حد النحو كما رسمه النحاة
وجهات البحث النحوي
أصل الإعراب
رأي المستشرقين في أصل الإعراب
معاني الإعراب
العلامات الفرعية للإعراب
التوابع
تكملة البحث
الصرف
خاتمة
حد النحو كما رسمه النحاة
وجهات البحث النحوي
أصل الإعراب
رأي المستشرقين في أصل الإعراب
معاني الإعراب
العلامات الفرعية للإعراب
التوابع
تكملة البحث
الصرف
خاتمة
إحياء النحو
إحياء النحو
تأليف
إبراهيم مصطفى
تقديم الكتاب
بقلم طه حسين
هذا كتاب سيراه الناس جديدا، وما أرى أنهم سيتلقونه بما تعودوا أن يتلقوا به الكتب من الدعة والهدوء، وما أحسبني أخطئ إن قدرت أنهم سيدهشون له، وأن كثيرا منهم سيضيقون به، وقد يتجاوزون الضيق إلى الخصومة العنيفة والإنكار الشديد؛ لأن الكتاب جديد كما قلت، في أصله وفي صورته، وهو من أجل ذلك يخالف كثيرا جدا مما ألف الناس، وقد يغير كثيرا جدا مما ألف الناس، فلا غرابة في أن يلقوه بالدهش، وفي أن يثور به الثائرون.
ولكني مع ذلك لا أقدمه إلى الناس كما أقدم شيئا جديدا بالقياس إلي، فإن عهدي به قديم، وإلفي له متصل، ولست أجاوز القصد إن قلت إني لقيته لقاء الصديق، واستمعت له كما أستمع لحديث الصديق، في كثير من الحب والحنان والوفاء، فهو يذكرني أكثر أطوار حياتي العلمية، منذ أخذت أطلب العلم صبيا وشابا إلى الآن؛ ذلك أنه كتاب نشأ مع عقل صاحبه، وتطور بتطوره، واختلفت عليه الصروف، كما اختلفت على صاحبه الصروف، ثم خرج منها كما رأيته وكما سيراه القراء، قويا صلبا متينا، لا يعرف الضعف ولا الفتور، ولا يعرف الخور ولا لين القناة.
أنا قديم العهد به، ألقاه الآن لقاء الصديق؛ لأني قديم العهد بصاحبه، ما لقيته قط إلا امتلأت نفسي بهجة ورقة وحنانا؛ لأني أرى فيه خير ما مر بي من أطوار الحياة، وشر ما مر بي من أطوار الحياة أيضا. وأراه الصديق الأمين والأخ الوفي في أطوار الخير والشر جميعا، وأرى معه هذا الكتاب يتحدث إلي به، ويجادلني فيه، ويلح علي في الحديث والجدال، فلا يبلغ إلحاحه مني مللا ولا سأما، وإنما يثير في رغبة مجردة إلى المناقشة والحوار.
وما رأيك في أني أعرف إبراهيم منذ آخر الصبا وأول الشباب، حين كنا نلتقي في حلقات الدرس في الأزهر الشريف، فنسمع لشيوخنا، ثم نلتقي بعد الدرس فنعيد ما كانوا يقولون، نكبر أقله فنستبقيه في أنفسنا، ونصغر أكثره فنعرض عنه إعراضا أو نتخذه موضوعا للعبث والمزاح.
وحين افترقنا فذهب هو إلى دار العلوم وبقيت أنا في الأزهر، ثم أبى الله إلا أن يجمعنا، ولما يمض على فراقنا إلا أقل الوقت وأقصره، فإذا نحن نلتقي في غرفات الجامعة المصرية القديمة، نسمع للأساتذة المحدثين من المصريين والأجانب، ثم لا نكاد نخرج من غرفات الدرس حتى يتصل بيننا الحديث كما كان يتصل بيننا في الأزهر، وإذا دروس الجامعة تفتح لحوارنا آفاقا طريفة، كنا نستلذ بها ونستحبها، فنمضي في الحوار وننسى له كل شيء وكل إنسان. نقطع الآماد البعيدة ماشين وقد أنسينا جهد المشي، وصرفنا عما حولنا من حركة الحياة واضطراب الأحياء، وقد ننتهي إلى مكان نأوي إليه ثم ننسى أنفسنا فيه؛ قد صرفنا عن هذا المكان وعن أنفسنا وعمن يحيط بنا من الناس، إلى ما نحن فيه من حوار، وإلى ما نستمتع به من لذة الحديث.
ثم نفترق مرة أخرى، فيذهب هو إلى مصر العليا مشتغلا بالتعليم، وأذهب أنا إلى ما وراء البحر مشتغلا بالتعلم، وينقطع الحوار بيننا، وتنقطع الرسائل أيضا، ويكاد يخيل إلى كل واحد منا أنه قد نسي صاحبه، وأن صاحبه قد نسيه. وتمضي على ذلك الأعوام الطوال، ثم نلتقي، ولا نكاد نأخذ في الحديث حتى يتبين كل واحد منا أنه لم ينس صاحبه قط، وكأنما التقينا أمس واستأنفنا لقاءنا اليوم، فنحن نصل حديثا لم نقطعه إلا أمس، وإن كنا قد قطعناه منذ أعوام طوال.
ثم يريد الله أن يجمعنا بعد الافتراق مرة أخرى، فإذا نحن في الجامعة المصرية الجديدة نعمل معا في التعليم، بعد أن كنا نشتغل معا في التعلم، وإذا أحاديثنا تتصل في الجامعة الجديدة، كما كانت تتصل في الجامعة القديمة، وكما كانت تتصل في الأزهر الشريف، وإذا الأمر يتجاوز بيننا اتصال الأحاديث، فيجد كل منا لذة في أن يختلف إلى بعض ما يلقي صاحبه من دروس، ويشارك فيما يثير بين الطلاب من مناقشة أو حوار.
ثم تفرق الأيام بيننا - أستغفر الله - تحاول الأيام أن تفرق بيننا فلا تستطيع، أخرج من الجامعة وألزم داري حينا، وأشتغل بالسياسة العنيفة حينا آخر، ولكني ألقى صاحبي أكثر مما كنت ألقاه قبل المحنة، ويتصل الحديث بيننا أكثر مما كان يتصل قبل الأزمة، ثم أعاد إلى الجامعة، وإذا نحن نعود إلى الاشتراك في الدرس، ونمضي فيما كنا فيه من الجدل والحوار.
وكان النحو أشد موضوعات الحديث خطرا، وأكثرها جريانا فيما كان يكون بيننا من حوار. ضقنا بأصوله القديمة منذ عهد الأزهر، وأخذنا ننكر هذه الأصول أيام الجامعة القديمة، وأخذنا نلتمس له أصولا جديدة منذ التقينا في الجامعة الجديدة.
فأنت ترى أني حين أقدم إليك هذا الكتاب الجديد؛ إنما أقدم إليك صديقا قديما عرفته منذ عهد بعيد جدا، ورأيته يشب وينمو ويتطور حتى تم خلقه واستوى كما تراه في هذه الصفحات.
ولعلك بعد هذا تصدقني إن قلت لك إني الآن حائر لا أدري أي الطريقين آخذ؟ وأي الطريقين أدع؟ طريق الحديث عن الكتاب، أم طريق الحديث عن صاحب الكتاب؟ فكلاهما يملأ نفسي حبا وحنانا وإعجابا.
فأما الكتاب، فلأنه لا يصور الحياة العقلية لصاحبه وحده منذ أكثر من ربع قرن، ولكنه يصور طرفا من أطراف الحياة العقلية لي أنا أيضا، وإن صاحبي ليقرأ على الباب من أبواب الكتاب فلا أسمع صوت صاحبي، وإنما أسمع صوت إبراهيم، ولا أتجه إلى ما أسمع كما تعودت أن أتجه لما يقرأ علي من الكتب والأسفار، وإنما أتجه له في شيء من الاستعداد للمناقشة والتهيؤ للجدل والتأهب للنقد الشديد، كأني أناقش إبراهيم في مسألة من مسائل النحو، وما أعرف أني لقيته فأطلت لقاءه ثم افترقنا دون أن نلم بطرف من أطراف النحو ونخوض في مسألة من مسائله، ونستحضر قول هذا النحوي أو ذاك، ونحاول تخريج هذا البيت أو ذاك.
والكتاب بعد هذا أو قبل هذا يصور صاحبه أدق تصوير وأصدقه وأبرعه، فهو بريء كل البراءة من هذا الغلو الذي يمتاز به المجدون في لون من ألوان العلم، فإذا هم يفتنون بآرائهم الجديدة، ويفنون فيها، وينسون كل قصد واعتدال، ويتكلفون في سبيل ذلك ما يقبل وما لا يقبل من الرأي، ويحتملون في سبيل ذلك ما يطاق وما لا يطاق من التبعات.
والكتاب بريء من هذا كله، يزينه قصد صاحبه وإيثاره للاعتدال، تقرأه فلا تحس أنك تنتزع من النحو القديم انتزاعا، وإنما تحس أنك تمعن فيه إمعانا، وكأنك تقرأ كتب الأئمة المتقدمين من أعلام البصرة، أو الكوفة، أو بغداد.
علم غزير صحيح بأصول اللغة وفروعها، ومذاهب النحويين والأدباء في فهم هذه الأصول والفروع وتخريجها، وتحدث عن ذلك بلغة الرجل الذي ألفه وتعوده، فليس متكلفا له ولا محدثا فيه، وتواضع لا يفرضه صاحبه على نفسه ولا يحتال في الازديان به، وإنما هو صورة للطبع ومكون من مكونات المزاج.
تواضع تحسه، فيفيض في نفسك حب صاحبه، والميل إليه، والإعجاب به، والثقة بما يلقي إليك من الحديث، وأمانة في الرأي والنقل جيمعا، لا تكاد تمضي في الكتاب حتى تحسها قوية جلية، كأقوى ما تكون الأمانة وأجلاها، وإذا أنت ترى المؤلف يحاسب نفسه أشد الحساب كلما خطر له رأي، وكلما جرى قلمه بكلمة، أبغض الناس للتزيد، وأشد الناس انصرافا عن هذا التهاون مع النفس، الذي يبيح لكثير من الناس ما لا يباح للعالم الخليق بهذا الوصف.
ثم فقه بعد هذا كله بدقائق النحو ودخائله، ويجعله يضطرب في هذا العلم العويص الملتوي، كما يضطرب الرجل في بيت ألفه منذ نشأته، وعرف زواياه وخفاياه، فهو لا يخطو إلا عن علم، ولا يتقدم إلا عن بصيرة.
وهذا الفقه لدقائق النحو ودخائله، وهو الذي ملأ قلب إبراهيم حبا للنحو، وكلفا به، وحنينا إليه، وعطفا عليه؛ فهو يدرس النحو رفيقا به متلطفا في الدرس، كأنه يخاف أن يؤذيه أو يشق عليه، وكأنه يكره أن يناله بما لا يحب.
يقف عند مسألة من مسائل النحو، فيطيل النظر فيها مشغوفا بها، ثم إذا أرضى فيها حاجته عاد إليها فأطال الوقوف عندها والنظر فيها، متهما فهمه الأول، ملتمسا أشياء يشفق أن تكون قد غابت عنه، أو خفيت عليه. ثم هو يقلب المسألة على وجوهها المختلفة وأشكالها المتباينة، ثم هو لا يرضى بكتاب أو كتابين أو كتب، ولا يقنع فيها برأي إمام أو إمامين أو أئمة، ولكنه يستقصي ويمعن في الاستقصاء، وإذا المسألة التي يدرسها من مسائل النحو قد أصبحت عنده كائنا حيا له تاريخه، فهو يتتبع هذا التاريخ من أصوله، يرجع إلى أصل هذه المسألة كيف نشأت وكيف تصورها النحويون الأولون، وكيف تحدرت منهم إلى كتب الأجيال المختلفة من النحاة، وبأي طور مرت عند ذلك الجيل، وإلى أي طور انتقلت عند هذا الجيل، حتى إذا أرضى نفسه من هذا الاستقصاء - وما أصعب رضا نفسه! - عاد إلى المسألة يدرسها من جديد كأنه لم يدرسها من قبل، ولكنه في هذه المرة لا يلتمسها في كتب النحويين، وإنما في كلام العرب على اختلاف أجيالهم. يوازن بين ألوان هذا الكلام ويستخلص منه ما يرى أنه الحق، وإذا هو يتفق مع النحويين حينا ويخالفهم أحيانا، وليس هذا الكتاب إلا تصويرا لبعض النتائج التي وصل إليها من هذا الدرس المزدوج.
وإني لمعجب أشد الإعجاب بهذا الصبر الطويل، وهذا الجلد الذي لا أعرف له نظيرا في هذا الجيل الذي نعيش فيه، فليس يسيرا أن تعاشر النحويين فتطيل عشرتهم، فضلا عن أن تنفق حياتك كلها في مصاحبتهم، والتحدث إليهم، والتحدث عنهم.
والناس بعد يضيقون بالنحو ويتبرمون بحديثه، فما بالك برجل قد أصبح يضيق بكل شيء لا يتصل بالنحو، ويتبرم بكل حديث لا يمس النحو من قريب أو بعيد، حتى سميناه فيما بيننا بالفراء؟!
أنا معجب بهذا الصبر، ولكن إعجابي بنتائجه عظيم أيضا، وما رأيك في رجل يستطيع أن يؤرخ نشأة النثر العربي؛ يستخلص تاريخه لهذا الفن الأدبي العظيم من درس النحو وإطالة النظر فيه ، ويصل إلى نتائج باهرة حقا؟! وما رأيك في رجل يطيل النظر في النحو، فإذا هو يرد تفكير النحويين إلى تفكير الفلاسفة والمتكلمين من المسلمين، وإذا هو يرد قصور النحو وتقصيره إلى علته الطبيعية، وهي أن النحويين قد فلسفوا النحو، فقصروا به عن أن يذوق جمال العربية، ويصور ذوقها كما كان ينبغي أن يصور.
وهو لا يتحدث إليك بهذا كله حديث المدعي بغير دليل، أو المتكثر من غير طائل، ولكنه أمين دقيق، لا يقول إلا عن علم، ولا يرى إلا عن بصيرة، دليله معه دائما ودليله ملزم دائما؛ لأنه لا يحاول أن يقنعك إلا بعد أن يفرغ من إقناع نفسه، وليس إقناعه نفسه بالشيء اليسير.
أليس هذا كله خليقا أن يحبب إلي الحديث عن هذا الكتاب وتقديمه إليك؟!
أليس هذا كله خليقا أن يصرفني إلى الكتاب عن صاحبه؟! ولكن صاحب الكتاب كما قلت ملائم أشد الملاءمة لكتابه؛ لا ترى في الكتاب خصلة إلا وهي مستمدة من نفس صاحبه، ملائمة لطبعه، مشتقة من مزاجه، فهو أبعد الناس عن التكلف، وأبغضهم للتصنع، وأشدهم ترفعا عن الرياء.
ما في الكتاب من صدق اللهجة صورة ما في صاحبه من صدق الخلق، وما في الكتاب من الدقة والأمانة، صورة ما في صاحبه من الدقة والوفاء، وما في الكتاب من القصد والاعتدال، صورة ما في نفس صاحبه من التواضع الذي يكرم به الرجل، ويملأ قلوب الذين يعرفونه حبا وإكبارا ووفاء.
أقبل علي إبراهيم ذات يوم فقرأ علي فصولا من كتابه هذا، فأبيت عليه إلا أن يمضي في القراءة من الغد، وما زلنا كذلك، يقرأ وأسمع وأناقش، حتى فرغنا من قراءة الكتاب، ولم يكن يعرف له اسما، فاقترحت عليه هذا الاسم الذي رسمه به «إحياء النحو» فأكبره واستكثره وأشفق منه، وألححت أنه فيه، فلم يستطع لي خلافا.
وأنا أتصور إحياء النحو على وجهين؛ أحدهما: أن يقربه النحويون من العقل الحديث ليفهمه ويسيغه ويتمثله، ويجري على تفكيره إذا فكر، ولسانه إذا تكلم، وقلمه إذا كتب. والآخر: أن تشيع فيه هذه القوة التي تحبب إلى النفوس درسه ومناقشة مسائله، والجدال في أصوله وفروعه، وتضطر الناس إلى أن يعنوا به بعد أن أهملوه، ويخوضوا فيه بعد أن أعرضوا عنه.
وأشهد لقد وفق إبراهيم إلى إحياء النحو على هذين الوجيهن، فانظر في هذا الكتاب فسترى أن إبراهيم لا يعرض عليك علما ميتا، وإنما يعرض عليك علما حيا يبعث الحياة في الذوق.
ثم سترى إبراهيم لا يعرض عليك مسائل جامدة هامدة، ولكنه يفتح للنحويين طريقا إن سلكوها فلن يحيوا النحو وحده، ولكنهم سيحيون معه الأدب العربي أيضا.
ثم انتظر بهذا الكتاب وقتا قصيرا فسترى أني لم أغل ولم أسرف، حين زعمت في أول هذا الحديث أنه سيحفظ قوما، وسيدفعهم إلى الخصومة والجدال دفعا.
فالكتاب كما ترى، يحيي النحو لأنه يصلحه، ويحيي النحو لأنه ينبه إليه من اطمأنوا إلى الغفلة عنه، وحسبك بهذا إحياء.
أرأيت أني كنت خليقا أن أقف موقف الحائر؟! لا أدري أأتحدث عن الكتاب أم عن صاحبه، وأني خليق الآن بعد أن بينت لك مصدر هذه الحيرة أن أكتفي من تقديم هذا الكتاب إليك، بأن أسجل بهذه الكلمة القصيرة القاصرة ما يملأ قلبي من حب لإبراهيم، وما يملأ عقلي من إعجاب بكتاب إبراهيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا بحث من النحو، عكفت عليه سبع سنين وأقدمه إليك في صفحات، سبع سنين من أوسط أيام العمر وأحراها بالعمل، صدقت فيها الاعتكاف إلى النحو، وإلى ما يتصل بمباحثه، وأضعت له من حق الصديق والأهل والولد والنفس جميعا.
كان سبيل النحو موحشا شاقا، وكان الإيغال فيه ينقض قواي نقضا، ويزيدني من الناس بعدا، ومن التقلب في هذه الدنيا حرمانا، ولكن أملا كان يزجيني ويحدو بي في هذه السبيل الموحشة؛ أطمع أن أغير منهج البحث النحوي للغة العربية، وأن أرفع عن المتعلمين إصر هذا النحو، وأبدلهم منه أصولا سهلة يسيرة، تقربهم من العربية، وتهديهم إلى حظ من الفقه بأساليبها.
كانت بارقات الأمل - خادعة وصادقة - تدفعني في سبيلي، غير راحمة ولا وانية، فليكن ما أنفق من هذا العمر ذخرا في أعمار الدارسين من بعد، ولتكن شيخوخة هذا الشيخ فدى للعربية؛ أن تقرب من طالبيها، ويمهد السبيل لمتعلميها.
اتصلت بدراسة النحو في كل معاهده التي يدرس فيها بمصر، وكان اتصالا طويلا وثيقا؛ ورأيت عارضة واحدة، لا يكاد يختص بها معهد دون معهد، ولا تمتاز بها دراسة عن دراسة، هي التبرم بالنحو، والضجر بقواعده، وضيق الصدر بتحصيله؛ على أن ذلك من داء النحو قديما، ولأجله ألف «التسهيل» و«التوضيح» و«التقريب»، واصطنع النظم لحفظ ضوابطه، وتقييد شوارده.
والنحو مع هذا لا يعطيك عند المشكلة القول البات، والحكم الفاصل. قد يهدي في سهل القول، من رفع فاعل ونصب مفعول، فإذا عرض أسلوب جديد، أو موضع دقيق، لم يسعفك النحو بالقول الفصل، واختلاف الأقوال واضطراب الآراء وكثرة الجدل التي لا تنتهي إلى فيصل ولا حكم. كل ذلك قد أفسد النحو أو كاد، فلم يكن الميزان الصالح لتقدير الكلام، وتمييز صحيح القول من فاسده.
وإذا جئنا إلى مدارس الناشئين، كانت المشكلة في تعليمهم النحو أشد وأكد؛ فهو على ما تعلم من بعد تناوله، وصعوبة مباحثه، قد جعل المفتاح إلى تعلم العربية، وكتب على الناشئ أن يأخذ بنصيبه منه، منذ الخطوة الأولى في التعليم الابتدائي والثانوي. واختير له جملة من القواعد، قدر أنها تفي بما يحتاج إليه لإصلاح الكلام وتقويم اللسان، ثم كانت خصومة هادئة قاسية بين طبيعة التلميذ وبين هذا المنهاج والقائمين عليه. أما التلميذ فقد بذل الجهد وأعيا، ولم يبلغ من تعلم العربية أربا، وأما أصحاب المنهج فقد رأوا أن يزيدوا في منهجهم، ويكملوا للتلميذ حظه من القواعد، فلا سبيل له إلى العربية غير هذا النحو؛ فزادوا في هوامش كتبهم ما يكمل القواعد ويتمم الشروط - ثم تسللت هذه الزيادات إلى جوف الكتاب فضخم، وزاد المنهاج المفروض - ولكن طبيعة التلميذ الصادقة في إباء هذه القواعد، والتململ بحفظها، لم تخف شهادتها، ولم يستطع جحدها، فكانت ثورة على المنهاج وأصحابه، وخفف منه، وانتقص من مسائله، والداء لم يبرأ، والعوارض لم تتغير، وتكررت الشكوى ، وعادوا على المنهاج بالنقص، حتى كان المقرر قواعد من النحو مختلفة، كأنما هي نماذج يراد بها عرض نوع من مسائله.
قد كان في هذا، الشهادة الصريحة بفشل هذا النحو أن يكون السبيل إلى تعلم العربية، والمفتاح لبابها.
ولقد بذل في تهوين النحو جهود مجيدة، واصطنعت أصول التعليم اصطناعا بارعا، ليكون قريبا واضحا؛ على أنه لم يتجه أحد إلى القواعد نفسها، وإلى طريقة وضعها، فيسأل: ألا يمكن أن تكون تلك الصعوبة من ناحية وضع النحو وتدوين قواعده، وأن يكون الدواء في تبديل منهج البحث النحوي للغة العربية؟
هذا السؤال هو الذي بدا لي، وهو الذي شغلني جوابه طويلا.
ولقد تميز عندي نوعان من القواعد: نوع لا تجد في تعليمه عسرا، ولا في التزامه عناء، ولا ترى خلاف النحاة فيه كبيرا، وذلك كالعدد ورعاية أحكامه في مثل: قال رجلان والرجلان قالا، وقال رجال والرجال قالوا. فمع دقة الحكم في رعاية العدد، واختلافه تبعا لموضع الاسم والفعل من الجملة لا تجد العناء في تصوره، ولا المزلة في استعماله.
ونوع آخر لا يسهل درسه، ولا يؤمن الزلل فيه، وقد يكثر عنده خلاف النحاة، ويشتد جدلهم؛ كرفع الاسم أو نصبه في مواضع من الكلام.
ثم رأيت علامات العدد تصور جزءا من المعنى يحسه المتكلم حين يتكلم، ويدركه السامع حين يسمع. أما علامات الإعراب، فقل أن ترى لاختلافها أثرا في تصوير المعنى، وقل أن يشعرنا النحاة بفرق بين أن تنصب أو ترفع، ولو أنه تبع هذا التبديل في الإعراب تبديل في المعنى، لكان ذلك هو الحكم بين النحاة فيما اختلفوا فيه، ولكان هو الهادي للمتكلم أن يتبع في كلامه وجها من الإعراب.
فلو أن حركات الإعراب كانت دوال على شيء في الكلام، وكان لها أثر في تصوير المعنى، يحسه المتكلم ويدرك ما فيه من الإشارة ومن وجه الدلالة، لما كان الإعراب موضع هذا الخلاف بين النحاة، ولا كان تعلمه بهذه المكانة من الصعوبة، وزواله بتلك المنزلة من السرعة.
ألهذه العلامات الإعرابية معان تشير إليها في القول ؟ أتصور شيئا مما في نفس المتكلم، وتؤدي به إلى ذهن السامع؟ وما هي هذه المعاني؟
والعربية - لغة القصد والإيجاز - أتلتزم علامات الإعراب على غير فائدة في المعنى، ولا أثر في تصويره؟
لقد أطلت تتبع الكلام، أبحث عن معان لهذه العلامات الإعرابية، ولقد هداني الله - وله خالص الإخبات والشكر - إلى شيء أراه قريبا واضحا، وأبادر إليك الآن بتلخيصه: (1)
إن الرفع علم الإسناد، ودليل أن الكلمة يتحدث عنها. (2)
إن الجر علم الإضافة، سواء أكانت بحرف أم بغير حرف. (3)
إن الفتحة ليست بعلم على إعراب، ولكنها الحركة الخفيفة المستحبة، التي يحب العرب أن يختموا بها كلماتهم ما لم يلفتهم عنها لافت؛ فهي بمنزلة السكون في لغتنا الدارجة. (4)
إن علامات الإعراب في الاسم لا تخرج عن هذا إلا في بناء، أو نوع من الاتباع، وقد بيناه أيضا.
فهذا جماع أحكام الإعراب؛ ولقد تتبعت أبواب النحو بابا بابا، واعتبرتها بهذا الأصل القريب اليسير، فصح أمره، واطرد فيها حكمه.
ثم زدت في تتبع هذا الأصل، فتجاوزت حركات الإعراب، ودرست التنوين على أنه منبئ عن معنى في الكلام، فصح لي الحكم واستقام، وبدلت قواعد «ما لا ينصرف»، ووضعت للباب أصولا أيسر وأنفذ في العربية مما رسم النحاة للباب، ولا أؤجل عنك إجمال هذه الأصول أيضا: (1)
إن التنوين علم التنكير. (2)
لك في كل علم ألا تنونه، وإنما تلحقه التنوين إذا كان فيه حظ من التنكير. (3)
لا تحرم الصفة التنوين حتى يكون لها حظ من التعريف.
والبحث الذي أقدمه إليك الآن، هو شرح موجز لهذه الفكرة، ودرس لها في أبواب النحو المختلفة، وبيان لما رأينا من الأدلة لتأييدها.
وكنت أريد أن أشكر لصديقي الدكتور طه حسين، وأذكر فضله في إتمام البحث وإخراج الكتاب؛ ولكنه آثر أن يقدم الكتاب، وانزلق إلى الثناء على صاحبه، فأجررت أن أتكلم.
وحق علي أن أشكر تلاميذي الذين عاونوني في شيء من المباحث، وإن لم أملك الآن أن أسميهم وأعمالهم.
وأحمد الله حمدا ملؤه التوحيد والتمجيد والشكر.
حد النحو كما رسمه النحاة
يقول النحاة في تحديد علم النحو: إنه علم يعرف به أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء.
1
فيقصرون بحثه على الحرف الأخير من الكلمة، بل على خاصة من خواصه، وهي الإعراب والبناء، ثم هم لا يعنون كثيرا بالبناء ولا يطيلون البحث في أحكامه، وإنما يجعلون همهم منه بيان أسبابه وعلله.
فغاية النحو بيان الإعراب وتفصيل أحكامه، حتى سماه بعضهم علم الإعراب؛
2
وفي هذا التحديد تضييق شديد لدائرة البحث النحوي، وتقصير لمداه، وحصر له في جزء يسير مما ينبغي أن يتناوله، فإن النحو - كما ترى، وكما يجب أن يكون - هو قانون تأليف الكلام، وبيان لكل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة، والجملة مع الجمل، حتى تتسق العبارة ويمكن أن تؤدي معناها.
وذلك أن لكل كلمة وهي منفردة معنى خاصا تتكفل اللغة ببيانه، وللكلمات مركبة معنى؛ هو صورة لما في أنفسنا، ولما نقصد أن نعبر عنه ونؤديه إلى الناس. وتأليف الكلمات في كل لغة يجري على نظام خاص بها، لا تكون العبارات مفهمة ولا مصورة لما يراد حتى تجري عليه، ولا تزيغ عنه.
والقوانين التي تمثل هذا النظام وتحدده تستقر في نفوس المتكلمين وملكاتهم، وعنها يصدر الكلام، فإذا كشفت ووضعت ودونت فهي علم النحو.
ولو عرضت عليك جملة من لغة لا تعرفها، وبينت لك مفرداتها كلمة كلمة، ما كان ذلك كافيا في فهمك معنى الجملة، وإحاطتك بمدلولها، حتى تعرف نظام هذه اللغة في تأليف كلماتها، وبناء جملها، وذلك هو نحوها.
وكثير من اللغات لا إعراب فيها، ولا تبديل لآخر كلماتها، ولها مع ذلك نحو وقواعد مفصلة تبين نظام العبارة، وقوانين تأليف الكلم.
فالنحاة حين قصروا النحو على أواخر الكلمات وعلى تعرف أحكامها قد ضيقوا من حدوده الواسعة، وسلكوا به طريقا منحرفة إلى غاية قاصرة، وضيعوا كثيرا من أحكام نظم الكلام وأسرار تأليف العبارة.
فطرق الإثبات، والنفي، والتأكيد، والتوقيت، والتقديم، والتأخير، وغيرها من صور الكلام قد مروا بها من غير درس، إلا ما كان منها ماسا بالإعراب، أو متصلا بأحكامه، وفاتهم لذلك كثير من فقه العربية ، وتقدير أساليبها.
نعم؛ ربما تعرضوا لشيء من هذه الأحكام حين يضطرون إليها لبيان الإعراب وتكميل أحكامه؛ فقد تكلموا في وجوب الصدارة لأسماء الاستفهام وبعض أدوات النفي، حين أرادوا شرح التعليق وبيان مواضعه، ولزمهم أن يحصوا من الأدوات ما يحجب ما قبله عن العمل فيما بعده، وبينوا بعض الأدوات التي يجب أن يليها فعل، والتي لا يليها إلا اسم، حين أرادوا تفصيل أحكام الاشتغال، ولكن هذه المباحث جاءت متفرقة على الأبواب، تابعة لغيرها، فلم يستوف درسها ولا أحيط بأحكامها.
فالنفي مثلا كثير الدوران في الكلام، مختلف الأساليب في العربية، متعدد الأدوات - ينفى بالحرف، وبالفعل، وبالاسم - وكان جديرا أن يدرس منفردا لتعرف خصائصه، وتميز أنواعه وأساليبه، ولكنه درس مفرقا على أبواب الإعراب ممزقا كما ترى: (أ) «ليس» درست في باب كان لأنها تعمل عملها، على أن «كان» للإثبات و«ليس» للنفي، وعلى أن «كان» للمضي و«ليس» للحال، ولكن العمل وحده - وهو الحكم اللفظي - كان سبب التبويب والتصنيف. (ب) «ما، وإن» درستا في باب ألحق بكان؛ لأنهما يماثلانها في العمل أحيانا. (ج) «لا» درست ملحقة بكان، ثم تابعة لإن؛ إذ كانت تماثل الأولى في العمل مرة، وتماثل الثانية فيه مرة أخرى. وهذا الحرف أكثر استعماله أن يكون مهملا، ويتصرف إذن في النفي تصرفا واسعا، ولكن النحاة لا يعنون به إلا أن يكون عاملا، وأن يكون ذا أثر في الإعراب. (د) «غير، وإلا، وليس» تدرس في باب الاستثناء. (ه) «لن» في نصب الفعل. (و) «لم» و«لما» في جزمه.
درست هذه الأدوات كما ترى مفرقة، ووجهت العناية كلها إلى بيان ما تحدث من أثر في الإعراب، وأغفل شر إغفال درس معانيها، وخاصة كل أداة في النفي، وفرق ما بينها وبين غيرها في الاستعمال. ولو أنها جمعت في باب وقرنت أساليبها، ثم ووزن بينها، وبين منها ما ينفي الحال وما ينفي الاستقبال وما ينفي الماضي، وما يكون نفيا لمفرد، وما يكون نفيا لجملة، وما يخص الاسم، وما يخص الفعل، وما يتكرر، لأحطنا بأحكام النفي وفقهنا أساليبها، ولظهر لنا من خصائص العربية ودقتها في الأداء شيء كثير أغفله النحاة، وكان علينا أن نتتبعه ونبينه.
ومثل النفي في ذلك التأكيد يدرسونه في «باب إن»، ويقرنون «بإن» المؤكدة «أن» الواصلة، «وليت» المتمنية؛ لأنها أدوات تتماثل في العمل، وإن تباعد ما بينها في المعنى والغرض. وفي باب الفعل يذكرون نوني التوكيد وأحكامهما لأثرهما في إعرابه. وفي بحث التوابع يجعلون للتوكيد بابا خاصا يذكرون فيه عددا من الكلمات، حكمها في الإعراب حكم ما قبلها.
ولو جمعت أساليب التوكيد في العربية - ما ذكر هنا وما لم يذكر - وبين ما يكون تنبيها للسامع، وما يكون تأكيدا للخبر، وما يكون تقوية لرغبة، لكان أقرب إلى أن تدرس كل أنواع التوكيد، ويبين لكل نوع موضعه؛ ولكان أدنى إلى توضيح أساليب العربية وسرها في التعبير.
والزمن جعله النحاة ثلاثة أنواع: الماضي، والحال، والمستقبل. وجعلوا للدلالة عليها صيغتين
3
فقط: الفعل الماضي، والفعل المضارع. وكفاهم ذلك؛ لأن أحكام الإعراب لا تكلفهم أكثر منه، ولم يحيطوا بشيء من أنواع الزمن وأساليب الدلالة عليه، وهي في العربية أوسع من هذا وأدق. يدل على الزمن بالفعل، وبالاسم، وبالفعل والفعل، وبالفعل والاسم، وبالحرف. ولكل أسلوب من هذه جزء من الزمن محدود يدل عليه.
وليس لهذه الأبحاث من موضع يجب أن تفصل وتبين أحكامها فيه إلا علم النحو.
وقد ذكرنا هذه الأمثلة لنبين أن النحاة حين قصروا النحو على البحث في أواخر الكلم قد أخطأوا إلى العربية من وجهين:
الأول:
أنهم حين حددوا النحو وضيقوا بحثه، حرموا أنفسهم وحرمونا؛ إذ اتبعناهم من الاطلاع على كثير من أسرار العربية وأساليبها المتنوعة، ومقدرتها في التعبير؛ فبقيت هذه الأسرار مجهولة، ولم نزل نقرأ العربية ونحفظها ونرويها، ونزعم أننا نفهمها ونحيط بما فيها من إشارة، وبما لأساليبها من دلالة. والحق أنه يخفى علينا كثير من فقه أساليبها، ودقائق التصوير بها.
الثاني:
أنهم رسموا للنحو طريقا لفظية، فاهتموا ببيان الأحوال المختلفة للفظ من رفع أو نصب من غير فطنة لما يتبع هذه الأوجه من أثر في المعنى. يجيزون في الكلام وجهين أو أكثر من أوجه الإعراب، ولا يشيرون إلى ما يتبع كل وجه من أثر في رسم المعنى وتصويره. وبهذا يشتد جدلهم ويطول احتجاجهم، ثم لا ينتهون إلى كلمة فاصلة.
على أن هذا السبيل المحدود، وتلك الغاية القاصرة، لم يصر إليها النحاة عرضا، ولكن كان في مساق التاريخ ما رسم الطريق وحدده.
وسنشير إلى شيء من هذا التاريخ لا لنعتذر عن النحاة فحسب، ولكن لنهتدي به ولنسلك في درس النحو أهدى سبيل وأجداه.
وجهات البحث النحوي
كان العرب شديدي العناية بالإعراب، وكان حسهم به دقيقا يقظا، يعدونه عنوان الثقافة التامة، والأدب الرفيع، والخلق المهذب، قالوا: اللحن هجنة على الشريف. وكان الرجل منهم إذا تكلم فلحن سقط من أعينهم، وكان خالد بن صفوان يحسن الكلام ويلحن في الإعراب، فقال له مرة بلال بن أبي بردة: «تحدثني حديث الخلفاء وتلحن لحن السقاءات!»
وكان العرب يرقبون ذلك من أنفسهم، ويتعمدون الإعراب ويحرصون عليه أن يخطئوه، يروون لعبد الملك بن مروان أنه قال: «شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن.»
ويروون عن الحجاج بن يوسف - وهو ما تعلم من الفصاحة وقوة البيان - أنه كان يسأل يحيى بن يعمر النحوي: «أتراني ألحن؟» ويشدد عليه أن يبين له ما يسمعه منه من لحن.
أما أبو الأسود الدؤلي الكناني فكان يقول: «إني لأجد للحن غمرا
1
كغمر اللحم.»
فلما وقع اللحن في القرآن كان أثره عليهم أشد، وكان إليهم أبغض، فبادروا إلى إعراب القرآن وضبط كلماته بنقط يكتبونها عند آخر الكلمات تدل على حركاتها - وكان ذلك عمل أبي الأسود في النحو، وعمل طبقتين من النحاة بعده؛ يعربون المصحف، أي: يضبطون أواخر كلماته بالنقط، ويرسلون المصاحف في الناس يهتدون في القراءة بها وتكون لهم إماما.
وقد أطالوا بذلك مراقبة أواخر الكلمات، وربما اختلفوا فيها، وتجادلوا عندها. وطول هذه المراقبة ودأبهم عليها هداهم إلى كشف سر من أسرار العربية عظيم؛ وهو أن هذه الحركات ترجع إلى علل وأسباب يطرد حكمها في الكلام، ويمكن الرجوع إليها والاحتجاج بها.
وقد أعجبوا بهذا الكشف إعجابا عظيما فألحوا في الدرس وفي تتبع الأواخر والكشف عن أسرار تبديلها؛ وسموا ما كشفوا أول الأمر - علل الإعراب - أو علل النحو، ثم لم يلبثوا أن أوجزوا فسموها علم النحو أو الإعراب، ولم يمض عليهم زمن طويل، مذ هدوا إلى علل الإعراب، حتى كانوا قد أحاطوا بها ودونوها، وجمعها سيبويه في كتابه الذي لم يزل من بعده إمام النحاة.
وإذا كانت فتنة النحاة بما كشفوا قد دفعتهم إلى التسابق في الكشف، وإلى التعمق في البحث حتى أحاطوا بقواعد الإعراب في سرعة معجزة؛ فإنها صرفتهم عن درس ما سوى الإعراب مما في العربية من قواعد لربط الكلام وتأليف الجمل.
وقد بدا لبعض النحاة مسلك آخر في درس العربية يتجاوز الإعراب إلى غيره من القواعد العربية؛ فألف أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 208 كتابا في «مجاز القرآن»، حاول أن يبين ما في الجملة العربية من تقديم أو تأخير أو حذف أو غيرها، وكان بابا من النحو جديرا أن يفتح، وخطوة في درس العربية حرية أن تتبع الخطة الأولى في الكشف عن علل الإعراب، ولكن النحاة - والناس من ورائهم - كانوا قد شغلوا بسيبويه ونحوه وفتنوا كل الفتنة، حتى كان الإمام أبو عثمان المازني المتوفى سنة 247 يقول: «من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستح.»
2
فلم تتجه عنايتهم إلى شيء مما كشف عنه أبو عبيدة في كتاب مجاز القرآن، وأهمل الكتاب ونسي، ووقع بعض الباحثين في أيامنا على اسمه فظنوه كتابا في البلاغة. وما كانت كلمة المجاز إلى ذلك العهد قد خصصت بمعناها الاصطلاحي في البلاغة، وما كان استعمال أبي عبيدة لها إلا مناظرة لكلمة النحو في عبارة غيره من علماء العربية؛ فإنهم سموا بحثهم «النحو»؛ أي: سبيل
3
العرب في القول، واقتصروا منه على ما يمس آخر الكلمة. وسمي بحثه المجاز؛ أي: طريق التعبير، وتناول غير الإعراب من قوانين العبارة العربية، ولم يكثر ما أكثر سيبويه وجماعته، ولم يتعمق ما تعمقوا، ولا أحاط إحاطتهم، ولكنه دل على سبيل تبصرة انصرف الناس عنها غافلين، وقد بقي لنا من هذا الكتاب جزء يسير ننقل منه ما يبين أسلوب بحثه، ويصدق ما ذهبنا إليه من رأي في تقديره.
بدأ كتابه بمقدمة ذكر فيها كثيرا من أنواع المجاز التي يقصد إلى درسها، ثم أخذ في تفسير القرآن الكريم كله، يبين ما في آياته من مجاز على المعنى الذي أراد.
فمن المقدمة قوله: «ومن مجاز ما خبر عن اثنين مشتركين أو عن أكثر من ذلك فجعل بعض الخبر لبعض دون بعض، وكف عن خبر الباقي، قال:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله . ومن مجاز ما جعل في هذا الباب الخبر للأول منهما أو منهم، قال:
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها . ومن مجاز ما جعل في هذا الباب الخبر للآخر منهما أو منهم، قال:
ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا
ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الغائب ومعناه الشاهد، قال:
الم * ذلك الكتاب
مجازه الم هذا القرآن.
4
ومن مجاز ما جاء مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تركت وحولت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، قال الله تعالى:
حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم
أي: بكم. ومن مجاز ما جاء خبرا عن غائب ثم خوطب الشاهد، قال:
ثم ذهب إلى أهله يتمطى * أولى لك فأولى .
ثم قال: ومن مجاز المكرر للتأكيد، قال:
إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين
أعاد الرؤية، وقال:
أولى لك فأولى
أعاد اللفظ، وقال:
فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة
وقال:
تبت يدا أبي لهب وتب
ومن مجاز المقدم والمؤخر، قال:
فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت
أراد ربت واهتزت ... ومن مجاز ما يحول خبره إلى شيء من سببه ويترك خبره هو، قال:
فظلت أعناقهم لها خاضعين
حول الخبر إلى الكناية التي في آخر الأعناق.
ثم قال: «وكل هذا جائز معروف قد يكلمون به.»
فهذا مثال مما جاء في مقدمة الكتاب، ومن التفسير قوله : «مالك يوم الدين» نصب على النداء وقد تحذف ياء النداء مجازه «مالك يوم الدين»؛ لأنه يخاطب شاهدا، ألا تراه يقول:
إياك نعبد
فهذه حجة لمن نصب، ومن جر قال: هما كلامان ... ومجاز من جر «مالك يوم الدين» أنه حدث عن مخاطبة غائب، ثم راجع فخاطب شاهدا، فقال:
إياك نعبد وإياك نستعين
قال عنترة:
شطت مزار العاشقين فأصبحت
عسرا علي طلابك ابنة مخرم
5
قال أبو كبير الهذلي:
يا لهف نفسي كان حرة وجهه
وبياض وجهك للتراب الأعفر
غير المغضوب عليهم ولا الضالين
مجازها غير المغضوب عليهم والضالين، ولا من حروف الزوائد والمعنى إلغاؤها.
قال العجاج:
في بئر لا حور سرى ولا شعر
أي في بئر حور: أي هلكة.
وقال أبو النجم:
فما ألوم البيض ألا تسخرا
لما رأين الشمط القفندرا
القفندر: القبيح الفاحش؛ أي: فما ألوم البيض أن يسخرن.
وقال:
ويلحينني في اللهو ألا أجيبه
وللهو داع دائب غير غافل
والمعنى: ويلحينني في اللهو أن أجيبه. وفي القرآن آية أخرى:
قال ما منعك ألا تسجد
مجازها ما منعك أن تسجد.
6
ا.ه.
ولقد نكون أطلنا الاقتباس ولكنه مثل من البحث النحوي نريد أن نجليه للناس، وندعوهم إليه ونستزيدهم منه - لعلهم يذوقون من سر العربية ونظم تأليفها ما يتجاوز آخر الكلمة وحكم إعرابه.
وجاء بعد ذلك بآماد الشيخ عبد القاهر الجرجاني، المتوفى سنة 471، ورسم في كتابه دلائل الإعجاز طريقا جديدا للبحث النحوي، تجاوز أواخر الكلم وعلامات الإعراب، وبين أن للكلام «نظما» وأن رعاية هذا النظم واتباع قوانينه هي السبيل إلى الإبانة والإفهام، وأنه إذا عدل بالكلام عن سنن هذا النظم لم يكن مفهما معناه، ولا دالا على ما يراد منه، وضرب المثل لذلك بالمطلع المشهور، وهو:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
لو خولف فيه «النظم» وعدل به عن سننه وقواعده، فقيل:
نبك قفا حبيب من ومنزل ذكرى
لكان لغوا من الكلام وعبثا. ثم بين أن هذا النظم يشمل ما في الكلام من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وفصل ووصل، وعدول عن اسم إلى فعل، أو عن صيغة إلى أخرى، وغير هذا من سائر أحوال الكلمة إذا ألفت مع غيرها لتفهم.
ثم بين أنه ليس شيء من هذا «النظم» إلا وبيانه إلى علم النحو. قال في صفحة 61 من دلائل الإعجاز:
7 «واعلم أنه ليس النظم إلا أن تضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت فلا تخل بشيء منها؛ وذلك أنا لا نعلم شيئا يتبعه الناظم بنظمه، غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه، فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك: زيد منطلق، وزيد ينطلق، وينطلق زيد، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق. وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك: إن تخرج أخرج، وإن خرجت خرجت، وإن تخرج فأنا خارج، وأنا خارج إن خرجت، وأنا إن خرجت خارج ... وينظر في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، وفي الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيضع كلا من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له. هذا هو السبيل فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه؛ واستعمل في غير ما ينبغي له.» ا.ه.
وكرر عبد القاهر بيان هذا المعنى في مواضع من كتابه، وبالغ في الاستدلال له، وكأنه أحس ذلك من صنيعه، فقال: «واعلم أنه وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أنه لا معنى للنظم غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم، قد بلغت من الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى الغاية، وإلى أن تكون الزيادة عليه، كالتكلف لما لا يحتاج إليه، فإن النفس تنازع إلى تتبع كل ضرب من الشبهة.»
8
إلخ.
وفي الحق أن الإمام أبا بكر قد بلغ أقصى الجهد في تصوير رأيه وتوضيحه، وفي الاستدلال له وتأييده، وأنه تركه بعد في غموض، وخلى العلماء منه في اضطراب.
فجمهور النحاة لم يزيدوا به في أبحاثهم النحوية حرفا، ولا اهتدوا منه بشيء، وآخرون منهم أخذوا الأمثلة التي ضربها عبد القاهر بيانا لرأيه، وتأييدا لمذهبه، وجعلوها أصول علم من علوم البلاغة سموه: «علم المعاني»، وفصلوه عن النحو فصلا أزهق روح الفكرة وذهب بنورها. وقد كان أبو بكر يبدي ويعيد في أنها معاني النحو، فسموا علمهم: «المعاني»، وبتروا الاسم هذا البتر المضلل.
كان الذي صرف النحاة عن «مجاز» أبي عبيدة فتنتهم بنحو سيبويه، وقرب عهدهم بكشفه، أما «نظم» عبد القاهر، فقد كان نصيبه أبخس، وشغل الناس عن فهمه أمران:
الأول:
عام يتصل بحال العلم في القرن الخامس، عصر أبي بكر، إذ كانت العقول قد همدت وقيدت بسلاسل من التقليد حرمت عليها أن تقبل أي ابتداع أو تجديد.
الثاني:
خاص يعود إلى طبيعة المذهب، وأن أساسه الذوق وتنبه الحس اللغوي لزنة الأساليب ودرك خصائصها. وقد كانت العجمة إذ ذاك غالبة بغلبة الأعاجم، والعلماء واقفون من علم العربية عند ظاهر لفظها، لا يبلغ بهم الحس اللغوي أن يذوقوا ما ذاق عبد القاهر، ولا أن يدركوا ما أدرك، فاضطر إلى مضاعفة الجهد في الكشف عن رأيه والاحتجاج له، ثم كتب له أن يخلي رأيه - على وضوحه - غامضا يعرض عنه قوم ويحرفه آخرون.
ولقد آن لمذهب عبد القاهر أن يحيا، وأن يكون هو سبيل البحث النحوي، فإن من العقول ما أفاق لحظه من التفكير والتحرر، وإن الحس اللغوي أخذ ينتعش ويتذوق الأساليب، ويزنها بقدرتها على رسم المعاني، والتأثير بها، من بعد ما عاف الصناعات اللفظية، وسئم زخارفها.
وإجمال ما في هذا الفصل أن حس العرب بالإعراب وإكرامهم له دعاهم أن يضبطوا بالنقط آخر الكلمات في القرآن الكريم حين يكتبونه، وأن ممارسة النحاة لهذا الضبط هدتهم إلى كشف علل الإعراب، فكان علم النحو؛ وأن اتجاههم إلى أواخر الكلمات وضبط قواعدها قد صرفهم عما كان ينبغي لهم أن يدرسوه من سائر نحو اللغة، وأنه قد كان من أئمتهم من دلهم على أهدى مما بأيديهم من قواعد الإعراب، فأغفلوه وأعرضوا عنه، موفرين جهدهم على درس الإعراب.
وننظر الآن مبلغ ما كشفوه من سر الإعراب.
أصل الإعراب
أكب النحاة على درس الإعراب وقواعده فوق ألف عام، لا يعدلون به شيئا، ولا يرون من خصائص العربية ما ينبغي أن يشغلهم دونه، وألفوا فيه الأسفار الطوال، وأكثروا من الجدل والمناقشة في تعليله وفلسفته، حتى تركوا نحو العربية أوسع الأنحاء أسفارا وتأليفا وفلسفة وجدلا، فماذا بلغوا من كشف سر الإعراب وبيان حقيقته؟
أساس كل بحثهم فيه أن «الإعراب أثر يجلبه العامل»، فكل حركة من حركاته، وكل علامة من علاماته، إنما تجيء تبعا لعامل في الجملة - إن لم يكن مذكورا ملفوظا، فهو مقدر ملحوظ - ويطيلون في شرح العامل وشرطه ووجه عمله، حتى تكاد تكون نظرية العامل عندهم هي النحو كله.
أليس النحو هو الإعراب، والإعراب أثر العامل؟! فلم يبق إذن للنحو إلا أن يتتبع هذه العوامل، يستقرئها ويبين مواضع عملها، وشرط هذا العمل؛ فذلك كل النحو.
وعلى هذا ألفت كتب تجمع قواعد النحو بعنوان «العوامل»؛ فألف الإمام أبو علي الفارسي المتوفى سنة 377 كتاب العوامل ومختصره؛ وألف الشيخ عبد القادر الجرجاني المتوفى سنة 471 كتاب «العوامل المائة»، وهو باق بأيدينا، محيط بقواعد النحو، جعل منهاجا للتعليم زمنا، وتوفر الناس على درسه وشرحه، كما جعلت ألفية ابن مالك إلى هذا العهد.
ودونوا للعامل شروطا وأحكاما هي عندهم فلسفة النحو، وسر العربية، سنجمع هنا من كلامهم ومن ثنايا أدلتهم وحججهم ما يشرح لك أصول نظرياتهم في العامل. قالوا: (1)
كل علامة من علامات الإعراب فهي أثر لعامل، إن لم تجده في الجملة وجب تقديره، وقد يكون هذا العامل واجب الحذف لا يصح أن ينطق به في كلام، ولكنه من المحتوم أن يقدر، وقد يقدر في الجملة عاملان مختلفان كما في: إياك والأسد.
1
وسقيا
2
لك. (2)
لا يجتمع عاملان على معمول واحد، فإذا وجد ما ظاهره أنه سلط عاملان على معمول، جعلوا لأحد العاملين التأثير في اللفظ وللآخر التأثير في الموضع، كما في «بحسبك هذا» و«رب رجل لا يحمل قلب رجل»؛ فلرب والباء العمل في اللفظ، والكلمتان بعدهما مرفوعتان محلا للابتداء.
ولرفضهم أن يعمل عاملان في معمول واحد خلقوا باب التنازع في العمل وما فيه من قواعد وأحكام ليس يخفى ما بها من اعتساف وتعقيد. (3)
الأصل في العمل للأفعال، وهي تعمل في الأسماء فقط، فترفعها وتنصبها، ولكنها لا تجر، ولا ترفع إلا اسما واحدا، وتنصب اسما أو أكثر، وتعمل الرفع والنصب معا. (4)
كلما كان الفعل أمكن في باب الفعلية كان أوفر من العمل حظا، فالفعل الجامد عامل ضعيف، لا يعمل فيما يتقدمه، وقد لا يعمل إلا بشروط تحد عمله، كفعل التعجب، ونعم وبئس؛ لا يرفع الأول إلا ضميرا مستترا واجب الاستتار. ولمرفوع نعم وبئس من الشروط ما هو مبين في بابه، كذلك الفعل الناقص محدود العمل لا يعمل إلا في المبتدأ والخبر، وقد يشترط لعمله شروط، كسبق النفي أو غيره. (5)
يكون الاسم عاملا - ويحمل في ذلك على الفعل - فيجب أن يتحقق له شبه بالفعل يقربه منه ويؤهله لحكمه، كما ترى في اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر. ويناط نصيبه من العمل بحظه من شبه الفعل، فيكون أقوى عملا إذا اتصل به ما يقربه من الفعل ويتمم شبهه به، كاعتماد اسم الفاعل على نفي أو استفهام، أو وقوعه صلة لأل، ويكون أضعف إذا طرأ له ما يبعده عن الفعل؛ كاسم التفضيل. فإنه لما قرن بمن كان بمنزلة المضاف فضعف شبهه بالفعل وقل عمله، واقتصر على رفع الضمير وامتنع أن يرفع الظاهر، وكالمصدر إذا صغر أبعده التصغير عن شبه الفعل فحرم العمل. والاسم يعمل في الاسم وفي الفعل، فيرفع الاسم وينصبه، ويجزم الفعل ولكن لا ينصبه. (6)
وللحرف طريقتان في العمل:
الأولى:
أن يكون أصلا فيه غير محمول على الفعل.
الثانية:
أن يعمل حملا على الفعل؛ وهو أبعد في العمل مسلكا، يعمل في الاسم وفي الفعل، فيرفع الاسم وينصبه ويجره، ويجزم الفعل وينصبه، ويعمل الجزمين معا كما في أدوات الشرط، ولا يعمل الرفع إلا إذا عمل النصب معه. يقول النحاة: «ليس لنا حرف يعمل الرفع إلا وهو يعمل النصب معا.»
وإذا عمل الحرف حملا على الفعل كان نصيبه من العمل بمقدار ما فيه من مشابهة الفعل معنى ولفظا؛ فإن تعمل لأنها تدل على التأكيد فأشبهت الفعل معنى، ولأنها ثلاثية فأشبهته صورة؛ فإذا خففت ضعف شبهها فقل عملها. قال ابن مالك:
وخففت إن فقل العمل
قال الشراح: وذلك لبعدها عن شبه الفعل في اللفظ بتخفيفها. (7)
إن الحرف لا يعمل في نوع من الكلمات حتى يكون مختصا به؛ «فلم ولن» عاملتان في المضارع لاختصاصهما به، و«قد» لم تعمل لدخولها على الماضي والمضارع، و«هل» الاستفهامية حرمت العمل؛ لأنها قد تدخل على الاسم كما تدخل على الفعل. (8)
يعمل الحرف في موضع عملا وفي غيره عملا آخر، مثل «لا» تحمل على «ليس» فتعمل عملها، وعلى «إن» فتكون مثلها. (9)
مرتبة العامل التقدم، وإذا كان العامل قويا أمكن أن يعمل متقدما ومتأخرا، فإذا كان ضعيفا لم يعمل إلا متقدما. (10)
الأصل ألا يفصل العامل من معموله، ويمكن تجاوز هذا في الفعل لقوته، وفي الاسم حملا عليه، أما الحرف فلا يجوز الفصل بينه وبين معموله. (11)
العوامل في الأفعال أضعف من العوامل في الأسماء، فعوامل الأسماء متى توفرت شروطها وجب إعمالها، أما عوامل الأفعال فقد تلغى وكل شروطها مستوفاة؛ كأدوات الشرط، وواو المعية، وفاء السببية. (12)
يمكن أن تكون الكلمة عاملة ومعمولة معا، ولكن الكلمتين لا تتبادلان العمل فتكون كل منهما عاملة في الأخرى معمولة لها. (13)
جزء الكلمة لا يكون عاملا فيها. (14)
قد يعترض العامل ما يلغي عمله أو يكفه عنه، وقد يعترضه ما يعلقه عن العمل فيكون عاملا في المحل وليس له من أثر في اللفظ، فللعامل ثلاث حالات: الإعمال، والتعليق، والإلغاء. ولكل موضع. (15)
كل جماعة من العوامل تشابهت في العمل تكون أسرة واحدة، كباب إن، وباب كان، وتكون أداة من هذه الأدوات أوسع عملا فتسمى «أم الباب»، ولها من الحقوق في العمل والتصرف في الباب ما ليس لغيرها من أدواته. فكان أم الأفعال الناقصة، وإن أم الأدوات التي تنصب الأول وترفع الثاني، وإن تباعد ما بينها في المعنى؛ لأن اتفاق العمل وحده هو الأصل في تقسيم هذه الأسر، وتحديد أبوابها.
ولما تكونت للنحاة هذه الفلسفة حكموها في اللغة، وجعلوها ميزان ما بينهم من جدل في المذاهب، ومناقشة في الآراء والبصريون أحرص على هذه الفلسفة وأمهر فيها؛ على أن الكوفيين لا يغفلونها ولا يأبون الاحتجاج بها، فهي دستور النحاة جميعا: (1)
يؤيدون بها مذهبا على مذهب. فإذا قال الكسائي: إن عامل الرفع في الفعل المضارع حرف المضارعة، قالوا: إن حرف المضارعة صار كالجزء من الفعل، وإن جزء الكلمة لا يعمل فيها، ويرفضون بذلك مذهبه. ويقول الكوفيون: إن المبتدأ رفع بالخبر، والخبر رفع بالمبتدأ. فيقول البصريون: إن الكلمتين لا تتبادلان العمل حتى يكون كل منهما عاملا معمولا. فذلك مثل من حوارهم واحتكامهم إلى فلسفتهم في العامل. (2)
بل هم يتجاوزون ذلك إلى تفضيل لغة من لغات العرب على أخرى بأصول فلسفتهم هذه؛ فيفضلون لغة تميم على لغة أهل الحجاز في «ما»؛ وذلك أن الحجازيين يعملون «ما» عمل «ليس» كما تعلم، ومنه في القرآن الكريم
ما هذا بشرا ، وبنو تميم يهملونها ويرفعون جزءي الجملة بعدها؛ فيقول النحاة: إن لغة تميم أقيس؛ لأن «ما» لا تختص بالدخول على الاسم، فليس من قياسها أن تكون عاملة فيه. ويرون أن هذه الفلسفة جعلتهم أفقه بالعربية من العرب. (3)
ويرفضون بهذه القواعد بعض الأساليب العربية؛ يسمعون من العرب «رب والله رجل.» فيردونه على قائله، محتجين بأن حرف الجر عامل ضعيف لا يفصل بينه وبين معموله. وكذلك يرفضون الفصل بين المضاف والمضاف إليه، ثم يروى هذا الفصل كثيرا في الشعر، ويقرأ به قارئ من السبعة آية من القرآن الكريم، فيصر النحاة على الإخلاص لفلسفتهم النحوية، وقبول حكمها، ورفض ما ورد من هذا الفصل في الشعر، وتضعيف رواية القارئ في القرآن. (4)
يشرعون بها أساليب في العربية لم يسمعوها من العرب، يقيسونها على ما سمعوا. وآلة القياس من هذه الفلسفة، مثلا: يختلفون في خبر «ليس» أيقدم عليها؟ فيجيب قوم: لا؛ لأن «ليس» فعل غير متصرف؛ فهو عامل ضعيف لا يتقدم عليه معموله نظير نعم وبئس وعسى وفعل التعجب. ويقول آخرون: بل يصح؛ لأنه قد ورد في القرآن الكريم
ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم
وقد تقدم في هذه الآية معمول الخبر، وهو دليل على جواز تقدم الخبر نفسه؛ لأن «المعمول لا يتقدم إلا حيث يتقدم العامل.» وهذا أصل المعارك المؤججة بين النحاة، ومنشأ الجدل الذي يملأ كتب النحو، ويثور غباره عند كل باب من أبوابها.
منشأ هذه الفلسفة
والنحاة في سبيلهم هذا متأثرون كل التأثر بالفلسفة الكلامية التي كانت شائعة بينهم، غالبة على تفكيرهم، آخذة حكم الحقائق المقررة لديها.
رأوا أن الإعراب بالحركات وغيرها عوارض للكلام تتبدل بتبدل التركيب، على نظام فيه شيء من الاضطراد؛ فقالوا: عرض حادث لا بد له من محدث، وأثر لا بد له من مؤثر. ولم يقبلوا أن يكون المتكلم محدث هذا الأثر؛ لأنه ليس حرا فيه يحدثه متى شاء. وطلبوا لهذا الأثر عاملا مقتضيا، وعلة موجبة، وبحثوا عنها في الكلام فعددوا هذه العوامل، ورسموا قوانينها.
ومن تأثرهم بالفلسفة الكلامية رفضهم أن يجتمع عاملان على معمول واحد، واحتجاجهم لذلك بأنه إذا اتفق العاملان في العمل لزم تحصيل الحاصل وهو محال، وإذا اختلفا لزم أن يكون الاسم مرفوعا منصوبا مثلا، ولا يجتمع الضدان في محل. ومنه تحريمهم أن تتبادل الكلمتان العمل، واحتجاجهم بأن العامل حقه التقديم، والمعمول حقه التأخير، فتكون الكلمة متقدمة متأخرة، وهو محال.
فانظر كيف تصوروا «عوامل» الإعراب كأنما هي موجودات فاعلة مؤثرة، وأجروا لها أحكامها على هذا الوجه. قال الإمام الرضي: «والنحاة يجرون عوامل النحو كالمؤثرات الحقيقية.»
ولعل المناقشة الآتية تبين لك كيف كانوا يتصورون العامل: اجتمع أبو عبد الله الجرمي المتوفى سنة 225 بأبي زياد الفراء المتوفى سنة 206، فقال الفراء: أخبرني عن «زيد منطلق» لم رفع زيد؟ فقال الجرمي: رفع بالابتداء. قال الفراء: فأظهره. قال: هو معنى لا يظهر. قال: فمثله. قال: لا يمثل. قال الفراء : ما رأيت كاليوم عاملا لا يظهر ولا يتمثل! ونعلم أن أصحاب الفراء يرفعون المبتدأ بالخبر؛ فرارا من عامل لا يظهر ولا يتمثل.
ومثل آخر مما يبين تصورهم للعامل؛ يقول جمهور النحاة: إن المضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم؛ فيقول المعارضون: إن التجرد عدمي والرفع وجودي، ولا يحدث العدم الوجود؛ فيجيب الأولون: إن التجرد عدم محدود فهو وجود مقيد، ولا مانع أن يعمل مثله. وأمثلة هذه المناقشات تفيض بها كتب النحاة.
وليس من عيب في أن ينتفع النحاة بما بين أيديهم من الفلسفة ومن العلوم التي يدرسونها، ولا في أن يصطنعوا في تفكيرهم النمط المألوف في زمنهم، والسبيل المرسومة للجدل في أيامهم؛ فإن للتفكير في كل زمان مناهج متبعة ومبادئ مسلمة قد لا يخلص منها إلا من تعلق بوحي، وإذا نحن جهلناها لم نستطع أن نقدر منشأ كل رأي وغايته، ومتسرب الخطأ إليه، أو إحاطة الصواب به.
من أجل ذلك نرى طريق النحاة في استخدام فلسفة أيامهم - أو استخدامها إياهم - أمرا طبيعيا، لا مأخذ فيه، بل لا مندوحة عنه لمن أراد أن يفكر. ولكن علينا أن ننظر مبلغ توفيقهم في نظرهم، وإصابتهم للغاية التي سعوا إليها، وهي الكشف عن أحكام الإعراب وأسراره.
نقد مذهبهم (1)
لقد اضطروا في سبيل تسوية مذهبهم، وطرد قواعدهم إلى «التقدير» وأكثروا منه؛ يبحثون عن العامل في الجملة فلا يجدونه، فيمدهم التقدير بما أرادوا.
ومن أمثلة ما يقدرون: (أ)
زيدا رأيته: يقولون: هو «رأيت زيدا رأيته». (ب)
وإن أحد من المشركين استجارك : وإن استجارك أحد من المشركين استجارك. (ج)
لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي : لو تملكون تملكون خزائن رحمة ربي. (د)
وأما ثمود فهديناهم : وأما ثمود فهدينا هديناهم. (ه)
إياك والأسد أحذرك وأحذر الأسد. (و)
ويقطع النعت في مثل:
الحمد لله رب العالمين ، فتنصب كلمة رب وترفع؛ فيقدرون: هو رب، أو: أمدح رب.
هذه أمثلة لها نظائر كثيرة متعددة تملأ أبواب النحو، ولولا طول إلفنا لها في دراسة النحو لما استسغناها ولرأيناها لغوا وعبثا، ولكن عليها بني النحو، وأقيمت فصوله؛ إذ أقيمت على نظرية العامل.
والمقدر في الكلام نوعان: ما يكون قد فهم من الكلام، ودل عليه سياق القول، فترى المحذوف جزءا من المعنى، كأنك نطقت به، وإنما تخففت بحذفه، وآثرت الإيجاز بتركه. وهذا أمر سائغ في كل لغة، بل هو في العربية أكثر لميلها إلى الإيجاز وإلى التخفيف بحذف ما يفهم.
ولكن التقدير الذي نعيبه هو نظير ما قدمنا لك من الأمثلة: كلمات تجتلب لتصحح الإعراب، ولتكمل نظرية العامل، ويسمي النحاة هذا النوع من التقدير، بالتقدير الصناعي، وهو ما يراد به تسوية صناعة الإعراب. (2)
بهذا التقدير والتوسع فيه أضاع النحاة حكم النحو، ولم يجعلوا له كلمة حاسمة وقولا باتا، وكثروا من أوجه الكلام، ومن احتماله لأنواع من الإعراب، يقدرون العامل رافعا فيرفعون، ويقدرونه ناصبا فينصبون، لا يرون أنه يتبع ذلك اختلاف في المعنى ولا تبديل في المفهوم.
كان الكسائي
3
يقرأ يوما بحاشية الرشيد أبيات أفنون التغلبي، ومنها:
أبلغ حبيبا وخلل في سراتهم
أن الفؤاد انطوى منهم على حزن
أنى جزوا عامرا سوءى بفعلهم
أم كيف يجزونني السوءى من الحسن؟!
أم كيف ينفع ما تعطى العلوق به
رئمان أنف إذا ما ضن باللبن؟!
ففتح نون رئمان، وكان الأصمعي حاضرا، فقال: هي رئمان بضم النون، فأقبل عليه الكسائي وقال له: اسكت ما أنت وهذا؟! يجوز رئمان ورئمان ورئمان. قالوا: ولم يكن الأصمعي صاحب نظر في النحو ولا معرفة بالعربية. وما دام التقدير يمدهم بما شاءوا فلهم أن يوجهوا الكلام كل وجه، ثم لا تعجزهم الحجة، ولا يعوزهم التقدير.
سأل يوما عضد الدولة فنا خسرو البويهي الإمام أبا علي الفارسي: لماذا ينصب المستثنى في نحو: قام القوم إلا زيدا؟ قال: بتقدير أستثني زيدا، فقال عضد الدولة - وكان فاضلا - لم قدرت أستثني؟ هلا قدرت امتنع زيد فرفعت؟! فلم يحر الفارسي جوابا، وقال: هذا الذي ذكرته لك جواب ميداني، فإذا رجعت ذكرت الجواب الصحيح.
4 (3)
إن النحاة بالتزامهم أصول فلسفتهم أضاعوا العناية بمعاني الكلام في أوضاعه المختلفة؛ من ذلك قولهم في باب المفعول معه: إن مثل: كيف أنت وأخوك؟ يجوز فيه النصب على المفعولية، والرفع على العطف، ثم يرون الوجه الثاني أولى، ويضعفون الأول؛ لأن الواو لم يسبقها فعل، يكون عاملا في المفعول معه، والحقيقة أن لكل من التركيبين معنى لا يغني عنه الآخر، تقول: كيف أنت وأخوك؟ أي كيف أنت؟ وكيف أخوك؟ فإذا قلت: كيف أنت وأخاك؟ فإنما تسأل عن صلة ما بينهما.
5
فالعبارتان صحيحتان، ولكل منهما موضع خاص، ولكن النحاة قد نسوا المعنى بالحرص على نظرية العامل.
ويقولون في مثل: صدق وآمن المسلمون. أن الصحيح: صدقوا وآمن المسلمون، أو صدق وآمنوا المسلمون؟ ولا يقبلون صدق وآمن المسلمون، وهو عربي سائغ مقبول، سمع من العرب في مثل:
تعفق بالأرطى لها وأرادها
رجال فيزت نبلهم وكليب
6
ولكن جمهور النحاة لا يقبلون هذا خشية أن يجتمع مؤثران على أثر واحد، وهو محال.
7 (4)
كثر الخلاف بينهم في كل عامل يتصدون لبيانه، فلا تقرأ بابا من أبواب النحو إلا وجدته قد بدئ بخصومة منكرة في عامل هذا الباب ما هو؟ (أ)
فالمفعول ما عامل النصب فيه؟
الفعل أو شبهه، وهو رأي جمهور البصريين.
أو الفاعل وحده، وهو رأي هشام الكوفي.
أو الفعل والفاعل، وهو رأي الفراء.
أو معنى المفعولية، وهو مذهب خلف. (ب)
وعامل المفعول معه ما هو؟
ما تقدمه من فعل ونحوه، وهو رأي الجمهور.
أو ناصبه الواو، وهو رأي الجرجاني.
أو فعل مضمر بعد الواو، وهو رأي الزجاج.
أو الخلاف، وهو رأي الكوفيين. (ج)
واختلفوا في عامل النصب للمفعول المطلق على ثلاثة عشر قولا؟!
حتى صار أكثر الخلاف بين النحويين، وأشد جدالهم، هو في العامل ما هو؟ ولو أنهم وضعوا نظريتهم على أصل صحيح لقل خلافهم وتقاربت آراؤهم.
8 (5)
إن النحاة بعد ذلك كله لم يفوا بمذهبهم، أو لم تف نظريتهم بكل حاجاتهم في الإعراب؛ لأنهم بعدما شرطوا أن يكون العامل متكلما به أو مقدرا في الكلام، اضطروا إلى الاعتراف بالعامل المعنوي.
فالبصريون يجعلون الرافع للمبتدأ هو الابتداء، وهو عامل معنوي، والكوفيون يثبتون عاملا معنويا آخر يسمونه الخلاف، يجعلونه عامل النصب في الظرف إذا كان خبرا، نحو: زيد عندك، وفي الفعل المضارع بعد فاء السببية أو واو المعية، والأخفش يعد التبعية عاملا معنويا. أما في باب التمييز، فقالوا: إن الاسم نصب عن تمام الكلام، ولم يذكروا عاملا لفظيا ولا معنويا.
فهذه الأوجه تنقض نظرية النحاة في العامل، أو تنقصها على الأقل، وهي مناقشة لكلامهم بمثل أصولهم، وبحكم قواعدهم التي التزموا.
على أن أكبر ما يعنينا في نقد نظريتهم أنهم جعلوا الإعراب حكما لفظيا خالصا يتبع لفظ العامل وأثره، ولم يروا في علاماته إشارة إلى معنى، ولا أثرا في تصوير المفهوم، أو إلقاء ظل على صورته، فقد رأيت الكسائي يحرك نون رئمان بالحركات الثلاث من غير أن يشير إلى ما يصير إليه المعنى عن كل حركة.
ونحن نحاول أن نبحث عن معاني هذه العلامات الإعرابية، وعن أثرها في تصوير المعنى، فإذا تمت لنا الهداية إلى هذا، وجدنا عاصما يقينا من اضطراب النحاة، وحكما يفصل في خصوماتهم العديدة المتشعبة، ولم يكن لنا أن نسأل عن كل حركة ما عاملها، ولكن ماذا تشير إليه من معنى.
ومعاني هذه العلامات الإعرابية ستكون بحثنا في الفصل التالي، ولكنا من قبل أن نأخذ في شرحها، يجب أن نعرض لرأي في أصول الإعراب رآه المستشرقون، واستعانوا فيه بدرسهم علم اللغات ومقارناتها.
رأي المستشرقين في أصل الإعراب
وللمستشرقين في أصل الإعراب آراء لا يجدر بنا أن نذكرها جميعا، فإنما هي فروض لم تستقر، ولم يجز بها الدليل إلى ساحة العلم المؤيد؛ وإنما نذكر الفرض الذي يراه المستشرقون أنفسهم أقربها إلى الصواب وأولاها بالدرس.
هذا الرأي كتبه العالم (ريت)
1
في محاضراته: «مقارنة نحو اللغات السامية» وبينه الأستاذ «بروكلمان»
2
في كتابه: «مقارنة اللغات السامية»، وهو أن أصل لواحق الإعراب لا تعرف معرفة يقين، ولكن يمكن أن يرى أن الفتحة أصلها
ha
وهي ضمير إشارة مستعمل في اللغات السامية، ولم يزل في الحبشية يلحق بالأعلام في حالة النصب إذا وقع عليها فعل ذو اتجاه؛ مثل: أقبل ، وقصد. وأصل معناها في هذا الاستعمال الاتجاه إلى شيء أو شخص معين.
وإذا صح هذا جاز أن نرى الضمة مشتقة من
ho
أي: هو، أما علامة الجر فظاهر مشابهتها بياء النسب، وهي تفيد الكلمة معنى الوصفية.
وفي اللغة الهندية الغربية نرى لواحق الخفض مشتقة من لواحق دالة على الوصفية، ويساعد على هذا في العربية أن الصفة تجيء بعد الموصوف، فيقال: البيت الملكي، وباتحاد الموصوف بالصفة في المعنى واللفظ بهما مرة واحدة استغني عن إعراب التالي، وخففت الياء فنشأ الخفض، وهو إعراب جديد.
نقد مذهبهم
وكل ما ذهب إليه المستشرقون في هذا الموضوع فروض، أساسها أن علامات الإعراب أثر لزوائد كانت تلحق الكلمات، ثم حذفت وبقي منها أثرها دالا عليها، وهو الإعراب.
وهم في هذا متأثرون بنظام لغاتهم، وسبيل الإعراب والتصريف فيها، فقد يكون ذلك عندهم بمقاطع لا بحركات، وربما خففت هذه المقاطع واختزلت بتأثير النبر واختلاف النطق، أو بغيره من الأسباب، فبقيت منه حركة. هذا واضح في لغتهم، مقرر في علمها، ولكن العربية لها منهج آخر مخالف لمناهج اللغات الغربية في الإعراب وفي التصريف، فإن العربية تدل بالحركات على المعاني المختلفة من غير أن تكون تلك الحركات أثرا لمقطع، أو بقية من أداة، ويكون ذلك في وسط الكلمة وأولها وآخرها. (أ)
فهم يفرقون بالحركة بين اسم الفاعل واسم المفعول في مثل: مكرم ومكرم، ومستخرج ومستخرج. (ب)
وبين فعل المعلوم وفعل المجهول؛ نحو: كتب، وكتب، واستفهم واستفهم عنه. (ج)
وبين الفعل والمصدر، في مثل: علم وعلم، وتعلم وتعلم. (د)
وبين الوصف والمصدر، في مثل: فرح وفرح، وفهم وفهم، وحسن وحسن. (ه)
وبين المفرد والجمع، في مثل: أسد، وأسد. (و)
وبين الفعل والفعل، مثل قدم وقدم؛ لكل معنى ولا فارق إلا الحركة. (ز)
وبين الاسم والاسم، في مثل سحور وسحور، ووضوء ووضوء. وحمل وحمل.
وهذا من الشيوع والكثرة في اللغة العربية بحيث لا نستطيع جمعه، وبحيث نراه أصلا من أصولها، ساريا في كثير من تصرفاتها، ظاهرا في سبيل الأداء وتصوير المعاني. ومن العناء الضائع، والتكلف المبعد عن الحق أن نتلمس لكل حركة من هذه الحركات أصلا؛ لأنا نحاول أن نكلفها نظام غيرها من اللغات، وإنما هي صورة ألفها الباحثون في اللغات الأجنبية فغلبت عليهم حين يفكرون في فقه العربية.
وكما أن الفلسفة الكلامية قد خدعت النحاة عن فهم الإعراب، إذا مزجوها بالنحو مزجا، حتى كأنهم إنما يدرسون فلسفة نظرية؛ كذلك المستشرقون غلبت عليهم مناهج بحثهم في لغتهم، أو الصور التي استخرجوها من درس كلامهم، فصرفتهم عن الحقيقة إلى شعاب من البحث متكلفة.
معاني الإعراب
في مناقشتنا لرأي المستشرقين بينا أن من أصول العربية الدلالة بالحركات على المعاني، فإذا استهدينا بهذا الأصل - ومن الحق أن نستهدي به - وجب أن نرى في هذه العلامات الإعرابية إشارة إلى معان يقصد إليها، فتجعل تلك الحركات دوالا عليها.
وما كان للعرب أن يلتزموا هذه الحركات ويحرصوا عليها ذلك الحرص كله، وهي لا تعمل في تصوير المعنى شيئا. وأنت تعلم أن العربية لغة الإيجاز، وأن العرب كانوا يتخففون في القول ما وجدوا السبيل؛ يحذفون الكلمة إذا فهمت، والجملة إذا ظهر الدليل عليها، والأداة إذا لم تكن الحاجة ملجئة إليها، كالتاء - علم التأنيث - يلحقونها بالوصف لتدل على التأنيث الموصوف، مثل مؤمنة وصابرة، فإذا كان الوصف خاصا بالمؤنث تركوها استغناء عنها كما في أيم، وظئر، ومرضع.
وحركة الإعراب قد يعاملونها هذه المعاملة فلا يلتزمونها إذا أمن اللبس، قال ابن مالك:
1
ورفع مفعول به لا يلتبس
ونصب فاعل، أجز، ولا تقس
قال ابن الطراوة، من علماء الأندلس: بل هو مقيس، ومنه في القرآن الكريم:
فتلقى آدم من ربه كلمات ، (37 من البقرة). فابن كثير وهو القارئ المكي من القراء السبعة، ينصب آدم ويرفع كلمات.
وإذن وجب أن ندرس علامات الإعراب على أنها دوال على معان، وأن نبحث في ثنايا الكلام عما تشير إليه كل علامة منها، ونعلم أن هذه الحركات تختلف باختلاف موضع الكلمة من الجملة وصلتها بما معها من الكلمات، فأحرى أن تكون مشيرة إلى معنى في تأليف الجملة وربط الكلم؛ وهو ما نراه.
ولا بأس أن أبادر إليك بتقرير ما رأيته في ذلك جملة لنحسن تصوره معا، ثم نأخذ في تفصيله ومناقشته في أبواب النحو بابا بابا.
فأما الضمة فإنها علم الإسناد، ودليل أن الكلمة المرفوعة يراد أن يسند إليها ويتحدث عنها.
وأما الكسرة فإنها علم الإضافة، وإشارة إلى ارتباط الكلمة بما قبلها، سواء كان هذا الارتباط بأداة أو بغير أداة، كما في كتاب محمد، وكتاب لمحمد.
ولا تخرج الضمة ولا الكسرة عن الدلالة على ما أشرنا إليه، إلا أن يكون ذلك في بناء أو في نوع من الإتباع.
أما الفتحة فليست علامة إعراب ولا دالة على شيء؛ بل هي الحركة الخفيفة المستحبة عند العرب، التي يراد أن تنتهي بها الكلمة كلما أمكن ذلك؛ فهي بمثابة السكون في لغة العامة.
فللإعراب الضمة والكسرة فقط، وليستا بقية من مقطع، ولا أثرا لعامل من اللفظ؛ بل هما من عمل المتكلم ليدل بهما على معنى في تأليف الجملة ونظم الكلام.
فهذا جوهر الرأي عندنا، وخلاصة ما نسعى بعد في تفصيله وتأييده، ونستعين الله.
ومن قبل أن نفصله ونسوق أدلته، نقدم إليك عبارات لأئمة النحاة المتقدمين، تشير إلى هذا المعنى، وتؤنسك به، وتبين أنا نهتدي في أكثر ما قررناه بأئمة النحاة، وخاصة المتقدمين منهم.
كان
2
الإمام محمد بن المستنير المعروف بقطرب، تلميذ سيبويه، المتوفى سنة 206، يقول: إنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم في حال الوقف يلزمه السكون، فجعلوه في الوصل محركا حتى لا يبطئوا في الإدراج، وعاقبوا بين الحركة والسكون، وجعلوا لكل واحد أليق الأحوال به؛ ولم يلتزموا حركة واحدة لأنهم أرادوا الاتساع، فلم يضيقوا على أنفسهم وعلى المتكلم بحظر الحركات إلا حركة واحدة. ا.ه.
وهو رأي يشرح ما بين الحركة والسكون، ولكنه يفضي إلى إبطال الإعراب، وإلى التوسيع على كل قائل أن يحرك آخر الكلمة كما شاء في كل موضع، وذلك ما لم يقبله أحد من النحاة، وما أظن قطربا كان وفيا لرأيه هذا إلى آخر ما يقتضيه.
وكان أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج - توفي سنة 311ه - يجعل العامل في المبتدأ ما في نفس المتكلم من إرادة الإخبار عنه.
وكان تلميذه أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي - توفي سنة 339ه - يقول: إن الأسماء لما كانت تعتريها المعاني، وتكون فاعلة ومفعولة ومضافة، ولم يكن في صورها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني، جعلت حركات الإعراب تنبئ عن هذه المعاني وتدل عليها، ليتسع لهم في اللغة ما يريدون من تقديم وتأخير عند الحاجة. ا.ه.
وهذا الرأي كالأصل لما ذهبنا إليه، وقد بينه الزجاجي في كتاب له يسمى «إيضاح علل الإعراب» لم يقع لنا منه إلا ما نقلناه هنا، وأخذناه من كتاب الأشباه والنظائر للإمام السيوطي.
وإذا رأيت أن أصل رأينا من كلام المتقدمين، فإنا نرجو أن تسايرنا في درسه، غير مستنكر له، ولا ضائق به. (1) الضمة علم الإسناد
الأصل الأول أن الضمة علم الإسناد، وأن موضعها هو المسند إليه المتحدث عنه، ونريد هنا أن نتحرى المرفوعات عند النحاة ونستقرئ أبوابها، ونعتبرها بهذا الأصل لنرى كيف يتم اطراده فيها، وانسجامه معها.
المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل
كل واحد من هذه المرفوعات «مسند إليه» كما تعلم - وهو اصطلاح آثره من قبل علماء البيان واستعملوه في كتبهم، وجعلوا الأنواع الثلاثة نوعا واحدا في العنوان، وفيما أجروا من الأحكام - بل إن سيبويه قد سبقهم إلى هذا الاصطلاح، واستعمل «المسند إليه»
3
فيما يشمل هذه الأقسام، وكرره في مواضع من كتابه.
وإذا تتبعنا أحكام هذه الأبواب لم نر ما يدعو إلى تفريقها، ورأينا في أحكامها من الاتفاق والتماثل ما يوجب أن تكون بابا واحدا يعفينا من تشقيق الكلام وتكثير الأقسام.
فأما نائب الفاعل فإن النحاة أنفسهم لا يفرقون بينه وبين الفاعل في الأحكام؛ ومنهم من يرسم لهما بابا واحدا. وما الفرق بين كسر الإناء وانكسر الإناء إلا ما ترى بين صيغتي كسر وانكسر، وما لكل صيغة من خاصة في تصوير المعنى، أما لفظ الإناء فإنه في المثالين «مسند إليه» وإن اختلف المسند.
وأما الفاعل والمبتدأ، فإن النحاة يجعلون بينهما فوارق ماثلة ظاهرة ، ويجعلون لكل باب أحكاما خاصة؛ ولكن شيئا من الإمعان في درسها ينتهي إلى توحيد البابين واتفاقهما في الأحكام، وإلى أن هذا التفريق قد يكون منسجما مع صناعة النحاة في الإعراب، ولكنه مبعد عن فهم الأساليب العربية.
فأول ذلك:
أنهم يقولون: إن الفاعل يجب أن يتأخر عن الفعل، لا يتقدمه بحال. أما المبتدأ فإن أصله التقديم، وربما جاء متأخرا، فللمبتدأ من الحرية في الجملة ما ليس للفاعل.
هذا حكم النحاة أو جمهورهم؛ أما الأسلوب العربي فإنك تقول: «ظهر الحق» «والحق ظهر» تقدم المسند إليه أو تؤخره، وكلا الكلامين عربي سائغ مقبول عند النحاة جميعا، ولكن النحاة والبصريين خاصة يحرمون أن يتقدم لفظ «الحق» في «ظهر الحق» وهو فاعل، كما يحرمون أن يتأخر المبتدأ من «الحق ظهر» وهو مبتدأ. فالحكم إذن نحوي صناعي لا أثر له في الكلام، وليس مما يصحح به أسلوب أو يزيف، وإنما هو وجه من أوجه الصناعات النحوية المتكلفة لا يعنينا أن نلتزمه، بل نحب أن نتحرر منه.
والعربية في هذا الاسم المتحدث عنه أو «المسند إليه» يتقدم على المسند ويتأخر عنه، سواء كان المسند اسما أو فعلا. وهذا أصل من أصول العربية في حرية الجملة والسعة في تأليفها.
الحكم الثاني:
مما يفرقون به بين المبتدأ والفاعل، أن المبتدأ قد يحذف ولا يجوز حذف الفاعل؛ وذلك فرق صنعه الاصطلاح النحوي أيضا، فإن المبتدأ لا يذكر في الجملة فيقولون: هو محذوف، والفاعل لا يذكر فيقولون هو مستتر. ومثال ابن مالك لحذف المبتدأ أن يقال في جواب كيف زيد؟ «دنف» أي عليل. فإذا قيل في الجواب: دنف. أي: اعتل، جعلوا الفاعل مستترا، ولم يقولوا محذوف وهو اصطلاح نحوي لا أثر له في القول، فلا وجه لالتزامه والتفرقة به.
الحكم الثالث:
أن الفعل يوحد والفاعل جمع أو مثنى، فلا مطابقة في العدد بين الفعل والفاعل، تقول: فاز الشهيد، وفاز الشهداء، أما المبتدأ فالمطابقة بينه وبين الخبر واجبة، تقول: الشهيد فائز، والشهداء فائزون، وهذه التفرقة لو صحت لكانت كافية للتفريق بين الاثنين في الدرس، ومبررة لتمييز كل نوع بباب، ولكن شيئا من التأمل في حكم الاسمين والمقارنة بينهما يبين أن حكم المطابقة واحد في البابين؛ وذلك أن المطابقة بين المسند إليه والمسند لا تجيء تبعا لأن المسند فعل أو اسم، ولا لأن المسند إليه مبتدأ أو فاعل؛ بل تجيء تبعا لتقديم المسند إليه أو تأخره كما ترى:
المسند إليه متقدم
المسند إليه متأخر
المسند فعل
الشهداء فازوا
فاز الشهداء
الشهداء يفوزون
يفوز الشهداء
المسند اسم
الشهداء فائزون
فائز الشهداء * *
هذا الأسلوب يجيء وقد صدرت الجملة باستفهام أو نفي غالبا، والبصريون يشترطون هذا، والكوفيون ومعهم الأخفش من الأئمة المتقدمين للبصريين لا يشترطونه، وقد رووا له شواهد كثيرة حتى جنح إليه متأخرو البصريين كما صنع ابن مالك.
فالمسند إليه إذا تقدم وجب أن يكون في المسند إشارة إليه تطابقه في العدد، وإذا تأخر كان المسند مفردا في كل حال.
هذا هو الأسلوب العربي في وضوح وقرب فهم، ولكن النحاة خالفوه، فجعلوا للفاعل حكما، وللمبتدأ آخر؛ ثم جعلوا المبتدأ أيضا قسمين: مبتدأ له خبر، ومبتدأ له فاعل أغنى عن الخبر، وأعطوا القسم الأخير وحده حكم الفعل مع فاعله، وهو تكثير للأقسام، يعوص الأمر، ويبعد عن فهم العربية، ثم يكون سببا لجدال بين النحاة لا ينتهي، وخلاف لا يحصر.
الحكم الرابع:
المطابقة في النوع: أي التذكير والتأنيث، والمطابقة بين المسند والمسند إليه في النوع هي الأصل، إلا أن المسند إليه إذا تقدم كانت المطابقة أدق وألزم، وإذا تأخر كانت أقل التزاما.
والنحاة يقولون: إن الفعل إذا أسند إلى مؤنث مجازي التأنيث جاز تأنيثه وتركه، تقول: «أمطر السماء» و«أمطرت السماء»؛ فإذا قدمت المسند إليه لم تقل إلا «السماء أمطرت»؛ ولما كان النحاة يوجبون للفاعل التأخير، ويجعلون الأصل في المبتدأ أن يكون مقدما، قرروا أن المطابقة في النوع بين المبتدأ والخبر ألزم وآكد من الفعل والفاعل؛ والحكم إذا تأملت فيهما واحد.
وخلاصة ما نرى من المطابقة بين المسند والمسند إليه في العدد وفي النوع، أن العرب أشد رعاية للمطابقة في النوع، وأن هذه المطابقة تكون آكد وأوجب إذا تقدم المسند إليه وتأخر المسند.
أما العدد فإن العرب يلتزمون المطابقة فيه إذا تقدم المسند إليه، فإذا تأخر تركوا رعايتها وجعلوا المسند موحدا.
هذا أسلوب العرب في كلامهم، سواء فيه الفعل والاسم، والمبتدأ والفاعل، وهو كما ترى أقرب وأوضح، وأكشف عن سر العربية وروحها.
واعلم أن من العرب من يجعل المطابقة في العدد مثل المطابقة في النوع؛ يلتزمها - تقدم المسند إليه أو تأخر - وأولئك هم الطائيون وبلحارث بن كعب
4
ويسميها النحاة لغة «أكلوني البراغيث»، وابن مالك يسميها «لغة يتعاقبون فيكم ملائكة».
5
وأنا أرجح أن تلك المطابقة العددية، وشمولها كل مسند، كانت الأصل في العربية، ثم خصصت بالمسند إذا تأخر فإنه يحتاج إذن أن تكون فيه إشارة إلى المسند إليه المتقدم، وبقي من مطابقة المسند إذا تقدم أثر كبير في لغات اليمن، وأثر نادر في لغات سائر العرب. ومنه أمثلة في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف، وفي شيء من أشعار المضريين.
هذه أبواب الرفع الثلاثة: المبتدأ، والفاعل، ونائب الفاعل، اضطرد فيها الأصل الذي قررنا، وأغنانا عن تكثير الأقسام، وتعديد الأبواب، وعن فلسفة العامل، وشغب الخلاف، وجعل الحكم النحوي أقرب إلى الفهم، وأدنى إلى روح العربية ولا يخرج عن هذا الأصل من المرفوعات إلا بابان أحدهما المنادى في بعض حالاته؛ مثل: يا أحمد ويا رجل، والثاني: منصوب إن وأخواتها.
المنادى
فأما المنادى فليس بمسند إليه ولا بمضاف، فحقه النصب على الأصل الذي قررناه، وهو منصوب في كل أحواله إلا حالة واحدة يضم فيها، وهي أن يكون - كما يقول النحاة - «علما مفردا أو نكرة مقصودة»، ولهم في تعريف كلمة «مفرد» اصطلاح خاص بهذا الباب لا يخلو من الاضطراب.
6
فتتجاوز بك اصطلاحهم، ونقول: إن المنادى إذا لم يكن مضافا كان المنتظر أن يدخله التنوين؛ إذ لا مانع منه، ولكن التنوين يدل على التنكير، وقد يراد أن ينادى معين يقصد إليه فيدعى باسمه أو بإحدى صفاته، كيا محمد ويا رجل، فيحذف التنوين ، والعلة في حذفه إرادة التعريف والقصد إلى معين.
ولا يقبل النحاة أن يكون التنوين في باب النداء للتنكير وحذفه للتعيين، ولكن لفظهم يشهد به فيقولون: تنون النكرة غير المقصودة، ولا تنون النكرة المقصودة، وهل معنى القصد في النداء إلا أن تكون مريدا إلى معين؟ وكل ما عمله النحاة أنهم فروا من وصف النكرة بالتعيين أو التعريف، وقالوا: نكرة مقصودة؛ ولا نريد أن يخدعنا هذا الاصطلاح عن الحقيقة، فالمنادى المعين أو المعرف يمنع التنوين لتعيينه، فإذا بقي للاسم بعد حذف التنوين حكمه وهو النصب، اشتبه بالمضاف إلى ياء المتكلم، لأنها تقلب في باب النداء ألفا؛ تقول: يا غلامي، ويا غلاما؛ وقد تحذف وتبقى الحركة القصيرة مشيرة إليها، فيقال: يا غلام ويا غلام. وفي الخلاصة:
واجعل منادى صح إن يضف ليا
كعبد عبدي عبد عبدا عبديا
ففروا في هذا الباب من النصب والجر إلى الضم، حيث لا شبهة بياء المتكلم.
وقد نقل سيبويه أن العرب قد يستروحون إلى مد آخر الكلمة ومط حركاتها، فذلك أصل آخر للاشتباه.
ويمكن صوغ هذه القاعدة في وضع أصح وأوضح من كلام النحاة، وأغنى عن تجديد اصطلاح خاص بهذا الباب، وهو: «متى أريد بالمنادى المنون معين، حرم التنوين الذي هو علامة التنكير؛ ومتى حرم التنوين ضم آخره فرارا من شبهة الإضافة إلى ضمير المتكلم»، وكانت قاعدة صحيحة دالة على روح العربية، ووجه إبانتها عن المعاني، واحتياطها لبعض اللبس.
وقد وفق النحاة حين جعلوا هذه الحركة ضمة بناء لا حركة الإعراب.
ونرى من كلام العرب نظيرا لهذا في الاسم الذي لا ينصرف، فإنهم حين حرموه التنوين لأسباب مبينة في مواضعها - وسيجيء لنا بحث في مناقشتها - خافوا أن يلتبس بالمضاف إلى ياء المتكلم حين يكسر غير منون، فعدلوا عن الكسرة إلى الفتحة، فاتقاؤهم الشبهة بياء المتكلم في الممنوع من الصرف منعهم الكسر وحده؛ لأن ضمير المتكلم لا يكون هنا إلا ياء واتقاؤهم الشبهة نفسها في المنادى ألزمه الضم؛ لأن ضمير المتكلم فيه يكون ألفا كما يكون ياء.
فقد رأيت أن هذا الموضع الذي بدا في الأول مخالفا لأصلنا، ناقضا له، قد انتهى بنا درسه إلى أنه مؤيد لرأينا، لا معارض له، وكشف عن سر من أسرار العربية في وضع الحركات بحساب، وبإيحاء إلى معنى يراد.
اسم «إن»
أما النوع الثاني، وهو اسم إن، فإنه متحدث عنه، وحقه الرفع على أصلنا الذي قررناه ولكنه منصوب، ولا نتحرج أن نقول: إن النحاة قد أخطأوا فهم هذا الباب وتدوينه، ثم تجرأوا على تغليط العرب في بعض أحكامه كما سترى.
ورد اسم إن مرفوعا في الشعر وفي القرآن الكريم، وفي الحديث؛ ففي القرآن الكريم:
قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما (طه: 63)،
7
فذهب النحاة يتأولون أعسف تأويل ليمضي حكمهم في أن اسم «إن» لا يكون إلا منصوبا.
وورد في الحديث: «إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون.» فلحنوا راويه، وعطف عليه بالرفع
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (المائدة: 69). وفي بعض القراءات: «إن الله وملائكته يصلون على النبي» (الأحزاب: 56)
8
برفع الملائكة، وفي الشعر ما روى سيبويه لبشر بن أبي خازم:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم
بغاة ما بقينا في شقاق
9
ثم أكد أيضا بالرفع، فقيل: إنهم أجمعون بدل أجمعين.
قال سيبويه: وأعلم أن ناسا من العرب يغلطون، فيقولون إنهم أجمعون ذاهبون، وإني وزيد ذاهبان (ص290 من الجزء الأول، ونقله الأشموني في باب إن).
ومع ما نعرفه لسيبويه رحمه الله من إجلال يملأ القلب، فإنا هنا نراه قد أخطأ وخطأ صوابا. قد يستطيع أن يرد بعض ما سمع من العرب، ويسهل عليه أن يخطئ محدثا فيما روى، فماذا يصنع بالآية الكريمة؟ لا سبيل إلى الرفض ولا إلى التخطئة، ولكنك تعلم أن البصريين قد مضوا في التأويل إلى أبعد مدى. يقولون في آية:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون
إن «الصابئون» مبتدأ قدر له خبره، وقد يصحح هذا التأويل وجه الإعراب على رأي البصريين، ولكنه يقطع الجملة تقطيعا غير مقبول.
10
على أن ما رفضه سيبويه قبله غيره من أئمة النحاة كالكسائي والفراء.
وإذا تركنا حكم النحاة لحظة، ونظرنا أسلوب العرب فيما بعد «إن»، وجدنا أنهم لمحوا حقه في الرفع؛ فورد عنهم مرفوعا، وعطفوا عليه بالرفع، وأكدوه بالرفع أيضا. وذلك شاهد لما رأينا من أن الموضع للرفع، وأنه وجه الكلام في اسم «إن»، ولكنا لا ننكر أنه ورد منصوبا، وكان النصب هو الغالب عليه، فمن أين جاءه النصب وغلب عليه؟ سنحاول بيان هذا، ونسألك شيئا من الأناة والروية لنستبين الحق معا.
لقد راقبنا استعمال «إن» وخاصة في القرآن الكريم، ووجدناها أكثر ما تستعمل متصلة بالضمير؛ مثل: إنا، إني، إنك، إنه. وهذا بيان بجملة إحصائها في القرآن الكريم.
مكسورة الهمزة
مفتوحة الهمزة
جملة
متصلة بالضمير
740
180
920
متصلة بالظاهر
323
121
444
متصلة بالموصول
105
11
116
متصلة بالإشارة
43
2
45
مكفوفة
139
17
156
جملة
1350
331
1681
ونعلم من أسلوب العرب أن الأداة إذا دخلت على الضمير مال حسهم اللغوي إلى أن يصلوا بينهما، فيستبدلون بضمير الرفع ضمير النصب؛ لأن ضمير الرفع لا يوصل إلا بالفعل، ولأن الضمير المتصل أكثر في لسانهم، وهم أحب استعمالا له من المنفصل. قال ابن مالك:
وفي اختيار لا يجيء المنفصل
إذا تأتى أن يجيء المتصل
ومن ذلك كلمة «لولا» لا يكون الاسم الظاهر بعدها إلا مرفوعا، فكان من حق الضمير إذا جاء بعدها أن يكون مرفوعا أيضا، ولكن العرب يقولون: «لولاه»، و«لولا هو»، و«لولاكم»، و«لولا أنتم»: يستعملون ضمير النصب وضمير الرفع.
أما ضمير الرفع فوجه استعماله واضح والموضع موضعه، وأما ضمير النصب فاستجابة لداعية الحس اللغوي من وصل الأداة بالضمير إذا وليها.
وتجد لذلك نظيرا في عسى، وهو فعل يتصل به ضمير الرفع، فتقول: عسيتم. وفي القرآن الكريم:
قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا (آية 246 من البقرة)،
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (آية 22، محمد).
إلا أن هذا الفعل قد جمد فأشبه الأداة، وحرم خصائص الفعل من التصرف والدلالة على الزمن، فحول الضمير بعده إلى ضمير نصب، قيل : عساه وعساك؛ فإذا وليه الاسم الظاهر لم يكن إلا مرفوعا، تقول: عسى الله أن يغفر لي.
فهذا المسلك من العربية يفسر لنا ما نراه في استعمال العرب اسم إن منصوبا، وما نجده من أثر الرفع فيه؛ إذ يجيء أحيانا مرفوعا ثم يعطف عليه ويؤكد بالرفع أيضا؛ وذلك أنهم لما أكثروا من إتباع إن بالضمير جعلوه ضمير نصب ووصلوه بها، وكثر هذا حتى غلب على وهمهم أن الموضع للنصب، فلما جاء الاسم الظاهر نصب أيضا. وهذا موضع دقيق في العربية ولكنه صحيح مطرد عند الاختبار، أثبته النحاة وسموه الإعراب على التوهم، وتوسع في بحثه صاحب «الخصائص». ومن أمثلته عندهم: ما زيد قائما ولا قاعد. يقول النحاة: إن «قاعد» معطوف على «قائما» على توهم أنه جر بالباء؛ لأن الموضع يغلب أن تجيء فيه الباء.
وقال الفراء: «لما كثر توقيت العرب بالليلة، قالوا: صمت عشرا من الشهر، ولا يصومون إلا اليوم.»
ومن الممكن أن يقال: قياس هذا الكلام أن يجوز «لولا محمدا» إتباعا للولاه. وجوابه أن الضمير في «لولا» لم يكثر كثرته بعد «إن»؛ ولذلك كان ضمير رفع مرة ونصب أخرى، ولو أنه كثر وغلبت كثرته كما في «إن» لكان ضمير نصب لا غير، ولكان من الممكن بعد أن ينساق حكمه إلى الاسم الظاهر، فيقال: «لولا محمدا».
فقد رأيت أن اسم «إن» أصله الرفع، وأن رفعه صحيح جائز، وأن التزام الأصل الذي بيناه - وهو أن المسند إليه مرفوع - قد اطرد في الكلام، وكشف لنا في باب النداء، وفي باب «إن» عن سر خفي على النحاة، وصحح لنا من كلام العرب ما خطأه النحويون.
فهذه أبواب الرفع قد اطرد فيها هذا الحكم، وهو: أن كل مرفوع فهو مسند إليه متحدث عنه. (2) الكسرة علم الإضافة
والكسرة - كما قدمنا - علامة على أن الاسم أضيف إليه غيره، سواء كانت هذه الإضافة بلا أداة: كمطر السماء، وخصب الأرض، أو بأداة: كمطر من السماء، وخصب في الأرض.
ولا تجد الكسرة في غير هذا الموضع إلا أن تكون في إتباع كالنعت، أو في المجاورة، وهي نوع من الإتباع، وسيأتي بحثه.
وما نقرره الآن بشأن الجر لا نخالف النحاة في شيء منه - حتى العبارة - فإنا حين ندل «بالمضاف إليه» على المجرور بالحرف، ونتوسع في معنى الإضافة، نأخذ ذلك من لسان النحاة المتقدمين ونجري على اصطلاحهم، قال سيبويه:
11
والجر إنما يكون في كل اسم مضاف إليه، واعلم أن المضاف إليه ينجر بثلاثة أشياء: بشيء ليس باسم ولا ظرف [يعني الحرف] وبشيء يكون ظرفا، وباسم لا يكون ظرفا. ا.ه.
ثم أخذ بعد ذلك في ذكر الأمثلة.
وأبو العباس المبرد يقول في كتابه «المقتضب» في النحو:
هذا باب الإضافة، وهي في الكلام على ضربين: فمن المضاف إليه ما تضيف إليه بحرف جر، ومنه ما تضيف إليه اسما مثله، فأما حروف الجر التي تضاف بها الأسماء والأفعال إلى ما بعدها فمن وإلى ... إلخ.
12
هذه عبارات المتقدمين من أئمة النحاة، ومن محققي المتأخرين من اتبعهم، كالإمام ابن الحاجب، ونص عبارته:
13 «والمجرورات هو ما اشتمل على علم المضاف إليه، والمضاف إليه كل اسم نسب إليه شيء بواسطة حرف جر لفظا، أو تقديرا مرادا.» ا.ه. قال شارحه المحقق الرضي: «بني الأمر أولا على أن المجرور بحرف جر ظاهر مضاف إليه، وقد سماه سيبويه أيضا مضافا إليه، ولكنه خلاف ما هو المشهور الآن من اصطلاح القوم، فإنه إذا أطلق لفظ المضاف إليه أريد به ما انجر بإضافة اسم إليه بحذف التنوين من الأول للإضافة، وأما من حيث اللغة فلا شك أن زيدا في مررت بزيد مضاف إليه، إذا أضيف إليه المرور بواسطة حرف الجر.» ا.ه.
وقد أطلنا بما نقلنا من النصوص لنقرر بلسان المتقدمين أن الكسرة علم الإضافة، وأن موضعها هو المضاف إليه مهما اختلفت وسيلة الإضافة.
ولعلك ترى في ثبوت هذا الأصل وتقرير الأئمة له ما يعود بحظ من التأييد على الأصل الذي قررناه في الفصل السابق، فإن الكسرة إذا كانت علما على معنى في تأليف الكلام وهو «الإضافة» كان من المساير لهذا والمنسجم معه أن تكون الضمة علما أيضا على معنى في الكلام كما بينا من قبل، فهو سبيل من التفكير يشد لاحقه سابقه، وينسجم أوله وآخره.
وبعد، فاعلم أن باب الإضافة في العربية من أكثر الأبواب شيوعا في الكلام، وأسيرها على الألسن، حتى في عصرنا هذا، وتستطيع أن تختبره فيما تقرأ وفيما تكتب، ولقد تحريت هذا كثير من الصحف، وأقلام الكتاب المعاصرين، فإذا الإضافة من أشيع أساليبهم في البيان، ومن أكثر الأصول النحوية جريا على الأقلام.
والعرب يضيفون لبيان الفاعل «خلق الله»، ولبيان المفعول «خلق السماوات»، وللمكان «ظباء وجرة» و«أسد بيشة»، وللزمان «برد الشتاء» و«مكر الليل»، ولبيان الموصوف «حسن الوجه» و«طلق اللسان»، ولبيان الصفة «يمين صدق» و«كلمة الحق»، وغير هذا من الأساليب المتسعة الكثيرة. ويستعملونها في التفضيل «أعلم القوم» و«أخصب الأرض» و«فتى الفتيان»، ويضيفون لأدنى ملابسة - كما يقول النحاة - «لثلاث ليال وأيامها» و«وعاد وثمودها».
وقد تكون الإضافة أسلوبا للبيان؛ كبنات الشوق، وبنات الدهر، وأخو الصدق، وأخو الأنصار؛ أي أحدهم.
ويضيفون إلى الكلمتين: «غلام عبد الله»، ويضيفون الكلمتين؛ كعبد شمسكم. ومن قول سيبويه: «ألا ترى أنك تقول: «هذا حب رمان»؛ فإذا كان لك قلت: «هذا حب رماني»، فأضفت الرمان إليك وليس لك الرمان، وإنما لك الحب.» ا.ه.
14
ويضيفون إلى الجمل كثيرا.
ومن الأسماء ما لا يكون إلا مضافا، ومنها ما يحذف المضاف إليه بعده فيكون مقدرا مفهوما كأنك قد ذكرته.
وحروف الجر أو «حروف الإضافة»، كما ينبغي أن نسميها من بعد، كثيرة في العربية متعددة واسعة التصرف؛ توسع العرب في استعمالها وإنابة بعضها عن بعض توسعا أكسب اللغة مرونة وقدرة على التصوير، حتى كأن الفعل فعلان بأثر حرف الإضافة.
15
وليس يعنينا بيان هذه الأساليب وتحديد خصائصها الآن، وإنما أردنا أن نشير لك إلى أن باب الإضافة على قصره في البحث، وقلة ما فيه من الأحكام، باب كثير الدوران في اللغة العربية، وأسلوب واسع الاستعمال، بل هي أداة عظيمة شائعة تستعمل في كثير من المواضع بيانا للمعاني المختلفة، وأداء للأغراض المتنوعة.
وإن على النحاة أن يدرسوها درسا واسعا مفصلا، دقيقا عميقا، لا ليبينوا أثرها في اللفظ، وحكمها في الإعراب، بل ليعرفوا سبيلها في البيان، وأثرها في تصوير المعاني، ومدى تصرف العرب فيها وتوسع العربية بها. (3) الفتحة ليست علامة إعراب
الأصل الثالث: أن الفتحة لا تدل على معنى كالضمة والكسرة، فليست بعلم إعراب؛ وإنما هي الحركة الخفيفة المستحبة عند العرب، التي يحبون أن يشكل بها آخر كل كلمة في الوصل ودرج الكلام؛ فهي في العربية نظير السكون في لغتنا العامية.
وفي تقرير هذا الأصل نجري في مخالفة النحاة إلى مدى أوسع، ولكنا لا نزال نجد دليلنا في كلامهم، ونستمد الحجة من أصولهم، غير أنا ننشر مهجورا أو نبسط مطويا، ونرجو أن نسوق من الأدلة ما يقنع المنصف، وتطمئن له نفس الباحث المخلص للحق، إن شاء الله.
أما أن الفتحة أخف الحركات، فذلك أصل مقرر عند النحاة، يتردد في كلامهم، ويجري كثيرا في جدلهم، ويستمدون منه السبب والعلة لكثير من أحكام التصريف والإعراب. ومراقبة العربية تشهد بكثرة دوران الفتحة وغلبتها على غيرها من الحركات، وتستطيع أن تختبر ذلك في أي جزء من الكلام.
خذ مثلا فاتحة الكتاب الكريم، وأحص ما فيها من الحركات، فسترى أن الفتحة وحدها أكثر من الضمة والكسرة معا.
وإذا رجعت إلى علم «مخارج الحروف» واستشهدت طبيعة الفتحة في نطقها، وقستها إلى غيرها من الحركات، وجدت البرهان الجلي على خفة الفتحة، والشهادة لذوق العرب في استحبابها؛ وذلك أن الفتحة القصيرة، أو الفتحة الطويلة - وهي الألف - لا تكلف الناطق إلا إرسال النفس حرا، وترك مسرى الهواء أثناء النطق بلا عناء في تكييفه.
أما الضمة وامتدادها وهو الواو، فإن النطق بها يكلفك ضم الشفتين ومطهما وتدويرهما حتى تحقق نطق الضمة أو الواو، واختبر ذلك في: قل وصم، وقولوا وصوموا مثلا، وراع هيئة الفم والشفتين حين النطق.
وكذلك الكسرة وامتدادها، وهو الياء، تكلفك أن تكسر مجرى الهواء وتحني طرف اللسان عند اللثة ليمثل الصوت ما تريد من الكسرة أو الياء، كما ترى في: صيد وبيع، وصد وبع.
وقد جمعنا في هذا البيان بين كل حركة واللين الناشئ منها؛ لنجلي لك الحقيقة أتم تجلية؛ فإن نطق الحركات ربما خفي في درج القول وفي وسط الكلمات؛ إذ اللسان لا يتلبث في النطق، فلا يستقر بعد الحرف، بل يتهيأ لتشكيل حرف آخر، فيمر نطق الحركة سريعا غير واضح التمثيل، فإن شئت تمثيله تأنيت في أعقاب الحروف فتصور الحركة وتشبعها، فإذا أشبعتها تمثلت واضحة وتمثل حرف اللين الناشئ منها.
والنحاة أنفسهم يقررون أن الألف فتحة مشبعة، والياء كسرة مشبعة، والواو ضمة مشبعة (انظر سر صناعة الإعراب لابن جني في باب الحركة).
وكانوا يسمون الفتحة الألف الصغيرة، والكسرة الياء الصغيرة، والضمة الواو الصغيرة، وكان هذا من أصل عملهم في الشكل الذي رسموا ليضبطوا به الحركات.
16
فخفة الفتحة في النطق، وامتيازها في ذلك على أختيها: الضمة والكسرة، أمر جلي، يؤيده البرهان من كل وجه.
والذي نحاول أن نقرره بعد، هو أن الفتحة أخف من السكون أيضا، وأيسر نطقا، خصوصا إذا كان ذلك في وسط اللفظ ودرج الكلام.
ولا أعلم للنحاة مثل هذا الرأي، بل قد أجد في أقوالهم ما يشير إلى أن السكون أخف من الحركات جميعا؛ فقد يسمونه التخفيف، ويقولون: إن السكون عدم، والحركة وجود، و«لا شيء» أضعف وأخف من «شيء»، مهما يكن يسيرا ضعيفا. وذلك من سنتهم في الأخذ بالفلسفة النظرية، وغلوهم فيها بما قد يلفتهم عن الواقع، كما بينا من قبل.
وإذا نحن عدنا إلى طبيعة السكون، وفحصناه حين النطق بالساكن، رأينا أن السكون يستلزم أن تضغط النفس عند مخرج الحرف معتمدا على الحرف، محتفظا به، وفي هذا العمل كلفة تراها إذا نطقت بمثل: أب، أت، أث، وقسته إلى نطق «با» «تا» «ثا».
ثم من الحروف ما إذا أسكنته أرسلت النفس به آنا ومطلت النطق، متكلفا الاحتفاظ بمخرج الحرف الساكن، كما ترى في: غواش، وإشراك، ونواص، واصنع، وناس، ومسئول، ومتراخ، وأخبار.
ومنها ما يكلفك أن تردد اللسان، كأنك تكرر الحرف كما ترى في راء إرعاد وقدر، فإذا حركته حركة ما، مررت به الهوينى من غير ضغط ولا ترديد.
ومنها ما يلزمك قطع النفس وبت النطق، مع الضغط على الحرف والتمسك بمخرجه؛ مثل: أب وإبراهيم، وطبق، وإقبال، وقد، وقدر، ففيها كما ترى شدة في النطق، ونصيب من الكلفة، لا تراه إذا أرسلت الحروف مفتوحة.
وانظر ما صارت إليه القلقلة
17
المعروفة عند القراء من التكلف والتمسك، حتى كأن الحرف حرفان: أحدهما ساكن والآخر محرك بالفتح، ولقد تشعرك قلقلة هذه الحروف حين الإسكان - واختلاسنا لها ومرورنا بها هونا - أن الإسكان كان عند العرب أقوى وأملأ مما ننطق الآن، بل إن من العرب من كان أشد إظهارا للقلقلة وأجهر بها صوتا، قال سيبويه في القلقلة بعد شرحها: «وبعض العرب أشد صوتا.» ا.ه. (ص284 من الجزء الثاني).
وقد جرى المتقدمون على تسمية السكون وقفا.
18
واتفق القراء والنحاة على أن مخرج الحرف إنما يتبين ويتمثل إذا كان ساكنا، فكلفوا من يريد درس الحروف ووصفها، وتحقيق مخارجها، أن يسكن الحرف، ويصله بمتحرك قبله، فيقول: أب، وأت، وأث، ثم يرقب المنطق، ويصف المخرج، ويبين الصفات. وما رسموا ذلك إلا لما رأوا في الإسكان من التمهل بالحرف، والتمسك بمخرجه، وتحقيق نطقه.
فهذا من طبيعة السكون ونطق العرب به، يبين لك أن الفتحة أخف منه، وأيسر مئونة في النطق، وليس ينكر ذلك إلا من غالط نفسه وأنكر حسه.
ومن العرب من يميلون إلى التخفيف، فيسكنون عين الثلاثي إذا كانت مضمومة أو مكسورة. يقولون في رسل: «رسل»، وفي فخد: «فخد»، فإذا كانت العين مفتوحة؛ مثل: جمل، وعمر، وعنب. استبقوا الفتحة، وامتنعوا من تسكين العين.
19
ولو أن السكون كان أخف من الفتحة عندهم لمضوا في التخفيف، فساووا مفتوح العين بالمضموم والمكسور.
فهذا واضح لمن شاء أن يرى، وأوضح منه وأدل، أن العرب قد فروا في بعض المواضع من الإسكان إلى الفتح. ومن ذلك صنيعهم في جمع المؤنث السالم لمثل: فترة، وحسرة، ودعد. فإن العين
20
في المفرد ساكنة، ومن حقها في جمع المؤنث السالم أن تبقى ساكنة أيضا؛ لأن الجمع السالم لا يبدل فيه بناء مفرده، ولكن العرب أوجبت في مثل هذا فتح العين، فيقولون: فترات، وحسرات، ودعدات. ولا يجوزون الإسكان إلا في ضرورة من الشعر.
فهذا حسب المنصف بيانا ودليلا أن الفتحة أخف من السكون وأيسر نطقا؛ فإذا كان ذلك في وسط اللفظ، ودرج الكلام كان أوضح وأبين؛ لأن الإسكان أشبه بالوقف وأقرب إلى قطع اللفظ.
وبعد، فهذه شواهد أخرى تؤنسك بهذا الرأي، وإن لم تبلغ من الاستدلال ما تقدم من البيان؛ فأنت تعلم أن العرب تأبى أن تبدأ بساكن، وترفض أن يجتمع في نطقها ساكنان، حتى تفر من أحدهما بكسر أو فتح.
وقد جعلوا الإسكان علامة التشديد، والبت في الطلب، كما ترى التزامه في الأمر، وفي لتفعل ولا تفعل، وأنت تعلم ما يستدعيه الأمر في أغلب حاله من البت، والتشدد، والجزم. وربما أتوا بالسكون في غير الأمر دلالة على التأكيد وتقوية الكلام، كما ترى في قول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب
إثما من الله ولا واغل
وقول جرير:
ما للفرزدق من عز يلوذ به
إلا بنو العم في أيديهم الخشب
سيروا بنو العم فالأهواز منزلكم
ونهر تيرى فما تعرفكم العرب
21
بل إن أبا عمرو بن العلاء - من القراء السبعة، ومن أئمة النحاة - قرأ: «إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.» بإسكان الراء تشديدا للأمر، لما كان استنكار المأمورين له ظاهرا، ونفورهم منه قريبا؛ وبعده:
قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67 من البقرة).
فهذه دقائق لمن أراد أن يستشف الحق من سر العربية.
وقد انتهينا من استخفاف الفتحة واستحباب العرب إياها، وتفضيلها في اللفظ على أختيها، وعلى السكون أيضا، واعتمدنا في ذلك على طبيعة النطق، وعلى روح العربية في الاستعمال.
ومما يشهد بأن الفتحة ليست بعلم إعراب، وأنها تخالف في ذلك أختيها الضمة والكسرة، ما قرره النحاة في أوجه الوقف على المتحرك الذي قبله ساكن؛ قالوا: «إذا وقفت على كلمة قبل آخرها ساكن؛ مثل: عمرو، وبدر. جاز لك نقل حركة الإعراب إلى هذا الساكن؛ إذ كانت ضمة أو كسرة، أما إذا كانت فتحة فليس لك ذلك؛ تقول: هذا البدر والبدر، ونور البدر والبدر، فإذا قلت: انظر البدر. امتنع أن تنقل الفتحة إلى الدال.» قال أبو القاسم الزمخشري في المفصل:
22 «وبعض العرب يحول ضمة الحرف الموقوف عليه وكسرته على الساكن قبله دون الفتحة في غير الهمزة، تقول: هذا بكر ومررت ببكر.» ا.ه.
فواضح أن العرب فرقت ما بين الفتحة وبين أختيها، ثم احتالت لتحتفظ بهاتين الحركتين على ما في النطق بهما من شدة، ولم تر أن تحتفظ بالفتحة، على سهولتها ويسر نطقها في مذهب الجميع، ولا يمكن أن أرى هذا التفريق عبثا، ولكن كانت الضمة والكسرة علامة على معان، فاحتفظ بهما، ولم يكن في الفتحة ما يدعو إلى هذا الاحتفاظ.
وحكم آخر من أحكام الوقف، فيه تأييد لما ذهبنا إليه، وهو الوقف بالروم، وتفسيره على ما في كتب القراءات: أن تنطق الحركة بصوت خفي يسمعه القريب، بينما يحسب من كان بعيدا منك أنك قد وقفت مسكنا، والوقف بالروم سائغ لجميع القراء في موضعه، وليس خاصا بإمام منهم دون إمام.
ولا يكون الروم عند الوقوف على ساكن، ولا على متحرك بالفتح، وإنما يكون في الضمة والكسرة.
23
وترى هنا ما رأيت في المثل الأول من الاحتفاظ بالحركتين - الضمة والكسرة - والإشارة إليهما بوجه ما وإغفال الفتحة؛ وذلك عندنا لما في الحركتين من معنى يراد دون الفتحة.
ومن القراء من يؤثر الوقف بالروم، ويستحبه للقارئ، إذا كان الإسكان يمس وجه الإعراب بشيء من الشبهة، كما في الآيتين الكريمتين:
فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير (القصص: 24)،
نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (يوسف: 76)، فليس يخلو هذا من الشهادة بصلة بين حركة الإعراب وبين الوقف بالروم.
وشاهد ثالث من علم القافية؛ فقد تعلم أن حرف الروي يجب أن يكون واحدا في القصيدة كلها، وأن حركة هذا الحرف يجب أن تكون واحدة أيضا، فإذا اختلفت الحركة عدوه عيبا في القافية، ثم قسموه إلى قسمين:
الأول:
الإقواء: وهو اختلاف المجرى بكسر وضم.
والثاني:
الإصراف: وهو الاختلاف بفتح وغيره.
24
أما الأول، فقد ورد في شعر كثير من فحول الشعراء المتقدمين، حتى أباحه لهم العلماء ولم يعدوه في شعرهم عيبا، وكان الخليل يقول: «تجوز الضمة مع الكسرة.»
25
وأبو الحسن بن مسعدة
26
يقول: «كثر هذا عن فصحاء العرب.» ويروى منه للنابغة:
زعم البوارح أن رحلتنا غدا
وبذاك خبرنا الغراب الأسود
لا مرحبا بغد ولا أهلا به
إن كان تفريق الأحبة في غد
ولدريد بن الصمة:
نظرت إليه والرماح تنوشه
كوقع الصياصي في النسيج الممدد
فأرهبت عنه القوم حتى تبددوا
وحتى علاني حالك اللون أسود
وكقول حسان بن ثابت:
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر
جسم البغال وأحلام العصافير
كأنهم قصب جوف أسافله
مثقب نفخت فيه الأعاصير
أما الإصراف، فقد أنكره قوم أن يكون جاء في شعر العرب، وأثبته آخرون، على اعتقاد قلته، والتصريح بندرته، قال أبو العلاء المعري: «وإنما أجازوا ذلك في المرفوع والمخفوض، وكرهوا الفتحة أن تجيء مع الكسرة أو الضمة، فأما الخليل وابن مسعدة فلم يذكراه.» ا.ه.
27
والذين أثبتوه لم يذكروا من أمثلته إلا ما كان النصب فيه سابقا، وكان الصرف عنه إلى الرفع أو الخفض دون العكس؛ مثل:
أرأيتك إن منعت كلام يحيى
أتمنعني على يحيى البكاء
ففي طرفي على يحيى سهاد
وفي قلبي على يحيى البكاء
ومثل:
ألم ترني رددت على ابن ليلى
منيحته فعجلت الأداء
وقلت لشاته لما أتتنا
رماك الله من شاة بداء
هذه أمثلتهم هنا، فقد رأيت أن العرب تحرص على الضمة والكسرة؛ تلتزمهما، وتهجر من أجلهما تماثل القافية، وما فيه من انسجام. وإذا بدأ الشاعر قصيدته بالفتحة وبني عليها قافيته، ثم جاء داعي الضمة أو الكسرة استجاب له ولم يبال القافية، والأعشى بنى على الفتح قصيدته التي مطلعها:
رحلت سمية غدوة أجمالها
غضبى عليك فما تقول بدا لها
28
ثم قال:
هذا النهار بدا لها من همها
ما بالها بالليل زال زوالها؟!
أما أن تكون القافية رفعا أو جرا، ثم يدعو إلى النصب داع، فإن الشاعر لا يستجيب له، بل يمضي في قافيته، ملتزما ما ينبغي لها من تماثل وانسجام.
بنى الفرزدق على الضمة قصيدته التي أولها:
عزفت بأعشاش وما كدت تعزف
وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف
ثم قال:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتا أو مجلف
فرفع «مجلف»، واستبقى حركة القافية، ولم يبال داعية النصب.
والنحاة يضطربون عند هذا البيت اضطرابا شديدا، فمذ قاله الفرزدق وهو مثار خلاف بين النحاة وبينه، وبين النحاة بعضهم بعضا.
29
فعبد الله بن أبي إسحاق إمام النحاة المتوفى سنة 117، عاب على الفرزدق وخطأه وسأله يوما: علام رفعت «مجلف» في بيتك؟ فقال: «على ما يسوءك وينوءك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا.» ثم أخذ يهجوه في شعره.
وأبو عمرو بن العلاء [س154]، ويونس بن حبيب [س183]، وكانا لا يعرفان للرفع وجها، ومحمد بن سلام [س232] سأل يونس بن حبيب، لعل الفرزدق قالها على النصب ولم يأبه بالقافية؟ فقال: لا، كان ينشدها على الرفع وأنشدنيها رؤبة على الرفع. ومن النحاة مع هذا من ينشده بالنصب تخلصا من الورطة في إعرابه، وقال أبو القاسم الزمخشري [س538]: «هذا البيت لا تزال الركب تصطك في إعرابه.»
وقال الإمام أبو عبد الله بن قتيبة [س276] في كتاب الشعراء: «رفع الفرزدق آخر البيت ضرورة، وأتعب أهل الإعراب في طلب الحيلة، فقالوا وأكثروا، ولم يأتوا فيه بشيء يرتضى، ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر، أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه؟!» ا.ه.
وذلك أنهم قدروا النصب إعرابا ورأوا الشاعر قد انصرف عنه إلى الرفع، فرفضه من رفضه، واحتال لتوجيهه قوم، وعده من الضرورة آخرون.
وأنت تعلم حرص العرب على الإعراب، ودقة حسهم به، وتأديبهم عليه، وتعلم طبيعة الشعر العربي، وما فيه من قافية، وما للقافية من أحكام وأن التماثل والانسجام من أجلى صفاته، وأدق خصائصه. فلما تعارضت حركة الإعراب وحركة القافية، استجاب العربي لما هو أولى أن يمثل معناه، ويصور مراده، ولما هو ألصق بطبعه وأدخل في عربيته؛ وهو الإعراب.
كذلك فرق العربي بين الضمة والكسرة، وبين الفتحة. فليس لمنصف يعرف الحق أن يغفل هذه التفرقة من العربي، وأن يهمل وجه دلالتها، وما تشير إليه من معنى.
فهذه من الدلائل على ما رأينا من أن الضمة والكسرة هما علما الإعراب، وأن الفتحة ليست من علاماته، وإنما هي الحركة الخفيفة المستحبة عند العرب التي يحبون أن تنتهي بها الكلمات في درج القول، ما لم يدعهم الإعراب إلى حركة يدلون بها على معنى، أو يدعهم الوقف إلى إسكان يبت عنده النطق، ومن الله التوفيق والهداية إلى الصواب.
وقد نجد في كلام النحاة ما يؤيده أيضا؛ قالوا: بالنصب على نزع الخافض. ومعناه كما تعلم أن يكون من حق الكلام ذكر الجار، ثم يحذف لسبب ما، فتنقلب الكلمة مفتوحة؛ مثل: تمرون الديار. روي لجرير:
تمرون الديار ولم تعوجوا
كلامكم علي إذن حرام
وهم يعدون ذلك نادرا شاذا، على أنه في كلام العرب أوسع مما قرروا؛ هم قد اقتصروا على حذف الحرف الجار، وروي عن العرب النصب في غيره. قال الكسائي: «والعرب إذا ألقت «بين» من كلام تصلح «إلى» في آخره نصبوا الحرفين المخفوضين، تقول: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملا، وهي أحسن الناس ما قرنا فقدما.» قال: «وسمعت أعرابيا وقد رأى الهلال، فقال: الحمد لله ما إهلالك إلى أسرارك.» والعرب تقول: «الشنق ما خمسا إلى خمس وعشرين.»
30
ا.ه. فقد رأيت العرب تصبو إلى الفتح حين يحذف داعي الجر حرفا أو اسما.
وكذلك يصيرون إليه حين يتحول عن الكلمة داعي الرفع أيضا؛ تقول: خرج زيد وعمرو. تريد أن تتحدث عن كل منهما فترفع، فإذا كان الحديث عن واحد، وكان الثاني من تكملة الحديث، تحول داعي الرفع عنه فنصب؛ وقلت خرج زيد وعمرا.
وللنحاة في نصب هذا الاسم وناصبه خلاف عنيف، أناصبه الواو؟ أم الفعل قبله؟ أم هما معا؟ أم عامل معنوي سماه بعضهم الخلاف؟
على أن المنهج العربي واضح ، في بعد عن هذا الخلاف والشقاق، فإنه لم يكن من داع إلى الرفع فدخلت الكلمة في الباب الأوسع الأشمل وهو النصب.
ومثل هذا كثير لا يخفيه عن الناظر إلا تلك الرسوم التي رسموا، ثم تعبد الناس بها حتى صرفتهم عن المعنى وما تدل عليه الألفاظ.
وتستطيع أن ترى مثل ذلك في: «كلمته فاه إلى في» و«بعته يدا بيد» لما لم يكن من همك التحدث عن الفم واليد، وإنما سقتهما بيانا وتتمة للحديث، لم ترفع، ولو قصدت إلى التحدث عنهما لرفعت، ولقلت: يد بيد، وفوه إلى في.
والنحاة ينصبون مثل هذا على الحال، ثم يجدونه مخالفا للرسوم التي وضعوها للحال، فيتأولون لذلك كعادتهم في التأويل.
وكذلك يقولون: «مطرنا سهلنا وجبلنا، والسهل والجبل. وجاء القوم أولهم وآخرهم، والأول والآخر.» يرفعون ذلك كله فيعربه النحاة بدلا، ويروى منصوبا فتكون معضلة لدى النحاة يستعان فيها بأنواع من التأويل.
وتعرف تعسفهم في إعراب «عمرك الله» و«نحن العرب» و«إياك والأسد»، و«إياك الأسد»، وكذلك تعرف عناءهم في تلمس السبل لإعراب «عذيرك»
31
في مثل قول عمرو بن معد يكرب:
أريد حياته ويريد قتلي
عذيرك من خليلك من مراد
وقول ذي الأصبع العدواني:
عذير الحي من عدوا
ن كانوا حبة الأرض
32
وإعراب ذلك كله، وسواه مما يحتد فيه الخلاف ويكثر فيه التقدير والإضمار، أمر قريب واضح؛ فإنها كلمات لا يتحدث عنها فترفع، ولا هي مضاف إليها فتجر، فليس لها إلا أن تلزم الأصل وهو النصب. (4) الأصل في المبني أن يسكنا
أصل أقره النحاة، وجعلوه أساسا لكثير من بحثهم في باب البناء، فإذا صح واستقام حكمه، وكان أكثر الكلمات المبنية في العربية ساكنا، كان ذلك شاهدا بميل العرب إلى التسكين، وبمصيرهم بالكلمات إليه، إذا لم يكن لهم من التحريك غرض.
وإذا علمنا أن حروف المعاني هي أكثر الكلمات دورانا على اللسان، وأولجها في تأليف الجمل، وأنها كلها مبنية، كان في تسكينها ما يشهد أن السكون أخف وأيسر، بما أنه قد اختير لأسير الألفاظ وأشيعها في الاستعمال ، ولم يكن لنا أن نرد هذه الشهادة، وبمثلها نتنور أصول العربية، ونستشف أسرارها.
إشكال أثاره أحد الطلبة ونحن ندرس هذا الموضوع جميعا، وهو جدير أن نناقشه في بحثنا هذا: قال ابن مالك في الخلاصة:
والأصل في المبني أن يسكنا
وقال أبو القاسم الزمخشري في المفصل: «البناء على السكون هو القياس.» قال شارحه ابن يعيش: «القياس في كل مبني أن يكون ساكنا، وما حرك من ذلك فلعلة؛ فإذا وجدت مبنيا ساكنا، فليس لك أن تسأل عن سبب سكونه؛ لأن ذلك مقتضى القياس فيه، فإن كان متحركا فلك أن تسأل عن سبب الحركة وسبب اختصاصه بتلك الحركة دون غيرها.»
فهذه أقوال النحاة، وقد يتبادر إلى فهم القارئ أن الكثير الغالب على المبنيات هو السكون، وأن النحاة إنما أخذوا هذا الأصل الذي قرروا من تتبع المبنيات في كلام العرب واستقرائها، وليس هذا بصحيح؛ فإنهم قد استمدوا هذا الأصل من فلسفتهم النظرية التي أشرنا إليها من قبل، وفصلنا كثيرا من قواعدها.
قال ابن يعيش في التدليل على هذا القياس: «وإنما كان القياس في كل مبني السكون لوجهين، أحدهما: أن البناء ضد الإعراب. وأصل الإعراب أن يكون بالحركات المختلفة للدلالة على المعاني المختلفة، فوجب أن يكون البناء الذي هو ضده بالسكون. والوجه الثاني أن الحركة زيادة مستثقلة بالنسبة إلى السكون، فلا يؤتى بها إلا لضرورة تدعو لذلك.» ا.ه.
فقد رأيت كيف استمدوا دليلهم من غير أن يرجعوا إلى الإحصاء والاستقراء، بل لقد صرحوا «بأنه ليس أغلب المبنيات كلها ساكنا.» قال الصبان في شرح الخلاصة عند قوله:
والأصل في المبني أن يسكنا «الأصل؛ أي: الراجح والمصطحب لا الغالب؛ إذ ليس أغلب المبنيات ساكنا.»
ولقد كان ذلك يكفينا في رفض أصلهم، ودفع الاعتراض به، ولكننا رأينا أن ننظر في استقصاء المبنيات وتقسيمها لنعلم نسبة الساكن منها إلى المتحرك، وأي الحركات أغلب؟ ولم ننس أنا ندرس حركات الإعراب، لا حركات البناء، ولكنا تقدمنا إلى درس طبائع الحركات وموازينها في النطق، فكان درس الحركة في المبني مما عساه أن يكشف عن الحق أو يؤيده.
وقد وجدنا عدد حروف المعاني سبعين حرفا؛ الساكن منها اثنان وعشرون، والمتحرك ثمانية وأربعون، أما المتحرك: فالمفتوح منه اثنان وأربعون، والمكسور خمسة، والمضموم واحد.
فالساكن في البناء أقل من المتحرك، بل هو أقل من المتحرك بالفتح وحده.
33
هذا في حروف المعاني.
أما الاسم المبني فليس قريبا إحصاؤه، بل لسنا في حاجة إلى الإحصاء؛ وجلي أنه قل أن يبنى على السكون.
وقد يدل بالحركة في الاسم المبني على معان غير الإعراب؛ مثل: أنت، وأنت، وذا، وذي. وقد نرى الاسم يبنى على فتحتين مثل: خمسة عشر، وبين بين، وصباح مساء، ولا نراه يبنى على سكونين، ولا على حركتين غير الفتحة.
أما الفعل فالماضي بناؤه على الفتح ما أمكن الفتح، والمضارع أكثر بنائه على الفتح، وذلك حين يؤكد بإحدى النونين، والأمر وحده يبنى على السكون، وقد تقدم الإشارة إلى أن هذا لما في الأمر من معنى القوة والبت، والتشدد في الطلب، وذلك أليق بالسكون وما فيه من شدة في النطق.
فهذا الاستشكال على نظريتنا قد انتهى بحثه إلى تأييدها أيضا، وأكد ما نقول من أن العرب تشير بالحركات إلى معان في الكلام، وأنها تستخف الفتحة عن غيرها من الحركات، بل تستخفها عن السكون أيضا، وأنها تضع السكون حيث تريد أن تشير إلى شيء من التأكيد والبت ومما فيه من معنى القوة حظ.
العلامات الفرعية للإعراب
وقد أطال النحاة بذكر علامات أخرى للإعراب، سموها العلامات الفرعية، وجعلوها نائبة عن العلامات الأصلية. وسترى فيما بعد ألا وجه لهذا التفصيل والإطالة بتقسيم علامات الإعراب إلى علامات أصلية وأخرى فرعية.
وسندرس هذه العلامات الفرعية واحدة واحدة، ونبين وجه ما نقول في كل واحدة منها ونذكر دليله.
الباب الأول: باب الأسماء الخمسة
وهي: الأب، والأخ، والحم، والفم، وكلمة ذو. وقد يزيدون عليها كلمة «هن» بمعنى متاع، ويسمونها الأسماء الستة.
ويجعلون الحروف في الباب نائبة عن الحركات في الدلالة على أوجه الإعراب: فالرفع بالواو، والنصب بالألف، والجر بالياء.
ونقول: إنه لا حاجة إلى هذا التفصيل والتطويل، وإنما هي كلمات معربة كغيرها من سائر الكلمات: الضمة للإسناد، والكسرة للإضافة، والفتحة في غير هذين: وإنما مدت كل حركة فنشأ عنها لينها؛ وسبب ذلك أن كلمتي «ذو» و«فا» وضعتا على حرف واحد، وبقية كلمات الباب وضعت على حرفين، الأول منهما حرف حلقي، وتعلم أن حروف الحلق ضعيفة في النطق، قليلة الحظ من الظهور، فليس لعضل الحلق من المرونة والقدرة على النطق وتحديد المخارج ما للسان والشفتين، ومن عادة العرب أن تستروح في نطق الكلمات، وأن تجعلها على ثلاثة أحرف في أغلب الأمر، فمدت في هذه الكلمات حركات الإعراب ومطتها لتعطي الكلمة حظا من البيان في النطق.
وليس في العربية اسم معرب بني على حرف أو حرفين أحدهما حلقي، إلا وهذا حكمه. ويؤنسك بهذا أن ما ينون من هذه الكلمات، أو يوصل بأل، يعرب بالحركات من غير لين بعدها؛ مثل: أب، وأخ، والأب والأخ. وذلك لأن الكلمات قد طالت في النطق شيئا بالتنوين وأل، فأغنى ذلك عن مد الحركة الأخيرة وإحداث لينها بعدها، وقد حذف التنوين من «أب وأخ» ولم يكونا مضافين ولا فيهما «ال» فعادت الألف، وقالوا: «لا أبا لك» و«لا أخا لك» ورووا:
أهدموا بيتك لا أبا لكا
وزعموا أنك لا أخا لكا
فاضطرب النحاة؛ لأنهم لا يرون إعراب الأسماء الخمسة بالحروف إلا حين تكون مضافة؛ قالوا: «إن اللام زائدة، والكلمة مضافة لما بعدها.» ولكن ذلك يستدعي أن تكون معرفة و«لا» لا تعمل إلا في نكرة؛ فكانت معضلة نحوية طال فيها الجدل لتخريج المثلين أو عدهما شاذين، ولا شذوذ ولا إعضال، وإنما هي قاعدة مطردة في هذه الكلمات: إذا أفردت غير منونة أطلقت الحركات في آخرها إطنابا فيها وتحقيقا لنطقها، كما بينا من قبل.
وما قررناه في إعراب هذه الأسماء إنما هو مذهب الإمام أبي عثمان المازني - المتوفى سنة 247 - تراه وغيره من مذاهب إعرابها في كتاب الإنصاف لابن الأنباري، وجمع الجوامع للسيوطي.
الباب الثاني: باب جمع المذكر السالم
وأمره أهون، فإن الضمة فيه علم الرفع والواو إشباع، والكسرة علم الجر والياء إشباع؛ وأغفل الفتح لأنه ليس بإعراب فلم يقصد إلى أن يجعل له علامة خاصة، واكتفى بصورتين في هذا الجمع.
ومما يدلك على أنهم عنوا بالدلالة على الجر، وأغفلوا النصب، أن نظيره وهو جمع المؤنث السالم رفع بالضمة، وجر بالكسرة، ثم أغفل الفتح فيه أيضا، كما أغفل في جمع المذكر السالم، وكانت المماثلة في الجمعية داعية إلى المشابهة في مسلك الإعراب، وقد كان مستطاعا يسيرا أن يشكل جمع المؤنث بكل الحركات، ولكن المسايرة ورعاية النظير في العربية أمر مقرر كثير الشواهد.
الباب الثالث: باب ما لا ينصرف
جعلوا فيه الفتحة نائبة عن الكسرة، وقد أشرنا إلى سبب ذلك من قبل، وبينا أن الفتحة لم تنب عن الكسرة، وإنما الذي كان؛ أن هذا الاسم لما حرم التنوين، أشبه - في حال الكسر - المضاف إلى ياء المتكلم إذا حذفت ياؤه، وحذفها كثير جدا في لغة العرب،
1
فأغفلوا الإعراب بالكسرة، والتجأوا إلى الفتح ما دامت هذه الشبهة، حتى إذا أمنوها بأي وسيلة عادوا إلى إظهار الكسرة، وذلك إذا بدئت الكلمة بأل، أو أتبعت بالإضافة، أو أعيد تنوينها لسبب ما، فليس مع واحد من هذه الأشياء الثلاثة شبهة الإضافة إلى ياء المتكلم كما هو واضح.
وقد عد بعض النحاة الفتحة فيما لا ينصرف حركة بناء لا حركة إعراب، وهو رأي وجيه نقول به، ويؤيد ما ذهبنا إليه.
على أن لما لا ينصرف وللتنوين منه شأنا، سنفرد لبحثه بابا خاصا، نقرر فيه غير ما قرر النحاة، ونجلي أمره إن شاء الله.
ولم يبق من العلامات الفرعية إلا باب المثنى، ونقرر أنه قد شذ عن أصلنا، ولكن باب التثنية في العربية غريب كباب العدد؛ إذ يذكر فيه المؤنث ويؤنث المذكر، ومن توسع في درس المثنى ورأى وضع العرب له مرة موضع المفرد، وأخرى موضع الجمع، تجلى له حقيقة ما نقول.
فليس يقدح شذوذ المثنى في أمر تقرر في سائر العربية واستقام في كل أبوابها.
التوابع
المماثلة بين الكلمات العربية ، ومشاكلة الكلمة لسابقتها، أمر كثير شائع. وأنواع السجع في النثر، والقافية في الشعر، والفواصل في آي الكتاب الحكيم، كلها شاهدة بأن الانسجام، والتماثل بين الكلمات، من الموسيقى العربية وجمالها المرعي.
وفي البديع كثير من أنواع الجناس والموازنة، كلها مماثلة لفظية تعد من جمال القول وحسن تأليفه.
والذي يهمنا دراسته، هو المماثلة في الإعراب، وهو الذي يسميه النحاة إتباعا، ويسمون اللفظ الثاني من المتماثلين تابعا، والأول متبوعا. ويعدون التوابع خمسة: النعت، والتوكيد، والبدل، وعطف البيان، وعطف النسق. ويلحقون بها الإتباع للمجاورة، وهو يختص عندهم بالجر، ويعدونه قليلا أو شاذا.
ونريد أن نعرف سبب هذا الإعراب في التوابع وما يدل عليه من معنى، لنرى أيطرد في هذا الباب الأصل الذي قررناه من قبل في معاني الإعراب.
العطف
أما عطف النسق، فإنك إذا قلت: جاء زيد وعمرو، وجدت أن الاسمين متحدث عنهما، ولو أنك أخرت الحديث أو المسند لقلت: زيد وعمرو جاءا، ومن هنا استحق كل من الاسمين الرفع؛ على الأصل الذي قررنا. ولم يكن الأول أحق بهذا النوع من الإعراب، ولا الثاني محمولا عليه؛ كلا الاسمين متحدث عنه، وكلاهما له إعراب المتحدث عنه وهو الرفع.
وكذلك في الإضافة تقول: هذا أخو زيد وعمرو، ومال زيد وعمرو، فالإضافة إلى كل من الاسمين، كأنك قلت: هذا أخو زيد وأخو عمرو؛ وإنما أوجزوا إذ وجدوا الإيجاز دالا، وأنت تعلم أن الاقتصاد من القوانين الطبيعية في اللغات، وأنه في العربية كثير شائع، وظاهر واضح.
فليس الأمر في العطف إتباعا، وإنما هو كما قال سيبويه: إشراك أو تشريك.
1
وما رأيت في الواو العاطفة تراه في سائر حروف العطف، فمثل: جاء زيد لا عمرو. وما جاء زيد بل عمرو؛ المتحدث عنه اسمان أيضا، أثبت لواحد ما نفيته عن الثاني، وكذلك هو مال زيد لا عمرو، وما هو بمال زيد بل عمرو، لا يفهم الكلام إلا على الإضافة، وإن تكن بسبيل الإثبات في واحد والنفي مع الآخر.
وباب العطف إذن ليس له إعراب خاص، وليس جديرا أن يعد من التوابع، ولا أن يفرد بباب لدرسه. هذا من ناحية الإعراب، أما من جهة معاني الحروف العاطفة أما المشركة ومواضع استعمالها، فهذا مكان الدرس، ولم نزل ندعو إلى دراسة الأدوات منفصلة عما أعده النحاة لها من أثر في الإعراب، وإلى توفير البحث عن معانيها وسبل استعمالها، كما طلبنا من قبل في أدوات النفي وأدوات التوكيد، ونعد هذا أحق الدراسات النحوية أن نوفر عليها العناية، وننعم فيها النظر لنكشف عن أسرار العربية في التعبير، ومزاياها في البيان وحسن التصوير.
والذي حمل النحاة على أن يجعلوا للعطف بابا خاصا، هو فلسفتهم في العامل؛ وذلك أن مثل «قام زيد وعمرو»، رفع فيه الفعل فاعله واستوفى عمله عند الاسم الأول، ولا يعمل الفعل إلا رفعا واحدا، كما قدمنا في نقد نظرية العامل وتلخيص قواعدها، فكان حتما أن يجعلوا رفع الاسم الثاني من سبيل الإتباع للأول. وكذلك الإضافة في مثل: غلام زيد وعمرو، يختلف النحاة في العامل الجر، أهو الاسم الأول؟ أم الحرف المقدر؟ أم معنى الإضافة؟ ثم يتفقون على أن العامل في الإضافة ضعيف أيا كان نوعه. فأما الاسم فإنه ضعيف في باب العمل؛ لا يعمل حتى يحمل على الفعل ويلحق به، وحظه من شبه الفعل هنا ضعيف، وحمله على الفعل في عمل الجر أضعف؛ إذ كان الفعل لا يعمل الجر، ولا يدخله الجر.
وأما الحرف؛ فإن حرف الجر ضعيف أن يعمل محذوفا، وإذا حذف نصب المعمول بعده، وإذا ضعف أن يعمل جرا واحدا، فليس له أن يعمل جرين إلا بسبيل الإتباع.
هذا قولهم، وقد بينا لك من قبل أنا نرجع إلى المعنى، فما كان في المعنى مضافا إليه فهو مجرور، والجر علم الإضافة، ولا شيء من الإتباع في باب العطف.
بقية التوابع
أما سائر التوابع بعد العطف، فهي قسمان:
الأول:
تكون فيه الكلمة الثانية من الأول بمنزلة المكمل للمعنى، المتمم له، حتى لا يفهم المعنى إلا بهما معا، وحتى يكونا في الدلالة على ما يراد بمثابة «عبد الله» في الدلالة على مسماه. تقول: «استشر عاقلا نصيحا»، ليس المستشار، أو من رغبت في أن يستشار، إلا ما أفهمت بالكلمتين: «عاقلا نصيحا»، وكذلك الآية الكريمة:
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة (النساء: 92).
وهذا التفسير في معنى هذا النوع من التوابع مأخوذ من قول سيبويه؛ قال في مثل مررت برجل ظريف ما نصه: «فصار النعت مجرورا مثل المنعوت لأنهما كالاسم الواحد، من قبل أنك لم ترد الواحد من الرجال الذين كل واحد منهم رجل، ولكنك أردت الواحد من الرجال الذين كل منهم رجل ظريف فهو نكرة، وإنما كان نكرة لأنه من أمة كلها له مثل اسمه؛ وذلك أن الرجال كل واحد منهم رجل، والرجال الظرفاء كل واحد منهم رجل ظريف، واسمه يخلطه بأمته حتى لا يعرف منها.»
2
وزاد شارحه السيرافي، فقال: لو قلت رجل ظريف صيرفي صار من جملة الظرفاء الصيارفة، وهم أقل من الرجال الظراف فقط، ولم يطلب في غير الصيارفة. ا.ه.
فهذا النوع الأول من التوابع، وحكمه أن يكون للاسم الثاني ما للأول من إعراب وتعريف وتنكير وتأنيث من حيث اتصل فيهما المعنى؛ بل من حيث امتزجا هذا الامتزاج الذي تراه.
القسم الثاني:
من التوابع لا تكون الكلمة الثانية فيه من الأولى بمنزلة المكمل - حتى لا يفهم المعنى المقصود إلا بهما معا - بل يكون الأول دالا على معناه مستقلا بإفهامه، والثاني: دالا على معنى الأول مع حظ من البيان والإيضاح يجيء من قرن الكلمتين إحداهما إلى الأخرى.
وأنت تستطيع أن تقف عند الكلمة الأولى وقد فهم الكلام بتمامه فهما ما، كما تستطيع أن تكتفي بالثاني والمعنى قد فهم أيضا، فإذا ضممت الكلمتين، أفدت التأكيد أو زيادة البيان، كما في: زارني محمد أبو عبد الله، ولقيت القوم أكثرهم أو كلهم.
تقول: «زارني محمد»، أو: «زارني أبو عبد الله»، والمعنى فيهما واحد. وتضم الاسمين معا، فتقول: «زارني محمد أبو عبد الله»، فهو المعنى الأول زدته بيانا أو تأكيدا، وذلك بعيد مما رأيته من قبل في النعت.
هذا النوع الثاني من التوابع يشمل الأقسام التي سماها النحاة بدلا، وتوكيدا، وعطف بيان. وتتفق فيه الكلمتان في الإعراب من حيث كان مدلول الأولى مدلول الثانية، والحكم على إحداهما بأنه متحدث عنه أو مضاف إليه، حكم على الأخرى؛ لما رأيت من اتفاق المدلول، ثم لا يلزم أن يتفق اللفظان في التعريف والتنكير، فقد يغلب أن يكون الثاني أعرف من سابقه أو مثله في التعريف، وربما كان أقل منه تعريفا إذا كان قرنه إليه وإتلاؤه له يزيد السابق بيانا.
هذه هي التوابع: نوعان يختلفان في أداء المعنى وفي حكم اللفظ؛ وهو تقسيم كما تراه يميز ما بينهما تمييزا واضحا، ويجعل المعنى هو الحكم في تمييز كل نوع، وفي إعطائه ما ينبغي له من الحكم.
هذا التقسيم على وضوحه وقلة الأقسام فيه، واعتماده على المعنى، يفصل ما بين النحاة من خلاف في تمييز الأقسام بعضها من بعض، ويقينا الاضطراب الذي يضطر به النحاة في كثير من المواضع؛ أهي النعت، أم بدل، أم عطف بيان؟
قال السيوطي في جمع الجوامع في باب النعت:
3 «وجوز الكوفية التخالف في المدح والذم، ومثلوا بقوله تعالى:
ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالا
فجعلوا «الذي» صفة «لهمزة». وجوز الأخفش وصف النكرة بالمعرفة إذا خصصت قبل ذلك بالوصف، وجعل منه قوله تعالى:
فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان
قال: «الأوليان صفة لآخران؛ لأنه لما وصف تخصص. وجوز قوم عكسه؛ أي: وصف المعرفة بالنكرة مطلقا، ومثل بقوله: «وللمعنى رسول الزور قواد.» قال: «قواد صفة المعنى.» وجوز أبو الحسن بن الطراوة وصف المعرفة بالنكرة إذا كان الوصف خاصا بالموصوف لا يوصف به غيره؛ كقوله: «في أنيابه السم ناقع.» قال: «ناقع صفة للسم.» وأجيب بالمنع في الجميع بإعرابها أبدالا.» ا.ه.
فهذا يبين ما بين النعت والبدل عندهم من الاضطراب في تحديد المعنى اضطرابا يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام. وهذا مثل من الأمثلة، وترى له نظائر متعددة في كتب الأعاريب أنى قرأت، ولو أنهم جعلوا الفاصل المعنى كما بينا من قبل لما اضطربوا ذلك الاضطراب.
أما ما بين عطف البيان والبدل من الفوارق، فإنا نعفيك ونعفي أنفسنا أن نفصل بيانها، ونعلم أن أدنى ذكر لك بما في هذا الباب يقنعك أن هذه الفوارق جميعها ترجع إلى أحكام لفظية، وإلى علل من نظريات العامل لا أثر لها في المعنى. وقد أغنانا الإمام الرضي بحث هذه الأبواب؛ إذ قال في شرح البدل ما نصه: «أقول: وأنا إلى الآن لم يظهر لي فرق جلي بين بدل الكل من الكل وبين عطف البيان، بل لا أرى عطف البيان إلا البدل كما هو ظاهر كلام سيبويه، فإنه لم يذكر عطف البيان، بل قال: أما بدل المعرفة من النكرة، فنحو: مررت برجل عبد الله، كأنه قيل بمن مررت، أو ظن أنه يقال له ذلك فأبدل مكانه من هو أعرف منه، ومثل قوله تعالى:
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله .» ا.ه.
4
وليس بوجيه أن يفرق بين التوكيد والبدل، فإنه أسلوب واحد أن تقول: جاء القوم بعضهم، أو جاء القوم كلهم، والأول عندهم بدل والثاني توكيد. وكل وما يمكن أن يبرر به عد التأكيد تابعا خاصا، وأن يفرد باب لدرسه، هو أنه نوع من البدل جاء بكلمات خاصة، لزم أن تعدد وتحدد، فكان تفصيلا لأنواع البدل، وتفسيرا لجزء منه، لا تمييزا لتابع جديد له أحكام خاصة.
النعت السببي
ويجب أن نعود إلى بحث نوع من النعت، وهو الذي يسميه النحاة «النعت السببي»، ومثله قوله تعالى:
ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها (النساء: 75)، وقولك: «رأيت فتى باكية عليه أمه.» وظاهر في هذا النوع أنه لا يرتبط بسابقه ارتباط النعت على ما بينا من قبل، وأسلوب الكلام أن تقول في المثل: رأيت فتى باكية عليه أمه؛ ترفع، والرفع هو وجه الكلام، من حيث كان البكاء وصفا للأم وحديثا عنها. أما موافقة الكلمة لما قبلها في الإعراب، فذلك يجيء من باب آخر؛ هو باب المجاورة. وكل ما عد عند النحاة نعتا سببيا فحقه أن ينفصل عما قبله، وألا يجري عليه في إعرابه، ولكنه إذا وافقه في التعريف والتنكير جرى عليه في الإعراب، وكان ذلك من باب الإعراب بالمجاورة، وهذا التفسير مأخوذ من قول ابن جني في توجيه ما رووا عن العرب من مثل: «هذا جحر ضب خرب.» قال النحاة: «هو جر على المجاورة، وهو قليل شاذ.» وقال ابن جني: «ليس بقليل ولا شاذ، بل منه في اللغة العربية كثير جدا، وأصله: هذا جحر ضب خرب جحره. فحذف كلمة جحره لأنها واضحة في المعنى.» ا.ه. فالذي نقول به هنا هو أن تخريج ابن جني لهذا المثل حكم شائع في جميع النعت السببي؛ وحقه كله الرفع على الاستئناف وابتداء الحديث، وعلى أن الجملة كلها هي التي تتصل بما قبلها، ولكنه يفارق الرفع ويعطى إعراب ما قبله؛ إتباع المجاورة، لا إتباع النعت. فلو أنه كان صفة لما قبله لكان بعيدا أن تقول: القرية الظالم وفتى باكية، وأنت تعلم عناية العرب بالنوع وبيانه، وحرصهم على التفريق ما بين المذكر والمؤنث.
فقد انتهينا من أقسام التوابع وأحكامها كما عدها النحاة، وأسقطنا منها نوعا هو العطف، وقسمنا باقيها قسمين: النعت والبدل، وبينا أنها في أحكامها لا تخالف الأصل الذي قررنا من قبل في معاني الإعراب، وخالفنا النحاة في النعت السببي، وجعلناه إتباعا للمجاورة.
الخبر
ويجب أن نزيد هنا تابعا، هو أهم من الأقسام السابقة كلها وأولاها أن يذكر في باب التوابع، وهو الخبر؛ وذلك أنهم إذا أرادوا أن يدلوا على أن الكلمة هي عين الأولى، وأنها صفة متحققة لها، أشاروا إلى ذلك بالموافقة في الإعراب وفي التذكير والتأنيث.
ونعتمد في هذا على كلام المتقدمين من النحاة، فقد قال سيبويه: «إن الخبر إنما رفع من حيث كان من المبتدأ هو هو.» وقال نحاة الكوفة: «إن الخبر إذا خالف المبتدأ ولم يكن وصفا له، وإنما كان بيانا لمكانه أو زمانه لم يرفع ونصب.» ويسمونه النصب على الخلاف، تقول: «زيد أمامك». فإذا لم يكن بيانا للمكان، بل كان وصفا للأول فهو مرفوع كما قال المعري:
ورائي أمام، والأمام وراء
وكل حياة العالمين رياء
والذي منع النحاة أن يقولوا بالإتباع في باب الخبر، أنهم رأوا المبتدأ يكون مرفوعا والخبر منصوبا في باب كان، وليس التفسير على ما تصوروا، فإن المتحدث عنه هو الذي سموه اسم كان، والمتحدث به أو الخبر، هو «كان قائما»، فليس «قائما» بخبر يلزم أن يتبع المبتدأ في إعرابه، وكذلك في باب «إن»، رأوا المبتدأ منصوبا والخبر مرفوعا، فأنكروا الإتباع، وقد علمت من قبل، أن الاسم في باب «إن» مرفوع، وأنه قد ورد إتباعه على الرفع؛ جاء في القرآن الكريم:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون
وفي الشعر ما روى سيبويه:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم
بغاة ما بقينا في شقاق
وقالت العرب: «إنهم أجمعون ذاهبون»، فخطأهم سيبويه، وهو المخطئ، كما بينا من قبل في بحث أبواب الرفع؛ فالخبر في هذا الباب تابع مرفوع كما رفع غيره من التوابع، ونظيره في الإتباع ما روى النحاة في مثل: «ليس زيد بقائم ولا قاعدا»، و«ليس زيد قائما ولا قاعد» على ما تعلمه في خبر ليس.
فهذا حكم الخبر والله أعلم.
تكملة البحث
في مواضع أجاز النحاة فيها وجهين من الإعراب
أراني قد انتهيت من تقرير ما أردت، وبينت أن للإعراب في العربية علمين: «الضمة» و«الكسرة»، وأن الضمة علم الإسناد، والكسرة علم الإضافة، واستقريت أبواب الإعراب كما عدها النحاة، ورأيت استقامة هذا الأصل معها، واطراده فيها؛ على أنه قد يسر أحكام الإعراب ومكن من الإحاطة بها على أقرب وجه وأدناه إلى توضيح سر العربية.
وقد كان في هذا بلاغ ما أردت، ولكني أردت أن أكمل البحث بدرس أبواب، أجاز النحاة فيها وجهين من الإعراب، ساووا بينهما مرة، وفضلوا وجها على الثاني في الأخرى. والأصل الذي تقرر لا يساير هذا التخيير، ولا يجيز أن يكون للكلام وجهان من الإعراب يلابس المتكلم أيهما شاء، فمتى ثبت أن للحركة أثرا في تصوير المعنى تجتلب لتحقيقه، لم يكن للمتكلم أن يعدل عن حركة إلى أخرى حتى يختلف المعنى الذي يقصد إلى تصويره، فيختلف الإعراب تبعا له. ومن ثم كانت الأبواب ذات الحكمين أو الإعرابين المختلفين، موضعا صالحا لاختبار هذا الأصل، دقيقا في تقدير مداه، وكان من تكملة البحث أن ندرس هذه الأبواب ونقيس أحكامها بحكمه، وقد رأيت أنه كشف عن سر العربية في هذه الأوجه وأبان عن سبب اختلافها، وعن صلة ما بين هذا الاختلاف ودقائق ما يراد من المعنى، وأنه ربما صحح من أحكام النحاة، أو فصل في بعض ما بينهم من خلاف. (1) باب «لا»
وأول هذه المواضع، باب «لا». والنحاة يجعلون للاسم بعد «لا» أنواعا من الإعراب مختلفة: (1)
يجعلونها عاملة عمل ليس، فيرفع بعدها الاسم وينصب الخبر، ويروون لذلك قول الشاعر:
من صد عن نيرانها
فأنا ابن قيس لا براح
وقول الآخر:
تعز فلا شيء على الأرض باقيا
ولا وزر مما قضى الله واقيا (2)
ويجعلونها عاملة عمل «إن»، فينصب الاسم بعدها غير منون ويرفع الخبر، ولذلك أمثلة كثيرة؛ مثل:
ذلك الكتاب لا ريب فيه (البقرة: 2)،
لا تثريب عليكم (يوسف: 92)،
لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم (هود: 43). (3)
ويجعلونها مهملة فيرفع بعدها المبتدأ والخبر؛ مثل:
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (يونس: 62).
ويجيزون في نحو: «لا حول ولا قوة إلا بالله» خمسة
1
أوجه من الإعراب؛ ويطيلون في توجيه كل إعراب منها.
وإذا أردنا أن نعرف الفرق بين ما تعمل عمل ليس، فيرفع الاسم بعدها، وما تعمل عمل إن فينصب بعدها؛ لنميز مواضع الرفع من مواضع النصب، وجدناهم يقولون: إن الأولى تنفي الواحد، فنفيها محدود خاص؛ تقول: «لا رجل في الدار بل رجلان»، والثانية تنفي الجنس؛ تقول: «لا رجل في الدار»، فلا يصح أن تعقب بعده بمثل: بل رجلان، فيتضارب أول الكلام وآخره.
وإذا ناقشت هذا الفرق الذي بينوا، لم تجد له ثباتا، فالشاهدان اللذان رووهما لإعمالهما إعمال ليس لا يفهم منهما إلا نفي الجنس، وكيف يفهم على غيره قول الشاعر:
تعز فلا شيء على الأرض باقيا
وقول الآخر:
فأنا ابن قيس لا براح
وإذا ضاع معنى الشمول في النفي كان المعنى في البيتين لغوا.
ومن العجيب أن النحاة لا شاهد لهم على إعمالها كذلك إلا هذا البيتان: قال أبو حيان: إنه لم يرد من إعمال «لا» عمل ليس صريحا إلا بيت واحد، هو:
تعز فلا شيء على الأرض باقيا
وقد أنكر الأخفش هذا العمل، واتبعه الإمام الرضي، وجعله ابن الحاجب سماعا، ونص ابن هشام في شرح القطر على أنه خاص بالشعر.
فلم نجد في أقوال النحاة ما يصح به التمييز بين مواضع الرفع ومواضع النصب بعد «لا»، والذين أنكروا إعمالها عمل ليس لم ينكروا - ولا سبيل إلى أن ينكروا - أن الاسم بعدها يكون مرفوعا، ولكنهم يعدونها ملغاة؛ ثم لا يعنون ببيان الفارق في المعنى بين الإعمال والإلغاء، ولا بد عندنا من فارق معنوي.
وقد أجهدنا بحث أقوال النحاة في هذا الباب، ومناقشة آرائهم، وتتبع جدلهم، لنظفر برأي مستقيم يصل بين حكم الإعراب ومعنى الكلام فلم نجد.
وتستطيع أن ترى، ونعدك من الآن أن ستجد، هذا الباب مثلا ممثلا تاما للجهاد النحوي العنيف، الذي يعتمد على الفلسفة النظرية، وخاصة فلسفة العامل؛ فتكثر فيه فروض القول، ويستملى من الفلسفة أحكامها؛ على أنه ليس باليد من أقوال العرب إلا النزر اليسير، ومن أجل هذا يكثر الخلاف، ويطول الجدل، ولا فيصل ولا حكم.
وقد رأينا أن نرجع إلى «الكتاب الكريم» لنعلم استعمال هذا الحرف ومعانيه، ونتبين حكم ما بعده، فوجدنا استعماله على ما يأتي.
استعمال «لا» مع الفعل
تستعمل لا مع الفعل أكثر مما تستعمل مع الاسم، ففي سورة «البقرة» وحدها تجيء «لا» في «170» سبعين ومائة موضع، وهي مع الاسم في «54» أربعة وخمسين فقط، ومع الفعل في «116» ستة عشر ومائة.
وتكون مع الفعل ناهية ونافية.
فالناهية:
تدخل على المضارع وحده، ويكون بعدها مجزوما؛ وتجعله في باب الأمر أكثر تصرفا من فعل الأمر نفسه، ألا تراك تقول: «اقرأ» فإذا أردت النهي قلت: «لا تقرأ»، ولم يكن لك من سبيل إلى استعمال صيغة الأمر، على أنك تقول في المضارع «لتقرأ» و«لا تقرأ»؛ تأمر به وتنهى؟
والنافية:
تختص بالمضارع أيضا، ولا تدخل على الماضي إلا قليلا، وبشرط أن تتكرر؛ مثل :
فلا صدق ولا صلى (القيامة: 31).
والنافية للمضارع هي أكثر أنواع «لا» استعمالا، ونصف ما ورد في «الكتاب الكريم» من هذا النوع.
ويلاحظ في نفي المضارع، أنك تقول: «لم يتكلم»، فالنفي للماضي، و«ما يتكلم» فالنفي للحال، و«لن يتكلم» فهو للمستقبل، فإذا قلت: «لا يتكلم» كان النفي أوسع وأشمل ففي نفي «لا» معنى الشمول والعموم.
وفي معنى الفعل المضارع شيء من الشمول والاتساع أيضا؛ فالنحاة يقولون: «إنه للحال والاستقبال.» وأقول: «إنه قد يتناول الماضي أيضا.» فمثل: «هو كريم يعطي السائل ويكرم الضيف»، ومثل:
الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون (الماعون: 6-7) ليس الحال ولا الاستقبال أولى به من الماضي، وأنا أدعك لفهمك وأطمئن إلى حكمك، وفي القرآن الكريم:
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان (البقرة: 102) قدر النحاة له «كانت تتلو» ورووا قول الشاعر:
جارية في رمضان الماضي
تقطع الحديث بالإيماض
فقدروا له «كانت» أيضا، ومهما قدروا فلن يدفعوا أن المضارع قد أفاد هذا المعنى وصوره دون أن يذكر ما قدروه.
وقد يدل المضارع على ما صار بمنزلة الطبيعة أو العادة، فيتسع ولا يتقيد بزمن، وذلك في الكلام كثير.
ومن شمول المضارع أيضا أنه يدل على ما يتجدد ويتكرر كما قالوا في بيت الشاعر:
أوكلما وردت عكاظ قبيلة
بعثوا إلي عريفهم يتوسم؟!
لذلك ناسب المضارع النفي «بلا» فاختصت به، وامتنع أن تنفي الماضي حتى يكون فيه معنى الاستقبال، أو حتى تتكرر ليكون في التكرار معنى من الشمول.
استعمالها مع الاسم
واستعمال «لا» مع الاسم أقل من استعمالها مع الفعل كثيرا، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، ونرى في سورة «كالإسراء» مثلا أن «لا» تستعمل مع المضارع في ثلاثين موضعا ولا نجدها مع الاسم إلا في موضع واحد، وهي فيه تأكيد لنفي فعل سابق،
قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (الإسراء: 56).
ونجدها مع الاسم، تشابه استعمالها مع الفعل وتسايره فتجيء مفردة ومكررة، أما المفردة فلا تليها إلا نكرة، وأكثر ما تكون هذه النكرة مصدرا أو في معنى المصدر؛ مثل:
ذلك الكتاب لا ريب فيه (البقرة: 2)،
لا علم لنا إلا ما علمتنا (البقرة: 32، المائدة: 109)،
فلا عدوان إلا على الظالمين (البقرة: 193)،
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها (البقرة: 256)،
لا تبديل لكلمات الله (يونس: 64)،
لا تثريب عليكم (يوسف: 92)،
وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له (الرعد: 11).
وقد يليها وصف مشتق؛ مثل:
إن ينصركم الله فلا غالب لكم (آل عمران: 160)،
ولا مبدل لكلمات الله (الأنعام: 34)،
من يضلل الله فلا هادي له (الأعراف: 186)،
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله (يونس: 107).
ويندر أن يجيء بعدها اسم جنس مثل:
لا إله إلا هو (2، 6، 18 من آل عمران)، ويتكرر هذا المثال في القرآن الكريم، ولكن يندر أن يجيء نظيره، وأندر منه أن يليها جمع مثل:
إنهم لا أيمان لهم (التوبة: 12). ومن السبعة من قرأه: «لا إيمان لهم.» بالكسر في همزة إيمان.
وتجد من المشابهة بين هذا الاستعمال وبين استعمالها مع المضارع أوجها:
أولها:
أن المصدر والمشتق يشبه الفعل مشابهة لا تخفى. ولقد عد نحاة الكوفة المشتق - اسمي الفاعل والمفعول - نوعا من الفعل.
الثاني:
التنكير، وقد علمت ما في المضارع من معنى العموم والشمول.
الثالث:
أن الاسم بعد «لا» يغلب أن يتبعه ظرف يتعلق به: ولا يذكر بعده الخبر. وقد لحظ النحاة هذا، فقالوا: إن لا النافية للجنس يكون خبرها محذوفا أبدا عند الطائيين، وغالبا عند الحجازيين.
وأما إذا كررت «لا» فإن الاسم بعدها يكون معرفة ونكرة - أي نوع من المعارف، وأي نوع من النكرات - وقد يكون الاسمان نكرة ومعرفة، أو يكون اسم يعادله فعل، وتكرار «لا»، لا يجيء قليلا ولا عرضا، بل هو أسلوب من أساليب استعمالها كما تستعمل «أما»، ومن أمثلته:
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة: 112، 262، 277).
لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة (البقرة: 254).
والاسم بعدها حين التكرار منون.
وقد تبين لنا أن «لا» تنفي نفيا عاما مستغرقا في الفعل وفي الاسم، فإذا كانت في نفي الاسم مفردة فإنه يشار إلى الاستغراق بالتزام التنكير وعدم التنوين، وإذا كانت مكررة كفى التكرار في الدلالة على ما يراد من الشمول والاستغراق.
هذا معنى «لا» وطريق استعمالها، أما إعراب الاسم بعدها، فإنه إذا كان مرفوعا بعد «لا» المكررة، فوجهه واضح؛ لأنه متحدث عنه حقه الرفع، وليس إعرابه بمحل خلاف وجدل عند النحاة، ولا هو بموضع نظر عندنا، ولا شيء من المعارضة بينه وبين الأصل الذي قررنا.
أما الاسم المنصوب فهو الذي يعنينا وجه إعرابه الآن، ويبدو أول الأمر أنه متحدث عنه، وأنه صدر جملة اسمية تامة، والمتأمل يرى غير هذا، فإنه ليس بعده من خبر، ولا شيء يتحدث به، تقول: لا ضير، ولا فوت، ولا بأس. فيتم الكلام، ويقدر النحاة الخبر محذوفا: أي موجود أو حاصل؛ وهو لغو. لا يزيد تقديره في المعنى شيئا. وما يذكر بعد هذا الاسم من الظروف ليس خبرا له؛ لأنه يحذف ويتم الكلام دونه، تقول: «لا ريب»، و«لا ريب في هذا القول»، و«لا ريب عندي في شيء منه»، وكل ما زدته فهو بيان وتكملة، والجملة الأولى وهي: «لا ريب» تم بها المعنى.
والآية الكريمة:
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (البقرة: 2) يقف بعض القارئين عند
لا ريب ، ويبدأ:
فيه هدى ، وبعضهم يقف عند
لا ريب فيه ، والكلام في كلا الأمرين تام، وليس كذلك الخبر.
وآية
لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم (هود: 43) لا تجد فيها ما يصح أن يكون خبرا على طول الكلام، وأصل الجملة
لا عاصم
وكل ما بعدها بيان يكمل به المعنى، ولكنه لا يهدر بحذفه حتى يكون الكلام بلا فائدة.
ويتكلف النحاة جعل هذه الظروف أخبارا، وليس بالوجه. وفي إعراب «لا إله إلا الله» يجعل بعض النحاة خبر «لا» هو ما بعد أداة الاستثناء، ويجعلونه نظير
وما محمد إلا رسول (آل عمران: 144) مثلا. وبين الجملتين فارق بعيد ؛ وذلك أنك تقف عند «لا إله» فتتم الجملة ولو أن معناها الكفر، ولو أنك وقفت على
وما محمد
لما أفدت شيئا ما، وإذن فالاسم بعد «لا» في هذا الاستعمال ليس بمتحدث عنه، وحقه من الحركات الفتحة، ولا شيء فيه من الإشكال.
والذي عوص الأمر على النحاة ما قرروه من أن كل جملة يجب أن تشمل مبتدأ وخبرا، أو فعلا وفاعلا، ولم يعرفوا الجملة الناقصة. ويرونها في النداء مثل: «يا محمد» و«يا علي» فيقدرون أدعو محمدا، أو أدعوك محمدا، ولا وجه لهذا التقدير، ولا هو مع المعنى، وكذلك: تحية وسلاما، وصبرا وشكرا. يقدرون الفعل لإعراب الاسم المذكور ولا وجه له. وإنما هي جملة ناقصة، والاسم استعمل عن الفعل فصار منصوبا، ومنه عندنا ما نحن فيه من مثل: لا بأس ولا ضير.
فهذا توجيه الإعراب، أما التنوين فإنه سيجيء في بحثنا هذا باب خاص له، ولكنا نعجل لك منه ما يختص بهذا الموضع.
التنوين هو علامة التنكير، والعرب يقصدون في التنكير إلى الواحد من كثير، والفرد الشائع في أفراد.
فإذا قصد إلى الإحاطة وإلى جميع الأفراد، فهو عندهم من مواضع التعريف، وهذا معنى «ال» الجنسية، فالاسم بعد «لا» إذا كانت للجنس بمنزلة المعرف تعريف الجنس، فيحذف منه علم التنكير وهو التنوين.
ومن النحاة من يرى السبب في بناء هذا الاسم هو معنى الاستغراق، ومنهم من يقول: إنه تضمن الاسم معنى «من» المحذوفة.
هذا يرينا أن النحاة لاحظوا ما بين معنى الاستغراق وحذف التنوين من صلة، وقد بينا لك صلة ما بين الاستغراق والتعريف عند العرب. والله أعلم. (2) باب ظن
ومن الأبواب ذات الوجهين باب «ظن».
فالنحاة يقررون أن أفعال القلوب من هذا الباب تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وأنها قد يعتريها «الإلغاء» و«التعليق».
والإلغاء أن يهمل الفعل فلا ينصب شيئا من المفعولين؛ وذلك أنه قد يتأخر عن المعمولين؛ فتقول: زيد ذاهب ظننت، ويجوز إذن أن تنصب الاسمين والفعل عامل، أو ترفعهما والفعل ملغى، وإلغاء الفعل ورفع الاسمين هنا أولى.
وقد يتوسط المعمولين، فتقول: زيد ظننت ذاهب. ويجيز النحاة هنا الإعمال والإلغاء أيضا، ثم يختلفون في أي الوجهين أولى، فجمهورهم يرى أن الوجهين على السواء، ومنهم من يرجح الإعمال.
أما إذا قدمت الفعل على الاسمين وجريت على الأسلوب الغالب، فقلت: ظننت زيدا ذاهبا، فالإعمال ونصب الاسمين واجب على مذهب البصريين. وأجاز الإلغاء ورفع الاسمين في هذه الحالة أيضا الكوفيون والأخفش من متقدمي البصريين، وابن الطراوة وأبو بكر الزبيدي من نحاة الأندلس، فهذا ملخص قولهم في الإلغاء.
أما التعليق، فهو أن يتقدم الفعل ويتأخر الاسمان، ولكن يصحبهما أداة من أدوات الصدارة التي تحجب ما قبلها أن يعمل فيما بعدها؛ مثل: لام الابتداء، و«ما» و«إن» النافيتين.
ويفرقون بين الإلغاء والتعليق بأن الإلغاء في كل مواضعه جائز، فحيث ألغيت الفعل جاز لك إعماله، أما التعليق فواجب متى تحقق سببه، فليس لك أن تعمل الفعل وقد علقته أداة نفي أو استفهام. ويفرقون بينهما بفرق آخر واضح فيه التكلف، فيقولون: إن الفعل الملغى لا يعمل في اللفظ ولا في المحل، أما المعلق فإنه يحجب عن العمل في اللفظ ويبقى عاملا في المحل، وتفصيل ذلك وما فيه من خلاف وجدل، قريب لمن شاء أو يرجع إليه في «باب ظن» من الكتب الموسعة.
وتفسير هذه الأوجه كلها على الأصل الذي ذهبنا إليه قريب إن شاء الله.
وذلك أنك تقول: ظننت زيدا ذاهبا، فيتجه همك قصدا وابتداء إلى الإخبار بأنك ظان أمرا، فأنت تتحدث عن نفسك في ذلك، وما الاسمان بعد ظن إلا تكملة وبيان لما تعلق به الظن؛ فحكم الاسمين إذن النصب، وليس فيهما من متحدث عنه فيرفع.
ويشهد لما قررناه تصريح النحاة بأن الاسمين بعد هذه الأفعال قد صارا فضلة، وأنه يجوز حذفهما اقتصارا، والاستغناء عنهما معا، ومن أمثلته: «من يسمع يخل»، و
أعنده علم الغيب فهو يرى (النجم: 35)،
إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون (النحل: 74)،
إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين (الجاثية: 32).
وقد يكتفى عن الاسمين باسم واحد، قال الإمام الرضي:
2 «إنه يجوز في «رأى» من الرأي أن تنصب مفعولين أو واحدا ؛ مثل: رأى أبو حنيفة حل كذا، أو: رأى أبو حنيفة كذا حلالا.» ا.ه. قال الصبان:
3 «وهذا صريح في جواز استعمال أفعال هذا الباب متعدية إلى واحد هو مصدر ثاني الجزئين مضافا إلى أولهما من غير تقدير مفعول آخر؛ لأن هذا المصدر هو المفعول به في الحقيقة.» ا.ه. وعبارة أبي العباس المبرد في هذا أدق وأبين، قال:
4 «ألا ترى أنك إذا قلت: ظننت زيدا أخاك فإنما يقع الشك في الأخوة، فإن قلت: ظننت أخاك زيدا أوقعت الشك في التسمية؟! وإنما يصلح التقديم والتأخير إذا كان الكلام موضحا عن المعنى.» ا.ه.
فلا خلاف بين النحاة في أن الجملة بعد ظن قد فقدت ما فيها من الإسناد وصار جزءاها فضلة يتم بهما ما قبلهما من الكلام.
وقد يكون من هم القائل أن يقول: «زيد ذاهب» يقصد أولا إلى الإخبار بهذا والحديث عن زيد، ثم يقول: هذا ظني، أو أظن، أو ظننت. فهنا كلامان، وحكم الاسمين على أصلنا الرفع، وأسلوب الكلام أن يتأخر الفعل ويتقدم الاسمان، فيجيء ترتيب اللفظ في النطق على ترتيب المعنى في النفس، وخطوره بالفكر، على أنه يمكن أن يفهم هذا مع المتوسط أيضا؛ إذ تقول: زيد أظن ذاهب.
وهذا هو تفسير سيبويه لمعنى الإلغاء في كتابه، قال في «باب الأفعال التي تستعمل وتلغى»: «وكلما أردت الإلغاء فالتأخير أقوى ... وإنما كان أقوى؛ لأنه إنما يجيء بالشك بعدما يمضي كلامه على اليقين، أو بعدما يبتدئ وهو يريد اليقين، ثم يدركه الشك، كما تقول: «عبد الله صاحب ذاك، بلغني» وكما قال: «من يقول ذلك؟ تدري؟» فأخر ما لم يعمل في أول كلامه، وإنما جعل ذلك فيما بلغه بعدما مضى كلامه على اليقين وفيما يدري، فإذا ابتدأ كلامه على ما في نيته من الشك أعمل الفعل قدم أو أخر، كما قال: زيدا رأيت، ورأيت زيدا. وكلما طال الكلام ضعف التأخير إذا أعملت.» ا.ه.
وقد يفهم هذا المعنى مع تقديم الفعل، إذا بدا في الكلام ما يدل على استقلال الثاني بالحديث والقصد إلى الإخبار، كما تقول: ظننت لزيد ذاهب. ولولا أن استقلال الثاني من غرض المتكلم كان وجيها أن يؤكد الكلام بعد فعل يدل على معنى الشك أو الرجحان، فقد سيق القول مساق التأكيد والتحقيق، ثم قيل: إن هذا مبلغ ظني، وجهد رأيي. وهذا التفسير قد تردد في كلام سيبويه في مواضع من كتابه.
وما ورد من الرفع بعد ظن فهو على هذا، والكلام فيه كلامان. وما الأدوات التي عدها النحاة معلقة للفعل عن العمل إلا دلائل على أن الكلام الثاني مستقل يقصد إلى الإخبار به، فيذكر معه ما يشهد بابتداء الكلام واستئنافه، وأنه لم يجئ بمنزلة اللاحق وإن جاء في اللفظ متأخرا.
فهذا تفسير كلام النحاة وما قالوه في الإلغاء والتعليق، على وجه يغني عن كثرة الاصطلاح وتعديد الأقسام، ويريح من كثير من الخلاف، ثم هو يرسل حكم الإعراب واحدا مستقيما، غير مردد ولا مضطرب.
فليس لنا من موضع نجيز فيه الرفع والنصب، أو نفضل أحد الوجهين على صاحبه، وإنما هو المعنى الذي يراد بيانه يوجب سبيلا واحدا مخصصا للأداء. (3) باب الاشتغال
الموضع الثالث من المواضع التي ردد النحاة فيها الحكم بين النصب والرفع باب الاشتغال. وهو باب دقيق عويص، وعر النحاة فيه البحث وأكثروا الخلاف.
وأصل هذا الباب أنك تقول: لقيت زيدا، فزيد منصوب وهو مفعول «لقيت» كما يعرب النحاة، ولك أن تقدم «زيدا» لسبب ما من أغراض التقديم، فتقول: زيدا لقيت، أو زيدا لقيته، وهذا التركيب الأخير وحده هو موضع الاشتغال ولأجله خلق الباب، وأطيلت أبحاثه.
والعقبة التي لوت طريق النحاة، هي أن الفعل قد نصب الضمير واستوفى بذلك عمله، فليس له أن ينصب الاسم المتقدم بعد ما شغل بضميره، واضطروا بحكم نظرية العامل وحكم فلسفتهم فيها، أن يقدروا لنصب هذا الاسم عاملا محذوفا واجب الحذف، يفسره الفعل المذكور، وتقدير الكلام عندهم: «لقيت زيدا لقيته.»
والفعل المقدر يسمى: «المضمر على شريطة التفسير» والفعل المذكور في الكلام يسمى: «المشغول أو المفسر»، والضمير المتصل به يسمى: «الشاغل».
والاسم المتقدم يسمى : «المشغول عنه أو المحدود»، والباب كله «باب الاشتغال».
والأصل عندهم في الاسم المحدود أنه يجوز فيه وجهان: الرفع والنصب. والرفع راجح لأنه لا يحوج إلى تقدير فعل، والنصب مرجوح لحاجته إلى فعل مقدر، ثم قد يعرض للكلام ما يجعل النصب مختارا، أو يوجب أحد الوجهين.
ويهمنا أن ندرس مواضع ترديد الحكم بين النصب والرفع، وقد علمت موضع اختيارهم للرفع. وأما اختيارهم للنصب ففي المسائل الآتية:
الأولى:
أن يكون الفعل دالا على الطلب بصيغته كفعل الأمر، أو بأداة يقترن بها كالمضارع بعد لام الأمر ولا الناهية.
الثانية:
أن يقع الاسم بعد أداة، الغالب أن يليها فعل، وذكروا منها أدوات الاستفهام غير «هل»، وأدوات النفي: «ما»، و«لا»، و«إن». على خلاف في بعضها.
الثالثة:
أن يقع الاسم جوابا لاستفهام منصوب؛ مثل: زيدا لقيته، في جواب: من لقيت؟ أو يقع الاسم بعد عاطف على جملة فعلية سابقة، ولم يفصل بين الجملتين بأما؛ مثل: أدنيت زيدا وعمرا أقصيته، فإذا جئت بأما كان الرفع المختار، وقلت: أدنيت زيدا وأما عمرو فأقصيته.
هذا مجمل ما فصلوا، وأعفيناك من خلاف وجدل عنيف، أما تفسير هذه الأحكام كلها على ما ذهبنا إليه فقريب؛ وذلك أنك إذا أردت بالاسم المتقدم على الفعل في مثل: «زيد رأيته» أن يكون متحدثا عنه مسندا إليه، فليس إلا الرفع، والاسم آت في موضعه من الكلام؛ وإذا أردت أن هذا الاسم إنما سيق تتمة للحديث وبيانا له لا متحدثا عنه، فالحكم النصب، تقول: «زيدا رأيته»، وقد تقدم الاسم عن موضعه، وخولف به ترتيبه لغرض أو لمعنى قصد إليه المتكلم من معاني التقديم.
ووجه الكلام في الحالة الأولى أن تقول: «زيد رأيته» تذكر الضمير، وربما جاز «زيد رأيت» بحذفه لأنه مفهوم، ولأنه - كما يقول النحاة - فضلة.
ووجه الكلام في الحالة الثانية أن تقول: «زيدا رأيت» ولك أن تقول: «زيدا رأيته» بذكر الضمير زيادة في البيان. وقد قال سيبويه في مثل «زيد رأيته»: «النصب عربي كثير ، والرفع أرجح.» وما بيناه يوافق قوله، ويشرح سببه، ويفصل وجه الدلالة في كل من الإعرابين.
أما المواضع التي يرجح النحاة فيها النصب، فأولها أن يكون الفعل دالا على الطلب، وقد علمت أن الطلب لا يكون خبرا، ووردت الجملة الطلبية قليلا في الخبر، فتأول النحاة معناها إلى الخبر، فالحكم هنا النصب؛ لأن الاسم ليس بمتحدث عنه، وليس بعده من حديث.
وقد اضطرب النحاة أمام الآيات الكريمة:
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما (المائدة: 38)،
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة (النور: 2) وذلك أن الفعل للطلب، والمختار في الاسم قبله النصب على مذهب النحاة، وقد ورد مرفوعا في الآيتين. واتفق القراء السبعة على القراءة بالرفع، فذهب النحاة يتأولون ويختلفون في التأويل والتوجيه من غير أن يبدلوا حكمهم، ثم ذهب ابن السيد وابن بابشاذ إلى اختيار الرفع في مثل الآيتين، وهو ما كان الطلب فيه عاما غير خاص، مع اختيار النصب في الخاص مثل «زيدا اضربه». وهذا الرأي هو الحق عندنا؛ وذلك أن فعل الأمر إذا أريد به معنى عام وقع في معنى التشريع، وكان حكما قياسه الخبر، وكان الاسم المتقدم متحدثا عنه حكمه الرفع كما بينا.
ففي آية:
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما
قانون عام هو - والله أعلم: والسارق والسارقة جزاؤهما قطع أيديهما. وإنما صيغ الخبر بصيغة الأمر لنوع من التشديد والحث على التنفيذ، وهو أسلوب عربي صحيح شائع سائغ.
وهذا التأويل واضح من كلام سيبويه في الآية؛ إذ قال: إن المعنى والسارق والسارقة من الفرائض يتلى عليكم حكمهما. وقد رضي النحاة تأويل سيبويه، ثم رفضوا مذهب ابن السيد، والثاني من الأول.
الموضع الثاني: أن يكون الاسم بعد أداة الغالب فيها أن يليها فعل، وذلك بعد همزة الاستفهام وما ولا النافيتين، واختلفوا في إن النافية، فسيبويه يرى الرفع بعدها أولى لكثرة دخولها على الجمل الاسمية، والجمهور يسوونها بما ولا، واختلفوا كذلك في أخوات الهمزة من كلمات الاستفهام غير هل.
والأدوات التي ذكروا يغلب أن يقع معناها على الحدث فيتبعها الفعل المتحدث به لا الاسم المتحدث عنه.
ونحن هنا لا نرى جواز النصب والرفع وترجيح النصب، بل نقول: إذا كان المعنى أن تخبر بالفعل وتتحدث به عن فاعله فالحكم النصب، وإذا كان التحدث عن الاسم فالحكم الرفع. وبذلك قال ابن الطراوة من علماء الأندلس، فعنده أن الاستفهام بالهمزة إذا كان عن الاسم، فالرفع واجب؛ مثل: أزيد ضربته أم عمرو؟ وإذا كان عن الفعل فالنصب؛ نحو: أزيدا أكرمته أم أهنته؟ وسبيل الكلام في هذا الموضع: أأكرمت زيدا أم أهنته، فقدم «زيد» من تأخير. وأنت تعلم حرية الجملة العربية وتصرف العرب في تأليفها لما يريدون من المعاني الدقيقة الخاصة.
فهذه الأداوت إنما ترشد إلى حكم الاسم بعدها بقدر ما تبين عنه، من أن السياق لفعل يتحدث به أو اسم يتحدث عنه، وذلك هو مناط الحكم، وإذا رجعت إليه وجدت الفصل في كثير من الخلاف والجدل العنيف.
والموضع الثالث: استمده النحاة من المماثلة اللفظية بين الجمل وانسجام التأليف، فإذا كان الاستفهام السابق أو الحديث المتقدم قد وقع بجملة فعلية، فمن حق الانسجام أن يكون الجواب أو الجملة التالية فعلية. وهذا الانسجام من نظم العربية التي لا يمارى فيها، بل هو أوسع كثيرا مما لمح النحويون. فإذا كان من غرض المتكلم أن يقطع كلامه ويأخذ في حديث جديد فصل الكلام «بأما» وكان الحكم بعدها الرفع.
فقد ترى كيف جمعت الأحكام المتشعبة في هذا الباب إلى أصل واحد نظمها جميعا، ووحد الحكم، وفصل في أوجه الخلاف، وميز بينها تمييزا يعتمد على قرار مطمئن ثابت؛ وذلك بأنه وصل بين حكم اللفظ وبين المعنى، وأبان عن سر العربية في تأليف الكلم والتصرف فيها.
وربما عددت أنا أطلنا في بيان هذا الباب وتفصيل أحكامه، فإن يكن قد بدا ذلك لك، فإنا نخشى أن تكون بعيد العهد بأبحاث الباب، ونرجو أن تعود إليه لتذكر ما فيه من خلاف وجدل، ومن أمثلة فرضت على العربية، وأحكام ضربت عليها، وستعلم بعد مقدار ما أوجزنا ومبلغ ما يسرنا، والله المستعان. (4) المفعول معه
ومن الأبواب التي ردد النحاة فيها الحكم بين النصب وغيره «باب المفعول معه»، ومن أمثلته المشهورة: «سرت والنيل» و«جاء البرد والطيالسة» و«استوى الماء والخشبة».
ويردد النحاة الاسم التالي لهذه الواو، بين أن ينصب مفعولا معه، أو يعرب معطوفا على ما قبله. ويقولون: يترجح النصب إذا تقدم الاسم فعل أو شبهه، وكان في العطف ضعف، وذلك مثل: قمت وزيدا. فإن ضمير الرفع المتصل لا يعطف عليه حتى يليه فاصل، فتقول: قمت أنا وزيد.
ويترجح العطف إذا لم يسبق الاسم فعل؛ مثل: كيف أنت وزيد؟ وما أنت وزيد؟ وإذا لم يكن في العطف ضعف؛ مثل: قمت أنا وزيد.
وهم يطبقون في مثل: «كيف أنت وزيد؟» على ترجيح الرفع، وضعف النصب؛ لأن الاسم لم يتقدمه فعل مع أن لكل من التركيبين معنى خاصا، وموضعا لا يليق به صاحبه، فإذا قلت: «كيف أنت وأخاك؟» بالنصب، فإنك تسأل عن صلة الاثنين، وتضع هذا التركيب حين يكون بينهما من الأمر ما هو جدير بالاستخبار، وموضع للمسألة.
أما «كيف أنت وأخوك؟» فإنه استخبار عن الاثنين يمكن أن تطنب فيه، فتقول: كيف أنت وكيف أخوك؟ وسمع النحاة من العرب: «كيف أنت وقصعة من ثريد؟» بالنصب فضعفوه وقالوا:
5 «بل الأكثر الرفع، ومن نصب فإنما قدر الضمير فاعلا لمحذوف لا مبتدأ، والأصل: كيف تصنع؟ فلما حذف الفعل وحده برز الضمير وانفصل.»
وإنما أولجهم هذا المأزق أصلهم في فلسفة العامل، وقولهم: إن المفعول معه إنما ينصب «بما من الفعل وشبهه سبق.» فإذا لم يكن قبله فعل أو شبهه لم ينصب، وكانت الواو عاطفة، وإذا ورد عن العرب ما هو منصوب مما لم يسبقه عامل، فإنما ذلك لأن العرب قد نوت العامل وطوته فوجب تقديره، على أنهم في سبيل الوفاء بأصلهم قد أغفلوا المعنى، وأضاعوا فرق ما بين إعراب وإعراب، ووضع ووضع.
وكذلك الحال بعد الاستفهام «بما» يروون لأسامة الهذلي:
فما أنا والسير في متلف
بنصب السير؛ فيجيزون الرفع ويختارونه، ويضعفون النصب، ويقدرون له: ما أكون والسير؟ ومثله في هذا قول مسكين الدارمي:
فما لك والتلدد حول نجد
وقد غصت تهامة بالجنود؟!
وليس المعنى في البيتين إلا على النصب؛ لأن الاستفهام وما فيه من استنكار أو تعجب، إنما هو لما بين الاثنين، ولا يصوره أن يجيء الاسم رفعا؛ لأنه إذن لا يؤدي معنى المصاحبة، وإذا بطلت بطل الاستفهام كله، وضاع ما فيه من معنى.
ويروون بيت المخبل السعدي في الزبرقان:
يا زبرقان أخا بني خلف
ما أنت - ويب أخيك - والفخر
فيرتضون الرفع ويجيزون النصب أيضا، وليس فيه إلا الرفع ليدل على معناه، فإنه استفهامان، كأنه قال: ما أنت وما الفخر، ولا يصور هذا إلا العطف، كما ترى في قول الآخر:
تكلفني سويق الكرم جرم
وما جرم؟ وما ذاك السويق؟
فهذا فرق ما بين الإعرابين، ولكل موضع. أجل؛ إنه فرق دقيق، ولكنه حق يجب أن يفطن له ليفهم الكلام على وجهه وليسلك به سبيله.
وفصل القضية في هذا الباب، أنك إذا أردت معنى المصاحبة، وكانت الواو في معنى «مع» وجب النصب، وكان ذلك سائرا مع أصلنا، فإن الاسم بعد هذه الواو من تمام الحديث، ليس بمتحدث عنه ولا بمضاف إليه، فحكمه النصب، وإذا لم ترد معنى المصاحبة أو المعية - كما هو الاصطلاح - فإنها واو العطف.
على أن هذا الرأي قد صرح به بعض المحققين من النحاة. قال الرضي في شرح الكافية في مناقشة بعض مواضع المفعول معه ما نصه: «الأولى أن يقال: إن قصد النص على المصاحبة وجب النصب، وإلا فلا.»
وقريب منه ما نقل عن الإمام بدر الدين الإسكندري الدماميني، ونقله الصبان في حاشيته على الأشموني، والخضري في حاشيته على ابن عقيل، ونصه من الخضري: «واعلم أن المعنى يختلف بالرفع والنصب؛ لأن النصب نص في المعية، والرفع لمطلق الجمع، كما هو شأن الواو العاطفة، فكيف يرجح العطف مع اختلاف المعنى؟ فالوجه أن يقال: إن قصدت المعية نصا فالنصب، أو بقاء الاحتمال والإبهام فالرفع، أو لم يقصد شيء جاز الأمران، ولعل هذا الأخير محمل كلامهم. ا.ه. دماميني.»
وما قوله الأخير: «أو لم يقصد منه شيء » إلا تمحل ليجد لكلام القوم محملا، ألا تراه يختتم كلامه بقوله: «ولعل هذا الأخير محمل كلامهم»؟
الصرف
التنوين الذي يلحق الاسم المعرب يسمى صرفا، والاسم المنون مصروفا أو منصرفا، وهذا التنوين يعده النحاة دليلا على تمكن الاسم في باب الاسمية تمام التمكن؛ وذلك أنهم قسموا الاسم إلى ثلاثة أقسام: (أ)
اسم غير متمكن، وهو الذي أشبه الحرف فبني. (ب)
ومتمكن غير أمكن، وهو الذي أشبه الفعل فمنع من الصرف. (ج)
ومتمكن أمكن، وهو الذي خلص من شبه الحرف، وخلص من شبه الفعل، واستوفى حقوق الاسم فأعرب ونون.
فالأصل عند النحاة أن التنوين حق كل اسم معرب، وأن معناه الدلالة على تمكن الاسم في بابه كل التمكن، وأنه لا يمنع منه، حتى يتحقق فيه شبه الفعل بأوجه من الشبه، بينوها وسموها «موانع الصرف».
ومن قبل أن نناقش رأي النحاة في هذا، نشير إلى الأصل الذي رأينا؛ ليتمثل لك الرأيان إجمالا، ثم نأخذ معا في درس المذهبين ومناقشتهما.
والقاعدة التي نضعها لهذا الباب مستمدة من الأصل الذي قررنا في بحثنا هذا، وهو أن العرب تدل بهذه الخواص على معان يقصدون إليها في الكلام، فللتنوين معنى يجب أن نتبينه.
ومعنى التنوين غير خفي، فهو علامة التنكير، وقد وضعت العرب للتعريف أداة تدخل أول الاسم، هي «ال»، وجعلت للتنكير علامة تلحقه، وهي التنوين. وسترى اطراد هذا الحكم وتحققه فيما ينصرف من الأسماء وما لا ينصرف، وسيكون أوسع شقة للخلاف بيننا وبين النحاة في «العلم»؛ فهم يرون أن حقه التنوين وأنه لا يحرمه، حتى تتحقق فيه علتان من موانع الصرف، ونرى أنه لا ينون كما لا ينون غيره من المعارف، ولا يدخله علم التنكير حتى يكون فيه نصيب من معنى التنكير، كما سترى.
والآن حين نأخذ في تمحيص كل وجه ونسوق أدلته، قالوا: إن الأصل في منع الاسم من الصرف شبهه بالفعل، وإن ذلك يتحقق بوجود علتين في الاسم: إحداهما ترجع إلى المعنى والثانية ترجع إلى اللفظ، أو بوجود علة واحدة تقوم مقام العلتين:
والعلة التي تجزئ عن العلتين نوعان: ألف التأنيث ممدودة أو مقصورة، وصيغة منتهى الجموع.
والعلة المعنوية هي العلمية أو الوصفية.
والعلل اللفظية هي: العجمة، والتركيب المزجي، والتأنيث، والعدل، وزيادة الألف والنون، ووزن الفعل.
فالعلمية تمنع من الصرف مع أي واحدة من هذه العلل اللفظية، والوصفية تمنع مع العدل، وزيادة الألف والنون، ووزن الفعل. هذا ملخص قولهم.
1
أما تعليلهم منع الصرف بمشابهة الفعل، فلو صح لكان أولى الأسماء بالمنع من الصرف الأسماء المشتقة، من اسم فاعل واسم مفعول، فهما يسايران الفعل في هيئته وفي معناه، حتى عدهما جماعة من النحاة نوعا من أنواع الفعل.
2
وإذا تتبعنا بالنقد العلل التي جعلوها سببا في تحقق المشابهة بين الاسم والفعل، وجدنا منها ما لا يكون في الفعل، وما حقه أن يباعد بين الاسم والفعل، لا أن يقرب بينهما. فالعلمية من أخص صفات الاسم وأبعدها عن الفعل، والعجمة والتركيب المزجي من حقهما أن يبعدا الكلمة عن شبه الفعل، فإن الكلمة الغريبة قد تنقل إلى اللغة وتستعمل اسما أو علما، ولكنها لا تسلك مسالك الفعل حتى تصاغ صوغ الأفعال فيها وتخضع لتصريفها، وذلك ما لا يكون للكلمة حتى يكرر استعمالها، وتنسى عجمتها، وتسلك مسلكا يؤهلها في اللغة الجديدة. فأولى بالعجمة أن تكون عنوان الاسمية لا الفعلية.
وقد لاحظ النحاة هذه المفارقة في عللهم، وأن منها ما يبعد الاسم عن الفعل، ولا يحقق شبهه به، فقالوا: «إن وجه مشابهة الاسم للفعل هنا مجرد الفرعية لا نوعها؛ وذلك أن الفعل فرع على الاسم من وجهين؛ الأول: لفظي، وهو اشتقاق الفعل من الاسم. والثاني: معنوي، وهو حاجة الفعل أبدا إلى فاعل، ولا يكون الفاعل إلا اسما. فهذه العلل التي عددوا، تحقق - كما زعموا - مجرد الفرعية؛ لأن العلمية فرع التنكير، والتأنيث فرع التذكير.» إلى آخر ما قالوا. على أنهم إذا كانوا قد قصدوا إلى مجرد الفرعية، فلم هذا التحديد؟ وقد لاحظ بعض النحاة أن مثل دريهم فيه فرعية من ناحية اللفظ، وهي صوغه على هذه الصيغة؛ فلفظ دريهم فرع للفظ درهم ، وفيه فرعية ترجع إلى المعنى وهي التحقير، فقد تحقق فيه فرعيتان: إحداهما معنوية، والأخرى لفظية، وأشبه بهما الفعل، ولم يمنع من الصرف.
هذا اضطرابهم في التعليل، وضعف مسلكهم فيه، فإذا تركناه وعدناه إلى القاعدة التي وضعوا، وجدناها مضطربة أيضا، فقد ورد من الأسماء ما هو ممنوع من الصرف، وليس به شيء من عللهم: كلفظ «سحر»، إذا أريد به سحر معين. و«أمس»، هو لأقرب أمس غير مصروف، ولأي أمس مصروف، وذكروا مثل هذا في «غدوة» و«بكرة» و«عشية» أيضا (س ج2، ص48-49). وجعل النحاة يفرضون لهذا المنع عللا، ثم يختلفون أنكر الاختلاف فيما يفرضون.
3
ورووا كثيرا من الشعر فيه أعلام منعت من الصرف وليس فيها من عللهم غير العلمية؛ كقول الأخطل:
طلب الأزارق بالكتائب إذ هوت «بشبيب» غائلة الثغور غدور
فمنع شبيبا وهو مصروف، وكقول حسان:
نصروا نبيهم وشدوا أزره «بحنين» يوم تواكل الأبطال
وكقول دوسر:
وقائلة ما بال «دوسر» بعدنا
صحا قلبه عن آل ليلى وعن هند؟!
وقال الشاعر:
ولسنا إذا عد الحصى بأقلة
وأن «معد» اليوم مود ذليلها
وقال الراجز:
لتجدني بالأمير برا
إذا «غطيف» السلمي فرا
في كثير من هذا، عد ابن الأنباري منه نحو عشرين شاهدا في كتابه «الإنصاف»،
4
وروى جملة منها ابن جني في كتابه «سر صناعة الإعراب»؛
5
حتى جعل الكوفيون العلمية وحدها علة تستقل بمنع الصرف.
فهذه مواضع تشهد بقصور عللهم، وعدم إحاطتها، وليست من الشذوذ والندرة بحيث يصح إغفالها والإغضاء عنها لتطرد القاعدة. وقد أجاز قوم - منهم أحمد بن يحيى ثعلب - منع صرف المصروف اختيارا؛ ومعنى هذا تحطيم القاعدة كما ترى.
وفي عكس ذلك ترى الاسم قد استوفى علة المنع على ما شرطوا وهو مصروف. (أ)
فعمر وأمثاله، مما يمنع للعلمية والعدل، ورد كثيرا مصروفا حتى رفض بعض النحاة منعه وقالوا بصرفه، وللمرحوم الشنقيطي في هذا رسالة سماها «عذب المعل في صرف ثعل». (ب)
وإمام الكوفة الفراء، روى عن العرب صرف «ثلاث، ورباع»، مما رأوا منعه للوصفية والعدل أيضا. (ج)
وأجاز قوم صرف الجمع الذي لا نظير له اختيارا، ورجز به راجزهم،
6
قال :
والصرف في الجمع أتى كثيرا
حتى ادعى قوم به التخييرا (د)
ثم أجازوا في الشعر صرف كل ممنوع لإقامة الوزن، وقد ورد ممنوعهم منونا في مواضع سواء فيها التنوين وتركه بالقياس إلى الوزن. قال الشاعر:
إني مقسم ما ملكت فجاعل
جزءا لآخرتي، ودنيا تنفع
قالوا: أنشده ابن الأعرابي بتنوين دنيا، ولا تراه يمس الوزن شيء أن تنون وألا تنون.
بل أجازوا ذلك في النثر، وفي أعلى الكلام درجة لنوع من المناسبة والمشاكلة، كما قرأ نافع والكسائي: «إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا» (الإنسان: 4).
وقرءا: «وأكواب كانت قواريرا، قواريرا من فضة قدروها تقديرا» (الانسان: 15-16).
وقرأ بعض القراء: «ولا يغوثا ويعوقا ونسرا» (نوح: 71).
ثم رووا أن صرف ما لا ينصرف في الكلام لغير حاجة لغة، قال أبو سعيد الأخفش: «إن
7
من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من، وكأنها لغة الشعراء اضطروا إليها في الشعر، فجرى بها لسانهم في الكلام.» ومثل هذا روي عن الكسائي أيضا.
وقد رأيت كيف يجاهد النحاة لتصح قاعدتهم في الصرف، وهي تتهدم - ولقد عرفوا ضعف أحكامهم في هذا الباب وتخلفها عن سائر أحكام الإعراب - قال الإمام الرضي: «إن حكم الإعراب لا يتخلف عن علته، ولا يوجد العامل ويبقى العمل إلا لسبب، أما حكم الصرف فإنه يتخلف عن العلة.» ثم قال: «ومنع الصرف سبب ضعيف؛ إذ هو مشابهة غير ظاهرة بين الاسم والفعل.»
8
رأينا في الصرف
وقد وجب أن ننصرف عما قرر النحاة في هذا الباب، بعدما تبين أنه لا يمثل العربية ولا يساير أحكامها، وآن أن نرجع إلى أصلنا في الصرف ومنعه، فنزيد بيانه، ونذكر ما بدا لنا من دليله.
قلنا إن التنوين للتنكير، وقد نص النحاة على هذا أيضا، فقالوا: إن التنوين يدل على التنكير في المبنيات وحدها دون المعربات؛ يقولون: سيبويه منونا لكل من سمي بهذا الاسم، وسيبويه بغير تنوين لمخصوص معين؛ وكذلك صه بالتنوين للكف عن كل حديث، وصه بلا تنوين للكف عن حديث خاص، ونحن لا نقبل تخصيصهم هذا ولا قصرهم تنوين التنكير على المبنيات، بل نرى أنه في المعرب أكثر دلالة على التنكير وأوسع استعمالا، وأن حذفه آية ظاهرة على التعريف، وإذا عددنا المعارف لم نجد التنوين يدخل واحدا منها إلا العلم.
فالضمير، والإشارة، والموصولات،
9
والمضاف، والمعرف بأل، والمنادى المعين، لا يدخل التنوين شيئا منها.
والعلم وحده هو الذي يجب أن ننظر فيه لنرى لم دخل التنوين بعض الأعلام وهي معارف؟ وسترى أن الجواب قريب، وسنقدمه من أقوال النحاة المتقدمين.
قرأت قريبا ما يقولون في سيبويه منونا وغير منون، وأن التنوين فيه يدل على معنى التنكير - وهو علم في كلا الحالين - فدلونا على أن العلم يدخله معنى التنكير والتعميم، وقد وضح هذا المعنى الإمام أبو سعيد السيرافي في شرحه لكتاب سيبويه ببيان واسع واضح، قال: «اعلم أن المعرفة تشارك النكرة في موضعين، وإنما يكون التعريف والتنكير فيهما على قصد المتكلم، وذلك في الأسماء الأعلام، وفي الأسماء المضافة التي يمكن فيها التنوين، وتجعل إضافتها لفظية.
تقول في الأعلام: جاء زيد وزيد آخر، ومررت بعثمان وعثمان آخر، وما كل إبراهيم أبو إسحاق.
وإنما صار الاسم العلم أصله التعريف؛ لأنه الاسم الذي يقصد به المسمي شخصا لتلبيته بذلك الاسم من سائر الشخوص، كرجل سمى ابنه زيدا أو غيره ليعرف باسمه من غيره، وهذا أصله، ثم سمي غيره بمثل ما سمي به، فرادف ذلك الاسم على شخوص كثيرة، وكل شخص منها سمي به لاختصاصه، ثم صار بالمشاركة عاما، فأشبه أسماء الأنواع، كرجل وفرس ونحوه، مما هو لجماعة؛ كل واحد منهم له ذلك الاسم، فإن أورده المتكلم قاصدا إلى واحد، عنده أن المخاطب يعرفه فهو معرفة، وإن أورده على أنه واحد من جماعة لا يعرفه المخاطب فهو نكرة.»
فهذا غاية الجلاء في شرح ما يدخل العلم من معنى التنكير، ووجه آخر آكد عندنا منه، وهو أن العلم كثيرا ما يلمح فيه معنى الوصف، فإنا حين ننقل الكلمة من وصف أو مصدر فنجعلها علما على ذات لم تقصد إلى إهدار معنى الوصف وإضاعته بتاتا؛ كالرشيد والمأمون والأمين. واللقب نوع من العلم، ولولا أن نقصد فيه إلى صفة تمدح أو تذم ما كان لقبا، فإذا استعملت العلم ترمي إلى الدلالة على هذه الصفة فقد جنحت به إلى استعمال الصفات، تنكرها مرة بالتنوين وتعرفها أخرى بأل، فتقول: فضل والفضل وزيد والزيد، وقد دل لهذا الإمام الرضي بأدق تدليل قال:
والدليل على إمكان لمح الوصف في العلمية قولهم: إنما سميت هانئا لنهنأ، وقول حسان في الرسول عليه الصلاة والسلام:
وشق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمد
وأيضا تعلم أن اللقب كالمظفر وقفة، من الأعلام. واللقب هو الذي يعتبر فيه المدح والذم، فيمكن فيه لمح معنى الوصف الأصلي، ويؤكد هذا قول النحاة: إنما تدخل اللام على الأعلام التي أصلها المصادر المختلفة. ا.ه.
واستعمال العرب يشهد أنهم أحسوا في العلم نوعا من التنكير فقد استعملوه مضافا،
10
وأدخلوا عليه أل، ولم يصنعوا هذا الصنيع بشيء من المعارف سواه، فمما ورد مضافا قول الشاعر:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم
بأبيض من ماء الحديد يمان
فإن تقتلوا زيدا بزيد فإنما
أقادكم السلطان بعد زمان
وقال:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
يزيد سليم والأغر ابن حاتم
يزيد سليم سالم المال، والفتى
أخو الأزد للأموال غير مسالم
قال ابن جني: وهذا كثير عنهم.
ومن استعماله بأل:
غلب المساميح الوليد سماحة
وكفى قريش المعضلات وسادها
وقول أبي النجم:
باعد أم العمر من أسيرها
حراس أبواب على قصورها
وتمام هذه الأدلة أن العلم إذا عين تمام التعيين، وامتنع أن يكون فيه معنى العموم لم يجز أن يدخله التنوين، وذلك حين يردف بكلمة «ابن» وينسب إلى أبيه؛ مثل: علي بن أبي طالب. ولم يستطع النحاة أن يكشفوا عن سبب لتحريم التنوين هنا، وقال أكثرهم إنه حذف تخفيفا، والحق ما ترى من أن تمام التعيين حرم أن تجيء علامة التنكير.
وقد آن أن نقرر القاعدة التي نراها في تنوين العلم، وأن نقررها على غير ما وضع جمهور النحاة، بل على عكس ما وضعوا وهي: الأصل في العلم ألا ينون، ولك في كل علم ألا تنونه، وإنما يجوز أن تلحقه التنوين إذا كان فيه معنى من التنكير وأردت الإشارة إليه.
ومثل الاستعمالين ظاهر في بيت المعري:
جائز أن يكون آدم هذا
قبله آدم على إثر آدم
فنون «آدم» لما كان فيه شية من التنكير، ظاهر أنه أرادها وتعمد الإشارة إليها ليتم تصوير معناه - ولم ينون لما أراد «آدم» الواحد المعهود.
وهذا الرأي كما ترى يخالف رأي الجمهور من النحاة مخالفة واضحة، ولكنه مع هذا معروف في كتب المتقدمين، منسوب إلى جماعة من الأئمة؛ قال الرضي: «إن الكوفيين يمنعون العلم من الصرف بالعلمية وحدها؛ لأن العلمية سبب قوي في باب منع الصرف.» وعزاه البغدادي صاحب خزانة الأدب إلى الإمام عبد الرحمن السهيلي أيضا، وهو من نحاة الأندلس وحذاقهم.
وقد قال النحاة: إن «ال» تدخل على العلم للمح الأصل، وإنها لا تدخل إلا ما كان منقولا عن وصف أو مصدر، وكذلك أقول: إن التنوين يدخل العلم للمح الأصل.
ومن لمح هذا الأصل يأتيه معنى التنكير، ويدخله التنوين.
وإذا امتحنا المواضع التي قدر النحاة فيها منع الصرف وتحريم التنوين، وجدناها تزيد هذا الأصل تأييدا.
فأول ذلك أنهم يمنعون الاسم للعلمية والعجمة، ويشترطون في الاسم الأعجمي ألا يكون قد استعمل نكرة في العربية قبل وضعه علما، أي أن يكون نقل من الأعجمية وجعل علما، فإذا سميت بإبراهيم، فإبراهيم ممنوع من الصرف، إذ لا أصل له في التنوين يمكن أن يلمح؛ أما إذا سميت بمثل «إستبرق» و«أستاذ» مما استعمل في العربية نكرة ونون لم يمنع عندهم من الصرف، لأنه لم يستوف شرط العجمة، وذلك يشهد أن التنوين يدخل على العلم من ناحية أصله الذي نقل عنه أو كما يقولون (للمح الأصل).
والثاني: المركب المزجي، وهو اسم نقل من لغة أخرى وبقيت له صورة تأليفه وتركيبه، فليس له من أصل كان منونا قبل العلمية فيمكن أن ينون بعده .
والثالث: وزن الفعل، اختلف فيه النحاة اختلافا كثيرا، وذلك أنهم وجدوا أعلاما توازن الفعل ولا تمنع، وأخرى توازنه فتمنع، فاشترطوا أن يكون الاسم على صيغة الفعل بها أولى، أو يكون قد بدئ بزيادة هي أحق بالفعل، على أن القاعدة لم تستقم لهم بعد ما اشترطوا، فقد رأوا مثل «جلا» ممنوعا من الصرف وليس فيه شرطهم، ومذهب عبد الله بن أبي إسحاق، أوضح المذاهب وأصرحها في هذا، يقول: «إنه يشترط أن يكون الاسم منقولا عن الفعل وظاهرا فيه هذا النقل.»
وتفسيره عندنا: أن العلم إذا كان قد نقل عن الفعل، وكان ظاهرا فيه هذا النقل، كان واضحا أن أصله محروم من التنوين، فلا أصل يلمح ويستأنس به حين تنوين العلم.
رابعا: العدل؛ مثل عمر وزفر، اشترط النحاة لمنع مثل هذه الأسماء من الصرف ألا تكون قد استعملت نكرات قبل استعمالها، قالوا: إن زفرا يصرف لأنه قد استعمل منكرا ومعرفا قبل أن يكون علما، فقيل: «السيد الزفر»، وهنا نجد سبب المنع من التنوين ظاهرا واضحا، وهو أن العلم لم يستعمل منونا قبل أن يكون علما؛ فحرم التنوين إذ كان علما، وهذه الأسماء التي سموها معدولة إنما هي أسماء مرتجلة اشتقت أول ما اشتقت من أصولها لتكون أعلاما؛ فهذا معنى العدل الذي حار فيه النحاة المتأخرون، حتى صرحوا بأنها علة مفترضة لمنع الصرف، وقالوا: «إذا وجد الاسم ممنوعا من الصرف وليس فيه إلا علة واحدة فرض أن العدل هو العلة الثانية.»
ثم التأنيث، وقد أخطأ النحاة في عده من موانع الصرف؛ وذلك لأن أكثر هذا الباب استعمالا أسماء البلاد، وأسماء القبائل، وهي ترد منونة وغير منونة. قال النحاة: إنك إذا قصدت في اسم المكان إلى البقعة لم تصرف، وإذا قصدت إلى المكان صرفت ونونت؛ وإن اسم القبائل إذا أردت منه القبيلة والجماعة منعت التنوين، وإذا أردت إلى الجمع والقوم نونت، وهذا تمحل من النحاة يدل على أنهم رووا هذه الأسماء مصروفة وغير مصروفة، فتكلفوا لها هذه العلة وهي التأنيث، والمروي لا يساعدهم، يروون :
وهم قريش الأكرمون إذا انتموا
طابوا أصولا في العلا وفروعا
فلو أن منع الصرف كان بنية التأنيث في قريش، وأنها القبيلة أو البطن لم يستقم مع هذا وصفها بجمع المذكر السالم. ونحن نرى أن مناط التنوين وعدمه، القصد إلى معين، فقد يقول الشاعر: «قريش» وهو يعني هذا الجمع المحدد المشار إليه فلا ينون، وقد يريد من قريش هذه الجماعات الكثيرة التي لا يرمى إلى تعيينها والإحاطة بأولها وآخرها فينون، فملاك التنوين إرادة التعيين.
كذلك أسماء البلاد. وصريح في هذا ما روى أبو بكر الزبيدي: «أن أبا عبد الله كاتب المهدي قال: «قرى عربية» فنون، فقال شبيب بن شبة: إنما هي «قرى عربية» غير منونة، فسألوا أبا قتيبة الجعفي الكوفي النحوي، فقال: «إن كنت أردت القرى التي بالحجاز يقال لها قرى عربية فهي لا تنصرف، وإن كنت أردت قرى من السواد نونت.» قال: «إنما أردت التي بالحجاز.» قال: «هو كما قال شبيب».» ا.ه.
11
ففي هذا شهادة نحوي وعربي أن التنوين هنا مناطه التعيين.
وما عدا أسماء البلاد والقبائل من المؤنثات فهو قليل إذا قيس إلى سائرها، وقد رجعنا إلى القرآن الكريم فوجدنا أسماء الأعلام المذكرة فيه كثيرة، أما أعلام الإناث فقليلة، وأغلبها لمكان «كمكة، ويثرب»، ولقبيلة «كعاد وثمود»، وليس فيه من علم لأنثى حقيقة إلا «مريم» وهو اسم أعجمي، فإذا أردت غير القرآن حجة، ورجعت إلى الشعر لم تجد فيه من دليل، وهم يقولون: «ويصرف الشاعر ما لا ينصرف.»
انتهينا إذن من العلمية، ومناقشة العلل التي يمنع لها الاسم من الصرف مع العلمية، وأثبتنا ما قررناه من أن الأصل في كل علم ألا ينون، وأنه إنما ينون إذا قصد إلى تنكيره، وأنه يكون آنس بالتنوين إذا كان له فيه أصل. وتبين أن أصلنا هذا أوفق للعربية، وأمضى في تفسير ما روى النحاة من كلام العرب.
الوصفية
تمنع الصفة من الصرف في مواضع ثلاثة، عددها النحاة، وهي: العدل، وزيادة الألف والنون، ووزن الفعل.
أما العدل فإنه يكون في كلمات معدودة هي : أخر، وجمع، ومثنى، وثلاث.
ويقولون: إن أخر عدل به عن الآخر ؛ وذلك أن «أفعل» التفضيل إذا نكر لزم الإفراد والتذكير، كما هو بين من أحكامه، فلا يجمع إلا إذا كان معرفا أو مضافا لمعرف، فجمع آخر على أخر دليل على أنه أريد بها إلى معرف، ولو لم يذكر فيها «أل»، فقد وجدت أن في أخر معنى من التعريف؛ ومن أجله حرمت التنوين، أو منعت من الصرف على اصطلاحهم.
أما جمع فالأمر فيها أوضح من «أخر» فإنه لا يؤكد بها إلا المعرفة، فدل هذا على ما فيها من معنى التعريف، وأن ذلك كان السبب في منعها من التنوين.
ومثنى وثلاث: هذه كلمات قليلة لم يكن ينبغي أن تجعل بابا خاصا في منع الصرف، وتنتحل لها هذه العلة، وهي العدل، وقد روي أن الفراء إمام نحويي الكوفة حكى أن مثنى وثلاث تستعمل منونة وغير منونة، وقال: أجيز صرفها إذا ذهبت بها مذهب الأسماء النكرات.
تنتهي وقد تبينا جليا أن السبب في منع التنوين من أخر وجمع، إنما هي نية التعريف، وأن استعمال مثنى وثلاث قليل، وأنه يحذف منهما التنوين إذا قصد بهما إلى شيء من التعريف.
فلا حاجة إلى هذه العلة المفترضة التي سماها النحاة «عدلا».
أما زيادة الألف والنون، فقد اشترط في منعها من الصرف شروط، منها: أن تكون في زنة «فعلان» مذكر «فعلى»، وألا يكون مؤنثها على فعلانة، وبعض العرب وهم بنو أسد
12
يجيزون أن يكون لكل فعلان مؤنث على فعلانة، فهي على هذا جائزة التنوين أبدا، وإنما يحذف تنوينها أحيانا وعلى قلة رعاية لزيادة الألف والنون، ولأن التنوين نون أخرى.
وزن «أفعل»: إذا رجعنا لهذا الوزن وجدناه أكثر ما يكون في أفعل التفضيل، وأفعل التفضيل يستعمل مصحوبا بمن أو يكون معرفا، واستصحابه بمن نوع من التعريف، بل إن الكلمة التالية لمن هي بمثابة التكملة لمعنى أفعل التفضيل، فواضح أن «أفعل» يحرم التنوين إذا صحب «من»؛ لأن فيه حظا من التعريف، ولأنه يجب أن يكون شديد الاتصال بمن إذ كانت تكملة له؛ والتنوين كما يدل على التنكير يشير إلى تمام الكلمة وانقطاعها عما بعدها؛ ولذلك روى الكوفيون أن هذا الباب لا يصرف، في ضرورة ولا في غيرها. أما غير أفعل التفضيل مما جاء وزنه على أفعل فإنه حمل عليه، وربما كان أصل كل «أفعل» هو التفضيل، ثم كثر استعماله مع نسيان التفضيل، وبقاء أصل الوصف؛ ودليل ذلك أنك لا تجد فعلا يشتق منه أفعل وصفا، ثم يشتق منه أفعل التفضيل.
وبذلك استقامت لنا القاعدة بشطريها:
الشطر الأول:
أن الأصل في العلم ألا ينون إلا أن يدخله شيء من التنكير.
والشطر الثاني:
أن الصفة تنون، ولا تحرم من التنوين إلا إذا كان فيها نصيب من التعريف.
والصفة التي يمنع صرفها باطراد هي «أفعل من» ثم «أفعل» مطلقا.
ولم يبق من موانع الصرف إلا العلة التي تقوم مقام العلتين، كما يقول النحاة، وذلك في موضعين:
الأول:
ألف التأنيث مقصورة وممدودة، والثاني: صيغة منتهى الجموع.
أما ألف التأنيث المقصورة، فالتنوين يستدعي حذفها، وقد أتت لغرض يهتم به العرب ويعنون به فوق عنايتهم بالتعريف والتنكير، وهو التأنيث. فإنا نعلم من مراقبة الكلام أن العربية أميل إلى الاحتفاظ بإشارات التأنيث والتذكير، وأحرص على التمييز بين النوعين بأكثر مما تحرص على التعريف والتنكير؛ فللتأنيث علامات متعددة: منها الكسرة في ذ، وت، وأنت. والياء أو الكسرة الممدودة في: اكتبي وافهمي، وتكتبين وتفهمين. والألف في: ذكرى وبشرى، والألف الممدودة في صحراء وبيداء، والتاء في فتاة.
ولجمع المذكر صيغة، ولجمع المؤنث صيغة أخرى، والتزمت في الفعل إشارات التأنيث للفاعل، وقد ترى من عنايتهم بالتفريق بين المذكر والمؤنث غير ما ذكرنا من الأمثلة، فإذا جئت إلى التعريف والتنكير لم تجد الأمر من التفصيل وكثرة الأدوات، والعناية بالتفرقة بين المعرف والمنكر، كما رأيت في التذكير والتأنيث.
فالمعارف كثيرة، وليس لهم من أداة للتعريف غير «ال»، ولا من علامة على التنكير إلا التنوين، فإذا زدت الأمر بحثا وجدت أن هاتين العلامتين لم يبلغ استعمالهما من الدقة ما بلغته التفرقة في النوع؛ فعلم التنكير لم يفطن له النحاة إلا قليلا في المبني كما علمت ، وحسبك هذا دليلا على خفاء استعماله، وضعف العناية باستخدامه.
وعلامة التعريف وهي «ال» قد تدخل على الكلمة وفيها معنى التنكير، ولها حكم النكرة كما رووا في بيت السلولي:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
غضبان ممتلئا علي إهابه
إني وحقك سخطه يرضيني
وقد تكون الكلمة خالية منها، وهي مشيرة إلى معرفة كقوله تعالى:
ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالا وعدده (الهمزة: 1-2). قالوا: وصفت النكرة وهي «همزة» بالمعرفة، وهي «الذي» لما كان «همزة» يشير إلى معهود يعرفه السامعون.
بعد ذلك نراه منسجما مع طبيعة العربية أن يضحى بالتنوين حرصا على علم التأنيث، فتقول: دنيا، وعليا، وفضلى. فهذا واضح في الألف المقصورة، والألف الممدودة هي من المقصورة، فاستصحبت حكمها.
الموضع الثاني:
صيغة منتهى الجموع.
وإنما حذف التنوين منه عندنا لما فيه من معنى التعريف، وقد بينا من قبل أن العرب تريد بالمنكر الفرد الشائع والواحد من المتعدد، فإذا قصدت إلى الإحاطة والشمول جعلته من مواضع التعريف. ورأينا ذلك في «ال» التي يجعلونها للاستغراق والإحاطة، ويجيء الاستثناء بعدها، قال الله تعالى:
والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا (العصر: 1-2-3)، ورأينا تعريف الاستغراق كذلك بعد «لا النافية». وهذا واضح في الجمع إذا أريد به الاستغراق وشمول جميع الأفراد، والنحاة يقولون: إن هذه صيغة منتهى الجموع ففيها معنى الاستغراق وتمام الإحاطة.
والذي نرى هنا: أنه إذا قصد بالجمع الاستغراق والدلالة على الإحاطة منع التنوين؛ لما فيه من معنى التعريف على طبيعة العربية ومجراها في التعريف والتنكير، فإذا لم يقصد إلى الاستغراق والإحاطة فالاسم منون. وقد نقل الإمام الرضي «أن من العرب من ينون هذه الصيغة مختارا.» وهذا تصديق ما قلنا من أن الأمر في التنوين وتركه منوط بإرادة الشمول أو عدمه. فهذا حكم التنوين فيما لا ينصرف.
أما إعرابه بالفتحة نيابة عن الكسرة، كما يقول النحاة، فقد أشرنا إليه من قبل عند الكلام في العلامات الفرعية، وتستطيع الرجوع إليه.
خاتمة
والحمد لله أي حمد؛ فقد تم ما أردت بيانه ، واطمأننت أني أقدم للقارئ فكرتي في النحو، وفي إعراب الاسم، مكتوبة مسواة ملمومة النواحي، وأمنت أن تعصف عاصفة، فتذرها مذكرة في جذاذ، أو طرفا من فكرة في نفس مستمع.
لقد حرصت على الإيجاز، وطرحت من تفصيل المسائل ما خشيت أن يغطي على الفكرة، أو يباعد بين أطرافها، وآثرت أن أرسل هذا البحث خاصا بإعراب الاسم؛ لأن ذلك أدنى إلى بيانه، وأبعث على درسه، ولأن إعراب الاسم يقوم منفردا مستقلا في بحثه وبيانه عن إعراب الفعل، ولأني أرجو أن أجد من نقد الناقدين، وبحث الباحثين، ما عسى أن أنتفع به في درس الفعل، أو عرضه من بعد.
لذلك كله رأيت أن أستأخر بإعراب الفعل زمنا، وأتقدم إلى الناس في هذا البحث بإعراب الاسم وحده، وأنا أرجو أن يكون وضوح الفكرة وقربها وسيلة إلى تقديرها ونقدها، فإن لم تجد من الناقدين تأييدا أو تقويما، فإني لأكره أن تمضي سبهللا في غير نقض ولا تهديم.
ومهما يكن استقبال الناس إياها، ومهما يتجهموا لها أو يبشروا بها، فلن يستطيع النحاة من بعد، أن يركنوا إلى نظريتهم العتيدة السابقة «نظرية العامل». وقد بنيت عليها من قبل أصول النحو، واستقرت قواعده، وشغلت النحاة ألف عام أو يزيد، وملأت مئات من الكتب النحوية خلافا وفلسفة وجدلا، بل تمثلت لها فلسفة خاصة، أفردت بالتأليف، وتستطيع أن تقرأها في كتابي «أصول النحو» و«جدل الإعراب» للإمام أبي بكر بن الأنباري.
1
لن تجد هذه النظرية من بعد، سلطانها القديم في النحو، ولا سحرها لعقول النحاة. ومن استمسك بها فسوف يحس ما فيها من تهافت وهلهلة، وستخذله نفسه حين يبحث عن العامل في مثل التحذير والإغراء، أو الاختصاص أو النداء، ثم يرى أنه يبحث عن غير شيء.
تخليص النحو من هذه النظرية وسلطانها، هو عندي خير كثير، وغاية تقصد، ومطلب يسعى إليه، ورشاد يسير بالنحو في طريقه الصحيحة، بعدما انحرف عنها آمادا، وكاد يصد الناس عن معرفة العربية، وذوق ما فيها من قوة على الأداء، ومزية في التصوير.
لم أزل أضمر لنظرية العامل بقية من البحث، تجمع أطرافها، وتنظم أجزاءها، وتحيط بنواحيها. ولكنه كما تجمع آثار العاهل الظالم، لتعد في زاويتها من متحف تاريخي.
والفكرة التي شرحناها تيسر النحو وتقربه إلى الطالب، وتقتصد عددا من أبوابه، وتستغني عن كثير من مباحثه، ثم تضع القواعد على أساس مستقر من الصلة بين الإعراب والمعنى، فإذا أخذ الطالب بمراقبة تلك الصلة ونبه إليها، كان قريبا أن تكون منه بمنزلة السليقة. وقد بينت من قبل أن المتكلم لا يكاد يخطئ في النوع والعدد، ولا في رعاية أحكامهما، وأن ذلك لحسه بما في إشارات النوع والعدد من معنى، فإذا كان كذلك الإعراب، أمن الزلل فيه أو قل، ولم يكن من سبيل إلى هذا الخلاف الكثير، والجدل الطائر الشرر بين النحاة. فإن الحكم المعنى، ولا نظريات من الفلسفة تدعى، وإذا كان النحو من تلك الجهة، قد تيسر على الدارس، وقلت مباحثه؛ فإنه من جهة أخرى أصبح يستدعي من النحاة جدا ودأبا، ويوجب عليهم أن يعودوا إلى اللغة، ويطيلوا فحصها، وينعموا في مراقبة أساليبها؛ ليجمعوا خصائصها في التصوير والتعبير، ويبينوا أساليبها من النفي والإثبات والتأكيد والتوقيت وغيرها من أغراض اللغة، ولن ينال من ذلك شيئا إلا من وهب ذوقا في اللغة وحسا بأساليبها، وأنواع الدلالات المختلفة فيها. ولا ينبغي أن يعمل في النحو إلا أديب مرهف الحس، صحيح الذوق، حتى تدون القواعد الجديدة، وسيجد هؤلاء النحاة المدد الوافر، والنص الكافي في القرآن الكريم. سيكون لهم البادية والحاضرة السليمة النقية، يتتبعون فيه أحكام العبارة وأساليب الأداء، وينتفعون بقراءاته ورواياته، ما سمي منها متواترا، وما سمي شاذا. ولقد يكون الشاذ أسلم من أوثق ما رووه في الأدب ونصوصه، والشعر وقصائده. ومثل الكتاب في المقدار كاف أن يكون الأصل لتدوين القواعد وتحريرها.
ستكون بينة جديدة، على أن الكتاب الحكيم لا يبلى جديده، ولا يحد مدى بركته لهذه الأمة، وللأمم جميعا.
Page inconnue