إذا علمت كيف تهافت الحكماء والعظماء على تلقي الإلياذة وتلقينها للناس يوم لم يكونوا يكتبون، وعرفت كيف أكب الحفاظ على ادخارها تبادر إلى ذهنك أنه لم تكد الكتابة تنتشر في بلاد القوم حتى أقبلوا على جمعها وتدوينها، وإن لنا في الأثر أمثلة أخرى مما تلي وانتشر قبل أن يجمع في كتاب ليحفظ وينقل أو نبذ فأهمل. وليس هذا خاصا بالشعر بل قد تتناقل الحكم والروايات النثرية قرونا طوالا. وهكذا حفظت تواريخ الجرمان والسكنديناف، ومنظوماتهم قرونا قبل أن يدون منها شيء في كتاب.
20
وهو معلوم أيضا أن القرآن على غزارة مادته، وتشابه آياته انتشر ورسخ في حوافظ الصحابة كاتبهم وأميهم بل ربما كان أرسخ في ذهن الأمي.
وليس لدينا شيء مما يمكن معه تعيين الزمن الذي بوشر فيه بكتابة الإلياذة، ولا شك أن فيسيستراتس كان من صفوة المتشتغلين بهذا العمل الخطير كما تقدم حتى لقد عثروا في بعض مخطوطات رومية على أسماء أربعة من الشعراء استعان بهم على ضبط منظومات هوميروس، وهم: أونومكريتس، وزوفيرس، وأرفيوس، وكنكيلوس، ولكن الظاهر أن نسخة فيسيستراتس لم تكن النسخة الأولى، وأنه شرع في كتابة تلك المنظومات منذ أواسط القرن السابع ق.م. أي قبل نحو قرن كامل، ولا ريب أن من ولي صولون إلى زمن فيسيستراتس جمعوا منها نسخا مما ذكره علماء مدرسة الإسكندرية أو أغفلوه؛ بل لعل الكتابة في زمن صولون نفسه كانت تتسع إلى مثل هذه الغاية. وأن جميع معاصري فيسيستراتس أثنوا الثناء الجميل على ما فعل، ولكن الغريب أن علماء الإسكندرية لم يذكروا نسخته في جملة ما حسبوه من النسخ التي كانت بين أيديهم، فإما إنها لم تصل إليهم وهو محال مع شهرتها، وإما إنهم كانوا يعلمون أنها إنما كانت نسخة تقدمتها نسخ كثيرة؛ فأغفلت في جملة ما أغفل وهو الأظهر، وكانت في الإسكندرية إذ ذاك نسخ شتى نقلت عن مجموعات أرغس وخيوس (ساقس) وأكريت، وقبرص، وغيرها من مدائن اليونان مما يدل على سعة الانتشار. فعمد علماء الإسكندرية إلى تلك النسخ ومن جملتها النسخة التي كتبها أرسطوطاليس للإسكندر، وقابلوها بعضا على بعض ثم وضعوا النسخة التي تداولتها الأيدي إلى هذا الزمن. وكانوا رهطا من فحول العلماء، بل كانوا أعلم أبناء زمانهم كزينودوتس الأفسسي، وأرسطوقارنس البيزنطي، وأعلمهم طرا أرسطرخس السامثراقي وهو الذي قسم كلا من الإلياذة والأوذيسية على ما قيل إلى أربعة وعشرين نشيدا
21
على عدد حروف الهجاء عندهم.
القول في سلامتها من التحريف والتصحيف
لم يعن البشر في زمن من الأزمان بنسخ كتاب وتمحيصه وحفظه ونشره عنايتهم بالإلياذة وأختها الأوذيسية، ولا يستثنى من هذا الإطلاق إلا الكتب التي رفعت عليها أسس الأديان كالتوراة، والإنجيل، والقرآن، ومع هذا فلست ممن يقول بسلامة الإلياذة بجميع أجزائها من كل تحريف وتصحيف أو زيادة ونقصان، وأي كتاب أجمع الناس على أنه لم تعبث به قط يد كاتب، ولم تنتبه جائحة زمان، أفليس في بعض نسخ التوراة عبارات مختلفات عنها في نسخ أخرى، وإن منها أسفارا كاملة يعدها فريق قانونية وينكر ذلك فريق آخر، أوليس من يقول بضياع بضعة أناجيل، واختلاط أسفار أخرى من العهد الجديد، ومن ينكر عناية الخليفتين: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب في جمع أجزاء القرآن في صحف مكتوبة، ومبلغ جهدهما وجهد الخليفة عثمان بعدهما في ضبط قراءته، والنظر في كل آية من آيه حتى إذا رأى عمر أن آخر سورة التوبة مفقود ظل يبحث عنها حتى وجدها مع أبي خزيمة الأنصاري، وفعل فعله عثمان إذ فقدت آية من الأحزاب فالتمسها ووجدها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، وهل سد ذلك أفواه المعترضين من بعض فرق الغلاة والمعتزلة! أو لم يتواتر أيضا أن بعض كتبة الوحي لنبي الإسلام كعبد الله بن أبي سرح في أول إسلامه كانوا يعمدون إلى تبديل كلام بآخر.
ولكن النبي كان حيا؛ فأثبتوا أنه كان يضرب على أيدي أولئك المحرفين، ويرد الكلم إلى مواضعه. أما الإلياذة وقد تناشدها الرواة نحوا من قرنين ولا ضابط لها سوى أذهان المنشدين فلم تكن ثم قوة بشرية قادرة على حفظها من أولها إلى آخرها على ما نطق بها هوميروس مهما بذل في سبيل ذلك من العناية والهمة. بل ربما لو بعث هوميروس نفسه، وأنشدها مرة أخرى لما تمالك عن تغيير حرف وتبديل شعر، على أنه لا ريب أن التحريف والتصحيف قليلان جدا في جميع ما اتصل بنا منها لما رأيت من عناية القوم بها اللهم إلا أن تكون هناك أجزاء مفقودة برمتها مما لا يدخل تحت هذا الحكم، ومع هذا فارتباط أجزائها بلا انقطاع يدل على أنه إن كان ثمة مفقود فهو قليل، وإننا الآن موردون استجلاء لهذا البحث أمثلة مما ذكره الشراح وما لم يذكروه من الدخيل، والساقط، والمكرر، والمغلق.
الدخيل
Page inconnue