذات، وسلامة الحواس، ونيل ما ينتفعون به من الشهوات التي تميل إليها طباعهم، وتصلح عليها أجسامهم، ولو أحياهم، وآلمهم ومنعهم إدراك اللذات لكانوا مستضرين بالآلام، وبمثابة الأحياء المعذبين من أهل النار، وهذه نعمة الله سبحانه على جميع الحيوان الحاس، العاقل منهم والناقص، والمؤمن والكافر.
وأن يعلم أن أفضل وأعظم نعمة الله على خلقه الطائعين وعباده المؤمنين خلقه الإيمان في قلوبهم، وإجراؤه على ألسنتهم، وتوفيقهم لفعله، وتمكينهم بالتمسك به. وخلق الإيمان، والتوفيق له نعمة خص الله تعالى بها المؤمنين دون الكافرين، ولذلك قال عز وجل " " فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين " " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا " وقال عز وجل " " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " وقال تعالى: " بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين " فلو كانت هذه النعمة له على الكافرين لم يكن لتخصيصه بها المؤمنين وامتنانه على المؤمنين به، إذ كان قد أنعم بها على المردة والكفرة الضالين.
وأن يعلم: أن طرق المباين عن الأدلة التي يدرك بها الحق والباطل خمسة أوجه: كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وما استخرج من هذه النصوص وبنى عليها بطريق القياس والاجتهاد حجج العقول. قال الله تعالى آمرا باتباع كتابه والرجوع إلى بيانه: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " . وقال عز وجل: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " . وقال تعالى: " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم " وقال سبحانه: " تبيانا لكل شيء " و" ما فرطنا في الكتاب من شيء "
Page 3
وقال عز وجل في المر باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " وقال: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " وقال: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " .
وقال سبحانه في وصف عدالة أمة نبيه صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعها، والتحذير من مخالفتها: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " وقال: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " وقال: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " .
وقال في الأمر بالقياس والحكم بالنظائر والأمثال : " فاعتبروا يا أولى الأبصار " وقال: " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لقاضيه معاذ ابن جبل رضي الله عنه حين أنفذه إلى اليمن لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق: بم تحكم ؟ قال: بكتاب الله عز وجل. قال: فإن لم تجد ؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد ؟ قال: اجتهد رأيي وأحكم. فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى الله ورسوله. فأقره على الحكم والاجتهاد وجعله أحد طرق الأحكام.
وقال عز وجل في الأمر باتباع حجة العقل: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " وقال: " أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون " وقال: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " وقال: " وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " وقال تعالى: " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " فأمرنا بالاعتبار والاستبصار ورد الشيء إلى مثله أو الحكم له بحسب نظيره، وهذا هو الحكم، المعقول والتقاضي إلى أدلة العقول.
وأن يعلم: أن فرائض الدين وشرائع المسلمين، وجميع فرائض المسلمين وسائر المكلفين على ثلاثة أقسام: فقسم منها: يلزم جميع الأعيان وكل من بلغ الحلم وهو: الإيمان بالله عز وجل، والتصديق له، ولرسله، وكتبه، وما جاء من عنده، والعبادات على كل مكلف بعينه؛ من نحو الصلاة، والصيام، وما سنذكره ونفصله فيما بعد إن شاء الله.
والقسم الثاني: واجب على العلماء دون العامة، وهو القيام بالفتيا في أحكام الدين، والاجتهاد، والبحث عن طرق الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، وهذا فرض على الكفاية دون الأعيان، فإذا قام به البعض سقط عن باقي الأمة، وكذلك القول في حفظ جميع القرآن، وما تنفذ به الأحكام من سنن الرسول عليه السلام، وغسل الميت، ومواراته، والصلاة عليه، والجهاد، ودفع العدو، وحماية البيضة وما جرى مجرى ذلك مما هو فرض على الكفاية. فإذا قام به البعض سقط عن باقي الأمة.
والقسم الثالث: من الواجبات من فرائض السلطان دون سائر الرعية: نحو إقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وقبض الصدقات، وتولية الأمراء، والقضاة، والسعاة، والفصل بين المتخاصمين، وهذا وما يتصل به من فرائض الإمام وخلفائه على هذه الأعمال دون سائر الرعية والعوام، وليس في فرائض الدين ما يخرج عما وصفناه ويزيد على ما قلناه.
وأن يعلم: أن أول ما فرض الله عز وجل على جميع العباد. النظر في آياته، والاعتبار بمقدوراته، والاستدلال عليه بآثار قدرته، وشواهد ربوبيته؛ لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار، ولا مشاهد بالحواس، وإنما يعلم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة القاهرة، والبراهين الباهرة.
والثاني: من فرائض الله عز وجل على جميع العباد، الإيمان به والإقرار بكتبه ورسله، وما جاء من عنده، والتصديق بجميع ذلك بالقلب والإقرار به باللسان.
وأن يعلم: أن الإيمان بالله عز وجل هو: التصديق بالقلب، بأنه الله الواحد، الفرد، الصمد، القديم، الخالق، العليم، الذي " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
Page 4
والدليل على أن الإيمان هو الإقرار بالقلب والتصديق؛ قوله عز وجل: " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " يريد بمصدق لنا. ومنه قوله عز وجل: " ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم، وإن يشرك به تؤمنوا " أي تصدقوا. ويقال فلان يؤمن بالله وبالبعث؛ أي يصدق بذلك. وكذلك قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة والقدر، وفلان لا يؤمن بذلك، يعني به التصديق، وبنفي الإيمان به التكذيب. وقد اتفق أهل اللغة قبل نزول القرآن وبعث الرسول عليه السلام على أن الإيمان في اللغة هو التصديق دون سائر أفعال الجوارح والقلوب.
والإيمان بالله تعالى يتضمن التوحيد له سبحانه، والوصف له بصفاته، ونفي النقائض عنه الدالة على حدوث من جازت عليه.
والتوحيد له هو: الإقرار بأنه ثابت موجود، وإله واحد فرد معبود، ليس كمثله شيء؛ على ما قرر به قوله تعالى: " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " وقوله: " ليس كمثله وهو السميع البصير " .
وأنه الأول قبل جميع المحدثات. الباقي بعد المخلوقات، على ما أخبر به تعالى من قوله : " هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " والعالم الذي لا يخفى عليه شيء والقادر على اختراع كل مصنوع، وإبداع كل جنس مفعول، على ما أخبر به في قوله تعالى: " خالق كل شيء " " وهو على كل شيء قدير " .
وأنه الحي الذي لا يموت، والدائم الذي لا يزول، وأنه إله كل مخلوق، ومبدعه ومنشئه، ومخترعه، وأنه لم يزل مسميا لنفسه بأسمائه، وواصفا لها بصفاته، قبل إيجاد خلقه، وأنه قديم بأسمائه وصفات ذاته، التي منها: الحياة التي بها بان من الموت والأموات، والقدرة التي أبدع بها الأجناس والذوات، والعلم الذي أحكم به جميع المصنوعات، وأحاط بجميع المعلومات، والإرادة التي صرف بها أصناف المخلوقات. والسمع والبصر اللذان أدرك بهما جميع المسموعات والمبصرات، والكلام الذي به فارق الخرس والسكوت وذوي الآفات، والبقاء الذي به سبق المكونات، ويبقى به بعد جميع الفانيات، كما أخبر سبحانه في قوله: " ولله الأسماء ا لحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه " وقوله تعالى: " أنزله بعلمه " " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " وقوله: " أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة " وقوله " ذو القوة المتين " فنص تعالى على إثبات أسمائه وصفات ذاته، وأخبر أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات، كما قال عز وجل " كل شيء هالك إلا وجهه " وقال: " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن، في قوله عز وجل: " بل يداه مبسوطتان " وقوله. " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " وأنهما ليستا بجارحتين، ولا ذوي صورة وهيئة، والعينين اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه السلام، فقال عز وجل: " ولتصنع على عيني " و" تجري بأعيننا " وأن عينه ليست بحاسة من الحواس، ولا تشبه الجوارح والأجناس، وأنه سبحانه لم يزل مريدا وشائيا، ومحبا، ومبغضا، وراضيا، وساخطا، ومواليا، ومعاديا، ورحيما، ورحمانا. ولأن جميع هذه الصفات راجعة إلى إرادته في عباده ومشيئته، لا إلى غضب يغيره. ورضى يسكنه طبعا له، وحنق وغيظ يلحقه، وحقد يجده ، إذ كان سبحانه متعاليا عن الميل والنفور.
وأنه سبحانه راض في أزلة عمن علم أنه بالإيمان يختم عمله ويوافي به، وغضبان على من علم أنه بالكفر بختم عمله ويكون عاقبة أمره، وقد قال تعالى " فعال لما يريد " و" يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " وقال: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون. وقال: " رضى الله عنهم ورضوا عنه " " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " في أمثال هذه الآيات الدالة على أنه شاء، مريد، وأن الله جل ثناؤه مستو عن العرش، ومستول على جميع خلقه كما قال تعالى: " الرحمن على العرش استوى " . بغير مماسة وكيفية، ولا مجاورة، وأنه في السماء إله في الأرض إله كما أخبر بذلك.
Page 5
وأنه سبحانه يتجلى لعباده المؤمنين في المعاد، فيرونه بالأبصار، على ما نطق به القرآن في قوله: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " وتأكيده كذلك بقوله في الكافرين: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " تخصيصا منه برؤيته للمؤمنين، والتفرقة فيما بينهم وبين الكافرين، وعلى ما وردت به السنن الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أخبر به عن موسى عليه السلام، في قوله: " رب أرني أنظر إليك " ولولا علمه بجواز الرؤية بالأبصار لما أقدم على هذا السؤال.
وأن يعلم: مع كونه تعالى سميعا بصيرا: أنه مدرك لجميع المدركات التي يدركها الخلق: من الطعوم، والروائح، واللين، والخشونة، والحرارة، والبرودة؛ بإدراك معين، وأنه مع ذلك ليس بذي جوارح وحواس توجد بها هذه الإدراكات. فتعالى الله عن التصوير والجوارح، والآلات.
وأن يعلم: أنه مع إدراك سائر الأجناس من المدركات وجميع الموجودات، غير ملتذ ولا متألم بإدراك شيء منها، ولا مشقة له منها ولا نافر عنها، ولا منتفع بإدراكها ولا متضرر بها. ولا يجانس شيئا منها، ولا يضادها، وإن كان مخالفا لها.
وأن يعلم: أنه سبحانه ليس بمغاير لصفات ذاته، وأنها في أنفسها غير متغايرات؛ إذ كان حقيقة الغيرين ما يجوز مفارقة أحدهما الآخر بالزمان، والمكان، والوجود والعدم. وأنه سبحانه يتعالى عن المفارقة لصفات ذاته، وأن توجد الواحدة منها مع عدم الأخرى.
وأن يعلم: أن صفات ذاته هي التي لم تزل، ولا يزال موصوفا بها، وأن صفات أفعاله هي التي سبقها، وكان تعالى موجودا في الأزل قبلها.
ونعتقد أن مشيئة الله تعالى ومحبته ورضاه ورحمته وكراهيته وغضبه وسخطه وولايته وعداوته كلها راجع إلى إرادته، وأن الإرادة صفة لذاته غير مخلوقة، لا على ما يقوله القدرية، وأنه مريد بها لكل حادث في سمائه وأرضه مما يتفرد سبحانه بالقدرة على إيجاده، وما يجعله منه كسبا لعباده، من خير، وشر، ونفع، وضر، وهدى، وضلال، وطاعة، وعصيان، لا يخرج حادث عن مشيئته. ولا يكون إلا بقضائه وإرادته.
وأن يعلم: أن كلام الله تعالى صفة لذاته لم يزل ولا يزال موصوفا به وأنه قائم به ومختص بذاته، ولا يصح وجوده بغيره، وإن كان محفوظا بالقلوب ومتلوا بالألسن، ومكتوبا في المصاحف، ومقروءا في المحاريب، على الحقيقة لا على المجاز وغير حال في شيء من ذلك، وأنه لو حل في غيره لكان ذلك الغير متكلما به، وآمرا وناهيا.
ومخبرا وقائلا: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " وذلك خلاف دين المسلمين، وأن كلامه سبحانه لا يجوز أن يكون جسما من الأجسام، ولا جوهرا،، ولا عرضا، وأنه لو كان كذلك لكان من جنس كلام البشر، ومحدثا كهو: يتعالى الله سبحانه أن يتكلم بكلام المخلوقين.
وأن يعلم: أن كلامه مسموع بالآذان، وإن كان مخالفا لسائر اللغات، وجميع الأصوات، وأنه ليس من جنس المسموعات، كما أنه مرئي بالأبصار، وإن كان مخالفا لأجناس المرئيات، وكما أنه موجود مخالف لسائر الحوادث الموحودات، وأن سامع كلامه منه تعالى بغير واسطة ولا ترجمان. كجبريل، وموسى، ومحمد عليهم السلام حق، سمعه من ذاته غير متلو ولا مقرره، ومن عداهم ممن يتولى الله خطابه بنفسه إنما يسمع كلامه متلوا ومقروءا، وكذلك قال الله عز وجل: " وكلم الله موسى تكليما " وقال: " منهم من كلم الله " وأن قراءتنا القرآن كسب لنا نثاب عليها، ونلام على تركها، إذ وجبت علينا في الصلوات. وأنه لا يجوز أن يحكي كلام الله عز وجل ولا أن يلفظ به لأن حكاية الشيء مثله وما يقاربه وكلام الله تعالى لا مثل له من كلام البشر، ولا يجوز أن يلفظ به بتكلم الخلق لأن ذلك يوجب كون كلام الله تعالى قائما بذاتين قديم ومحدث وذلك خلاف الإجماع والمعقول. وأن كلام الله تعالى غير متبعض ولا متغاير، وأن الصفة هي ما قامت بالشيء وأن الوصف قول الواصف الدال على الصفة خلاف ما يذهب إليه القدرية.
Page 6
وأنه مقدر لأرزاق جميع الخلق، وموقت لآجالهم، وخالق لأفعالهم، وقادر على مقدوراتهم، وإله ورب لها، لا خالق غيره، ولا رازق سواه، كما أخبر تعالى في قوله: " الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم " وقال تعالى: " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " وقال: " هل من خالق غير الله " ، وقال: " والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون " .
وأن بيده الخير، والشر، والنفع، والضر، وأنه مقدر جميع الأفعال، لا يكون حادث إلا بإرادته، ولا يخرج مخلوق عن مشيئته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وأنه فعال لما يريد، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه، كما قال: " من يهد الله فهو المهتدي " " ومن يضلل الله فلا هادي له " .
وأنه موفق أهل محبته وولايته لطاعته، وخاذل لأهل معصيته، فدل ذلك كله على تدبيره وحكمته، وأنه عادل في خلقه بجميع ما يبتليهم به ويقضيه عليهم من خير، وشر، ونفع، وضر، وغنى، وفقر، ولذة، وألم، وصحة، وسقم، وهداية، وضلال: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " " قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " .
وأنه سبحانه يعيد العباد، ويحيي الأموات، وأنه يقصد يوم القيامة لفصل القضاء، ويجيء الملائكة صفا صفا، ويمد الصراط، ويزن الأعمال، وأنه سبحانه قد خلق الجنة والنار.
وما لا يتأتى الواجب إلا بفعله صار واجبا؛ كالطهارة مع الصلاة، والقراءة في الصلاة، وإمساك جزء من الليل في الصيام ، وإدخال جزء من الرأس في غسل الوجه، إلى غير ذلك مما لا يمكن تحصيل الواجب إلا به صار واجبا.
### || ### || مسألة
وجوب النظر
وإذا صح وجوب النظر فالواجب على المكلف النظر والتفكر في مخلوقات الله، لا في ذات الله، والدليل عليه قوله تعالى: " ويتفكرون في خلق السموات والأرض " ولم يقل: في الخالق، وأيضا قوله تعالى: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت " فالنظر، والتفكر، والتكييف يكون في المخلوقات، لا في الخالق، وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم: تفكروا في الله. وأيضا قوله عليه السلام: مثل الناظر في قدر الله كالناظر في عين الشمس، فمهما أراد نظرا ازداد حيرة. وأيضا: فإن موسى عليه السلام لما سأله اللعين فرعون عن ذات الله، أجابه بأن مصنوعاته تدل على أنه إله ورب قادر، لا إله سواه. إذا نظر فيها وتأمل ولم يحدد له الذات فلا يكيفها؛ لأنه لما قال له: " وما رب العالمين " قال: " رب السموات والأرض وما بينهما " إلى أن كرر عليه السؤال وأجابه بمثل الأول، إلى آخر الآيات كلها، فمهما سأله عن الذات أجابه بالنظر في المصنوعات التي تدل على معرفته.
وقيل: سئل بعض أهل التحقيق عن الله عز وجل ما هو ؟ فقال: إله واحد. فقيل له: كيف هو ؟ فقال: ملك قادر، فقيل: له أين هو ؟ فقال: بالمرصاد. فقال السائل: ليس عن هذا أسألك ؟ فقال: الذي أجبتك به هو صفة الحق، فأما غيره فصفة الخلق. وأراد بذلك أن يسأله عن التكييف، والتحديد، والتمثيل، وذلك صفة المخلوق لا صفة الخالق، ولأن التفكر إذا تفكر في خلق السموات والأرض وخلق نفسه وعجائب صنع ربه، أداه ذلك إلى صريح التوحيد؛ لأنه يعلم بذلك أنه لا بد لهذه المصنوعات من صانع، قادر، عليم، حكيم " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
مسألة
العالم محدث
ويجب أن يعلم: أن العالم محدث؛ وهو عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، والدليل على حدوثه: تغيره من حال إلى حال، ومن صفة إلى صفة، وما كان هذا سبيله ووصفه كان محدثا، وقد بين نبينا صلى الله عليه وسلم هذا بأحسن بيان يتضمن أن جميع الموجودات سوى الله محدثة مخلوقة، لما قالوا له: يا رسول الله: أخبرنا عن بدء هذا الأمر ؟ فقال: نعم. كان الله تعالى ولم يكن شيء، ثم خلق الله الأشياء فأثبت أن كل موجود سواه محدث مخلوق. وكذلك الخليل عليه السلام، إنما استدل على حدوث الموجودات بتغيرها وانتقالها من حالة إلى حالة؛ لأنه لما رأى الكوكب قال: هذا ربي، إلى آخر الآيات فعلم أن هذه لما تغيرت وانتقلت من حال إلى حال دلت على أنها محدثة مفطورة مخلوقة، وأن لها خالقا، فقال عند ذلك وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض.
Page 7
مسألة وإذا صح حدوث العالم؛ فلا بد له من محدث أحدثه، ومصور صوره، والدليل على ذلك: أن الكتابة لا بد لها من كاتب كتبها، والصورة لا بد لها من مصور صورها، والبناء لا بد له من بان بناه. فإنا لا نشك في جهل من أخبرنا بكتابة حصلت بنفسها لا من كاتب، وصناعة لا من صانع، وحياكة لا من ناسج. وإذا صح هذا وجب أن تكون صور العالم وحركات الفلك متعلقة بصانع صنعها، ومحدث أحدثها، إذ كانت ألطف وأعجب صنعا من سائر ما يتعذر وجوده إلا من صانع.
دليل ثان: ويدل على ذلك أيضا: علمنا بتقدم الحوادث بعضها على بعض، وتأخر بعضها عن بعض، مع علمنا بتجانسها وتشاكلها، فلا يجوز أن يكون المتقدم منها متقدما لنفسه؛ لأنه لو تقدم لنفسه لوجب تقديم كل ما هو من جنسه معه، وكذلك المتأخر منها، لو تأخر لنفسه وجنسه لم يكن المتقدم منها بالتقدم أولى منه بالتأخر، وفي علمنا بأن المتقدم من المتماثلات بالتقدم أولى من بالتأخر، دليل على أن له مقدما قدمه، وعاجلا عجله في الوجود، مقصورا على مشيئته.
ويدل على صحة ذلك أيضا: علمنا بأن الصور الموجودة؛ منها ما هو مربع، ومنها ما هو مدور، ومنها شخص أطول من شخص، وآخر أعرض من آخر؛ مع تجانسها، ولا يجوز أن يكون المربع منها ربع نفسه ، ولا المطول منها طول نفسه، ولا القبيح منها قبح نفسه، ولا الحسن منها حسن نفسه، فلم يبق إلا أن لها مصورا صورها؛ طويلة، وقصيرة، وقبيحة، وحسنة، على حسب إرادته ومشيئته.
ويدل على صحة ما ذكرناه: أن الموجودات لا يجوز أن تكون فاعلة لنفسها، أنا وجدنا منها الموت والأعراض، أعني الجمادات التي لا حياة فيها، لا يجوز أن تكون فاعلة لنفسها ولا لغيرها، لأن من شرط الفاعل أن يكون حيا، قادرا، فبطل كونها محدثة لنفسها بل لها محدث أحدثها.
ويدل على صحة ذلك أيضا: أنا وجدنا أنفس الموجودات في العالم، الحي القادر العاقل المحصل، وهو الآدمي، ثم أكمل ما تكون. تعلم وتحقق أنه كان في ابتداء أمره نطفة ميتة، لا حياة فيها ولا قدرة، ثم نقل إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم من حال إلى حال، ثم بعد خروجه حيا من الأحشاء إلى الدنيا. تعلم وتحقق أنه كان في تلك الحالة جاهلا بنفسه وتكييفه، وتركيبه، ثم بعد كمال عقله وتصوره وحذقه وفهمه لا يقدر في حال كماله أن يحدث في بدنه شعرة ولا شيئا، ولا عرقا فكيف يكون محدثا لنفسه ومنقلا لها في حال نقصه من صورة إلى صورة ومن حالة إلى حالة وإذا بطل ذلك منه في حال كماله كان أولى أن يبطل ذلك منه في حال نقسه، ولم يبق إلا أن له محدثا أحدثه، ومصورا صوره ومنقلا نقله؛ وهو الله سبحانه وتعالى.
### || مسألة
وإذا ثبت أن للعالم صانعا صنعه، ومحدثا أحدثه، فيجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون مشبها للعالم المصنوع المحدث؛ لأنه لو جاز ذلك لم يخل: إما أن يشبهه في الجنس، أو في الصورة، ولا يجوز أن يكون مشبها له في الجنس؛ لأنه لو أشبهه في الجنس لجاز أن يكون محدثا كالعالم المحدث، أو يكون العالم قديما كهو. لأن حقيقة المشتبهين المتجانسين: ما سد أحدهما مسد الآخر وناب منابه، وجاز عليه ما يجوز عليه، ولا يجوز أن يكون يشبه العالم في الصورة لأن حقيقة الصورة هي الجسم المؤلف، والتأليف لا يكون إلا من شيئين فصاعد؛ ولأنه لو كان صورة لا تحتاج إلى مصور صوره، لأن الصورة لا تكون إلا من مصور على ما قدمنا بيانه، وقد بين ذلك تعالى بأحسن بيان فقال تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق " وقد سئل بعض أهل التحقيق عن التوحيد ما هو ؟ فقال: هو أن تعلم أنه باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم.
وقال الجنيد رضي الله عنه: التوحيد إفراز القدم عن الحدوث، فأحكموا أصول العقائد بواضح الدليل ولايح الشواهد.
وقال أبو محمد الحريري رضي الله عنه: من لم يقف على علم التوحيد يشاهده من شواهده، زلت به قدم الغرور في مهواة التلف.
وقال الجنيد: أول ما يحتاج إليه المكلف من عقد الحكمة: أن يعرف الصانع من المصنوع، فيعرف صفة الخالق من المخلوق، وصفة القديم من المحدث.
وسئل أبو بكر الزاهد رضي الله عنه عن المعرفة ما هي ؟ فقال: المعرفة اسم، ومعناه: وجود تعظيم في القلب، يمنعك عن التعطيل والتشبيه.
وقيل لأبي الحسن البوشنجي: ما التوحيد ؟ فقال: أن تعلم أنه غير مشبه بالذوات ولا بنفي الصفات.
Page 8
مسألة وإذا ثبت أن صانع الموجودات ومحدثها لا يجوز أن يكون يشبهها، فيجب أن تعلم أن محدث العالم قديم، أزلي لا أول لوجوده. ولا آخر لدوامه. والدليل على صحة ذلك: أنه لو لم يكن قديما كما ذكرنا لكان محدثا، ولو كان محدثا لاحتاج إلى محدث أحدثه؛ لأن غيره من الحوادث إنما احتاجت إلى محدث لأنها محدثة. ولو كان ذلك كذلك لاحتاج كل محدث إلى محدث آخر، إلى ما لا نهاية له ولا غاية، ولما بطل ذلك صح كونه قديما أزليا.
وبمثل هذا الدليل: يستدل على بطلان قول من زعم من أهل الدهر أن الحوادث لا أول لوجودها، فافهمه ترشد، إن شاء الله تعالى.
### || ### || ### || مسألة
وحدانية الصانع
ويجب أن يعلم: أن صانع العالم جلت قدرته واحد أحد؛ ومعنى ذلك: أنه ليس معه إله سواه، ولا من يستحق العبادة إلا إياه، ولا نريد بذلك انه واحد من جهة العدد، وكذلك قولنا أحد، وفرد وجود ذلك إنما نريد به أنه لا شبيه له ولا نظير، ونريد بذلك أن ليس معه من يستحق الالهية سواه، وقد قال تعالى: " إنما الله إله واحد " ومعناه: لا إله إلا الله.
والدليل على أن صانع العالم على ما قررناه: قوله تعالى: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " والدليل المعقول مستنبط من هذا النص المنقول، فإنا نرى الأمور تجري على نمط واحد، في السموات والأرض وما فيهما من شمس وقمر وغير ذلك. ولو كانا اثنتين أو أكثر فلا بد أن يجري خلاف أو تغير من أحدهما على الآخر، وقد بينه سبحانه وتعالى فقال: " قل لو كان معه آلهة كما يقولون " إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وأيضا: فلو جاز أن يكون اثنين أو أكثر فيريد أحدهما شيئا ويريد الآخر ضده، فلا يخلو أن يتم مرادهما، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر، ولا يجوز أن يتم مرادهما؛ لأن في إتمام مراد أحدهما عجز الآخر، لأنه تم ما لا يريد، وفي ذلك تعجيز لكل واحد منهما؛ لأنه تم ما لا يتم مراد واحد منهما، فقد ثبت عجزهما أيضا. ومن يكون عاجزا فليس بالإله، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر؛ فالذي تم مراده هو الإله، والذي لم يتم عاجز ليس بالاله، فلم يكن إلا إله واحد كما ذكرنا.
فإن قيل: فيجوز أن لا يختلفا في الإرادة. قلنا: هذا القول يؤدي إلى أحد أمرين: إما أن يكون ذلك لقول أحدهما للآخر لا ترد إلا ما أريد، فيصير أحدهما آمرا والآخر مأمورا، والمأمور لا يكون إلها، والآمر على الحقيقة هو الإله، أو يكون كل واحد منهما لا يقدر أن يريد إلا ما أراده الآخر ولو كان كذلك دل على عجزهما؛ إذ لم يتم مراد واحد منهما إلا بإرادة الآخر معه. وإذا ثبت هذا بطل أن يكون الإله إلا واحدا على ما قررناه:
مسألة
الحياة
ويجب أن يعلم أن الباري جلت قدرته حي. وهذه المسألة أول مسائل قول الشيخ موصوف بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه فنقول الباري يوصف بالحياة.
والدليل عليه قوله تعالى: " الحي القيوم " وقوله تعالى: " وتوكل على الحي الذي لا يموت " . وأيضا: فإن الفعل يستحيل وجوده من الموات الذي لا حياة له، والله تعالى فاعل الأشياء ومنشئها، فوجب أن يكون حيا.
مسألة
القدرة
ويجب أن يعلم: أنه تعالى قادر على جميع المقدورات.
والدليل عليه قوله تعالى: " وهو على كل شيء قديره " ولأنا نعلم قطعا استحالة صدور الأفعال من عاجز لا قدرة له، ولما ثبت أنه فاعل الأشياء ثبت أنه قادر.
مسألة
العلم
ويجب أن يعلم: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات.
والدليل عليه قوله تعالى: " أنزله بعلمه " وقوله تعالى: " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " وقوله تعالى: " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " . وقوله تعالى: " ويعلم ما في السموات وما في الأرض " وقوله تعالى: " فاعلموا أنما أنزل بعلم الله " إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.
وأيضا: فيدل على أنه عالم: صدور الأفعال الحكيمة المتقنة الواقعة على أحسن ترتيب ونظام وإحكام وإتقان، وذلك لا يحصل إلا من عالم بها، ومن جوز صدور خط معلوم منظوم مرتب من غير عالم بالخط، كان عن المعقول خارجا، وفي عمل الجهل والجا.
Page 9
### || ### || ### || ### || ويدل على صحة
ذلك أيضا: أنه حي، قادر، عالم، أنا لو جوزنا صدور أفعال محكمة متقنة من غير حي، عالم، قادر، لم ندر لعل جميع ما يظهر لنا من أفعال الناس من الكتابة والصناعة وسائر الصنائع لعلها لنا منهم وهم أموات عجزة جهلة، ولعل لنا في هذه المسألة المناظر عليها ميت عاجز.
مسألة
الإرادة
ويجب أن يعلم: أن الله مريد على الحقيقة لجميع الحوادث، والمرادات، والدليل عليه قوله تعالى: " فعال لما يريد " . وقوله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون " وقوله تعالى: " والله يريد الآخرة " . وقوله تعالى: " يريد الله أن يخفف عنكم " وقد قيل في بعض الآثار: أنه تعالى يقول: يا ابن آدم؛ تريد وأريد، ولا يكون إلا ما أريد.
ويدل على أنه مريد من جهة العقل: ترتيب الأفعال واختصاصها بوقت دون وقت، ومكان دون مكان، وزمان دون زمان؛ وكذلك يدل على أنه أراد أن يكون هذا قبل هذا، وهذا بعد هذا، وهذا على صفة، والآخر على صفة غيرها، وهذا من مكان، وهذا من مكان آخر، إلى غير ذلك.
مسألة
السمع
ويجب أن يعلم: أنه سميع لجميع المسموعات، بصير لجميع المبصرات.
والدليل عليه قوله تعالى: " وهو السميع البصير " . وقوله تعالى: " أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون " وقوله تعالى: " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير " . وقوله تعالى: " ألم يعلم بأن الله يرى " وأيضا: فإنه لو لم يوصف بالسمع والبصر لوجب أن يوصف بضد ذلك، من الصمم والعمى، والله يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
مسألة
الكلام
ويجب أن يعلم: أن الله تعالى متكلم، وأن كلامه غير مخلوق ولا محدث. والدليل عليه قوله تعالى: " منهم من كلم الله " وقوله تعالى: " وكلم الله موسى تكليما " وقوله تعالى: " وتمت كلمة ربك " . وقوله صلى الله عليه وسلم: فضل كلام الله على كلام الخلق كفضل الخالق على المخلوق. ولا يتصف ببداية ولا نهاية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة العامة. ومحال أن يعوذ مخلوق بمخلوق، فثبت أنه عوذ مخلوقا بغير مخلوق، إلى غير ذلك من الآيات والأخبار. ولأنه لو لم يكن متكلما لوجب أن يوصف بضد الكلام؛ من الخرس والسكوت والعي، والله يتعالى عن ذلك.
مسألة
البقاء
ويجب أن يعلم: أن الله سبحانه باق. ومعنى ذلك: أنه دائم الوجود.
والدليل عليه قوله: " ويبقى وجه ربك " يعني ذات ربك وأيضا قوله تعالى: " كل شيء هالك إلا وجهه " يعني ذاته، ولأنه قد ثبت قدمه وما ثبت قدمه استحال عدمه.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن الباري عالم بعلم قديم متعلق بجميع المعلومات، ولا يوصف علمه بأنه مكتسب ولا ضروري، وأنه قادر بقدرة قديمة شاملة لجميع المقدورات، مريد بإرادة قديمة متعلقة بجميع الكائنات، سميع بسمع قديم متعلق بجميع المسموعات، بصير ببصر قديم متعلق بجميع المبصرات، متكلم وكلامه قديم متعلق بجميع المأمورات والمنهيات، والمخبرات. فعلمه سبحانه وتعالى لا يوصف بالضرورة والكسب؛ لأن ذلك صفات علم الخلق. وقدرته لا توصف بالاستطاعة؛ لأن ذلك صفات الخلق، وسمعه لا يوصف بأنه يقوم بالحواس كسمع الخلق، وبصره لا يوصف بأن يقوم بالآماق كبصر الخلق، وكلامه لا يوصف بالجوارح والأدوات؛ لأن ذلك صفات كلام الخلق. بل صفات ذاته قديمة أزلية، لم يزل موصوفا بها، ولا يزال كذلك، لا تشبه بصفات المخلوقين، ولا يقال إنها هو ولا غيره، ولا صفاته متغايرة في أنفسها.
والدليل على هذه الجملة: قوله تعالى: " ليس كمثله شيء " وقوله تعالى: " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " فكما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق، فكذلك علمه لا يشبه علم الخلق، ولا يوصف بصفة علم الخلق، وكذلك قدرته وإرادته: لا تشبه قدرة الخلق ولا إرادتهم، ولا يوصف شيء من صفاته بصفات الخلق، فاعلم ذلك وتحققه توفق للصواب، بمشيئة الله تعالى.
Page 10
والدليل على أن صفاته لا يقال لها هي هو: أنها لو كانت هي هو لكانت خالقة فاعلة مثله، فلا يجوز أن يقال هي هو. ويدل على صحة هذا المعنى قول علي عليه السلام في القرآن: ليس بخالق ولا مخلوق. لأنه لو جعله خالقا كان إلها ثانيا مع الله، ولو جعله مخلوقا لوجب أن يكون الباري موجودا بلا كلام ثم خلق كلامه بعد، وذلك لا يصح؛ لأن صفات ذاته قديمة بقدم ذاته.
فإن قيل: فليس ثم إلا خالق أو مخلوق. قلنا: نعم: ولكن خالق قديم بصفات ذاته ومخلوق حادث بصفات ذاته التي توجد بعد أن لم تكن، وتعدم بعد أن كانت، وصفات القديم لا تتصف بوجود بعد عدم، ولا بالعدم بعد الوجود، وإنما قلنا إن صفات ذاته ليست بأغيار له، ولا هو غير لصفاته، ولا صفاته متغايرة في أنفسها؛ لأن حد الغيرين ما يجوز مفارقة أحدهما الآخر؛ إما بزمان أو بمكان، وهذا يستحيل تصويره في الله تعالى وصفات ذاته. فافهم وتزيد التحقيق، وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين آمين يا رب العالمين.
### || ### || ### || مسألة
فإن قيل: قد أثبتم أنه حي عالم قادر سميع بصير متكلم، أفتقولون: إنه يغضب ويرضى، ويحب، ويبغض، ويوالي، ويعادي، وأنه موصوف بذلك ؟ قيل لهم: أجل، ومعنى وصفه بذلك: أن غضبه على من غضب عليه، ورضاه عمن رضى عنه، وحبه لمن أحب، وبغضه لمن أبغض، وموالاته لمن والى، وعداوته لمن عادى، أن المراد بجميع ذلك: إرادته إثابة من رضى عنه وأحبه وتولاه. وعقوبة من غضب عليه وأبغضه وعاداه، لا غير.
ويدل على هذه الجملة: أنه يوصف بالغضب، قوله تعالى: " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه " وقوله تعالى: " والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " إلى غير ذلك من الآيات.
ويدل على أنه يوصف بالحب: قوله تعالى: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " وقوله: " يحبهم ويحبونه " . وقوله: " والله يحب المحسنين " إلى غير ذلك.
ويدل على أنه يوالي: قوله تعالى: " والله ولي المؤمنين " وقوله: " إنما وليكم الله ورسوله " وقوله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى من آذى لي وليا إلى غير ذلك من الآيات والأخبار.
ويدل على أنه يعادي: قوله تعالى: " فإن الله عدو للكافرين " وقوله: " لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " إلى غير ذلك من الآيات والآثار.
ويدل أنه يبغض: قوله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة يبغضهم الله تعالى: شيخ زان؛ وبائع حلاف؛ وفقير مختال.
مسألة
فإن قيل: فما الدليل على أن غضب الله سبحانه ورضاه، ورحمته، وسخطه، وحبه وعداوته، وموالاته وبغضه إنما هو إرادته لإثابة من رضى عنه وأحبه ووالاه ونفعه، وأن غضبه، وسخطه، وبغضه، وعداوته إنما هو إرادة عقاب من غضب عليه وسخط وعادى وإيلامه وضرره ؟.
قيل له: الدليل على ذلك: أن الغضب والرضا ونحو ذلك لا يخلو؛ إما أن يكون المراد به إرادته النفع والضرر فقط، أو يكون المراد به نفور الطبع وتغيره عند الغضب، ورقته وميله وسكوته عند الرضا، فلما لم يجز أن يكون الباري جلت قدرته ذا طبع يتغير وينفر، ولا ذا طبع يسكن ويرق، وأن هذه من صفات المخلوقين، وهو يتعالى عن جميع ذلك: ثبت أن المراد بغضه، ورضاه، ورحمته، وسخطه إنما هو إرادته وقصده إلى نفع من كان في معلومه أنه ينفعه، وضرر من سبق في علمه وخبره أنه يضره لا غير ذلك.
مسألة
فإن قيل: فهل يجوز أن يوصف بالشهوة ؟ قيل له: إن أراد السائل بوصفه بالشهوة إرادته لأفعاله فذلك صحيح من طريق المعنى غير أنه أخطأ وخالف الأمة في وصف القديم بالشهوة؛ إذ لم يرد بذلك كتاب ولا سنة، لأن أسماءه تعالى لا تثبت قياسا، وهو معنى قول الشيخ رضي الله عنه: لا مدخل للعقل والقياس في إيجاب معرفته، وتسميته، وإنما يعلم ذلك بفضله من جهته. يعني: إما بنص كتاب، أو سنة. وإن أراد هذا السائل أن يصفه بالشهوة التي هي شوق النفس وميل الطبع إلى المنافع واللذات فذلك محال ممتنع على القديم سبحانه وتعالى، بما قدمنا ذكره من قبل.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه.
Page 11
فمن ذلك: أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات، والاتصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول، والانتقال، ولا القيام، والقعود؛ لقوله تعالى: " ليس كمثله شيء " وقوله: " ولم يكن له كفوا أحد " ولن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى يتقدس عن ذلك فإن قيل أليس قد قال: " الرحمن على العرش استوى " . قلا: بلى. قد قال ذلك، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة، لكن ننفي عنه أمارة الحدوث، ونقول: استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول إن العرش له قرار، ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان.
وقال أبو عثمان المغربي يوما لخادمه محمد المحبوب: لو قال لك قائل: أين معبودك ؟ ماذا كنت تقول له ؟ فقال: أقول حيث لم يزل ولا يزول. قال: فإن قال: فأين كان في الأزل ؟ ماذا تقول ؟ فقال: أقول حيث هو الآن. يعني: إنه كما كان ولا مكان.
وقال أبو عثمان: كنت أعتقد شيئا من حديث الجهة، فلما قدمت بغداد وزال ذلك عن قلبي فكتبت إلى أصحابنا: إني قد أسلمت جديدا.
وقد سئل الشبلي عن قوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى " فقال: الرحمن لم يزل ولا يزول، والعرش محدث، والعرش بالرحمن استوى.
وقال جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: من زعم أن الله تعالى في شيء أو من شيء، أو على شيء، فقد أشرك؛ لأنه لو كان على شيء لكان محمولا، ولو كان في شيء لكان محصورا، ولو كان من شيء لكان محدثا، والله يتعالى عن جميع ذلك.
وقال بعض أهل التحقيق: " ألزم الكل الحدث، لأن القدم له، فهو سبحانه لا يظله فوق، ولا يقيه تحت، ولا يقابله حد، ولا يزاحمه عد ولا يأخذه خلف، ولا يحده أمام، ولا يظهره قبل، ولا يفنيه بعد، ولا يجمعه كل، ولا يوجده كان، ولا يفقده ليس، باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم. إن قلت متى: فقد سبق الوقت كونه وإن قلت: أين فقد تقدم المكان وجوده، فوجوده إثباته، ومعرفته توحيده أن تميزه من خلقه ما تصور في الأوهام فهو بخلاف ذلك كيف يحل به مامنه بدؤه، أو يتصف بما هو إنشاؤه، لا تمقله العيون، ولا تقابله الظنون، قربه كرامته، وبعده إهانته، علوه من غير ترق، ومجيئه من غير تنقل، هو الأول، والآخر والظاهر، والباطن. والقريب البعيد، الذي " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
### || مسألة
خلق الحوادث
ويجب أن يعلم: أن الحوادث كلها مخلوقة لله تعالى، نفعها وضرها، إيمانها وكفرها، طاعتها، ومعصيتها.
والدليل على ذلك: قوله تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " وأيضا فإن الله تعالى رد على الكفار لما ادعوا معه شركاء في الاختراع، فقال تعالى: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فتشابه الخلق عليهم، قل الله خالق كل شيء، وهو الواحد القهار " وقال تعالى : " هو الذي يسيركم في البر والبحر " ، فأخبر تعالى أنه خالق لسيرنا؛ وهي الحركات والسكنات. وقال تعالى: " هل من خالق غير الله " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله خالق كل صانع وصنعته. وأجمعت الأمة على القول: بأن لا خالق إلا الله في الدارين، كما أجمعوا أن لا إله غيره.
مسألة
ويجب أن يعلم أن الحوادث كلها تقع مرادة لله تعالى، وأنه لا يتصور أن يوجد في الدنيا والآخرة شيء لم يرده تعالى؛ من نفع، وضر، ورزق، وأجل، وطاعة، ومعصية، إلى غير ذلك من سائر الموجودات.
Page 12
والدليل على ذلك: ما بيناه من قبل، وأنه خالق لها، وإذا صح ذلك ترتب عليه أنه مريد لما خلق، قاصد إلى إبداع ما اخترع، ويدل على ذلك أيضا: قوله تعالى: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " وقوله تعالى: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون " وقوله تعالى: " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون " وقوله تعالى: " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " وقوله تعالى: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " والآيات في هذا المعنى في القرآن لا تحصى عددا. وأيضا: فإن الأمة قد أجمعت على القول بإطلاق هذه الكلمة: ما شاء الله كان. وما لم يشأ لم يكن وأيضا فإنه لو أراد شيئا وأراد غيره شيئا فوجد مراد غيره دون مراده كان ذلك دليل العجز والغلبة، والله يتعالى عن ذلك.
وقال بعض أهل التحقيق: والله ما قالت القدرية كما قال الله تعالى ولا كما قال النبيون ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس؛ لأن الله تعالى قال: " يضل من يشاء ويهدي من يشاء " وقال: " وما تشاؤن إلا أن يشاء الله " .
وقال شعيب: " وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا " وقال موسى عليه السلام: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله وقال أهل الجنة: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون وقال أهل النار: ربنا غلبت علينا شقوتنا وقال أيضا: بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وقال إبليس: رب بما أغويتني وقد قال تعالى: " وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له " .
### || ### || مسألة
الفرق بين الإرادة والمشيئة
واعلم: أنه لا فرق بين الإرادة، والمشيئة، والاختيار، والرضى، والمحبة على ما قدمنا. واعلم: أن الاعتبار في ذلك كله بالمآل لا بالحال، فمن رضى سبحانه عنه لم يزل راضيا عنه، لا يسخط عليه أبدا، وإن كان في الحال عاصيا. ومن سخط عليه فلا يزال ساخطا عليه ولا يرضى عنه أبدا، وإن كان في الحال مطيعا.
ومثال ذلك: أنه سبحانه وتعالى لم يزل راضيا عن سحرة فرعون، وإن كانوا في حال طاعة فرعون على الكفر والضلال، لكن لما آمنوا في المآل؛ بان بأنه تعالى لم يزل راضيا عنهم، وكذلك الصديق، والفاروق رضي الله عنهما لم يزل راضيا عنهما في حال عبادة الأصنام، لعلمه بمآل أمرهما وما يصير إليه من التوحيد ونصر الرسول والجهاد في سبيل الله تعالى.
وكذلك لم يزل ساخطا على إبليس، وبلعم، وبرصيص، في حال عبادتهم؛ لعلمه بمآلهم وما يصير إليه حالهم.
وقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن قوله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " فقال: هم قوم سبقت لهم العناية في البداية، فظهرت لهم الولاية في النهاية.
مسألة
كسب العبد
ويجب أن يعلم: أن العبد له كسب، وليس مجبورا بل مكتسب لأفعاله؛ من طاعة ومعصية؛ لأنه تعالى قال: " لها ما كسبت " يعني من ثواب طاعة " وعليها ما اكتسبت " يعني من عقاب معصية. وقوله: " بما كسبت أيدي الناس " وقوله: " وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم " وقوله: " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى، فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا " .
ويدل على صحة هذا أيضا: أن العاقل منها يفرق بين تحرك يده جبرا وسائر بدنه عند وقوع الحمى به، أو الارتعاش، وبين أن يحرك هو عضوا من أعضائه قاصدا إلى ذلك باختياره، فأفعال العباد هي كسب لهم وهي خلق الله تعالى. فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق، وكما لا يقال لله تعالى إنه مكتسب، كذلك لا يقال للعبد إنه خالق.
Page 13
مسألة ويجب أن يعلم: أن الاستطاعة للعبد تكون مع الفعل لا يجوز تقديمها عليه ولا تأخيرها عنه، كعلم الخلق وإدراكهم، لا يجوز تقديم العلم على المعلوم، ولا الإدراك، على المدرك.
والدليل على ذلك: قوله تعالى؛ " وكانوا لا يستطيعون سمعا " يعني قبولا عند الدعوة. يعني: أنه لم يكن لهم استطاعة عند مفارقة الدعوة، فيحصل معها القبول، وأيضا قوله تعالى: " إنك لن تستطيع معي صبرا " وقول إبراهيم عليه السلام: رب اجعلني مقيم الصلاة فلو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكان يقول: قد جعلتك مقيما، ولم يكن لسؤاله معنى؛ لأنه سئل في شيء قد أعطيه وهو قادر عليه. وأيضا قوله تعالى: " إياك نعبد وإياك نستعين " فلو كانت الاستطاعة قبل الفعل لم يكن للسؤآل فيها معنى، ولأن القدرة الحادثة لو تقدمت على الفعل لوجد الفعل بغير قدرة؛ لأنها عرض، والعرض لا يبقى، ولا يصح أن يوجد بعد الفعل. وأيضا: لأنه يكون فاعلا من غير قدرة، فلم يبق إلا أنها مع الفعل.
### || مسألة
ويجب أن يعلم: أن الرؤية جائزة عليه سبحانه وتعالى، من حيث العقل، مقطوع بها للمؤمنين في الآخرة؛ تشريفا لهم وتفضلا، لوعد الله تعالى لهم بذلك.
والدليل على جوازها من حيث العقل: سؤال موسى عليه السلام، حيث قال " رب أرني أنظر إليك " . ويستحيل أن يسأل نبي من أنبياء الله تعالى مع جلالة قدره وعلو مكانه ما لا يجوز عليه سبحانه، ولولا أنه اعتقد جوازها لما سألها، ولأنه تعالى علقها باستقرار الجبل، ومن الجائز استقرار الجبل، ويدل عليه أيضا: أنه موجود، والموجود يصح أن يرى.
وأما الدليل على ثبوتها من طريق الكتاب والسنة: قوله تعالى: " تحيتهم يوم يلقونه سلام " واللقاء إذا قرن بالتحية لا يقتضي إلا الرؤية. وأيضا قوله تعالى: " للذين أحسنوا وزيادة " قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: الزيادة النظر إلى وجهه الكريم وقد ذكر مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " والمراد بقوله " ناضرة " أنها مشرقة، والمراد بقوله " إلى ربها ناظرة " أنها لربها رائية؛ لأن النظر إذا عدى بكلمة إلى اقتضى الرؤية نصا، كقوله تعالى: " فانظر إلى طعامك وشرابك " وقوله تعالى: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت " وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله وزيادة قال: هي النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وأيضا: فإن الصحابة لما سألوه صلى الله عليه وسلم هل نرى ربنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته. وروى: لا تضامون في رؤيته وروى: لا يلحقكم ضرر ولا ضيم في رؤيته. ومعنى ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم شبه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي؛ فكأنه صلى الله عليه وسلم شبه الرؤية بالرؤية؛ وأن الرائي المعاين للقمر ليلة البدر ليلة أربع عشرة لا يشك في أن الذي يراه قمر. فكذلك الناظر إليه سبحانه وتعالى في الجنة لا يشك أن الذي يراه سبحانه وتعالى بلا تكييف، ولا تشبيه، ولا تحديد، وهذا كما يقول القائل: أعرف صدقك كما أعرف النهار، ورأيت زيدا كما رأيت الشمس. ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله يتجلى للخلق عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن الطاعة ليست بعلة الثواب، ولا المعصية علة للعقاب، ولا يجب لأحد على الله تعالى، بل الثواب وما أنعم به على العبد فضل منه، والعقاب عدل منه. ويجب على العبد ما أوجبه الله تعالى عليه، ولا موجب ولا واجب على الله.
والحسن ما وافق الأمر من الفعل، والقبيح ما وافق النهي من الفعل، وليس الحسن حسنا من قبل الصورة، ولا القبيح قبيحا من قبل الصورة.
والدليل على الفصل الأول: أنه لا واجب عليه لأحد من الخليقة، وأن حقيقة الواجب ما استوجب من وجب عليه الذم بتركه، والرب تعالى عن الذم علوا كبيرا.
Page 14
ويدل على صحة ذلك أيضا قوله تعالى: " ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله " فأعلم أن ذلك بفضله لا بالعمل. وأيضا قوله تعالى: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أيدخل أحد منا الجنة بعمله ؟ فقال: لا. فقيل ولا أنت ؟ فقال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته فقال له بعض الصحابة ففيم العمل ؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له. وإنما وعد الله سبحانه بالثواب وأوعد بالعقاب، وقوله الحق ووعده الصدق، فنصب الطاعات أمارة على الفوز بالدرجات، والمعاصي أمارة على التردي في الهلكات، وكل ذلك أمارة للخلق بعضهم على بعض، لا له سبحانه وتعالى؛ فإنه علم بالأشياء قبل كونها، كما قال بعضهم: تفرد الحق بعلم الغيوب فعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون.
والدليل على الفصل الثاني: وهو: أن الحسن ما وافق الأمر، والقبيح ما خالف الأمر: أن لذة الجماع في الزوجة والأمة، صورتها في الفرج الحلال كصورتها في الفرج الحرام، إلا أن ذلك حسن في الملك بموافقة الشرع، قبيح في غير ذلك بمخالفة الشرع، وكذا القتل: وصورته في القصاص كهي في القتل من غير قصاص، إلا أن أحدهما حسن لمطابقة الشرع، والآخر قبيح بمخالفة الشرع. وكذا الأكل في آخر يوم من شهر رمضان، كصورة الأكل يوم الفطر، إلا أن أحدهما حسن لموافقة الشرع، والآخر قبيح لمخالفته، وكذلك بالعكس: إمساك يوم من شهر رمضان، كصورة الإمساك يوم الفطر، إلا أنه في أحدهما حسن للموافقة، وفي الآخر قبيح للمخالفة.
وجميع قواعد الشرع تدل على أن الحسن: ما حسنه الشرع وجوزه وسوغه. والقبيح: ما قبحه الشرع وحرمه، ومنع منه، لا من حيث الصورة، فتفهم ذلك يخلصك من جميع ما يورده جهال القدرية من شبههم التي تضل عقول العوام. فإذا ثبت هذا وتقرر: جاء منه أن الباري سبحانه وتعالى ليس فوقه آمر أمره، ولا ناه نهاه؛ حتى تتصف أفعاله تارة بالحسن لموافقة الأمر، ولا بالقبح لمخالفة الأمر، بل هو المالك على الحقيقة، يتصرف في ملكه كيف يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
### || مسألة
أرزاق العباد
ويجب أن يعلم: أن أرزاق العباد وجميع الحيوان من الله تعالى، فلا رازق إلا الله: حلالا كان أم حراما.
والدليل على ذلك قوله تعالى: " الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " وقوله تعالى: " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " وقوله تعالى: " الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون " . وقد أجمع المسلمون على إطلاق القول لا رازق إلا الله كما أجمعوا على أنه لا خالق إلا الله.
ويدل عليه أيضا: أنه لو فرض نشوء صبي من حال كونه طفلا إلى بلوغه بين اللصوص وقطاع الطريق وكان يتناول من طعامهم المسروق المنهوب، ثم من بعد إدراكه والبلوغ سلك مسلكهم في السرقة والنهب والغارة إلى أن شاخ وهرم، ولم يتناول لقمة من حلال قط، فلو قال قائل: إن هذا الشخص لم يرزقه الله رزقا قط، ولا أكل له رزقا، كان هذا القائل معاندا للنص الوارد، وخارقا لإجماع المسلمين. فدلت هذه الجملة: أن لا خالق إلا الله ولا رازق إلا هو.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن كل ما ورد به الشرع من عذاب القبر وسؤال منكر ونكير، ورد الروح إلى الميت عند السؤال ، ونصب الصراط، والميزان، والحوض والشفاعة للعصاة من المؤمنين، كل ذلك حق وصدق، ويجب الإيمان والقطع به؛ لأن جميع ذلك غير مستحيل في العقل.
وكذلك يجب القطع بأن الجنة والنار مخلوقتان في وقتنا، وكذلك يجب القطع بأن نعيم أهل الجنة لا ينقطع، وأن عذاب جهنم مخلد للكفار، وإن من كان مؤمنا لا يخلد في النار.
والدليل على إثبات عذاب القبر: قوله تعالى: " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " . قال أبو هريرة: يعني عذاب القبر. وأيضا: قوله صلى الله عليه وسلم: القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. وقد قال تعالى: " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " ، والغدو والعشي إنما يكون في الدنيا. وأيضا ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: أعوذ بالله من عذاب القبر.
Page 15
والدليل على سؤال منكر ونكير قوله تعالى: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " يعني وفي الآخرة عند سؤال منكر ونكير. وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن ابنه إبراهيم جلس عند رأس القبر، فتكلم بكلام، ثم قال: ابني قل أبي، وروى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: كيف بك يا عمر إذا جاءك فتانا القبر ؟ فقال: أكون كما أنا الآن ؟ فقال له: نعم. فقال له: إذا أكفيكهما. وروى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: رأيت أبي في النوم، فقلت له يا أبت؛ منكر ونكير حق ؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو، لقد جاءاني فقالا لي: من ربك ؟ فأخذت عليهما وقلت لهما: لا أخلي عنكما حتى تعرفاني من ربكما، فقال أحدهما للآخر: دعه فإنه عمر الفاروق سراج أهل الجنة.
ويدل على نصب الصراط: قوله تعالى: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " قيل في التفسير: هو العبور على الصراط. وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم: ينصب الصراط على متن جهنم دحض مزلة والأنبياء عليه يقولون: سلم. سلم. والناس يمرون عليه، فمنهم من يمر عليه كالبرق الخاطف ومنهم من يمر عليه كالجواد من الخيل. إلى آخره.
والدليل على نصب الميزان: قوله تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " وقوله " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " وأيضا فإن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله هل تذكرون أهليكم يوم القيامة ؟ فقال لها: أما عند مواطن ثلاثة فلا: الكتاب، والميزان، والصراط.
واعلم أن الموزون في الميزان هو صحائف الأعمال. وقيل في بعض الآثار: يشخص رجل يوم القيامة على رؤس الخلائق، فيعرض عليه تسعة وتسعون سجلا مملوءة سيئات، فيقال له احضر وزنك، قيل: فيوضع في كفة قال: فيحار العبد، فيقال له: هل تعلك لك خبيئة أو حسنة ؟ قال: فيدهش، فيقول: يا رب لا أعلم شيئا. فيقول تعالى: بل لك عندي خبيئة، فيخرج له بقدر الإصبع، فيقول: ما تغني هذه في جنب هذه السجلات، فإذا فيها لا إله إلا الله. اللهم ثبتنا عليها بحولك وقوتك.
والدليل على الحوض: قوله تعالى: " إنا أعطيناك الكوثر " قيل في التفسير: هو الحوض. وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم: حوضي كما بين أيلة إلى مكة، له ميزابان من الجنة أكاويبه كعدد نجوم السماء، شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، من كذب به اليوم لم يصبه الشرب يومئذ.
والدليل على ثبوت الشفاعة: قوله تعالى: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " يدل على ثبوت الشفاعة لمن أراد سبحانه وتعالى، ويدل عليه قوله تعالى: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وأيضا: قوله صلى الله عليه وسلم: خيرت بين أن يدخل شطر أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكفأ، أترونها للمؤمنين المتقين، لا، ولكنها للمؤمنين الخاطئين. وأيضا: قوله صلى الله عليه وسلم: يقال للعابد يوم القيامة ادخل الجنة، ويقال للعالم قف أنت فاشفع لمن شئت.
والدليل على أن الجنة والنار مخلوقتان: قوله تعالى: " وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين " والمعد لا يكون إلا موجودا مهيئا. وأيضا قوله: " إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا " إلى غير ذلك من الآيات. وأيضا: قوله صلى الله عليه وسلم: عرضت علي ليلة الإسراء الجنة والنار إلى غير ذلك من الأخبار.
والدليل على تخليد النعيم لأهل الجنة والعذاب لأهل النار: قوله تعالى في أهل الجنة: " خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه " والآي في ذلك كثير، وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش فيوقف بين الجنة والنار، فينظرون إليه فيقال لهم: هل تعرفون هذا ؟ فيقولون نعم، هذا الموت، فيذبحن ثم ينادي مناد يا أهل الجنة: خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت.
Page 16
والدليل على أنه لا يخلد في النار أحد من المؤمنين بذنب: قوله تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وقوله تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " وأيضا: قوله صلى الله عليه وسلم: لا يبقى في النار من في قلبه ذرة من إيمان فإن الكفار لا ينفعهم إحسان مع الكفر، ولا يخرجون من النار، وكذلك الموحد: لا تضره سيئة مع إثبات التوحيد، ولا يخلد في النار. قيل: وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، وقول لا إله إلا الله ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الشرك فاغفر لي ما بين ذلك.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن الإيمان على ضربين: إيمان قديم، وإيمان محدث، فالقديم إيمان الحق سبحانه وتعالى؛ لنه سمى نفسه مؤمنا، فقال: " السلام للمؤمن المهيمن " وإيمانه سبحانه وتعالى تصديقه لنفسه، لقوله: " شهد الله أنه لا إله إلا هو " وكذلك تصديقه لأنبيائه بكلامه، وكلامه قديم، صفة من صفات ذاته.
والإيمان المحدث: إيمان الخلق؛ لأن الله تعالى خلقه في قلوبهم، بدليل قوله تعالى: " أولئك كتب في قلوبهم الإيمان " وقوله تعالى: " ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم " ولأن إيمان العبد صفة للعبد، وصفة المخلوق مخلوقة، كما أن صفة الخالق قديمة، أعني صفة ذاته. وأيضا: فإن حد القديم هو: الذي لا حد لوجوده، ولا آخر لدوامه، وحد المحدث: ما لم يكن ثم كان، فكما لم يجز أن تكون صفة القديم محدثة، فكذلك لا تكون صفة المحدث قديمة. وكيف تكون صفة المحدث قديمة، وهي عرض لا يستقل إلا بحامل، ولا يمكن قيامها بنفسها، لأنه يستحيل وجود حركة من غير متحرك. وسكون من غير ساكن، وعلم من غير عالم. وسواد من غير أسود إلى غير ذلك من صفات المحدثين.
واعلم أن حقيقة الإيمان هو: التصديق. والدليل عليه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف عليه السلام: " وما أنت بمؤمن لنا " أي بمصدق لنا وأيضا: أن الرسول عليه السلام لما أخبر عن كلام البقرة والذئب، فقال: أنا أومن به وأبو بكر وعمر يريد أصدق. وأيضا: قول أهل اللغة: فلان يؤمن بالبعث والجنة والنار؛ أي يصدق به. وفلان لا يؤمن بعذاب الأخرة، أي لا يصدق به.
واعلم: أن محل التصديق القلب، وهو: أن يصدق القلب بأن الله إله واحد، وأن الرسول حق، وأن جميع ما جاء به الرسول حق، وما يوجد من اللسان وهو الإقرار وما يوجد من الجوارح وهو العمل، فإنما ذلك عبارة عما في القلب، ودليل عليه. ويجوز أن يسمى إيمانا حقيقة على وجه، ومجازا على وجه: ومعنى ذلك: أن العبد إذا صدق قلبه بما قلنا وأقر بلسانه، وعملت جوارحه فهو المؤمن الحقيقي عند الله وعندنا. وأما من كذب بقلبه وأقر بالوحدانية بلسانه وعمل الطاعات بجوارحه فهذا ليس بمؤمن حقيقة، وإنما هو مؤمن مجازا، لأن ذلك يمنع دمه وماله في أحكام الدنيا، لأنه مؤمن من حيث الظاهر، وهو عند الله غير مؤمن.
والدليل على صحة ذلك: قوله: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " فأخبر سبحانه بكذبهم، ونحن نعلم وكل عاقل أنه ما كذب إقرار ألسنتهم، وإنما كذب قلوبهم، حيث أبطنوا خلاف ما أظهروا، لأن الأخرس المصدق بقلبه إيمانه صحيح، وإن كان لا يقدر على النطق والإقرار بلسانه، وكذلك بالعكس من هذا، فإن المؤمن المصدق بقلبه مؤمن عند الله تعالى، وإن نطق بالكفر. يدلك على صحة ذلك: قوله تعالى: " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا " فأخبر أن نطق اللسان بالإيمان لا ينفع مع إصرار القلب على الكفر، وإقرار اللسان بالكفر لا يضر مع تصديق القلب.
Page 17
واعلم: أنا لا نفكر أن نطلق القول بأن الإيمان عقد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان، على ما جاء في الأثر لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد بذلك أن يخبر عن حقيقة الإيمان الذي ينفع في الدنيا والآخرة، لأن من أقر بلسانه، وصدق بقلبه، وعمل أركانه حكمنا له بالإيمان وأحكامه في الدنيا من غير توقف ولا شرط، وحكمنا له أيضا بالثواب في الآخرة وحسن المنقلب، من حيث شاهد الحال، وقطعنا له بذلك في الآخرة، بشرط أن يكون في معلوم الله تعالى أنه يحييه على ذلك، ويميته عليه. ولو أقر بلسانه، وعمل بأركانه، ولم يصدق بقلبه، نفعه ذلك في أحكام الدنيا ولم ينفعه في الآخرة، وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم حيث قال: يا معشر من آمن بلسانه ولما يدخل الإيمان في قلبه وإذا تأملت هذا التحقيق وتدبرته وجدت بحمد الله تعالى ومنه: أن الكتاب والسنة ليس فيهما اضطراب ولا اختلاف، وإنما الاضطراب: والاختلال، والاختلاف في فهم من سمع ذلك، وليس له فهم صحيح، نعوذ بالله من ذلك.
وكذلك أيضا: لا ننكر أن نطلق أن الإيمان يزيد وينقص. كما جاء في الكتاب والسنة؛ لكن النقصان والزيادة يرجع في الإيمان إلى أحد أمرين: إما أن يكون ذلك راجعا إلى القول والعمل، دون التصديق؛ لأن ذلك يتصور فيهما مع بقاء الإيمان، فأما التصديق فمتى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان. وبيان ذلك: أن المصدق بجميع ما جاء به الرسول عليه السلام إذا ترك صلاة أو صياما أو زكاة أو قراءة في موضع تجب فيه القراءة، أو غير ذلك من الواجبات لا يوصف بالكفر بمجرد الترك مع كمال التصديق وثباته عليه. وبالضد من ذلك لو فعل جميع الطاعات. وأقر بجميع الواجبات، وصدق بجميع ما جاء به الرسول إلا تحريم الخمر أو نكاح الأم، ولم يفعل واحدا منهما، فإنه يوصف بالكفر، وانسلخ من الإيمان، ولا ينفع جميع ذلك مع انخرام تصديقه في هذا الحكم الواحد، فيجوز نقص الإيمان وزيادته من طريق الأقوال والأفعال، ولا يجوز من طريق التصديق، وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: لا يكمل إيمان العبد حتى يحب لأخيه المسلم الخير وكذلك قوله حتى يأمن جاره بوائقه وأراد بذلك الكف عن الأذى، ولم يرد التصديق، لأنه لو استحل أذاه لم يكن له إيمان لا زائد ولا ناقص. فافهم ذلك.
والأمر الثاني: في جواز إطلاق الزيادة والنقصان على الإيمان، يتصور أيضا أن يكون من حيث الحكم لا من حيث الصورة، فيكون ذلك أيضا في الجميع من التصديق والإقرار والعمل، ويكون المراد بذلك في الزيادة والنقصان راجعا إلى الجزاء والثواب، والمدح والثناء، دون نقص وزيادة في تصديق، من حيث الصورة. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقوله تعالى: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى، والله بما تعملون خبير " ولم يرد أن تصديق من آمن قبل الفتح يزيد على تصديق من آمن بعد الفتح؛ لأن كل واحد منها من حيث الصورة مصدق بجميع ما جاء به الرسول عليه السلام، لكن تصديق أولئك أكمل في الحكم والثواب، والدرجة، لأن هذا يصدق بشيء لا يصدق به الآخر.
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، ومعلوم أن إنفاق مثل أحد ذهبا ما أنفقه أحد من الصحابة، لكن إيمانهم ونفقتهم في الحكم والثواب، والجزاء، والدرجة أزيد أكمل من نفقة غيرهم، فهي وإن كانت في الصورة أكثر، لكنها أنقص من حيث الحكم، لا من حيث العين، فاعلم حكم ذلك وتحققه، ووازن هذا من أفعالنا اليوم، وأنها تتصف بالزيادة من حيث الحكم دون العين. أن من صلى صلاة الظهر في بلد من البلاد غير مكة والمدينة، وأتى بجميع شرائطها، وآخر صلى بمكة والمدينة على الوجه الذي صلى عليه الآخر، لا يقال: إن أحد الصلاتين أزيد من الأخرى من طريق الصورة والعين، ولكن أحدهما أزيد من طريق الحكم؛ في تحصيل الفضيل والثواب، ولهذا نظائر يطول تعدادها، وقد تكون الزيادة بكثرة دلائل التصديق لا في التصديق.
مسألة
الإسلام والإيمان
Page 18
ويجب أن يعلم: أن كل إيمان إسلام، وليس كل إسلام إيمانا، لأن معنى الإسلام الانقياد، ومعنى الإيمان التصديق، ويستحيل أن يكون مصدق غير منقاد، ولا يستحيل أن يكون منقاد غير مصدق؛ وهذا كما يقال: كل نبي صالح، وليس كل صالح نبيا.
ويدل على صحة هذه الجملة قوله تعالى: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " فنفى عنهم الإيمان وأثبت أن ذلك منهم إسلام لا إيمان. وأيضا: قوله تعالى: " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين " فغاير بين الإسلام والإيمان.
ويدل على صحة هذا القول أيضا. أن الرسول عليه السلام فرق هو وجبريل بين الإسلام والإيمان حين سأله، فقال له ما الإيمان ؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره حلوه ومره فقال جبريل عليه السلام: صدقت. والمراد بجميع ذلك أن: تصدق بالله ورسوله، إلى آخر ما ذكر، ثم قال له: فما الإسلام ؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن نقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج البيت وتغتسل من الجنابة وهذا واضح في كونهما غيرين، وأن محل الإيمان القلب، وهو التصديق، ومحل الإسلام الجوارح، وهذا الحديث يقوي لك جميع ما ذكرت لك. وأن التصديق متى اختل منه شيء انخرم الإيمان، والقول والعمل يزيد وينقص، فعلى ما قررت لك لا يجوز أن نطلق. فنقول: إيمان أحدنا كإيمان جبريل، ولا كإيمان محمد صلى الله عليه وسلم، ولا كإيمان الصديق رضي الله عنه، بل نمنع من ذلك، ونريد به أن إيمان هؤلاء أفضل وأكمل وأرفع، من طريق الحكم الذي بينت لك، ومن طريق آخر: وهو أنه قد بان لهؤلاء من دلائل الوحدانية أكثر مما بان لنا، فلا نطلق التسوية بين إيمانهم وإيماننا، ولا نريد بذلك أن نصدق بعض ما جاء به الرسل عليهم السلام والصديق يصدق بالجميع، بل لا يصح لأحد إيمان حتى يصدق بالجميع، لكن إيمان الصديق أكمل وأفضل من الوجوه التي بينت لك.
### || ### || ### || مسألة
ويجب أن يعلم: أنه يجوز أن يقول العبد أنا مؤمن حقا ويعني به في الحال، ويجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله ويعني به في المستقبل. فأما في الماضي وفي الحال فلا يجوز أن يقول إن شاء الله لأن ذلك يكون شكا في الإيمان، ولأن الاستثناء إنما يصح في المستقبل، ولا يصح في الماضي، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى. في قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم: " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا. إلا أن يشاء الله " وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: إنا غدا إن شاء الله نازلون بخفيف بني كنانة ولأن المشيئة لله تعالى سابقة لكل موجود، فلولا المشيئة لما وجد الموجود، فكما لا يجوز أن يستثنى في الحال فلا يجوز أن يقطع في المستقبل. فاعلم ذلك وتحققه.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن الاسم هو المسمى بعينه وذاته، والتسمية الدالة عليه تسمى اسما على سبيل المجاز.
والدليل عليه قوله تعالى: " تبارك اسم ربك " ومعناه: تبارك ربك، وأيضا قوله تعالى: " سبح اسم ربك " ولا يشك عاقل أن المسبح هو الله تعالى، لا قول من يقول التسبيح، ويدل عليه قوله تعالى: " ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم، ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا الله أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون " وقد علمنا أنهم ما كانوا يعبدون الأقوال والتسميات، وإنما كانوا يعبدون الأصنام. فأما قوله تعالى ولله الأسماء الحسنى وقوله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة، فالعدد في ذلك راجع إلى التسميات التي هي عبارات الاسم، فالتسمية تدل على الذات حسب دلالة الكتابة على المكتوب، فمن لا يميز بين الاسم والتسمية وبين الكتابة والمكتوب وما جرى هذا المجرى فلا يحل الله له أن يفتي في دين الله تعالى، نعوذ بالله من الجهل بالله تعالى وصفاته.
مسألة
ويجب أن يعلم: أنه يجوز لله تعالى إرسال الرسل وبعث الأنبياء، خلافا لما تدعيه البراهمة.
والدليل عليه أيضا: أنه مالك الملك يفعل ما يشاء، مع ما سبق من أنه ليس في إرسال الرسل استحالة، ولا خروج عن حقائق العقول، فدل على جواز ذلك.
Page 19
مسألة ويجب أن يعلم: أن صدق مدعي النبوة لم يثبت بمجرد دعواه، وإنما يثبت بالمعجزات، وهي أفعال الله تعالى الخارقة للعادة المطابقة لدعوى الأنبياء، وتحديهم للأمم بالإتيان بمثل ذلك.
يبين لك ذلك: أن موسى عليه السلام جاء في زمان سحرة وسحر، فتحداهم بقلب العصا حية، فعلم المحققون منهم في السحر: أن ذلك خارج عن قبيل السحر؛ لعجزهم عن ذلك، وخرقه لعادة السحر، فسارعوا إلى الإيمان، وهذا يدل على فضل العلم من أي نوع كان: فإنه أولى من سارع إلى الإيمان السحرة، لعلمهم بالسحر، فكان في علمهم ذلك وإن كان باطلا فضل كبير على غيرهم من قومهم ممن لا يعلم السحر.
وكذلك عيسى عليه السلام: جاء في زمان قوم طب ومداواة، فأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، فأتى بما هو خارج عن قبيل الطب. خارقا للعادة فيه، لا يقدر عليه مخلوق.
وكذلك: نبينا صلى الله عليه وسلم، جاء في وقت فصاحة وشعر وخطب ونظم ونثر، فأتاهم بما هو خارج عن عاداتهم في النظم والنثر، وهو أفصح وأجزل وأوجز، وتحداهم بالإتيان بمثله، فوجدوا ذلك خارجا عن نظمهم ونثرهم وخارقا لعادتهم، فعجزوا عنه فسارع من هداه الله إلى الإيمان به، ولله الحمد والمنة، على الهداية والتوفيق.
### || مسألة
ويجب أن يعلم: أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كافة الخلق، وأن شرعه لا ينسخ، بل هو ناسخ لجميع من خالفه من الملل.
والدليل على ذلك: ثبوت نبوته، وصدق مقاله، وقد أخبر بجميع ذلك.
واعلم أن أكبر معجزاته القرآن العربي، وفيه وجوه من الإعجاز.
أحدها: ما اختص به من الجزالة، والنظم والفصاحة الخارجة عن أساليب الكلام، وتحدى به فصحاء العرب بأن يأتون بسورة من مثله فعجزوا عن الإتيان بمثله، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، ولم يتأت لهم ذلك في مدة ثلاث وعشرين سنة.
ومن وجوه الإعجاز في القرآن: اشتماله على قصص الأولين، وما كان من أخبار الماضين، مع القطع بأنه صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ، ولم يعهد منه صلى الله عليه وسلم في جميع زمانه تعاط لدراسة كتب ولا تعلمها، وقد نفى عنه سبحانه وتعالى ذلك بقوله: " وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون " .
ومن وجود الإعجاز: أن اشتمال القرآن على ما لا يحصى من علم غيوب متعلقة بالمستقبل ظاهر جلي، مثل قوله تعالى: " والعاقبة للمتقين " وقوله تعالى. " لتدخلن المسجد الحرام " . ومثل قوله " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي " إلى غير ذلك، من وجوه الإعجاز في القرآن كثير جدا.
وله صلى الله عليه وسلم آيات ومعجزات سوى القرآن: كانشقاق القمر، واستنزال المطر، وإزالة الضرر من الأمراض، ونبع الماء من بين أصابعه، وتسبيح الحصى في يده، ونطق البهائم، إلى غير ذلك من المعجزات والآيات الخارقة للعادة صلى الله عليه وسلم رزقنا الله شفاعته، وحشرنا في زمرته.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن نبوات الأنبياء صلوات الله عليهم لا تبطل، ولا تنخرم، بخروجهم عن الدنيا وانتقالهم إلى دار الآخرة، بل حكمهم في حال خروجهم من الدنيا كحكمهم في حالة نومهم، وحالة اشتغالهم، إما بأكل أو شرب، أو قضاء وطر.
والدليل عليه: أن حقيقة النبوة: لو كانت ثابتة لهم في حالة اشتغالهم بأداء الرسالة دون غيرها من الحالات، لكانوا في غيرها من الأحوال غير موصوفين بذلك. وقد غلط من نسب إلى مذهب المحققين من الموحدين إبطال نبوة الأنبياء عليهم السلام بخروجهم من دار الدنيا. وليس ذلك بصحيح، لأن مذهب المحققين: أن الرسول ما استحق شرف الرسالة بتأدية الرسالة، وإنما صار رسولا واستحق شرف الرسالة والنبوة بقول مرسله: وهو الله تعالى: أنت رسول ونبيي. وقول الله تعالى قديم لا يزول ولا يتغير.
Page 20