مقدمة المؤلف
1 - لاهوتية القرآن
2 - المعتزلة
3 - المترجمون
4 - الفلاسفة والموسوعيون
5 - ابن سينا: سيرته، كتبه
6 - منطق ابن سينا
7 - طبيعيات ابن سينا
8 - نفسيات ابن سينا
9 - إلهيات ابن سينا
Page inconnue
10 - تصوف ابن سينا
جدول المطابقات بين السنين الهجرية والميلادية
مقدمة المؤلف
1 - لاهوتية القرآن
2 - المعتزلة
3 - المترجمون
4 - الفلاسفة والموسوعيون
5 - ابن سينا: سيرته، كتبه
6 - منطق ابن سينا
7 - طبيعيات ابن سينا
Page inconnue
8 - نفسيات ابن سينا
9 - إلهيات ابن سينا
10 - تصوف ابن سينا
جدول المطابقات بين السنين الهجرية والميلادية
ابن سينا
ابن سينا
تأليف
برنارد كارا دو فو
ترجمة
عادل زعيتر
Page inconnue
مقدمة المؤلف
ليس هذا الكتاب وقفا على مذهب ابن سينا وحده، وإنما يتناول بيانا نسبيا للحركة الفلسفية، التي ظهرت في الشرق بين الهجرة ووفاة ابن سينا، والتي بدا فيها مذهب هذا الفيلسوف كأعلى ذروة، ويوجد بجانب الفرق والمذاهب التي جعلناها موضع بحث في هذا الكتاب فرق ومذاهب أخرى ظلت خارج نطاقه؛ أي المذاهب الكلامية والفرق السياسية والصوفية، ولم يعرض علم الكلام إلا في بداءته، وذلك مثل نقطة انطلاق، وقد قدم في سياق عرضه تحت شكل ما بعد الطبيعة، وألم بالسياسة مع الإيجاز في فقره حيث رسم النطاق التاريخي الذي تحرك فيه أبطالنا، وكذلك تناولنا بالبحث قليلا، وفي مواضع كثيرة، أمر السياسة مثل علم منفصل معدود قسما من الفلسفة وفق السنة اليونانية. وأما التصوف، فإن مؤلفينا سيسوقوننا في الغالب حتى عتبته، ولكن مع امتناعنا عن الخوض فيه، وعلى ما نحن مضطرون إليه من قول بعض كلمات لإتمام ما بعد الطبيعة، فإننا لن ندرسه مثل مذهب مستقل.
والعلوم التي نعنى بها عناية خاصة هي؛ أولا: علم المنطق، الذي كان يشغل مكانا واسعا في فلسفة ذلك الزمن، وإن ترك في أيامنا، ثم الطبيعيات، وعلم النفس، وما بعد الطبيعة؛ أي هذه العلوم الثلاثة المرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، وستمثل الفصول الثلاثة، التي سنقفها على هذه العلوم الأخيرة - والتي ستسبقها مقدمة عن المنطق وتعقبها تتمة عن التصوف - جوهر المذهب الناشئ عن حركة الفكر التي يتألف منها موضوع هذا الكتاب.
وإنا لنطلب من القارئ أن يتفضل بتناول هذا الكتاب من غير تعصب، ومن الحسن أن ينقاد لنا كانقيادنا لمؤلفينا، ولا ينبغي - في حقل علمي لا يزال معروفا قليلا لدى الجمهور، كالفلسفة العربية - أن توضع تقسيمات الموضوع وما يقتضيه من مسائل بداهة؛ فالأجدر أن ينتظر ظهورها من تلقاء نفسها كلما أوغل في الدرس.
ومع ذلك فإن هذه الملاحظة لا تعني أن الموضوع الذي نعالجه جديد على الإطلاق؛ فعلى العكس لا ترى قسما من هذا الكتاب لا يستند إلى جهود سابقة متينة عميقة، وهذا ما تدل عليه تعليقاتنا، بيد أن هذه الجهود لم تشع - في الغالب - خارج وسط الاختصاص، ولم تتجمع نتائجها ضمن مجموع قط، ونعتقد أن ساعة القيام بهذا الجمع وتسليم المادة التي أعدت في مختبرات الاستشراق إلى الجمهور قد حلت. ونرى أن هذا المشروع يعرض الآن من الطمأنينة ما فيه الكفاية، وعلى ما كان من عدم امتناعنا عن الإشعار بعملنا الشخصي في هذا الكتاب، فإننا نعتقد، مع ذلك، أنه أثر موضوعي قائم بذاته، حي بحياته الخاصة، مستقل عن مؤلفه على الخصوص، وأن الجزئيات تتجمع فيه، وتتسلسل بطبيعتها أكثر مما بصنع الكاتب.
ولا نتكلم باطمئنان مثل ذلك عن أقسام تاريخ الفلسفة الأخرى في الشرق الإسلامي، التي ظلت خارج نطاقنا، ولم تتقدم دراسة المذاهب الكلامية - ولا سيما الصوفية - تقدم المدرسة الفلسفية الخالصة، ولا نجرؤ على عرض نتائجها على المثقفين قبل أن نتناول من أيدي المستشرقين - أيضا - بعض التصانيف التمهيدية الخاصة التي نستدعيها بأفئدتنا.
البارون دو فو
باريس، مايو 1900
الفصل الأول
لاهوتية القرآن
Page inconnue
عيان الله لدى محمد - تجلي القدرة الإلهية - المعجزة القرآنية - ذات الله وصفاته - مشكلة القدر وعلم الله - جبرية القرآن - نظرية الوحي والملائكة. ***
ليس القرآن رسالة فلسفة، ولم يكن محمد فيلسوفا ضبطا، وإنما لمس محمد - مثل نبي - مسائل من النظام الفلسفي، ومنحها حلولا عيانية، عبر عنها تعبيرا حماسيا، وقد صارت هذه الحلول التي تألفت العقيدة الإسلامية منها نقاطا ثابتة في البحث النظري الفلسفي لدى العرب؛ ولذا لم تقم أعم معضلة في الفلسفة العربية على البحث عن الحقيقة، ما دامت هذه الحقيقة قد عرضت في كثير من نقاطها الجوهرية، بل قامت على تأييد هذه الحقيقة، التي وضعت وضعا عيانيا ببيان تحليلي عقلي، وبإقامة تعبير موافق لطرز الفلسفة القديمة مقام التعبير الحماسي، وهذا ما يمكن أن يسمى المعضلة السكلاسية.
1
أجل، وجد من استطاعوا بعد ذلك أن يغفلوا غاية هذه المعضلة، وأن يكونوا أكثر مبالاة بالفلسفة مما بالعقيدة، التي كان يجب أن تظهر الفلسفة صورة لها فقط، وأن يستخدموا الفلسفة حتى لتحريف العقيدة، بيد أن هذه الأمور لم تكن غير حركات ثانوية في تاريخ الفكر العربي، وأن البحث السكلاسي هو الحركة الأولية؛ ولذا، فإن من المهم أن تذكر، في البداءة، مسألة الاعتقاد، التي نمت هذه الحركة على أثرها، وهذا ما نصنعه بعرضنا لاهوتية القرآن.
وأول ما قام عليه عيان الله لدى محمد هو عيان الإله الواحد القادر، وأول ما لازم النبي منذ عزلته في غار حراء هو مبدأ الوحدانية الإلهية، خلافا لمعتقدات العرب المشركين. وأما مبدأ القدرة الإلهية، فقد تقدم في نفسه بنسبة تجلي مقاومة العرب الجاحدين، ثم تسليمهم.
وقد وكدت وحدانية الله بلا برهان في نص القرآن كما في صيغة الدين الإسلامي القائلة: «لا إله إلا الله»، وهذا الإله الواحد هو «يهوه» اليهود وإله إبراهيم وظهور نار العليقة:
وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا ،
فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ،
إنني أنا الله لا إله إلا أنا (20: 8-14).
2
Page inconnue
ونزع محمد من الرب قوة الإنسال حاكما رفعه على المعتقدات النصرانية الثالوثية وعلى كثير من المعتقدات الشعبية، كالتي كانت تجعل من العزير ابنا لله، أو كالتي تحاول أن تجعل من الملائكة بنات لله. وهكذا، جعل من الله موجودا واحدا منفصلا عن العالم انفصالا مطلقا.
والنصوص الخاصة بالقدرة الإلهية كثيرة إلى الغاية في القرآن، وهي أكثر تفصيلا مما هو خاص بالوحدانية، وتكاد كلها تكون ذات معنى دفاعي. وإله المسلمين كإله اليهود، يثبت بقدرته، وترى قدرته نفسها.
وتتجلى القدرة الإلهية على ثلاثة أوجه؛ أي في الطبيعة والتاريخ العام والمعجزة الحاضرة، وأوجه التجلي الثلاثة هذه تورائية.
والإله الذي يراه محمد في الطبيعة هو خالق العالم ومدبره، فكفى أن يقول له في سفر التكوين: «ليكن نور، فكان نور.» وهو الذي تفر أمامه البحار وتثب التلال، وهو الذي تحمده السماوات والأرض والشمس والنجوم والرياح والصقيع، وتسبح له جميع الموجودات، كما قال مؤلف المزامير. واسمع يا محمد:
ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه (24: 41). واسمع أيضا:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون (2: 159).
3
وليس لهذا التنبيه معنى غير البرهان أو الدليل على الباعث إلى الإيمان، وهذا ظاهر من آية أخرى يعترف محمد فيها بالأصل التورائي لبرهانه:
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه (6: 83).
والدليل على قدرة الله بالتاريخ العبري وافر في التوراة، حيث يرن - بلا انقطاع - صدى صوت يهوه، وهو يصرخ قائلا: «أنا الذي أخرج آباءكم من أرض مصر، وفتح البحر أمامهم، وأرشدهم بالسحاب ... إلخ.» وتناول محمد هذا الدليل، ولكنه وضع فيه قوة وبلاغة أقل مما في السابق. ثم بما أن التاريخ العبري وحده لم يكن ليهز نفوس العرب هزا كافيا، فإنه أضاف إليه وقائع أسطورية خاصة بتاريخ جزيرة العرب، كإهلاك بعض الأجيال القديمة الفاسدة بالغضب الإلهي وببعض الوقائع الصحيحة القريبة من زمن الإسلام؛ كانهيار سد مأرب،
Page inconnue
4
وهذا الحادث الأخير صغير إذا ما قيس بالخروج أو سبي بابل، وله فائدة الدلالة على اتخاذ أساليب الدفاع التورائية في القرآن. وفضلا عن ذلك، فإن النبي قد اختار لإثبات وجود الإله خير ما في الطبيعة وأشد ما في التاريخ هولا.
وأما الإثبات بالمعجزة، فقد ادعى محمد أنه يأتي به، ومع ذلك فقد طلب منه ذلك، بيد أن من المعلوم أنه - وهو خال من موهبة الخوارق - حاول أن يجعل القرآن في نظر الناس معجزة. ومن الطريف أن يلاحظ أنه كان يشعر بالأحوال التي لا بد منها لجعل الإثبات بالمعجزة مؤثرا، وذلك بمطالبته من يشاهدونها باستعداد قلبي:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون (6: 109-110).
وفي القرآن يظهر أن علم الله شرط لقدرته وأحد وجوهها تقريبا، ولا مراء في أن القرآن لا يشتمل على نظرية للعلم لدى الإنسان ولا عند الله، وإنما وكد علم الله في القرآن، ونص فيه على أنه مطلق كقدرته:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (6: 59). ويساور أتقياء المسلمين - دائما - رأي قائل بأنه لا ينبغي للإنسان أن يحاول الخوض كثيرا في أسرار الله، وهم - كمؤلف «التقليد» - يكادون يعدون الفضول العلمي تدنيسا للقدسيات.
وليست ذات الله وحياته موضعا لبحث منظم أكثر من صفاته لدى محمد؛ فهو لم يقل عنهما غير ما هو عياني، وإنما يؤكد بجلاء روحانية الله التي يبصرها في صلته بوحدانيته وقدرته وعلمه وجلاله. وعنده أن الله لا يمكن أن يدرك، وهو يدرك كل شيء، وأنه ليس ذا عاهة بدن، وأنه يعلو الإنسان وكل شيء بطبيعته، وأنه من العلو فوق العالم ما يتعذر معه حتى النظر إليه، وليس هنالك غير مثال موسع لعاهل شرقي، غير صورة معظمة لملكة سبأ، التي تستقبل من وراء حجاب مليك الجزر القاصية، الذي تنحني الرقاب في طريقه، وتغلق النوافذ.
وترتبط في مبدأ جلال الله مسألة كانت موضع جدل في علم الكلام الإسلامي، كما اشتهر أمرها في السكلاسية النصرانية، وهي رؤية الله في الحياة الآخرة. ومما يجدر ذكره ما يظهر في القرآن من صعوبة كبيرة في نيل هذه الرؤية، وهي قد وقع تقديرها في السور التي تشتمل على أقاصيص تورائية، ومن ذلك أن الله نادى آدم من غير أن يظهر نفسه، وأن نوحا - الذي نجا من الطوفان وحده - لم ير الله، وأن إبراهيم - الذي يدعى خليل الله - لم يستقبل غير ملائكته، وأن موسى طلب أن يرى الله، فلم يكد يلمحه حتى خر مغشيا عليه، فلما أفاق تاب إليه، وأن خاتم الأنبياء محمدا لم ير غير روح القدس؛ الملك العظيم جبرائيل.
وفي وصف القرآن للجنة أن الأخيار يتمتعون برؤية المنازل الجميلة والرياض ومختلف النفوس من ذكور وإناث، ولكن من غير قول بأنهم يتمتعون برؤية الله. وفي يوم الفصل يؤتى بالناس أمام الله، من غير أن يعلم من النص كيف يكون هذا المثول، وكيف يدرك.
وفي القرآن آيات على شيء من الغرابة، قال محمد فيها إن الله «نور»، وإن نور الأخيار يمشي عن يمينهم يوم الحساب:
Page inconnue
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار (24: 35). ولا يرى المفسرون غير تشبيهات في هذه الصور الغريبة،
5
ونحن نتساءل عن كون هذه التعبيرات صادرة عن بعض العوامل الأدرية.
وقدم الله مما وكده القرآن، وذلك من غير إصرار خاص. وفضلا عن ذلك، فإن هذا المبدأ لم يحلل، ولم يعن محمد بالبحث عما يمكن أن يكونه وجود الله خارج العالم وخارج الزمان.
ولم يحدد مبدأ الخلق تماما. ونص القرآن - كنص التوراة - لم يناقض وجود خواء يطبق الخلق عليه ويكون أصله غير محدود، ولم يرض محمد عن فكرة لا نهائية الزمان، ونكاد نحار من إبهام كلامه حول أبدية الثواب والعقاب:
فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد * وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (11: 108-110). وقد عينت فكرة الأبدية بعد زمن من قبل علماء الكلام بتأثير الفلسفة، وأنت ترى نقص معالجة محمد لها، ولما تزل تربيته حول هذه النقطة غير تورائية.
وعدم تغير الله ملازم لعلمه وقدمه، بيد أن محمدا يتمثل الله غير متغير، مثل مدبر للعالم على الخصوص:
سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (48: 23). والمقصود هنا هو عدم التغير التاريخي والأدبي. ولم يبال النبي بعدم التغير اللاهوتي، وهو لم يفكر قط في كيفية إمكان الله أن يكون فعالا مع بقائه غير متغير.
وبما أن محمدا كان يتمثل الله على وجه أقل لاهوتية من تمثله إياه أدبيا، فإنه كان يكترث لصلاته بالإنسان، وقد عبر بجلاء عن مبدأ العناية الإلهية، فوضع معضلة القدر الهائلة غير خالية من الجفاء.
ويشمل علم الله وحكمته وقدرته المستقبل. وتهدف أعمال الله إلى غاية؛ فلمجموع الخلق غرض عرض - فقط - بالكلمة القائلة:
Page inconnue
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (51: 56). وإلى هذا أضف أن كل جزئي في الطبيعة قد صنع من أجل المجموع، وهو حسن نظرا إلى غايته. وهذه نظرية في التفاؤل مشتقة - بلا جهد - من مبدأ كون الله قادرا عالما لطيفا:
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين * وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (15: 19-21).
غير أن محمدا قد حفز بعبقريته الخاصة وبالكفاح إلى الاتكاء على مبدأ مجانب - من بعض الوجوه - لمبدأ العناية الإلهية؛ أي على مبدأ القدر، وهو قد أصر عليه بعزم قوي شديد. ومع ذلك، فإننا إذا ما أجلنا البصر بروح هادئ - ومن غير ابتسار - في آي القرآن الخاصة بالقدر وجدنا أنها ليست جبرية محضا، كما يعتقد كثير من الناس؛ فهي - مع كونها هائلة - ليست مخالفة لكل عدل مطلقا.
وإليك الفكرة التي تشتمل عليها كما أرى: إن الله يعلم كل شيء مقدما؛ ومن ثم يعلم السيئات والعقاب عليها، كما يعلم الحسنات والثواب عليها، فكل شيء مسطور في كتاب محفوظ في السماء، وهنا لا نبالي كثيرا في أن لهذا الكتاب وجودا خفيا، أو في أنه ليس غير رمز لعلم الله بالغيب، فهو - على كل حال - يعدل من الناحية الفلسفية توكيدا لعلم الغيب، ولكن توكيد علم الغيب ليس إنكارا للاختيار أيضا:
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها (57: 22).
وهذا لا يعني أن هذه المصائب تحل ظلما
إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (36: 11). وهذا لا يدل على أن أفعال الناس مقدرة، وهذه إشارة إلى كتابين: كتاب علم الغيب، أو المثال، أو الرسم، لحياة الدنيا؛ أي ضرب من الموازنة، وكتاب العلم الحاضر المسطورة فيه أعمال الناس على مقدار ما يأتونها، والذي سيفتح يوم الفصل، وهذا كتاب حساب، ولا يزيل الاختيار أي من هذين الكتابين أيضا.
ولكن إليك ما هو أكثر تخويفا؛ قال الله:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (32: 12). وقل مثل هذا عن الكلمة الموكدة الآتية، التي كررت غير مرة:
فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء (35: 9). فإذا ما نظرنا إلى هذين القولين على انفراد لاح لنا أنهما يدلان على أن الله يريد - أول وهلة - أن يهلك فريقا من الناس، وأنه لا مناص من هذا الهلاك. بيد أن قراءة الآيات الأخرى تدل بوضوح على أن هذه ليست فكرة محمد؛ فقد قال الله في سورة أخرى:
Page inconnue
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (7: 178)، وقال أيضا:
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين (14: 27).
أجل، إن هاتين الآيتين موازيتان للسابقتين، غير أنهما تنطويان على تكملة، وهذا الفرق الدقيق مهم؛ وذلك أن من خلقهم الله لجهنم ليسوا من أي أناس كانوا؛ أي ممن اختيروا اختيارا مراديا، بل هم أولئك الذين يأبون أن يستمعوا إلى رسالة النبي، وأن من يضلهم ليسوا من أي أناس كانوا، بل هم الأشرار، والأبرار هم الذين يهديهم الله على هذا النحو؛ ولذا، فإن من الواضح من هذه الآيات وحدها أن الضلال وجهنم ليسا سوى عقاب ناشئ عن ذنب سابق اقترف اختيارا لا ريب.
وآي القرآن الأخرى التي تناسب عين المسألة كثيرة، وهي تؤيد هذا الوجه من الرأي، ونعتقد أن هذا أصلي، ويبدو لنا أن هذا التفسير - الذي أدرك إدراكا ناقصا حتى الآن - شديد الصلاح لسد باب النزاع الطويل حول جبرية القرآن؛ فالقرآن ليس جبريا، ولم يرد فيه أن الله يقدر الشر وهلاك أي إنسان بداهة، والواقع أن المذهب - الذي أريد إدراكه كما تقدم - يقوم على أن الله، بعد أول خطيئة - ولا سيما بعد الخطيئة الأولى حيال الإيمان - يضل المجرم ويعميه، ويقسيه مقدارا فمقدارا، فيسير نحو هلاكه مثل مكره، وإنما يبقى الكفر الأول طليقا، وليس هذا المذهب - من جهة أخرى - غير تعبير عن ملال النبي من المقاومة الطويلة التي لاقتها رسالته، وذلك أن الذين كانوا يسمعونه عدة مرات، وكانوا شاهدين لجميع آياته، إذا لم يذعنوا في آخر الأمر، عدوا - بالحقيقة - أناسا فقدوا عقلهم بقوة خارجية، أناسا غدوا أنعاما صما عميا، على حسب تعبير محمد، هدفا للعقاب الإلهي، فكانت جهنم تستحوذ على روحهم في أثناء حياتهم، فإذا ما طعنوا على هذا الوجه فلأنهم أبوا أن يؤمنوا في وقت كانوا فيه أحرارا في اختيارهم، مالكين لعقلهم.
وأصرح الآيات في هذا المعنى هي:
صم بكم عمي فهم لا يرجعون (2: 17). وهذه الآية الأخرى التي كنا قد استشهدنا بها، وهي:
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون .
ومن المفيد أن يضاف إلى هذا البيان عن لاهوتية محمد بضع كلمات خاصة بنظرية الوحي ونظرية الملائكة: وذلك بما أن إله القرآن صعب الاقتراب من الإنسان إلى الغاية، فإن الوحي جعل ضروريا لهذا السبب:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب (42: 50). وقد تلقت هذه الآية الجافية - فيما بعد - كثيرا من مخالفة متصوفي الإسلام عمليا.
وقد تمثل محمد أمر الوحي نفسه على وجه مماثل للوجه الذي تمثل به إدارة العالم؛ فالفكرة في ذلك تتصل بفكرة الإله القادر، والوحي هو رسالة من الله، ويوجد مثال للكتاب الموحى به، يوجد نوع من القرآن السماوي المحفوظ لدى الله، ويقرأ الملك في هذا الكتاب، ويأتي ليبلغ النبي ما قرأ، وهذا جهاز بسيط جدا؛ أي خارجي تماما، فهنا نبتعد عن حماسة التنبؤ التورائي وهيامه اللذين ضيق مفهومهما وأنحل.
Page inconnue
وذهب محمد إلى التدرج النبوي؛ فقد قال:
لكل أجل كتاب (13: 39). ولا تتناقض هذه الكتب، وإنما يوضح بعضها بعضا وتتكامل، وتكون هذه الفكرة الجميلة بنفسها - والتي هي على شيء من الفتون - ضارة بالإسلام؛ فقد تناولها كثير من الفرق إضافة إلى القرآن وحيا جديدا تحت ستار تفسيره، فكانت تقوضه.
ويحفظ القرآن لعيسى لقب «كلمة الله»، بيد أن هذه الكلمة عادة لا يكون لها أي معنى معين في فكرة الوحي القرآنية.
ويجب أن تذكر نظرية الملائكة ليذكر - فقط - أنها لا تسلم بشيء لنظريات الفيوضات الأدرية، وكانت نفس محمد ثابتة جدا حول النقطة الأساسية للوحدانية الإلهية، وهي لا تترك أي مجال تفاجأ به من هذه الناحية؛ فالملائكة الذين يقول بهم مع الجن مخلوقون منفصلون عن الله كانفصال الناس عنه، ولهم وظائف عند الله، ومنها أنهم يدبرون حركات الطبيعة الكبيرة، وأنهم رسل بين الله والإنسان. وعرف محمد مبدأ الفلك، ولكنه لم يكن لديه حس عن مبدأ إدراك الأفلاك إلا بالمقدار الذي كان ضروريا لتحريم عبادة الكواكب، وقد قال ببعض القوى السحرية التي حكم عليها من غير أن يبالي بإيضاحها.
ومجمل القول: أنه يمكن أن يقضى في أمر محمد - مثل فيلسوف - بأنه معتدل حكيم بصير عملي خلقي أكثر من أن يكون لاهوتيا بدرجات، وبأنه أبدع لاهوتية عالية ثابتة محاكية للاهوتية التوراة، وقد نزه بجمال شعوره عن كل تطرف ساق إليه متكلمون لاحقون، ولم تسمح أميته النسبية له بأن يتوقع أيا من المصاعب التي سوف يثيرها البحث الفلسفي بعده.
الفصل الثاني
المعتزلة
النظريات الأساسية عند المعتزلة - صفات الله والقدر والاختيار - المعتزلة في كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني - ظهور مسألة الاختيار قبل المعتزلة - واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد - الاتصال بالفكر اليوناني - العلاف والنظام - معمر بن عباد السلمي - مذهب التناسخ - الجاحظ - الجبائي وأبو هاشم - الكرامية ومحمد بن كرام. ***
أخذت لاهوتية القرآن تكون موضوعا للبحث الفلسفي منذ القرن الأول من الهجرة؛ ولذا فإن حركة فلسفية تلقائية حدثت في الإسلام قبل إدخال كتب الفلسفة اليونانية إليه، ويمحص هذا البحث النظري، ويصير أكثر تركيبا كلما أشعر المؤثر اليوناني بنفسه، ومن حب الاطلاع أن ترقب تحولات هذه اللاهوتية حتى الزمن الذي ترجمت فيه كتب الأوائل وأدركت تماما، فبرزت المسألة السكلاسية، وقد تألفت أهم سلالة للعلماء، الذين امتازوا في هذا الدور من الفرقة التي تعرف بالمعتزلة.
والنظريات الأساسية التي تناولها المعتزلة بالدرس هي نظريات صفات الله ونظرية القدر والاختيار. وقد تناولت مناقشاتهم مسألة من النظام السياسي كان لها شأن كبير في التاريخ الإسلامي؛ أي ما العلامات التي يعرف بها الإمام الشرعي. والإمام - كما يذكر - هو رئيس الجماعة الإسلامية؛ أي الخليفة أو السلطان. وقد قامت حول هذا الموضوع فرق كثيرة، ارتبط كل منها في بعض المعتقدات اللاهوتية مع اعتقاد سياسي خاص.
Page inconnue
1
وفي هذا الكتاب ندع - على الإطلاق - كل نقاش سياسي جانبا، وذلك؛ لكيلا نشغل بالنا بغير سياق الأفكار الفلسفية. أجل، يؤلف المعتزلة فرقة واسعة يمكن تقسيمها إلى فرق فرعية كثيرة، غير أن هذه الفرقة تمتاز في مجموعها بمناحيها العقلية الحرة، وفي هذه الفرقة يتجمع نصيب كبير من حياة المسلمين الفلسفية قبل ظهور الفلاسفة الخلص بجانبها.
وليست لدينا كتب علماء المعتزلة قبل زمن ابن سينا، ولكننا نملك عن هذا الدور بعض المصادر الثانوية، التي تعد مجموعة الشهرستاني المشهورة عن «الملل والنحل» أهمها،
2
فقد خص هذا المؤرخ الممتاز للأفكار في الإسلام عددا كبيرا من المعتزلة بمقالات تستحق الثقة بها، وذلك إذا ما قضي في أمرها بالعناية، التي حبا بها بيانه عن ابن سينا، حيث يمكن الانتقاد، وكذلك توجد معارف أخرى في رسالة لعضد الدين الإيجي (المتوفى سنة 756ه ) في الفلسفة وعلم الكلام اسمها «المواقف»، ولم تدرس بما فيه الكفاية أيضا، وقد طبع سرنسن قسمي هذا الكتاب الأخيرين مع شرحهما للجرجاني،
3
وينتفع شتاينر بهذين المصدرين المهمين، فينشر كتابا جيدا عن المعتزلة بعد قليل.
4
ووضعت مسألة الاختيار قبل ظهور فرقة المعتزلة، وذلك من قبل معبد الجهني وعطاء بن يسار، اللذين كانا ينتسبان إلى مدرسة الفقيه الشهير الحسن بن أبي الحسن البصري (المتوفى سنة 110). فهذان العالمان صرحا بأنهما نصيران لمبدأ اختيار الإنسان، وكان المذهب المعاكس - الذي نفينا وجوده في القرآن - قد انتصر في الإسلام في أثناء حروب بني أمية، فكان قد ارتبط - ضمنا على الأقل - في الجبرية؛ أي إنه كان يعتقد أن الإنسان صالح أو طالح معد لجهنم أو للجنة وفق أوامر الله الأزلية، وكانت آيات القرآن المخالفة لهذا الرأي موضع تأويل، ويؤدي مذهب معبد الحر إلى اضطرابات، فيأمر الخليفة عبد الملك بتعذيبه وصلبه في السنة الثمانين من الهجرة، ويصلب عالم آخر اسمه أبو مروان الدمشقي على باب دمشق بأمر من الخليفة هشام بن عبد الملك لاتباعه هذه الآراء.
وكان أبو مروان هذا بالغ الجرأة، وأما عطاء بن يسار، فقد نجا من القتل ولم يمت في غير السنة 103 من الهجرة، ابنا للرابعة والثمانين من سنيه، وكان قد أعتق من قبل إحدى أزواج النبي: ميمونة.
Page inconnue
وكان أتباع حرية الإرادة الأولون قد اتخذوا اسم «القدرية»، بيد أن هذه التسمية كانت ترى مبهمة؛ وذلك لأن كلمة «القدر» يمكن أن تدل - بالتساوي - على قدرة الله وأمره أو على قدرة الإنسان وحريته، كما أن كلمة «القدرية» يمكن أن تدل - في الوقت نفسه - على أنصار حرية الإرادة أو على خصومهم، فلما قال المعتزلة بعقيدة حرية الإرادة نبذوا اسم القدرية، وأطلقوا على حرية الإرادة كلمة «العدل».
ومؤسس فرقة المعتزلة الكبرى هو واصل بن عطاء. وقد ولد في المدينة سنة 80، وأعتقه بنو مخزوم أو بنو ضبة، ومات سنة 131، وكان خطيبا، ولكن مع عجزه عن النطق بحرف الراء واستبدال حرف الغين به، وإن شئت فقل: إنه كان يلثغ بالراء، بيد أنه كان من الاطلاع على العربية وسهولة اللفظ بحيث يوفق في كلامه لاجتناب الألفاظ المشتملة على الراء، وهذا ما حمل أحد الشعراء على القول:
أجعلت وصلي الراء لم تنطق به
وقطعتني حتى كأنك واصل
وكان واصل تلميذا للحسن البصري في البداءة، ثم انفصل عنه بسبب رأي جديد أبداه حول حال المؤمنين الذين يقترفون إحدى الكبائر، فقال: «إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، منزلة بين منزلتين.» وظل هذا الرأي في فرقته، حاملا اسم مذهب «المنزلة بين المنزلتين»، وإلى هذا الظرف يرد أصل اسم المعتزلة.
وبدأ واصل بإنكار صفات الله أيضا، وكان يقصد بإبدائه هذا المذهب تخليص التوحيد المحض، فكان لا يدرك وحدانية إله ذي صفات، وكان يقول: «من أثبت معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين.» ومع ذلك، يظهر أنه لم ينضج هذه النظرية بما نستطيع أن نحكم فيه لفقدان كتبه. وقد كان كجميع المعتزلة، كثير الصراحة في الإيمان بحرية الإرادة فقال: «لا يجوز أن يريد الباري من العباد خلاف ما يأمر.» وقد كان يوافق على الأمر الإلهي فيما يتعلق بالحوادث الخارجية واليسر والعسر والمرض والصحة والحياة والموت، وإن شئت فقل: إنه كان يوافق على الجبرية الفزياوية، ولكنه كان يرفض الجبرية الأدبية.
وكان عمرو بن عبيد - الذي هو رئيس مشهور آخر للمعتزلة - معاصرا لواصل بن عطاء، فانفصل مثله عن مدرسة الحسن البصري، وكان وجيها ذا طبع ممتع، ويظهر أنه من أصل أفغاني؛ أي إن جده من الذين وقعوا أسرى بيد المسلمين في كابل، وقد أعتقه بنو تميم، وقد حضره الموت سنة 144 أو سنة 145.
ويبدي المسعودي إعجابا كبيرا بعمرو بن عبيد، قائلا عنه: «كان شيخ المعتزلة في وقته والأول فيها، وكذلك لمن طرأ بعده، وله رسائل وخطب وكلام كثير في العدل والتوحيد، وغير ذلك.» ولا نعرف هذه المؤلفات، ويستند هذا المؤرخ في هذا المديح إلى بعض الأحاديث التي تدل على طبع هذا الوجيه الرفيع مع شيء من المجون.
5
والأبيات الآتية - التي روى المسعودي أن عمرا أنشدها بين يدي المنصور - تعطي عن عمرو فكرة عالية:
Page inconnue
يا أيهذا الذي قد غره الأمل
ودون ما يأمل التنغيص والأجل
ألا ترى إنما الدنيا وزينتها
كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا
حتوفها رصد وعيشها نكد
وصفوها كدر وملكها دول
تظل تقرع بالروعات ساكنها
فما يسوغ له لين ولا جذل
كأنه للمنايا والردى غرض
تظل فيه بنات الدهر تنتضل
Page inconnue
والنفس هاربة والموت يرصدها
وكل عثرة رجل عندها زلل
والمرء يسعى لما يبقى لوارثه
والقبر وارث ما يسعى له الرجل
وعلى ما لعمرو بن عبيد من شهرة، فإننا لا نعرف غير القليل عن مذهبه، كما هو حاصل القول.
وبعد هؤلاء الأولين من المعتزلة أدخلت إلى الإسلام معرفة الكتب اليونانية، وقد درسها المعتزلة، فنبصر أي تقدم أسفرت عنه هذه الدراسة في مذهبهم، وأي غنى وصقل اتفقا له، وذلك بلقائنا بعد جيل أو جيلين طائفة من علماء هذه الفرقة، يجدر أن نذكر أبا الهذيل العلاف البصري على رأسهم، وقد ولد أبو الهذيل سنة 135، وكان بنو عبد القيس قد أعتقوه، ودرس الفلسفة في بغداد تحت إدارة أحد تلاميذ واصل بن عطاء، وألف عدة كتب لا نملكها مطلقا، واشترك في المجادلات الكلامية التي وقعت في عهد المأمون. وروى الشهرستاني أنه مات سنة 235 ابنا للمائة، غير أن أبا المحاسن روى أنه مات سنة 226، وهذه الرواية أرجح من تلك لا ريب.
لم يوافق أبو الهذيل موافقة مطلقة على رأي أسلافه في إنكار الصفات الإلهية، وإنما قال بالصفات على أنها وجوه تتجلى بها الذات الإلهية، وقد شبه الشهرستاني هذا المبدأ بمبدأ الأقانيم لدى النصارى. بيد أن هذا التشبيه ليس مقنعا؛ فقد روى هذا المؤرخ بأوضح من ذلك أن الصفات الإلهية عنده هي عين ذات الله، وأنها ليس لها غير معنى سلبي صرف، أو أنها تعبر - فقط - عما ينطوي عليه مفهوم الذات، ولم يقل أبو الهذيل إن الله عالم بذاته لا بالعلم، وإنما قال: إن الله عالم بعلم هو ذاته، والصيغة الأولى التي يمكن أن تكون صيغة المعتزلة السابقين تنفي الصفة، وتقول الصيغة الثانية بذات هي صفة اتحادا أو بصفة هي ذات اتحادا.
وتوجد هذه الدقة التحليلية الممتازة في القواعد الأخرى من فلسفة أبي الهذيل، وتعد نظريته في الإرادة الإلهية والبشرية ممتعة؛ فالإرادة في الله ليست سوى وجه للعلم، والله يريد كل شيء يعلم أنه خير. ويوجد نوعان للإرادات أو الأعمال الإلهية؛ فبعضها لا ضرورة لأن يكون في مكان، وإنما يحدث معلوله المباشر بنفسه، وذلك كالإرادات في نظام الخلوة، وهي ما يعبر عنها بكلمة: «كن»، وبعضها الآخر يحتاج إلى الوقوع في مكان لإحداث معلوله، وهذه هي الإرادات الأدبية التي يعبر عنها بأوامر الله ونواهيه وبلاغاته. وفي الإنسان تكون الإرادات والفاعلية الباطنية حرة وجوبا، ويقول عالمنا، على رواية الشهرستاني: إنه لا يمكن تصورها على شكل آخر، وهذا دليل على حرية الإرادة عن شعور بها. وأما الفاعلية الخارجية، فليست حرة بنفسها، ولكنها تكون - عادة - نتيجة لإرادات الباطن الحرة.
ونظرية أبي الهذيل عن حركة العالم على شيء من الغرابة، ويلوح أن هذا الفيلسوف حاول قبول المذهب اليوناني في دوام العالم من غير أن يناقض القرآن صراحة، وبما أنه لم يستطع الذهاب إلى حركة دائمة بلا بداية ولا نهاية، فإنه قال: إن الخلق هو في حركة العالم، وإن نهاية العالم هي دخوله في السكون؛ ولذا، فإنه يكون هناك دوام، وإن مادة تبقى ساكنة إلى الأبد.
ثم إن هذا السكون أدرك على وجه كثير اللاهوتية؛ وذلك أنه لا ينبغي اتخاذ هذه الكلمة ضمن معناها العادي، فحال السكون الأبدي للعالم هي حال النظام المطلق كما هو الأحرى، هي هذه الحال التي ينتهي إليها كل وفق سنن لازمة، وذلك طبق تبصر باق. ومجمل القول أن هذه حال ينقطع فيها كل هوى وكل حرية، ولا ريب في أن أبا الهذيل قد قصدها على هذا الوجه، وهو لم يدرك حرية الإنسان في غير هذا العالم كما روى الشهرستاني؛ فالناس بعد هذا العالم يدخلون في ضرب من حال الإطلاق التي هي حال سعادة بالغة لأناس، وحال عذاب هائل للآخرين.
Page inconnue
ومن ثم ترى مبلغ البراعة في هذه المذاهب ، وكيف أن الاتصال بالذهن اليوناني قد أيقظ العبقرية الفلسفية لدى المسلمين مع الإنذار بتحريف العقيدة القرآنية.
وأخيرا؛ يجب أن يلاحظ وجود فكرة جريئة لدى أبي الهذيل ليست أقل شأنا مما تقدم؛ وهي فكرة السنة الطبيعية، وقد عبر عنها بوضوح كثير من قبل الشهرستاني؛ وذلك أن الإنسان يمكنه - قبل كل وحي - أن يصل إلى معرفة الله والشعور بالخير والشر، وأنه مسئول عن هذا أيضا. فعلى الإنسان أن يميز بعقله الخاص جمال الخير وقبح الشر، وهو ملزم بالسعي في العمل وفق الحق والعدل، وباجتناب الكذب والظلم؛ فإذا لم يقم بهذا الواجب استحق العقاب، وقد قبلت مدرسة المعتزلة هذه النظرية في السنة الطبيعية.
وقد تألق - بجانب أبي الهذيل العلاف - نجم إبراهيم بن سيار النظام، الذي هو عالم كبير آخر من علماء المعتزلة، وهو أهم رجال الجدل بمدرسة البصرة في عهد المأمون،
6
وكان يطيب لهذا الخليفة أن يسمع تحاور هذين الأستاذين، فكان يدعوهما إلى بلاطه مع علماء من الفرق الأخرى، وبهذا كان ينشر بين الجمهور حب البحث النظري وعادته. وأكثر النظام من مطالعة كتب فلاسفة اليونان على رواية الشهرستاني، الذي بقي مصدرنا الأساسي لفقدان مؤلفات هذا الأستاذ. ومع ذلك، فإنه لم يصل إلى فلسفة تختلف عن فلسفة أبي الهذيل كثيرا كما يبدو، وإنما يمكن أن يعتقد أنه كان ذا عبقرية أقل دقة فيما بعد الطبيعة، وذا ذهن أكثر انصرافا إلى العلوم الطبيعية، وقد كان موسوعيا.
وقد فصل النظام - مع الإمتاع - مذهب العدل الإلهي المرتبط في مذهب التفاؤل، فنزع من الله قدرة فعل الشر، وكان الرأي الشائع عند المعتزلة هو أن الله قادر على صنع الشر، ولكنه لا يفعله؛ لأن الشر قبيح. فذهب النظام إلى أن القبح إذا كان صفة ذاتية للقبيح بالفعل فإن القبيح بالفعل لا يمكن تجويزه من الله بالقدرة، وإن شئت فقل: إن الشر مما لا يقدر عليه من الله لا قوة ولا فعلا. ويسير النظام بفكرته إلى ما هو أبعد من ذلك، فيذهب إلى أن الخير الأقل ليس مما يقدر عليه من الله، فالله لا يريد غير الخير الأكبر؛ فمن التجديف على الله أن يفترض خير بالغ العظم ولا يذهب إلى أن الله لا يختاره.
ويجيب النظام عن اعتراض القائلين إن جميع أعمال الخالق تكون محدودة إذ ذاك بقوله: «إن الذي ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل، فإن عندكم يستحيل أن يفعله وإن كان مقدورا، فلا فرق.» وإنما أخذ النظام هذه المقالة من قدماء الفلاسفة.
وقد تطرق الوهم إلى عالمنا بمحاولته أن يقتبس من الأغارقة المفهوم المشهور القائل: إن النفس هي صورة البدن، فهو قد أساء فهم الفكرة، فذهب إلى أن البدن هو صورة النفس والروح الخارجية، فالروح جسم لطيف مشابك للبدن، مداخل للقلب بأجزائه مداخلة المائية في الورد، والدهنية في السمسم، والسمنية في اللبن. وهكذا كان النظام أكثر اتجاها إلى علماء الطبيعة منه إلى علماء ما بعد الطبيعة كما لاحظه الشهرستاني.
ومن الطريف رأيه في الخلق وإن زعم الشهرستاني أنه أخذه عن اليونان؛ فعنده أن الله خلق جميع الموجودات دفعة واحدة، ولكنه أخفاها ولم يظهرها إلا بالتدريج. وهذا الظهور هو ما نسميه الولادة. والحقيقة أن آدم وجميع ذريته وجدوا معا منذ اليوم الأول، وأنه لم يحدث غير خلق واحد يتعذر وقوع خلق آخر بعده، وتنمو جميع الأشياء وتبدو على هذا الأساس الطبيعي مرة واحدة.
ويؤدي هذا المذهب عند النظام إلى جبرية طبيعية صريحة يعود شرفها إليه؛ فعنده أنه لا يوجد في الطبيعة غير فاعلية حرة واحدة، وهي فاعلية الإنسان، فإذا عدوت هذا وجدت أن جميع الأشياء تحدث وجوبا؛ «فالحجر إذا دفعته اندفع، وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طبعا.»
Page inconnue
وكذلك تناول هذا العالم مسألة قابلية الأجسام للتجزؤ إلى ما لا نهاية له، فأبدى رأيه النهائي منكرا الجزء الذي لا يتجزأ، وقد أصدر نظرية في الأعراض الطبيعية، ووحد بينها وبين الأجسام، فقال: إن الطعوم والألوان والروائح أجسام؛ ولذا فإن النظام عالم مفكر ذو آراء جريئة واسعة، ويدلنا عمله وعمل أبي الهذيل، مع إيجاز ما عرف عنهما، على تأثير لاهوت الأغارقة وخطابتهم وعلمهم الطبيعي في العالم الإسلامي في ذلك الحين.
ويجب أن يضم إلى العالمين الكبيرين المشار إليهما علماء آخرون، تعزى إليهم آراء ممتعة في مسائل مشهورة. وقد سارت هذه الطائفة من المفكرين، في وقت قصير، بمباحثها إلى أكثر الاتجاهات تنوعا سيرا يعتقد معه - عند سماع ما يقال حولها - أنها تدل على منازل لتطور فلسفي طويل، مع أنها وقعت في زمن واحد تقريبا، فحث الذهن الشرقي بالرسائل اليونانية كان من القوة ما يقضي بالعجب إذن.
وضع بشر بن المعتمر مسألة «التوالد»، التي تقوم على درس انتقال فعل الفاعل من خلال سلسلة من الأشياء، وفي «المواقف» مثال على عمل اليد الممسكة مفتاحا؛ فالفاعل يحرك يده، فتنشأ عن هذا حركة المفتاح، التي لم تكن قد أريدت على ما يحتمل.
7
وتنال هذه المسألة أهمية في الأخلاق، وتثير كثيرا من النقاش لدى متأخري المعتزلة كما يمكن أن يرى في «المواقف»، ويدور الأمر حول معرفة إمكان العلل الخارجية أن تغير فاعلية الفاعل الحر وتقلل مسئوليته، وهذه نظرية عن العلل المتداخلة.
وكذلك أثار بشر مسألتين مشهورتين في اللاهوت، تعدان من أصعب مسائل هذا العلم، وهما: مسألة عدل الله نحو الأطفال، ومسألة عناية الله نحو الأمم التي لا علم لها بالدين؛ فأما المسألة الأولى فينكر بها كون الله يمكن أن يدين الأطفال، لا لأن هذا ظلم ضبطا، بل لأن هذا يفترض كون الطفل أهلا للوم، وحينئذ لا يكون طفلا، وهذا متناقض.
وأما المسألة الثانية، فبها يبتعد بشر عن التفاؤل السائد للمعتزلة، فهو يعتقد أن الله يمكنه أن يوجد عالما آخر، يدعى به جميع الناس إلى الدين ويستحقون النجاة، ولا حد للكمال الذي يمكن أن يحققه الله، ويمكن أن يفترض دائما وجود عالم أصلح من كل عالم محدث؛ ولذا فإن الله لا يتعلق بالأصلح، وإن شئت فقل: إن أحكامنا في الصالح والعدل لا تطبق عليه، وإنما يقوم الله بمنح الإنسان إرادة حرة، ووحيا في بعض الأحيان، فإذا عدوت الوحي وجدت للإنسان هاديا أنوار العقل، التي تكشف له سنة الطبيعة.
وإذا ما نظر إلى آراء بشر - وفق تلخيص الشهرستاني - رئي أنها أقل إحكاما وسموا من آراء العلماء السابقين.
وبمعمر بن عباد السلمي يكتسب مذهب المعتزلة إقداما عجيبا، ويتقدم نحو وحدة الوجود؛ فهذا العالم يرى أن الله لم يخلق غير الأجسام، لا الأعراض، والأجسام هي التي تحدث الأعراض، وذلك إما طبعا كالنار التي تحدث الإحراق، وكالقمر الذي يحدث التلوين، وإما اختيارا، كما هو أمر الحياة الحيوانية. وعند معمر أن الجسم والفناء عرضان أيضا؛ ولذا فإنهما لا يكونان سوى معلولين مباشرين لأفعال الخالق، والخالق لا يحدث سوى مادة عامة تصدر عنها صور جميع الموجودات بقوة ملازمة.
وبما أن معمرا قد أبعد الله من الطبيعة فإنه يقصيه خارج متناول علمنا؛ وذلك استنادا إلى رأيه البالغ الإطلاق في نفي الصفات الإلهية. ولا يمكن العلم - مثلا - أن يسند إلى الله؛ وذلك لأنه إما أن يكون موضع علمه، وهنالك يكون تفريق بين العالم والمعلوم، ومن ثم ثنائية في ذات الله، وإما أن يكون موضع علمه خارجا عنه، وهنالك لا يكون عالما إلا بهذا الموضع الخارجي، وبذلك يعود غير مطلق، ويؤدي هذا النقد إلى القول بأن مداركنا لا تطبق على الوجود الإلهي، وأن هذا الوجود لا يمكن أن يعرف.
Page inconnue
وتجد ميول معمر في وحدة الوجود حاصلها لدى ثمامة بن الأشرس، وقد اضطهد الرشيد هذا العالم المعروف جيدا عند المؤرخين، فألقاه في السجن سنة 186. وعلى العكس تمتع بحظوة كبيرة لدى المأمون. وقد مات سنة 213، وكان ذا موهبة في التنادر والتهكم، كما هو ظاهر مما جاء في روايات المسعودي.
8
ومن الممتع قصة الطفيلي، الذي انساب بين جماعة من المانوية، معتقدا أنه أتى جمع لهو، فهذا الرجل أدرك خطأه حينما رأى نفسه ورأى المانويين مقرنين في الأصفاد كما أمر المأمون، فلما أتي بهؤلاء الزنادقة أمام الخليفة قتلوا. وأما الطفيلي، فقد صرح بأنه مستعد للكفر بماني وتدنيس صورته، قائلا: إنه كان مخطئا؛ فسري عن الخليفة. وإلى ثمامة ينسب الرأي القائل: إن العالم من عمل الله وفق الطبيعة؛ أي إن العالم ليس نتيجة عمل حر من الخالق، وإنما يصدر عن الطبيعة الإلهية وجوبا، وهكذا يكون العالم قديما كقدم الله ووجها من الألوهية.
ويظهر مبدأ التناسخ ثانية لدى عالمين من فرقة النظام، وهما أحمد بن حائط وفضل الحدثي، وقد طبقاه - مع التحديد وشيء من الغلظة - على أناس ليسوا صالحين تماما ولا أشرارا تماما، على أناس ليسوا أهلا للجنة ولا للنار؛ فأرواح هؤلاء الناس تدخل ثانية في أرواح أناس أو حيوانات وتستأنف حيوات أخرى. ولهما - كذلك - تأويل مبتكر لرؤية الله يوم البعث؛ وذلك أن الناس لن يروا الله نفسه، وإنما يرون العقل الأول؛ أي العقل الفعال، الذي تسري منه الصور إلى الموجودات. وعندهما أن هذا هو الذي قصده النبي حين قال: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر.» وهذا مثال مكاني في تطبيق فكرة يونانية على نص إسلامي.
ونصل إلى مؤلف موسوعي كثير التأليف؛ نصل إلى عمرو بن بحر الجاحظ، الذي كان رئيسا لمعتزلة مدرسة البصرة، وكان هذا العالم خادما للنظام؛ فلازم دروسه وانتفع بعلمه. وتشتمل مكتباتنا على عدد كبير من المصنفات المعزوة إلى الجاحظ، وعلى ما يدور حول هذه النسبة من شك غالبا، فإن من المؤسف ألا تكون هذه المخطوطات موضع عناية كافية،
9
فقد تناول الجاحظ أكثر الموضوعات تنوعا؛ أي تناول الآداب والخطابة والأقاصيص وعلم الكلام والفلسفة والجغرافية والتاريخ الطبيعي، ويشتمل أثره على جميع الحياة الدينية والاجتماعية والأدبية في زمنه، وفاز أثره بأعلى مديح. قال المسعودي:
10 «لا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتبا منه ... وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ووصفها أحسن وصف، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ.»
ويلوح أن الجاحظ زاول نفوذا عظيما؛ فأسهم في نشر روح فرقته الحر والانتقادي بين كثير من المؤلفين. وأما فلسفته الخاصة التي تعرف دائما من خلاصة الشهرستاني، فيلوح أنها لا تخلو من دقة وقوة.
فلا حرية في العلم، والعلم يصدر عن وجوب طبيعي، وليست الإرادة نفسها غير وجه من العلم ونوع من العرض، والعمل الإرادي يعين العمل الذي يعرف بفاعله، وليست الإرادة بالنسبة إلى العمل الخارجي غير ميل.
Page inconnue
وللأجسام - أيضا - هذه الميول الطبيعية التي تصدر عن قوى باطنية، والجواهر وحدها أبدية، والأعراض هي المتقلبة والمتحركة، وهي تعبر - بسبب القوة الملازمة للجواهر - عن ظهور حياة الأجسام والروح، فإذا ما أحسن إدراك هذا النظام جيدا وجد أنه يؤدي إلى ضرب من علم الذرات الحية.
وأظهر الجاحظ الرأي الغريب القائل: إن المحكوم عليهم بالعذاب لا يعذبون في النار إلى الأبد، وإنما يتحولون إلى طبيعة النار. وأما من حيث نظرية الوحي، فإنه يعزى إلى الجاحظ رأي غريب آخر قائل: إن القرآن جسد مخلوق يمكن أن يتحول إلى إنسان أو إلى حيوان.
أجل، إننا نصل بالجاحظ - المتوفى سنة 255 - إلى عصر الكندي، الذي هو أول عظماء الفلاسفة، ولكننا، لكيلا نعود إلى المعتزلة مؤخرا، نتتبع - مع الإيجاز - تاريخ هذه الفرقة الممتعة حتى زمن العالم اللاهوتي: الأشعري.
يمتاز الخياط - في هذا الدور - في مدرسة المعتزلة ببغداد؛ فقد أقام نظرية ذات مظهر نفساني على شيء من الابتكار، فهو يطلق اسم الشيء على ما هو معروف؛ أي ما يمكن أن يحدث عنه، وللشيء عنده حقيقة مستقلة عن وجوده، وليس الموجود سوى صفة تضاف إلى الشيء؛ فالسواد - مثلا - سواد حتى في العدم، وإن شئت فقل: إن الشيء حقيقي - قبلا - في المعقول البسيط مع ماهيته وصفاته، وإن إيجاد الشيء يحدد بإضافة صفة الموجود إلى هذه الماهية أو الصفات الحقيقية.
وفي مدرسة المعتزلة بالبصرة يتغلب اسمان، وهما: اسم الجبائي المتوفى سنة 303، واسم ابنه أبي هاشم. وينطوي اختلاف هذين العالمين في موضوع الصفات الإلهية على دقة متناهية. وقديما كان العالم الكبير أبو الهذيل قد أزال جميع الصفات حتى في معقول الوجود الإلهي، فيجد أبو هاشم أن هذا المعقول المحض على شيء من الفراغ، ويحاول أن يملأه، وأن يجعل منه صورة عن الله أكثر حيوية.
وعند أبي هاشم أن الصفات وجوه منفصلة عن الوجود، ولكن مع كونها غير موجودة ولا معروفة بنفسها، فلا يمكن أن تكون موجودة معروفة إلا بالماهية الإلهية؛ فالعقل يميز الشيء المعروف بذاته والشيء المعروف بإحدى صفاته. وهذه الأحكام التي يجمع العقل بها الصفات أو يفصلها لا تأتي لتوكيد الموجود وحده ولا لتوكيد الأعراض بجانب الموجود؛ ولذا، فإن الصفات أنواع وجوه ذات وجود نفساني لدى من يعرف الوجود الإلهي، حتى إن نفسانية هذه النظرية مما أنكر الجبائي، وقد لاح للجبائي أن هذه الوجوه ترد إلى أسماء لا تنطوي على معقول ولا على تصورات للنفس نسبية محضا، عاجزة عن المباهاة مثل صفات، وهو يكاد يلزم مذهب أبي الهذيل.
وكان العالم اللاهوتي المشهور، الأشعري (260-324) - الذي يأتي في الذروة من تاريخ اللاهوت الفلسفي لدى المسلمين - تلميذا للجبائي وابنه، ولكن بما أننا لا نريد الكلام عنه في هذا الكتاب فإن من الملائم أن نقف. •••
قلنا إن المعتزلة كانوا أكثر الفرق الإسلامية فلسفة، وإننا لا نتعرض لتاريخ الفرق الكلامية والفقهية والصوفية والسياسية، وتكفي أسطر قليلة عن الفرق المعارضة للمعتزلة للإشعار بأفضلية هؤلاء، ولتمثل الحركة الفكرية الواسعة التي تمت في الدور الذي نتفرغ له، والذي ذكرنا أنه أكثر ما تلتفت إليه الفلسفة الصرفة.
وقد رئي - في مقابل النظرية الاعتزالية القائلة بنفي الصفات الإلهية - قيام نظرية معاكسة توكد هذه الصفات إلى حد تقع به في مذهب المشبهة؛ فيطلق - على العموم - اسم «الصفاتية» على المسلمين الذين يوكدون حقيقة الصفات الإلهية وفق السنة. ولما ظهر النقد الاعتزالي لجأ بعض الصفاتية إلى نظرية حذرة عن الألوهية التي يتعذر إدراكها، فقالوا: لا ريب في أن الله ليس شبيها بالإنسان، وأنه لا مثيل له ولا شريك، وأنه يجهل - كما هو مجمل القول - المعنى الحقيقي لآي القرآن التي تشتمل على صور تشبيهية. ووجد صفاتية آخرون وقعوا - بالعكس - في إفراط عجيب، ومن بينهم نذكر محمد بن كرام، الذي هو مؤسس لفرقة مهمة في سورية على الخصوص، وأصل هذا الوجيه من سجستان، وتوفي سنة 256 بزغر ودفن في القدس.
11
Page inconnue
وهو يذهب إلى أن لله جسما ووجها مماثلا لما في المخلوقات، وهو يوضح الصفات الإلهية على الكيفية البشرية . وفي الشهرستاني تفصيلات مطولة عن هذه الفرقة. ويلاحظ الشهرستاني وجود المسائل عنها في اليهودية، حيث يرى أنها حلت حلا تشبيهيا من قبل القرائين.
12
وعلى العموم، تطلق كلمة «الجبرية» - المشتقة من كلمة «الجبر» - على علماء الكلام المعارضين لمذهب حرية الإرادة، ويجب أن يذكر من بينهم جهم بن صفوان، الذي كان يدرس في ترمذ من بلاد ما وراء النهر، والذي قتل في أواخر العهد الأموي. ومن رأي جهم أنه لا سلطان للإنسان على أفعاله، وأنه لا يمكن ألا يوصف بالخضوع لله؛ فالإنسان مكره بالحقيقة، وأنه لا قدرة له ولا إرادة ولا حرية، والله يخلق جميع أفعاله كما يخلقها في الموجودات الأخرى، كما يخلقها في الشجر الذي ينبت، والماء الذي يجري، والحجر الذي يسقط. وأعمال الإنسان الصالحة أو السيئة موجبة، والثواب أو العقاب نتيجة لهذه الأعمال الواجبة.
وترى كيف تبعدنا هذه النظريات الجافية من تحليل مفكري المعتزلة اللطيف ومن الفلسفة الحقيقية.
الفصل الثالث
المترجمون
بدء حركة النقل في عصر المنصور - سير العنعنات الفلسفية الحقيقي - انتشار المذهب اليوناني عند الآراميين - دراسة الآداب اليونانية عند السريان - دور الطبيب سرجيس الرأس عيني - مملكة الحيرة النصرانية - تجاوز العرب حدود صحرائهم قبل الهجرة - حنين بن إسحاق وتلميذاه - جماعة من النقلة - دور الصابئة في حركة الترجمة - ظهور أدب فلسفي قبل ابن سينا. ***
لقد وضعنا في الفصلين الأولين قضية المعضلة السكلاسية؛ أي اللاهوتية المحمدية وتحولاتها المباشرة، والآن نضع ما يقابل ذلك، وهو ما يقوم على إدخال الفلسفة اليونانية إلى الإسلام، وهنا نضطر إلى توسيع نطاقنا كثيرا. ولا يجوز تمثل الفلسفة الإسلامية، حصرا، سواء أمثل نتيجة لبعث مفاجئ ظهر بعد اكتشاف الكتب القديمة أم مثل مواصلة مباشرة للفلسفة اليونانية، وذلك أن أصلها على شيء من التعقيد.
وقد بدأت حركة الترجمة إلى العربية في عهد المنصور (136-158)، وكانت موسوعية، فترجمت المؤلفات العلمية والأدبية والفلسفية والدينية الخاصة بخمسة آداب، وهي: الأدب اليوناني، والأدب العبري، والأدب السرياني، والأدب الفارسي، والأدب الهندي، ولم تدرك المؤلفات الفلسفية أول وهلة، ولم تحز العربية ترجمات لأرسطو كاملة بما فيه الكفاية إلا في زمن الفارابي، في أوائل القرن الرابع من الهجرة.
ولكنك إذا نظرت إلى الأمر من ناحية أخرى وجدت تقاليد التعليم الفلسفي اليوناني قد دامت في العالم الشرقي حتى الوقت نفسه، وبينما كانت المؤلفات العظيمة للدور الكلاسي
Page inconnue