لذلك كله رأيت أن أستأخر بإعراب الفعل زمنا، وأتقدم إلى الناس في هذا البحث بإعراب الاسم وحده، وأنا أرجو أن يكون وضوح الفكرة وقربها وسيلة إلى تقديرها ونقدها، فإن لم تجد من الناقدين تأييدا أو تقويما، فإني لأكره أن تمضي سبهللا في غير نقض ولا تهديم.
ومهما يكن استقبال الناس إياها، ومهما يتجهموا لها أو يبشروا بها، فلن يستطيع النحاة من بعد، أن يركنوا إلى نظريتهم العتيدة السابقة «نظرية العامل». وقد بنيت عليها من قبل أصول النحو، واستقرت قواعده، وشغلت النحاة ألف عام أو يزيد، وملأت مئات من الكتب النحوية خلافا وفلسفة وجدلا، بل تمثلت لها فلسفة خاصة، أفردت بالتأليف، وتستطيع أن تقرأها في كتابي «أصول النحو» و«جدل الإعراب» للإمام أبي بكر بن الأنباري.
1
لن تجد هذه النظرية من بعد، سلطانها القديم في النحو، ولا سحرها لعقول النحاة. ومن استمسك بها فسوف يحس ما فيها من تهافت وهلهلة، وستخذله نفسه حين يبحث عن العامل في مثل التحذير والإغراء، أو الاختصاص أو النداء، ثم يرى أنه يبحث عن غير شيء.
تخليص النحو من هذه النظرية وسلطانها، هو عندي خير كثير، وغاية تقصد، ومطلب يسعى إليه، ورشاد يسير بالنحو في طريقه الصحيحة، بعدما انحرف عنها آمادا، وكاد يصد الناس عن معرفة العربية، وذوق ما فيها من قوة على الأداء، ومزية في التصوير.
لم أزل أضمر لنظرية العامل بقية من البحث، تجمع أطرافها، وتنظم أجزاءها، وتحيط بنواحيها. ولكنه كما تجمع آثار العاهل الظالم، لتعد في زاويتها من متحف تاريخي.
والفكرة التي شرحناها تيسر النحو وتقربه إلى الطالب، وتقتصد عددا من أبوابه، وتستغني عن كثير من مباحثه، ثم تضع القواعد على أساس مستقر من الصلة بين الإعراب والمعنى، فإذا أخذ الطالب بمراقبة تلك الصلة ونبه إليها، كان قريبا أن تكون منه بمنزلة السليقة. وقد بينت من قبل أن المتكلم لا يكاد يخطئ في النوع والعدد، ولا في رعاية أحكامهما، وأن ذلك لحسه بما في إشارات النوع والعدد من معنى، فإذا كان كذلك الإعراب، أمن الزلل فيه أو قل، ولم يكن من سبيل إلى هذا الخلاف الكثير، والجدل الطائر الشرر بين النحاة. فإن الحكم المعنى، ولا نظريات من الفلسفة تدعى، وإذا كان النحو من تلك الجهة، قد تيسر على الدارس، وقلت مباحثه؛ فإنه من جهة أخرى أصبح يستدعي من النحاة جدا ودأبا، ويوجب عليهم أن يعودوا إلى اللغة، ويطيلوا فحصها، وينعموا في مراقبة أساليبها؛ ليجمعوا خصائصها في التصوير والتعبير، ويبينوا أساليبها من النفي والإثبات والتأكيد والتوقيت وغيرها من أغراض اللغة، ولن ينال من ذلك شيئا إلا من وهب ذوقا في اللغة وحسا بأساليبها، وأنواع الدلالات المختلفة فيها. ولا ينبغي أن يعمل في النحو إلا أديب مرهف الحس، صحيح الذوق، حتى تدون القواعد الجديدة، وسيجد هؤلاء النحاة المدد الوافر، والنص الكافي في القرآن الكريم. سيكون لهم البادية والحاضرة السليمة النقية، يتتبعون فيه أحكام العبارة وأساليب الأداء، وينتفعون بقراءاته ورواياته، ما سمي منها متواترا، وما سمي شاذا. ولقد يكون الشاذ أسلم من أوثق ما رووه في الأدب ونصوصه، والشعر وقصائده. ومثل الكتاب في المقدار كاف أن يكون الأصل لتدوين القواعد وتحريرها.
ستكون بينة جديدة، على أن الكتاب الحكيم لا يبلى جديده، ولا يحد مدى بركته لهذه الأمة، وللأمم جميعا.
Page inconnue