ثم لا تكن مغرورا تعتقد أنك على حق مطلق، وأن غيرك إن خالفك على باطل مطلق، بل وسع صدرك فاجعل حقك يحتمل الخطأ وباطل غيرك يحتمل الصواب، وقلما يعرف أحد الحق كل الحق ويقع أخوه في الباطل كل الباطل، فحقك مشوب بباطل كثير، وباطل غيرك مشوب بحق كثير؛ فاصغ إلى رأيه وأعمل عقلك فيه، واستخرج منه خير ما فيه، وإن أداك ذلك إلى أن تعدل عن رأيك إلى رأيه فافعل، ولا تشمئز من ذلك فالحق يعلو ولا يعلى عليه. إنك إن فعلت ذلك نجحت وأتتك أعراض الدنيا بعد ذلك تبعا، والصوفية يقولون في أمثالهم: صاحب الخصوصية لا بد أن يظهر يوما ما، فلا تتعجل المكافأة، ولا تغضب من عرض يفوتك، فتلذذك من الحقيقة والبحث عنها محسوب عليك، وهي أكبر لذة في الحياة، أتتك بعدها أعراض الدنيا أم لم تأت.
وكنت أعرف صديقا، رحمه الله، ملأه في عيني صغر الدنيا في عينه، كان وطنيا مخلصا ومحبا للعلم مخلصا، يفرغ من عمله فيكمل نفسه بحضور الدروس على الشيخ محمد عبده رحمه الله، ثم على الشيخ محمد رشيد رضا وغيرهما من العلماء، ويستفهم عما لا يفهم، ويعلم من يجهل، وضم إلى العلم الوطنية، وكانت وطنيته أرفع من أن تنغمس في حزب فكان فوق الأحزاب. وكان يعمل أكثر مما يقول، ويتبع قول المرحوم قاسم بك أمين: «إن الوطنية الصادقة تعمل في صمت». وجد في تربية زوجه وأولاده على مبادئه، فكان يصلي بهم الفجر حاضرا، ويلزمهم الصدق في كل ما يقولون والعدل في كل ما يفعلون، سواء عليه في ذلك بنته أو ابنه، فعوضه الله عن مجهوده بصلاح أبنائه وبناته ونجاحهم جميعا في الحياة. كان إذا عذب أو أهين احتمل ذلك في ثبات، ومن الأسف أن استقامته أغضبت كثيرا من إخوانه ورؤسائه فكانوا ينقلونه من القاهرة إلى أقصى الصعيد، ولكنه مع ذلك يحتمل ويحتمل، ويصلح ما فسد في أي مكان رحل إليه، فيزيدهم ذلك غيظا وهو لا يبالي، حتى مات، رحمه الله، راضيا عن نفسه مطيعا ربه، ومثل ذلك قليل. فاعمل لتكون مثله، وفقك الله وأيدك وأمدك بروح منه والسلام.
حاشية:
أتذكر فلانا صديقك؟ إنه كان يعمل في كلية الهندسة في مصر فأدار آلة ميكانيكية كبيرة ولم يحتط الاحتياط الكافي، ولم يلتفت إلى الآلة الالتفات الضروري، فمس سلكا كهربائيا فيها فصعق ومات، رحمه الله، وإني لا أقص عليك هذه القصة لأزعجك ولكن لأحذرك، فاتق شر ما عمل، وأعط كل عقلك وانتباهك إلى العمل الذي تعمله، وكن جادا كل الجد في أوقات الجد، ولا بأس أن تكون هازلا بعد في أوقات الهزل. وقد ذكرت لي في إحدى خطاباتك أن آلة مكهربة كاد يمسها تلميذك والعامل عندك، وهو إذا مسها صعق لكثرة ما فيها من شحنة كهربائية، فصرخت في وجهه صرخة قوية، وظلت أسبوعا لا تجد أعصابك، فحمدت لك ذلك، وأردت أن أنبهك على غلطة زميلك، والسلام عليك من والد يريد الخير لك دائما.
Page inconnue