Ibrahim II
إبراهيم الثاني
Genres
وخطر له وهو مضطجع فى الزورق أن لسانه أفلت منه زمامه وهو يحادث تحية. وهز رأسه لما خطر له ذلك مستنكرا «فضول» تحية وتطفلها على خواطره، كأنما كانت هى التى أقحمت نفسها.
وترك الزورق ورده إلى الضفة الأخرى ليجئ بمن يشاء أن يجىء ممن يقبل دعوته. واستلقى على الوسائد فى الشرفة فنام. ثم استيقظ على مثل أصوات العصافير تناديه، فألفى عمته قاعدة على عليا درجات السلم الخشبى. وأجال عينه فرأى كريمة حيث كان هو قاعدا فى الزورق، وعينها على الماء، وكفاها على الحافتين وعلى صفحة خدها الوردية خصلة متمردة من شعرها المرسل، فخطر له أن هذه فرصة ... بعد دقيقة أو اثنتين - إذا ظلت كما هى - أهبط إليها. ونطت سمكة من الماء ثم غطست. وأبصر «ذهبية» مقبلة يقطرها زورق بخارى كبير فوقف ينتظر مرورها، ودنت فأبصر الذين على سطحها يطلون على الجزيرة، فتمنى لو كان معهم. وإذا بأحدهم يصيح: «يا ولاد الكلب ...»، وأضحك إبراهيم هذا الأسلوب فى الإعراب عن الإعجاب، واستغرب أن يحسد ركاب الذهبية الأنيقة الفخمة سكان جزيرة ليس فيها سوى البطيخ، ونسى أنه وصفها بأنها قطعة من الجنة، ولكن لعل الجنة ليست جنة إلا نسبيا، وفى أوقات دون أخرى.
ولم تبرح كريمة مكانها من الزورق، ولم ينزل إبراهيم إليها، وكأنما أتعبتها الجلسة فتحركت ووضعت يديها وراء رأسها فبرز صدرها الناهد. ولم يسعه إلا أن يرى أحد ثدييها ناتئا راسخا كالكمثرى. وسخط على نفسه حين جرى بباله هذا، فرد عينه عن النظر، وأدارها فى الجزيرة، فرأى تحية مع أتراب لها، فتذكر دندنتها فى الظلام وشعر بأسف لأن ألفاظ الأغنية قد فاتته، فخطا خطوة، فضربت الشمس وجهه وأزاغت بصره، فلم يعد يرى سوى نقط سود ترقص فى الجو، فلفت وجهه، فرأى تحية تنظر إليه. وخيل إليه أن فى نظرتها حيرة واضطرابا، وأنها أجمل من رأى - أجمل على كل حال من كريمة - ونزل إليها لا إلى كريمة. وقال بلا مناسبة: «لقد كانت الشمس فى عينى»، فلم تقل شيئا، ولم تنظر إليه . وكان وجهها إلى الشمس وشفتاها منفرجتين، وكفها مرفوعة إلى جبينها. ثم التفتت إليه وقالت: «أحسست بشىء غريب ...» وأمسكت ولم تزد، وأطرقت هنيهة ثم مضت عنه - فى صمت - إلى الكشك.
ولم يحدث فى بقية ذلك النهار سوى أن الطعام جاءهم من «الدوار» فى الزورق فأكلوا وتلاغطوا، ثم رقد من رقد، وذهبت البقية تتمشى فى أرض الجزيرة. وكان إبراهيم ممن رقدوا، فقد كانت عادته أن ينام قليلا بعد الغداء. وأطل على حوض الزهر من غرفة نومه، فبدا له كالمنديل الموشى. وطلب القهوة، وكان يتوقع أن يجيئه بها عم ادم، فجاءته بها كريمة، فجرى بخاطره أن هذا من مكر عمته، أو من يدرى؟ لعلها بريئة وهو يظلمها. وصبتها له فى الفنجانة، وناولته إياها، كما تفعل المرأة إذ تقوم على خدمة بعلها. وثقل على نفسه هذا الخاطر. وجلست أمامه وهو مغمض عنها لغير علة يدركها، فتوجع لها فى سره، وعكف على القهوة يترشفها، والسيجارة يدخنها ولا يكاد يرفع رأسه، وفى أذنيه دندنة تحية، وفى عينيه منظرها وهى واقفة تظلل نفسها من الشمس براحتها.
وملت كريمة الانتظار والإعراض فسألته: «فيم تفكر؟»
فقال - بلا تفكير -: «فيك».
فضحكت ضحكة السرور والخوف والأمل والشك وقالت: «إن هذا خير على كل حال من الصمت».
ولم يكذب إبراهيم حين قال إن تفكيره كان يدور عليها، وهو يتصور تحية، فقد كانت خواطره تروح وتجىء من هذه إلى تلك كرقاص الساعة. وكان يشعر بحيرة لا يدرى لها سببا، فإن تحية خطيبة حامد أو فى حكم الخطيبة، فلا داعى لانثناء خواطره إليها، وقد يسعدها أو لا يسعدها فذاك شأنهما وحظها. أما كريمة فشأنها مختلف جدا، وهى حرة طليقة مثله ومن واجبه أن يقصر خواطره عليها وأن لا يعدوها إلى سواها - إلى تحية على الخصوص - إذا كان لا معدى عن التفكير فى إحداهما. فإذا اقتنع بأن زواجه بكريمة يكون ملائما فبها، والا ... وإلا فقد انتهى الأمر. فما هو مقيدا بشىء. وليس من الضرورى أن تكون المسألة مسألة حب ... فى البداية لا ضرورة ... فإن الحب شجرة تنمو، ولا تخلق كاملة فى لحظة بأغصانها وأورا قها ونوارها.
وجاء الليل، على عجل فيما أحس، وتمشى مع ضيوفه فى الجزيرة. وانفض من حوله، وبقى هو على الشرفة وحده وخلا بنفسه وخوالجه. ولم يكن ما يدور فى نفسه يبلغ أن يكون خواطر أو معانى، فقد كان لمحات خاطفة ينقصها الاتصال والتسلسل، كالشرار المنبعث من وقع حوافر الجياد على أرض صلبة. ولا كان «عواطف»، على قدر ما كان يستطيع أن يتبين. وكان الأمر يبدو له أشبه بالومضات من خلال السحب. وأورثه ذلك الغموض اكتئابا لا تعليل له يعرفه.. كلا لم يكن هذا اكتئابا، وإنما كان رأيا لا يتكون ويتولد شيئا فشيئا ويبرز من هذا الغموض الذى كان يلفه فى مثل الضباب الكثيف.. وإذا به يدرك فجأة أنه لا يستطيع أن يتزوج كريمة.
وأدهشه إدراكه لهذا. وحاولى أن يطرد ما باغته منه، ولكنه شعر أن هذا عبث وأن لا مفر له من الاعتراف بهذه الحقيقة التى كأنما صاح بها فى وجهه صائح. وأحس بمثل اللطمة حين تبين أنه لا يحبها، ولا يستطيع أن يحبها، لا لعيب فيها، بل لأن هذا هو شعور قلبه. ورفض ما كان يقول من أن الحب خليق أن يجىء على مهل وبحكم الألفة.. كلا لا سبيل إلى هذا. ولو تزوجها لقضى عليها بالشقاء السرمدى.. وليس الأمر أمر امرأة يلقى إليها بزمام بيته. ولو كان كذلك لكان سهلا وخيرا أيضا.
Page inconnue