وكان العرب يرقبون ذلك من أنفسهم، ويتعمدون الإعراب ويحرصون عليه أن يخطئوه، يروون لعبد الملك بن مروان أنه قال: «شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن.»
ويروون عن الحجاج بن يوسف - وهو ما تعلم من الفصاحة وقوة البيان - أنه كان يسأل يحيى بن يعمر النحوي: «أتراني ألحن؟» ويشدد عليه أن يبين له ما يسمعه منه من لحن.
أما أبو الأسود الدؤلي الكناني فكان يقول: «إني لأجد للحن غمرا
1
كغمر اللحم.»
فلما وقع اللحن في القرآن كان أثره عليهم أشد، وكان إليهم أبغض، فبادروا إلى إعراب القرآن وضبط كلماته بنقط يكتبونها عند آخر الكلمات تدل على حركاتها - وكان ذلك عمل أبي الأسود في النحو، وعمل طبقتين من النحاة بعده؛ يعربون المصحف، أي: يضبطون أواخر كلماته بالنقط، ويرسلون المصاحف في الناس يهتدون في القراءة بها وتكون لهم إماما.
وقد أطالوا بذلك مراقبة أواخر الكلمات، وربما اختلفوا فيها، وتجادلوا عندها. وطول هذه المراقبة ودأبهم عليها هداهم إلى كشف سر من أسرار العربية عظيم؛ وهو أن هذه الحركات ترجع إلى علل وأسباب يطرد حكمها في الكلام، ويمكن الرجوع إليها والاحتجاج بها.
وقد أعجبوا بهذا الكشف إعجابا عظيما فألحوا في الدرس وفي تتبع الأواخر والكشف عن أسرار تبديلها؛ وسموا ما كشفوا أول الأمر - علل الإعراب - أو علل النحو، ثم لم يلبثوا أن أوجزوا فسموها علم النحو أو الإعراب، ولم يمض عليهم زمن طويل، مذ هدوا إلى علل الإعراب، حتى كانوا قد أحاطوا بها ودونوها، وجمعها سيبويه في كتابه الذي لم يزل من بعده إمام النحاة.
وإذا كانت فتنة النحاة بما كشفوا قد دفعتهم إلى التسابق في الكشف، وإلى التعمق في البحث حتى أحاطوا بقواعد الإعراب في سرعة معجزة؛ فإنها صرفتهم عن درس ما سوى الإعراب مما في العربية من قواعد لربط الكلام وتأليف الجمل.
وقد بدا لبعض النحاة مسلك آخر في درس العربية يتجاوز الإعراب إلى غيره من القواعد العربية؛ فألف أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 208 كتابا في «مجاز القرآن»، حاول أن يبين ما في الجملة العربية من تقديم أو تأخير أو حذف أو غيرها، وكان بابا من النحو جديرا أن يفتح، وخطوة في درس العربية حرية أن تتبع الخطة الأولى في الكشف عن علل الإعراب، ولكن النحاة - والناس من ورائهم - كانوا قد شغلوا بسيبويه ونحوه وفتنوا كل الفتنة، حتى كان الإمام أبو عثمان المازني المتوفى سنة 247 يقول: «من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستح.»
Page inconnue