والدليل على ذلك: أنه قد صح وثبت أن من شرط الصفة قيامها بالموصوف، والدليل على صحة ذلك أولا: أن حد القديم ما لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه، وأن القديم لا يدخله الحصر والعد، ونحن نعلم وكل عاقل أن هذه الأشكال من الحروف لم تكن قبل حركة الكاتب وإنما يحدثها الله مع حركة الكاتب شيئا فشيئا. ثم هي مختلفة الصور والأشكال، ويدخلها الحصر والحد، وتعدم بعد أن توجد، وكل ذلك صفة المحدث المخلوق لمن كان له عقل سليم. وأيضا فإن حروف الكلم يقع بعضها سابقا لبعض فعند خط الكاتب با قد حصلت وثبتت قبل خطه سينا وكذلك السين حصلت وثبتت قبل خطه ميما وكذلك النطق إذا تلفظ بالباء حصلت قبل السين وما تقدم بعضه على بعض وتأخر بعضه عن بعض فهو صفة الخلق لا صفة الحق: وكذلك الأصوات يتقدم بعضها على بعض ويتأخر بعضها عن بعض ويخالف بعضها بعضا وكل ذلك صفة كلام الخلق لا صفة كلام الحق الذي هو قديم ليس بمخلوق. وأيضا فإن القول بقدم الأصوات والحروف يوجب القدم لجميع كلام الخلق، وأصوات الناطق والصامت، وهذا قول يؤدي إلى قدم جميع العالم أجمع، وأيضا فإن الحروف التي يزعمون أنها قديمة وأنها صفة لكلامه تعالى لا يخلو إما أن تكون هذه الحروف التي تجري في كلام الخلق أو مثلها أو ضدها. فإن قالوا: إنها هي. وجب قدم كلام الخلق، وكذلك إن قالوا مثلها وجب ذلك أيضا، لأن حد المثلين ما سد أحدهما مسد الآخر وناب منابه وساوقه من جميع الوجوه.
وإن قالوا: بل هي مضادة لهذه الحروف فقد يقولون القول من غير أن يكون له معنى وهذا بين الفساد.
ويدل على أن كلام الله القديم لا يجوز أن يكون حروفا وأصواتا؛ ما روى عن ابن عباس أنه قال: لم سلط الله بختنصر على اليهود لما قتلوا يحيى عليه السلام سلطه عليهم فقتلهم وخرب بيت المقدس وحرق التوراة. قال عزير عليه السلام في جملة مناجاته: يا رب سلط عليهم عدوا من أعدائك، بطر رحمتك . وأمن مكرك، وهدم بيتك، وحرق كتابك فأوحى الله تعالى إليه من جملة ما أوحى أن بختنصر إنما أحرق من التوراة الخط، والحروف، والورق، والدفتر ولم يحرق كلامي، فأخبر تعالى أن كلامه ليس هو الحروف التي حرقت ولا أنه مما تناله الأيدي ولا تعتديه ولا يبلى ولا ينعدم، ويؤكد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو جعل هذا القرآن لا يحترق في النار ولا يتصور عليه الحرق والعدم، إنما يتصور ذلك على الأجسام والأشكال فأما الكلام القديم فلا. والذي يدل على صحة هذا أنه ونعوذ بالله تعالى لو أخذ اليوم جبار عاص لله مصحفا فحرقه بالنار حتى صار رمادا، أنقول إن كلام الله القديم احترق وانعدم ؟ أم نقول إن كلامه باق ثابت لم يحترق ولم ينعدم، وإنما احترق الورق، والحروف المصورة بلا خلاف بين كل عاقل.
دليل آخر على حدث الحروف: وهو أن الأمة مجمعة على أن من قرأ كلام الله تعالى في صلاته لم تبطل صلاته، ولا خلاف أن من قرأ حروف التهجي في صلاته بطلت صلاته، فعلم بذلك أنها ليست بكلام الله تعالى.
Page 36