والدليل على أنه لا يخلد في النار أحد من المؤمنين بذنب: قوله تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وقوله تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " وأيضا: قوله صلى الله عليه وسلم: لا يبقى في النار من في قلبه ذرة من إيمان فإن الكفار لا ينفعهم إحسان مع الكفر، ولا يخرجون من النار، وكذلك الموحد: لا تضره سيئة مع إثبات التوحيد، ولا يخلد في النار. قيل: وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، وقول لا إله إلا الله ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الشرك فاغفر لي ما بين ذلك.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن الإيمان على ضربين: إيمان قديم، وإيمان محدث، فالقديم إيمان الحق سبحانه وتعالى؛ لنه سمى نفسه مؤمنا، فقال: " السلام للمؤمن المهيمن " وإيمانه سبحانه وتعالى تصديقه لنفسه، لقوله: " شهد الله أنه لا إله إلا هو " وكذلك تصديقه لأنبيائه بكلامه، وكلامه قديم، صفة من صفات ذاته.
والإيمان المحدث: إيمان الخلق؛ لأن الله تعالى خلقه في قلوبهم، بدليل قوله تعالى: " أولئك كتب في قلوبهم الإيمان " وقوله تعالى: " ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم " ولأن إيمان العبد صفة للعبد، وصفة المخلوق مخلوقة، كما أن صفة الخالق قديمة، أعني صفة ذاته. وأيضا: فإن حد القديم هو: الذي لا حد لوجوده، ولا آخر لدوامه، وحد المحدث: ما لم يكن ثم كان، فكما لم يجز أن تكون صفة القديم محدثة، فكذلك لا تكون صفة المحدث قديمة. وكيف تكون صفة المحدث قديمة، وهي عرض لا يستقل إلا بحامل، ولا يمكن قيامها بنفسها، لأنه يستحيل وجود حركة من غير متحرك. وسكون من غير ساكن، وعلم من غير عالم. وسواد من غير أسود إلى غير ذلك من صفات المحدثين.
واعلم أن حقيقة الإيمان هو: التصديق. والدليل عليه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف عليه السلام: " وما أنت بمؤمن لنا " أي بمصدق لنا وأيضا: أن الرسول عليه السلام لما أخبر عن كلام البقرة والذئب، فقال: أنا أومن به وأبو بكر وعمر يريد أصدق. وأيضا: قول أهل اللغة: فلان يؤمن بالبعث والجنة والنار؛ أي يصدق به. وفلان لا يؤمن بعذاب الأخرة، أي لا يصدق به.
واعلم: أن محل التصديق القلب، وهو: أن يصدق القلب بأن الله إله واحد، وأن الرسول حق، وأن جميع ما جاء به الرسول حق، وما يوجد من اللسان وهو الإقرار وما يوجد من الجوارح وهو العمل، فإنما ذلك عبارة عما في القلب، ودليل عليه. ويجوز أن يسمى إيمانا حقيقة على وجه، ومجازا على وجه: ومعنى ذلك: أن العبد إذا صدق قلبه بما قلنا وأقر بلسانه، وعملت جوارحه فهو المؤمن الحقيقي عند الله وعندنا. وأما من كذب بقلبه وأقر بالوحدانية بلسانه وعمل الطاعات بجوارحه فهذا ليس بمؤمن حقيقة، وإنما هو مؤمن مجازا، لأن ذلك يمنع دمه وماله في أحكام الدنيا، لأنه مؤمن من حيث الظاهر، وهو عند الله غير مؤمن.
والدليل على صحة ذلك: قوله: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " فأخبر سبحانه بكذبهم، ونحن نعلم وكل عاقل أنه ما كذب إقرار ألسنتهم، وإنما كذب قلوبهم، حيث أبطنوا خلاف ما أظهروا، لأن الأخرس المصدق بقلبه إيمانه صحيح، وإن كان لا يقدر على النطق والإقرار بلسانه، وكذلك بالعكس من هذا، فإن المؤمن المصدق بقلبه مؤمن عند الله تعالى، وإن نطق بالكفر. يدلك على صحة ذلك: قوله تعالى: " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا " فأخبر أن نطق اللسان بالإيمان لا ينفع مع إصرار القلب على الكفر، وإقرار اللسان بالكفر لا يضر مع تصديق القلب.
Page 17