وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (51: 56). وإلى هذا أضف أن كل جزئي في الطبيعة قد صنع من أجل المجموع، وهو حسن نظرا إلى غايته. وهذه نظرية في التفاؤل مشتقة - بلا جهد - من مبدأ كون الله قادرا عالما لطيفا:
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين * وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (15: 19-21).
غير أن محمدا قد حفز بعبقريته الخاصة وبالكفاح إلى الاتكاء على مبدأ مجانب - من بعض الوجوه - لمبدأ العناية الإلهية؛ أي على مبدأ القدر، وهو قد أصر عليه بعزم قوي شديد. ومع ذلك، فإننا إذا ما أجلنا البصر بروح هادئ - ومن غير ابتسار - في آي القرآن الخاصة بالقدر وجدنا أنها ليست جبرية محضا، كما يعتقد كثير من الناس؛ فهي - مع كونها هائلة - ليست مخالفة لكل عدل مطلقا.
وإليك الفكرة التي تشتمل عليها كما أرى: إن الله يعلم كل شيء مقدما؛ ومن ثم يعلم السيئات والعقاب عليها، كما يعلم الحسنات والثواب عليها، فكل شيء مسطور في كتاب محفوظ في السماء، وهنا لا نبالي كثيرا في أن لهذا الكتاب وجودا خفيا، أو في أنه ليس غير رمز لعلم الله بالغيب، فهو - على كل حال - يعدل من الناحية الفلسفية توكيدا لعلم الغيب، ولكن توكيد علم الغيب ليس إنكارا للاختيار أيضا:
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها (57: 22).
وهذا لا يعني أن هذه المصائب تحل ظلما
إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (36: 11). وهذا لا يدل على أن أفعال الناس مقدرة، وهذه إشارة إلى كتابين: كتاب علم الغيب، أو المثال، أو الرسم، لحياة الدنيا؛ أي ضرب من الموازنة، وكتاب العلم الحاضر المسطورة فيه أعمال الناس على مقدار ما يأتونها، والذي سيفتح يوم الفصل، وهذا كتاب حساب، ولا يزيل الاختيار أي من هذين الكتابين أيضا.
ولكن إليك ما هو أكثر تخويفا؛ قال الله:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (32: 12). وقل مثل هذا عن الكلمة الموكدة الآتية، التي كررت غير مرة:
فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء (35: 9). فإذا ما نظرنا إلى هذين القولين على انفراد لاح لنا أنهما يدلان على أن الله يريد - أول وهلة - أن يهلك فريقا من الناس، وأنه لا مناص من هذا الهلاك. بيد أن قراءة الآيات الأخرى تدل بوضوح على أن هذه ليست فكرة محمد؛ فقد قال الله في سورة أخرى:
Page inconnue