ثم يقوم هؤلاء الكتاب ويسمون ما كتبوا تعريبا، وأولى بهم أن يسموه تضمينا أو اختصارا أو معارضة أو مسخا.
ولكنهم جميعا أولى بالعذر والعفو من فئة أخرى يأتي الواحد منها على الكتاب فينقله كله أو بعضه، ثم يعرضه على الناس تأليفا من نتاج قريحته، وهؤلاء هم السرقة الدجالون.
على أن لدينا والحمد لله رهطا من ذوي الذمة والعلم يتوخون الصدق، ويتحرون الضبط والأحكام ، ويجيدون الرسم فيأتي مثالا صادقا، فإذا نقلوا قالوا نقلنا وإذا تصرفوا قالوا لغرض تصرفنا، وإن ضمنوا قالوا لأمر ضمنا، وإن عارضوا قالوا لسبب عارضنا، فهؤلاء إذا صحت كفاءتهم هم الذين يجب أن يصدق خبرهم، ويقتفى أثرهم.
معربو العرب
وإذا رجعنا إلى النقلة الأوائل رأينا أن زمرة كبيرة منهم كانوا من هذا الفريق الأخير، وهم على تفاوت إجادتهم في تأدية المراد ممن قصد الفائدة الحقة وتوخى الصدق والدقة.
وقد سلكوا في التعريب مسلكين نقلهما البهاء العاملي في الكشكول عن الصلاح الصفدي قال: «وللترجمة في النقل طريقان: أحدهما طريق يوحنا بن البطريق، وابن الناعمة الحمصي وغيرهما، وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية وما تدل عليه من المعنى، فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه، وهذه الطريقة رديئة لوجهين: أحدهما: أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع كلمات اليونانية؛ ولهذا وقع في خلال التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها، الثاني: أن خواص التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة أخرى دائما، وأيضا يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات. الطريق الثاني في التعريب طريق حنين بن إسحاق والجوهري وغيرهما، وهو أن يأتي الجملة فيحصل معناها في ذهنه ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها، وهذا الطريق أجود ولهذا لم تحتج كتب حنين بن إسحاق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية؛ لأنه لم يكن قيما بها بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي، فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى إصلاح.
وإن هذين الطريقين اللذين أشار إليهما الصلاح الصفدي منذ زهاء ستة قرون هما المذهبان المعول عليهما في النقل حتى يومنا، وليس وراءهما مذهب ثالث في التعريب الصحيح؛ أما الطريقة الأولى فهي كما قال رديئة: «إذا أريد بها استجماع محصل المعاني» وهي أيضا أنها تذهب بطلاوة التركيب فلا تبقي لها أثرا، ولا تصلح للكتب التي تتداولها الأيدي من الخاصة والعامة، ولا ترتاح إليها نفس مطالع، وقلما تجد قارئا يقوى على استتمام صفحة منها، ولكنها مع هذا مفيدة لطالب اللفظ دون المعنى؛ ولهذا جرى عليها بعض كتاب الإفرنج في بعض التآليف المراد بها تعليم اللغات، وانتهجوها في نقل كثير من كتب الأدب والشعر كمنظومات هوميروس وفرجيليوس إذا أريد بها إفادة طلاب اليونانية واللاتينية دون طلاب الإلياذة والإنياذة، ويشترط لصحة فائدتها أمران: أولهما: أن يكتب الأصل بلغته ومردفا في اللغة المنقول إليها، والثاني: أن يكون بإزائها ترجمة أخرى على الطريقة الثانية التي هي طريقة حنين؛ لاستجلاء المعنى، وإلا اختلطت المعاني على المطالع وغاب عنه فهم قوة العبارة؛ لأن الجمل على الطريقة الأولى تأتي مختلة التركيب مقلوبة الوضع، فما يجب تقديمه في لغة يجب تأخيره في أخرى، وما يجب إثباته في الأصل يجب تقديره في النقل وهلم جرا، فلا طلاوة ولا إحكام، ولا إعراب، ولا انسجام.
أما الطريقة الثانية فهي التي عول عليها الجمهور لحصول الفائدة فيها من الوجه المطلوب، وهو نقل المعاني ورسمها رسما صحيحا ينطبق على لغة النقل ومشرب قرائها، فإذا قرأ المطالع فيها كتابا معربا، فإنما هو يقرأه عربيا، ولا يقرأه أعجميا كما يحصل في الطريقة الأولى؛ ولهذا يصح أن يقال: «إن طريقتنا إنما هي طريقة حنين بن إسحاق والجوهري».
مسلك المعرب في تعريب الإلياذة
علمت مما تقدم أن المعرب تحرى الصدق في النقل مع مراعاة قوام اللغة، وعسى أن يكون ممن كتب لهم التوفيق، وأقول زيادة للإيضاح أني وطنت النفس على أن لا أزيد شيئا على المعنى، ولا أنقص منه، ولا أقدم، ولا أؤخر إلا في ما اقتضاه تركيب اللغة، فكنت أعمد إلى الجملة سواء تناولت بيتا أو بيتين أو أكثر أو أقل، أسبكها بقالب عربي أجلو رواءه على قدر الاستطاعة، ولا أنتقل إلى ما بعدها حتى يخيل لي أني أحكمتها.
Page inconnue