شباب قنع لا خير فيهم
وبورك في الشباب الطامحينا
2
أي بني، أقتصر في كتابي هذا على نصائحك في التعليم الجامعي. ليكن أهم ما تصبو إليه حب الحقيقة فلا تقدس القديم لقدمه ولا الجديد لجدته، واطلب الحقيقة لذاتها، صادفت القديم أو الجديد، أعجب الناس بك أو كرهوك ومقتوك، وكن ذا شعور علمي دقيق، فإن الطبيعة لا توحي بحقائقها إلا لمن دق حسه وتنبه عقله، وقد أعجبني ما ذكرت من أنهم في الجامعة يعلمونك العلم ويعلمونك بجانبه الصبر، فالصبر حقيقة هو مفتاح العلم، فلا تمل منه ولا تستكبر أي صبر يوصل إلى أية حقيقة.
عود نفسك النظام في العمل، والدقة فيه، وحسن الترتيب، ولأقص عليك شيئا من تجاربي في هذا الباب.
فقد بدأت حياتي في ترجمة كتاب مبادئ الفلسفة الذي تعرفه، فكنت أفهم معنى الجملة وأبحث لها عن ترجمة عربية، حتى إذا عثرت على الجملة أجلتها في نفسي ، وقد أجيلها على لساني لأعلم مبلغ دقتها في أداء المعنى، وهل يحسن وقعها على القارئ والسامع، وقد أضطر في سبيل ذلك إلى رفضها بتاتا أو تغييرها أو إحلال لفظة محل لفظة فيها، فلما بدأت أؤلف فجر الإسلام كنت أعمد إلى مظان البحث في الكتب التي أظن أنها تتعرض للموضوع الذي أريده، فإذا قرأتها أعملت فكري فيها ثم كتبت الموضوع؛ فلما ترقيت بعض الشيء في ضحى الإسلام عمدت إلى طريقة أنظم، وهي أني فكرت في موضوع الكتاب وقسمته إلى فصول، وأعددت لكل فصل «دوسيها» وقرأت أمهات الكتب، وكلما عثرت على فكرة قيمة لخصتها ووضعت التلخيص في «الدوسيه» المناسب وأشرت إلى الصحيفة والكتاب. فلما فرغت من ذلك بدأت في التأليف فاستخرجت «دوسيه» كل موضوع وقرأت ما فيه من وريقات ورتبتها وهضمتها ثم أخرجتها تأليفا، وانتقلت: بعد ذلك إلى الذي يليه ثم الذي يليه وهكذا إلى نهاية الكتاب، ووجدت أن مثل هذه الطريقة أنظم وأفضل، فاعمد إلى مثل هذه الطريقة في بحثك.
ولخير لك أن تختار نقطة صغيرة تلقي عليها أضواء كثيرة حتى تتجلى للقارئ، من أن تعمد إلى مسألة كبيرة تلقي عليها أضواء قليلة تتشعع فيها نفسك ويتشعب فيها عقلك.
وأعود فأقول لك الصبر الصبر فيما تلجلج في صدرك، فإذا شككت في أمر فابحث عنه في كل مظانه واستفت أساتذتك فيه، وإذا كان لك جهاز أو أجهزة فجربها عمليا عليها لتعرف مقدار صدقها من كذبها، ولا تكتب إلا وأنت واثق مما تقول، مالئ يدك من البرهان عليه والحجة المقنعة لك ولمن يناقشك.
إن كثيرا من إخوانك لا يرغبون في البحث للبحث، ولكن يرغبون في البحث للشهادة، فخالفهم واطلب البحث للبحث، والفرق بينك وبينهم إذا أنهم إذا حصلوا على الشهادة ناموا وأنت إذا حصلت على الشهادة داومت بحثك وعشت طول عمرك باحثا منقبا متعلما.
إني أعلم أن استعدادك للنظريات كبير، واستعدادك للأعمال اليدوية من رسم وتصوير ونحو ذلك صغير فلا يغرينك حسن استعدادك للنظريات أن تمعن فيها حبا لها واستسهالا لشأنها فتهمل الجانب الآخر، بل الأمر بالعكس، لا تعمد إلى الملكة القوية فتزيد في قوتها، وإلى الملكة الضعيفة فتهملها، بل اعمد إلى موضع نقصك فقوه، وليس يمكن مهندسا أن يكون نظريا محضا من غير إجادة رسم، فخير لك أن تكمل نقصك وتقوي ملكاتك جميعا، من أن تقوي ملكة على حساب أخرى، كالذي يقوي إحدى يديه فيضعف الأخرى وهكذا.
Page inconnue