Ibrahim II
إبراهيم الثاني
Genres
ومطت بوزها.
6
وكان إبراهيم يتطير من لا شىء، ومن كل شىء. وليست الطيرة فى الطباع، كما يزعم ابن الرومى، ولكنها إلا تكن فيها ليست مما يستغرب. ولعل مكافحتها أدل على معاناتها من الإقرار، فما يغالب المرء غير موجود، أو يصارع معدوما. وإذا قيل إنه يطرد وهما، فالوهم حادث والشعور به حقيقى، وله أصل ينجم منه، وعلة تحدثه. ولم تكن طيرة إبراهيم عن ضعف فى العقل أو نقص فى صحة الإدراك؟ بل كانت بعض ما أورثته النوراستنيا، وتلف الأعصاب. وكان يعرف أن طيرته خرف وكان لهذا يكتمها. ومن ذلك أنه كان يكره أن يصبح على غير وجه «تحية» فإذا أصبح على غيره، ظل يومه متوجسا غير منشرح الصدر، وكان يستثقل، ولا يهون عليه أن يوقظها ويزعجها فى البكرة المطلولة، فقد كان يبكر فى القيام، وينهض من فراشه - صيفا وشتاء - حين يبدو الصبح بأصوات العصافير، فيكتفى بأن يذهب إلى سريرها - على أطراف أصابعه - ويتملى بالنظر إلى وجهها الصابح، وربما اتفق أن يكون وجهها للحائط، فيدور حول السرير ويشب، لينظر من فوق شباكه، ومن أجل هذا أقنعها بأن تجعل بين السرير والحائط مسافة شبرين، وزعم أن البقعة خاوية وأن للبيت حديقة فهو لا يأمن أن تدب الحشرات إلى البيت. وإنما فعل ذلك ليتسنى له أن يدخل بين السرير والحائط وينظر إلى وجهها حين تكون مائلة أو نائمة على جنبها الأيسر. وكان لهذا أيضا يغريها بالنوم على الجنب الأيمن ويزينه لها، ويقول لها، إنه أصح وأرفق بالقلب حتى ولو كانت المعدة فارغة. وكان إذا تعذر أن يراها قبل أن يرى سواها، قصد إلى المرآة وابتسم لنفسه فى صقالها، وقال: «هذا على كل حال وجهى، ولا حيلة فيه، وهو على دمامته أحب إلى من وجوه الناس». وكان يحب أن يرى الهلال - أول ما يراه - وفى يده قطع من النقود الفضية، فينظر إلى الهلال، ثم إليها، ويلثمها ويلمس بها جبينه. وإذا اتفق له ذلك عفوا، وبغير تدبير سابق، كان أشرح لصدره وأبعث له على الاستبشار. على أنه مع ذلك كان لا يترك الأمر للمصادفة، فيحرص على إدخار بضع قطع فضية لرؤية الهلال، مؤثرا ذلك على ما فيه من التكلف على رؤية الهلال على وجوه الناس. وكان ينفر من الألوان القاتمة عامة، واللون الأسود خاصة، فينقبض صدره منها ويضيق، ولكنه على هذا، لا يلبس من الثياب ما كان لونه زاهيا ويفضل ما هو أقرب إلى الحشمة، وأشبه بالوقار. حتى كسوة الكراسى والمقاعد آثر فيها البساطة والخلو من الزينة، وما هو أدعى إلى راحة العين وأبعث على سكينة النفس. حتى الضوء مال فيه إلى الخفوت ونفر من السطوع. وكانت عادته أن ينزع كل صباح ورقة من التقويم المعلق، فإذا أقبل اليوم الثالث عشر من الشهر، زعم أنه سها، وترك ورقة اليوم الثانى عشر، ونزع فى صباح اليوم التالى ورقتين معا، وطواهما وألقاهما فى سلة دون أن ينظر فيهما لشدة اشمئزازه من رقم 13. وكان أبغض شىء إليه أن يفجأه صياح أو صراخ، أو صوت باك أو باكية، أو جنازة أو تابوت، ولو كان فارغا، وما يجرى هذا المجرى. ومن تطيره أنه أبى أن يقتنى أثرا فرعونيا، أو ما هو على غراره فى الصنعة. وكان يفزع من الثعابين والحشرات والهوام بأنواعها، وقد أهدى إليه أحد أصحابه مرة، منشة أو مذبة من صنعة أسيوط وعصا رأسها على هيئة الثعبان فاحتفظ بالمنشة لأنها لا صورة فيها، ودق رأس العصا حتى طحنها، وأبى أن يهديها إلى أحد، أو حتى أن يتركها وينساها فى مكان ما - فى الترام أو فى مقهى أو غير ذلك - لئلا يحيق شرها بأحد.
ولم تكن تحية تعرف أنه يتطير. فقد كانت طيرته تخجله، فهو يخفيها، ولا يعدم ما يفسر لها به، ما يبدو من الشذوذ فى سلوكه. وكان يقول لها فى تعليل ذلك إنه لا ضابط هناك ولا قاعدة للمزاج الخاص، والأمر فيما يرتاح إليه الإنسان أو ينفر منه من لون أو شىء لا يرجع إلى العقل، بل إلى الإحساس أى إلى الأعصاب، والأعصاب شىء معقد وبعض حالها موروث، والبعض اكتساب فلا تعجبى، ولكن اعذرى. وكل امرئ مهما جل شأنه، وكبر عقله، وعظم علمه، لا يسلم حاله مما يفتقر فيه إلى تمهيد العذر والصفح، والإغضاء، والتسامح. وفى كل امرئ مواطن ضعف تذكر بأنه - على علو قدره - ما زال من بنى الإنسان المخلوق من الطين الواهى أو الحمأ المسنون.. أى نعم. نحن من الطين، ففينا كل عيوبه وضعفه وهوانه أيضا يا امرأتى العزيزة، فلا تنسى هذا، وكونى أبدا منه على ذكر.
يقول هذا وأمثاله مازحا، وعلى سبيل التهوين من الأمر واجتنابا للصدق فى الإبانة، وهو فى قرارة نفسه يحس بما يسخر منه إحساسا حقيقيا يشيع فيه علوا وسفلا.. من فرعه إلى أخمص قدميه.
واستيقظ يوما، فتنبه فجأة، ومازالت عينه مفتوحة كمغمضة، إلى أن هذا هو الثالث عشر من الشهر، فاستعاذ بالله وأطبق جفونه، وانقلب على جنبه وأدار وجهه إلى الحائط وود لو ينام إلى صباح اليوم التالى. ثم قال لنفسه وهو يتكلف البشر: «لا حيلة لى أعرفها لأختزل بها هذا النهار الذى لن يكون فيما أعتقد إلا ذميما». وكانت عادته - ودأبه - أن يتوقع الذى هو أسوأ، فإذا نجا، أو كان ما هو أخف سوءا وأهون على العموم، اغتبط، وتشهد.
ونهض متثاقلا، ومشى على أطراف أصابعه إلى سرير تحية، فألقاها على جنبها وذراعها على خدها، فهو لا يكاد يرى سوى أرنبة أنفها. فقال لنفسه وهو يتنهد مستسلما لقضاء الحظ فيه: «لاعجب فإنه اليوم المنحوس من كل شهر، وأول نحوسه أن أحتاج إلى النظر إلى وجهى فى المرآة ...». وتذكر قول الحطيئة «فقبح من وجه، وقبح حامله»، وساءه أن يذكر هذا الشطر من شعر ذلك الشاعر السليط اللسان، وتساءل لماذا لم يذكر إلا هذه اللعنة على الريق؟ أليس فى شعر العرب أجمعين، وفى شعر الغربيين قاطبة ما كان يمكن أن يطفو إلى السطح غير هذا الكلام الثقيل؟
وأسلم أمره إلى الله. وقال لن أوقظ الخادمة. وصب الماء فى إبريق للشاى ليغليه. فلما غلى الماء، أنزله عن النار وكشف الغطاء ليلقى بالشاى فلسعه، فقال: هذا جزاء من يصبح على هذا الوجه، وأهون به إذا اقتصر الأمر عليه. وخطر له أن يلزم داره يومه، فدار فى نفسه قول القائل:
راح يبغى نجوة
من هلاك فهلك
Page inconnue