وقد يسر القارئ بالاطلاع على المقارنة الآتية، المقتطفة من «الإشارات»، والتي تفسر فيها أدوار هذه العقول المتتابعة؛ قال ابن سينا:
20 «ومن قوى النفس ما لها، بحسب حاجتها إلى تكميل جوهرها، عقل بالفعل؛ فأولها قوة استعدادية لها نحو المعقولات، وقد يسميها قوم «عقلا هيولانيا»، وهي المشكاة، وتتلوها قوة أخرى تحصل لها عند حصول المعقولات الأول لها، فتتهيأ بها لاكتساب الثواني إما بالفكرة، وهي الشجرة الزيتونة إن كانت أضعف، أو بالحدس، فهي زيت، أيضا، إن كانت أقوى من ذلك، فتسمى «عقلا بالملكة»، وهي الزجاجة، والشريفة البالغة منها قوة قدسية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، ثم يحصل لها بعد ذلك قوة وكمال. أما الكمال فأن تحصل لها المعقولات بالفعل مشاهدة متمثلة في الذهن، وهو نور على نور. وأما القوة فأن يكون لها أن تحصل المعقول المكتسب المفروغ منه كالمشاهد متى شاءت من غير افتقار إلى اكتساب، وهو المصباح. وهذا الكمال يسمى «عقلا مستفادا»، وهذه القوة تسمى «عقلا بالفعل»، والذي يخرج من الملكة إلى الفعل التام، ومن الهيولاني أيضا إلى الملكة، فهو «العقل الفعال»، وهو النار.»
وللعقل الفعال في مذهب ابن سينا عين الدور الذي له في مذهب الفارابي، قال مؤلفنا: «من الواضح أن العقل بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بسبب وجود عقل بالفعل دائما»، وكل نوع من الإدراك أو العلم يقوم على ارتسام صورة الشيء في الفاعل. والواقع أن هذه الصور المحسوسة أو المعقولة لا تكون أمام الفاعل دائما، فيجب حفظها في موضع ما، وتحفظ الصور المحسوسة في الذاكرة، ولكن الصور المعقولة التي لا يمكنها الاستقرار إلا في جوهر لا جسمي، ما دام مفترضا خروجها من عقلنا، لا يمكن أن تلقى في غير جوهر خارج عنا، وهذا الجوهر هو عقل بالفعل، ومتى اتصلت النفس الناطقة به أدركت الصور المعقولة فيه، أو هذه أو تلك الصور من هذه الصور وفق استعداده، «ولا تدرك النفس العاقلة شيئا إلا باتصالها بالعقل الفعال.»
21
وناهض ابن سينا الفلاسفة الذين يزعمون أن النفس - باتصالها بالعقل الفعال - تصير هذا العقل نفسه، فقد لاحظ أن هذا يجعل العقل الفعال قابلا للتجزؤ، ما دامت النفس متحدة بأحد أقسامه، أو أن هذا يفترض النفس الكاملة حائزة لجميع المعقولات. ولقد فند من قبل هذا الرأي على الوجه الآتي، وهو: أن النفس إذ تشتمل على صورة تصير إياها. وقد سأل: ما يفكر في أمر النفس إذا ما اشتملت على «ب» بعد اشتمالها على «أ»؟ أتصير نفسا أخرى، أم إنه يستحيل عليها أن تشتمل على «ب» عقب اتصالها ب «أ»؟
وفي نظرية ابن سينا أن وظيفة العقل الخاصة هي إدراك الكليات، وأن وظيفة الحواس هي إدراك الجزئي، غير أن دراسة الكليات عند هذا الفيلسوف لا تؤدي إلى نظرية مستقلة، وإنما تظهر هذه النظرية مثل تابعة في مواضع كثيرة من فلسفته، وقد لقيناها في المنطق، وسنلقاها فيما بعد الطبيعة حيث ألحقت بنظرية العلل. وأما هنا - في علم النفس - فنستطيع استنباطها من جميع ما قلناه عن الحواس والعقل.
والمعقولات موجودة، وقد وكد هذا تكرارا في كلام ابن سينا والفارابي، وهذه المعقولات تختلط بالكليات كما هو حاصل القول، ويقول ابن سينا في مكان ما:
22
إن العامي يتصور أن الموجود هو المحسوس، وأنه لا وجود لغير المحسوس، فيكفي - والحالة هذه - أن ينعم النظر قليلا ليرى بطلان هذا الاعتقاد، فخذ مثلا حدا مجردا بذاته، كحد الإنسان مثلا، تجده يطبق على شيئين محسوسين: زيد وعمرو، وهذا الحد إما أن يدرك بالحواس أو لا يدرك، فإذا ما أدرك بها فيجب أن يكون له - ككل محسوس - مكان، ووضع، وكم، وكيفية وجود معينة، ولكنه يرى أنه ليس له من هذا شيء، فليس لمفهوم الإنسان كمية ولا وضع ولا مكان ولا كيفية خاصة؛ ولذا فإن هذا المفهوم ليس محسوسا، وإنما هو معقول صرف، وقل مثل هذا عن جميع الكليات.
والحواس تأتي النفس بالجزئيات التي هي محسوسة، فتستخرج النفس منها الكليات التي هي معقولات، ولكنها لا تدركها بالفعل إلا باتصالها بالعقل الفعال حيث المعقولات قائمة. وأما الجزئيات فإنها - فضلا عن إدراكها بالحواس - قابلة لإدراك العقل إياها، لا على أنها جزئيات، بل على أنها معلولات لعللها. وهنا تتعلق هذه النظرية بما بعد الطبيعة، ويتألف من هذا الإدراك علم الجزئي الذي هو عمل عقلي لا ينبغي أن يخلط بإدراك الجزئي بالحواس، وهكذا يكون الأمر وفق مثال في فصل المنطق، يكرره ابن سينا نفسه، وهو أنه يشعر بالكسوف الخاص في عين الوقت الذي يدرك فيه أنه معلول لحركات النجوم. ثم إن الكليات - مع إدراك العقل لها - تدرك في الوقت نفسه في علاقاتها بمعلولاتها وعللها، فالكسوف - على العموم - يدرك مثل معلول لتوسط القمر بين الشمس والأرض.
Page inconnue