كتابة الشرح
على أنني منذ شروعي في النظم كنت أطمح إلى ما وراء ذلك إذ لو عرضت الإلياذة على قراء العربية عارية من الشروح لما خالوها إلا هيكلا شعريا لا تربو فائدته على شيء مما بين أيديهم من الدواوين وما أكثرها في لغتنا.
فرأيت أن أعلق عليها شرحا أنتهج فيه أسلوبا جديدا لم ينتهجه أحد من الشراح بغية أن يأنس القارئ العربي بالرجوع في نظره إلى أخلاق أمته في جاهليتها، وبعض حضارتها والمشهور من أساطيرها وعباداتها، والمأثور من آدابها وعاداتها ومناهج شعرائها وأدبائها، ومواقف ملوكها وأمرائها وساستها وزعمائها، والإعجاب باتساع لغته في الوضع لكل معنى من المعاني الفطرية مع عجزها في الحال عن تأدية بعض الأوضاع العصرية، وجميع ما يتناول وصف حالة العرب ولغتهم وحالتهم الاجتماعية. كل ذلك بالمقارنة والمقابلة مع ما كان من نظيره في الأمم الغابرة، ولا سيما في أمم اليونان، ويرتاح المطالع الإفرنجي من قراء لغتنا إلى الولوج في باب لا أظن أحدا ولجه من قبل، فيبحث وينقب، ويسترشد فيرشد على ما جرى عليه في سائر الشؤون، ونحن عن معظم ذلك غافلون.
ولهذا لم يكن لي بد من مطالعة الأسفار الطوال والمجلدات الضخمة من كتب العرب والأعاجم في الأدب والشعر والتاريخ، وإذا ألقيت نظرك على باب الشواهد في العجم في ذيل الكتاب ورأيت أنني اضطررت إلى الاستشهاد بمئتي شاعر عربي بين جاهلي، ومخضرم، ومولد فضلا عما نقلته من شعر الأعاجم عذرتني على ما أضعت من الوقت في شرح الكتاب إذ ربما قرأت ديوان الشاعر كله طمعا ببيت واحد: ولو جمعت الزمن الذي صرفته في النظم لما زاد عن نصف مثله مما صرفته في تدوين الشرح.
وفي أوليات سنة 1896 دعاني داع حثيث إلى القاهرة، والنفس تشتاقها فانتهزتها فرصة، وانتقلت بعائلتي إليها ولكن أمورا هامة حالت دون تمثيل الكتاب بالطبع أخصها اشتغالي بعمل شاق آخر هو «دائرة المعارف». ولكنني كنت اختلس أويقات يسيرة أرتب الشرح في أثنائها حتى انتهيت منه عام 1902 فباشرت الطبع.
ولست بمعتذر لأبناء وطني عن انقضاء كل هذا الزمن قبل إنجاز العمل الأخير، فقد ألفنا التأني والمطل، وإن الواحد منا ليشرع في طبع مئتي صفحة فتمر الأعوام ولا يتمها. على أن ابن الغرب تعتريه الدهشة لمثل هذا التراخي، وهو في بلاده لا يكاد يسمع بتأليف كتاب حتى يراه مطبوعا تتداوله الأيدي، فلمثل هذا اللائم أقول: «إن الحالة عندنا على خلاف ما تعهد، فليس في بلادنا شركات تأخذ على نفسها طبع الكتب على نفقتها فتعد المال والرجال، بل لا بد عندنا وإن توفرت النفقات أن يتولى المؤلف في مثل هذه الأحوال طبع كتابه بنفسه، وإن استعان بصديق أو غيره على مراجعة مسودة فلا يغنيه ذلك عن أن يكون هو المصحح المنقح، وإذا زدت على هذا أن دواعي صحة الجسم تلجئني كل سنة إلى إيقاف العمل بضعة أشهر إذ أضطر أن أبرح مصر إلى لبنان أو غيرها من بلاد الله اتضح أني أسرعت في طبع الإلياذة مع إبطائي في إعدادها».
المعجم والمقدمة
وفي منصرم ربيع السنة الماضية (1903) كان الفراغ من طبع الإلياذة وشرحها، فحملت الكتاب معي إلى لبنان حيث قضيت الصيف، وانتهزت فرصة الفراغ والراحة لكتابة المعجم، وحالما وصلت القاهرة في آخر الصيف أخذت في إنشاء هذا الفصل وسائر فصول المقدمة: وهكذا فقد كان الفراغ من هذا الكتاب حيث كان الشروع فيه أي في قاهرة مصر، وأراني كما أسلفت لك لم أدخر وسعا في تحبير تعريبه وتنميقه، ولم آل جهدا في تطبيق شرحه وتنسيقه، فإن أحسنت وفيه منتهى جهدي فذلك من حسنات الاجتهاد، وإلا فحسبي أن أفتحه بابا يلجه من وفقه الله إلى سبيل السداد.
أصول التعريب
لقد جرى الكثيرون من نقلة لغات الإفرنج إلى العربية على أصول ابتدعوها لأنفسهم، فشطوا بأكثرها عن منهج الصواب، فأجروا قلمهم بل هو جرى بهم مطلق العنان يحبر ما يريد دون ما أراد الواضع، فمن متصرف بالمعنى يزيد وينقص على هواه فيفسد النقل ويضيع الأصل، ومن متسرع يضن بدقائق من وقته للتثبت من مراد المؤلف فيلتبس عليه فهم العبارة؛ فينقلها على ما تصورت له لأول وهلة، فتنعكس عليه المعاني على كره منه، ومن ماسخ يلبس الترجمة ثوبا يرتضيه لنفسه فيتقلب بالمعاني على ما يطابق بغيته، ويوافق خطته حتى لا يبقى للأصل أثرا، ومن عاجز يجهد النفس ما استطاع وهو وإن أجهدها ما شاء غير كفوء لخوض هذا العباب.
Page inconnue