وينتقل ابن سينا من مبدأ الكمالات هذا إلى مبدأ القوة، الذي نرى من المفيد تحليله. ويقول في بدء الأمر: «ليس شيء من الأجسام الموجودة يتحرك أو يسكن بنفسه.» وهذا بيان صريح عن مبدأ الجمود، ولم تلبث الفكرة أن صارت أكثر عمقا؛ وذلك أنه «ليس جسم يتحرك عن جسم آخر أو قوة فائضة عن جسم، فليس يصدر عنه شيء إلا وفيه قوة» مناسبة، ويمكن تفسير هذه الفكرة بعدها مفهوما حركيا، قائلا بأن القوة تكون دائما كامنة في الشيء الذي يتحرك، وذلك خلافا للمفاهيم السكونية الدارجة، القائلة بأن القوة تتحرك عن أشياء خارجية كما يلوح.
بيد أن ابن سينا يوضح رأيه: إن هذه القوى الملازمة للجسم ليست غير الكمالات الأولى التي تصدر عنها الكمالات الثانية، وعن الكمالات الثانية تصدر أفعال الأجسام، وللقوى ثلاثة أقسام: فالقوى الأولى هي التي تحفظ في الأجسام كمالاتها الخاصة بأشكالها ومواضعها الطبيعية، فإذا زالت عن مواضعها الطبيعية وأشكالها أعادتها إليها وثبتتها عليها، وهذه القوى تسمى طبيعية، وهي مبدأ لحركاتها بالذات وسكوناتها بالذات، ولسائر كمالاتها التي لها بذاتها، وليس شيء من الأجسام الطبيعية بخال من هذه القوة، والنوع الثاني قوى تفعل في الأجسام أفعالها من تحريك أو تسكين وغيرها من الكمالات بتوسط آلات ووجوه مختلفة؛ فبعضها يفعل ذلك دائما من غير اختيار ولا معرفة، فيكون نفسا نباتية، ولبعضها القدرة على الفعل وتركه، وإدراك الملائم والمنافي، فيكون نفسا حيوانية.
وتدخل ضمن هذا النوع كمالات النفس الإنسانية، التي تستطيع الإحاطة بحقائق الموجودات على سبيل الفكرة، وبهذا نصل إلى علم النفس، «والنفس بالجملة كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة»، والنوع الثالث قوى تفعل مثل هذا الفعل لا بآلات، بل بإرادة متجهة إلى سنة واحدة لا تتعداها، وتسمى نفسا فلكية، وبهذا النوع نصل إلى ما بعد الطبيعة.
ومما تقدم ترى - إذن - تحليلا للمبدأ الطبيعي الذي جاوزنا به جميع الفلسفة في بضع كلمات، وفضلا عن ذلك فإن هذا التحليل جميل، وإن من طبيعة هذا المفهوم الحركي عن القوة أن يروق بعض الأذهان في الزمن الحاضر أيضا، وفي فصل آخر،
2
يدنو ابن سينا من السكونية الحديثة، وهو يوكد فيه الملاحظة التي لها فائدتها فيما بعد الطبيعة، والقائلة بعدم وجود قوة غير متناهية، ما دامت أحوالها قابلة للزيادة والنقصان، ثم إنه يعرض أحوال القوة بجر الأثقال ورفع الأوزان، وهو يذكر المبدأ الميكاني القائل: إن ما يكسب بالشدة يخسر بالمسافة، ونحن نقول: إن ما يكسب بالقوة يخسر بالسرعة.
ولذا؛ فإن ابن سينا كان ذا إدراك جلي للمبادئ الميكانية، وكان لإدخال روح ما بعد الطبيعة في هذه الطائفة من المسائل نتيجة حمله على إهماله بعض الإهمال للقوة السكونية؛ كيما يطيل الكلام عن المبدأ الحركي، الذي هو أرفع شأنا لا ريب.
ومبدأ الزمان ومبدأ الحركة متلازمان، وإذا ما خطوت أكثر من ذلك في روح مدرسة ابن سينا وجدت أن مبدأ الزمان تابع لمبدأ الحركة، قال ابن سينا: «لا يتصور الزمان إلا مع الحركة، ومتى لم يحس بحركة لم يحس بزمان.»
3
ويشد فيلسوفنا على المظهر النفسي لهذه الفكرة بإثارته المقارنة القائلة: «مثل ما قيل في قصة أهل الكهف»، وتقوم هذه القصة على خبر النيام السبعة؛ وذلك أن سبعة شباب كانوا قد التجئوا إلى كهف، فرارا من ظلم دقيانوس، فناموا فيه نوما عجيبا، ثم أفاقوا بعد 240 سنة، ظانين أنهم لم يناموا غير ليلة واحدة. وقد عبر عن ذات الفكرة على وجه إلهي في عبارة جاءت في رسالة «عيون الحكمة» لابن سينا.
Page inconnue