ويذهب علماء الكلام إلى معنى آخر، فيقولون عن العقل إنه هو الذي يقبل هذه القضية ويرفض تلك، وهم يشيرون بذلك إلى الملكة التي تتقبل الحقائق الجلية جلاء عاما. وذهب أرسطو إلى معنى مختلف عن ذلك بعض الاختلاف، فتكلم في التحليلات عن الملكة التي يبلغ الإنسان بها - مباشرة - يقين المقدمات العامة اللازمة. ويقول الفارابي: إن هذا هو قسم النفس الذي تحدث المعرفة الأولى فيه، والذي يدرك مبادئ العلوم النظرية، وكذلك يوجد عقل للحقائق الخلقية، ذكره أرسطو في كتاب الأخلاق، وهذا هو قسم النفس الذي تحدث فيه التجربة الخلقية، وهي التي يتعود بها، مع الزمن وبوساطة المبادئ الأولى، أن يماز في الأمور الإرادية ما يجب أن يفعل وما يجب أن يجتنب، ثم يأتي العقل الذي بحث عنه في كتاب النفس والذي هو العقل بحصر المعنى عندنا.
ويصنع الفارابي - كما صنع الكندي - ولكن مع وضوح أشد من ذلك، فيقسم العقل إلى أربع درجات، وهي: العقل بالقوة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، والعقل الفعال، ومع ذلك فيوجد في النظرية، أو في قائمته على الأقل، تموج نجد من المفيد ملاحظته، قال مؤلفنا على حد تعبيره: «إن العقل الذي هو بالقوة، هو نفس ما أو جزء نفس، أو قوة من قوى النفس، أو شيء ما ذاته معدة، أو مستعدة لأن تنتزع ماهيات الموجودات كلها وصورها دون موادها، فتجعلها كلها صورة لها.» وهذه الصور المستخرجة من الموضوعات تصير صورا للعقل بالقوة الذي ينتقل - إذ ذاك - إلى حال العقل بالفعل. وهذه الصور هي المعقولات بالفعل التي تطابق العقل بالفعل. أجل، كانت النظرية جلية لدى الكندي في هذه النقطة، غير أن من المهم إيضاح الوجه الذي أدرك به الفارابي وجود المعقولات، ثم إيضاح شأن العقل الفعال.
ومتى صارت هذه الصور، التي كانت في مواد خارج النفس، معقولات بالفعل، «فإن هذه المعقولات بالفعل ليس وجودها - من حيث هي معقولات بالفعل - هو وجودها من حيث هي صور في مواد.» ويرتبط وجودها بذاتها، وهو ما ندعوه بالوضعي، في مختلف مقولات الزمان والمكان والوضع والكمية والكيفية، وهي بتحولها إلى معقولات بالفعل تفلت من كثير من هذه المقولات، «فإذا حصلت المعقولات بالفعل صارت حينئذ أحد موجودات العالم، وعدت من حيث هي معقولات في جملة الموجودات.» «ومتى عقل العقل بالفعل لم يعقل موجودا خارجا عن ذاته، بل إنما يعقل ذاته.» ويطلق اسم العقل المستفاد، وهو اسم حال العقل الثالثة، على العقل بالفعل في وقت عقله المعقولات التي هي صوره، ولهذه المعقولات وجود بذاتها، «فإن الوجه الذي به نقول فيما هو فينا بالفعل عقل إنه فينا، فعلى ذلك المثال ينبغي أن يقال في تلك الصور إنها في العالم.» والعقل المستفاد هو كالقوام لهذه المعقولات، التي هي صوره الحاضرة، ولكنه بذاته كالصورة بالنسبة إلى المعقول بالفعل، وذلك على حين يكون العقل بالفعل بالنسبة إليه كالقوام والهيولي، والعقل بالفعل هو صورة بدوره، وذلك بالنسبة إلى العقل بالقوة، وهذا العقل بالقوة هو كالهيولي من حيث الأساس، ويهبط - بعد هذا - إلى الصور الجسمية والمادية.
ولذا؛ توجد سلسلة تصعد فيها الصور بدءا من المادة الأولى التي في الأساس مفترقة من المادة بالتدريج، وتكون أصفى صور المادة متفوقة، ويوجد تحت العقل بالقوة قوى النفس الأخرى، التي هي دون هذه الدرجة من العقل، ثم توجد الطبيعة وصور العناصر التي هي أسفل الصور في الوجود، ويوجد فوق العقل المستفاد عقول الأجسام المنفصلة، ويكون العقل الفعال في المرتبة الأولى.
قال الفارابي: «وأما العقل الفعال الذي ذكره أرسطوطاليس في المقالة الثالثة من كتاب النفس، فهو صورة مفارقة لم تكن من مادة، وهو الذي جعل تلك الذات - التي كانت عقلا بالقوة - وجعل المعقولات - التي كانت معقولات بالقوة - معقولات بالفعل. ونسبة العقل الفعال إلى العقل الذي بالقوة كنسبة الشمس إلى العين، التي هي بصر بالقوة ما دامت في الظلمة.» والتي تصير ناظرا بالفعل بعد أن يظهر النور.
ومثل هذا ينصب من العقل الفعال ضرب من النور على العقل بالقوة، ويجعله يرى المعقولات التي كانت موجودة بالقوة فتصير بعد ذلك معقولات بالفعل، «والعقل الفعال نوع من العقل المستفاد، وصور الموجودات هي فيه لم تزل ولا تزال»، بيد أنها توجد هنالك وفق نظام آخر غير الذي يكون لها في العقل بالفعل. والواقع أن عقلنا ينبثق من المعلوم إلى المجهول، وفي الغالب يكون المعلوم هو الأسفل، ويكون الأكمل هو الأكثر ما نجهل، وينبثق العقل الفعال وفق نظام معاكس؛ أي إن الأكمل هو أول ما يشتمل، وتكون الصور المقسومة في المادة متحدة في العقل الفعال.
ومن الإنصاف أن يرد شرف هذه النظرية الرائعة إلى الفارابي، ولا ريب في أنه لم يظهر عند العرب - قبل الفارابي - أحد عرضها مثله عمقا وبراعة. أجل ، إن من السهل أن يرى - من جهة أخرى - أنه ليس مشائيا كما ينبغي، وإن كان يرجعها إلى أرسطو، غير أنها تحمل طابعا واضحا من الفكر الأفلاطوني الجديد.
وأحب الفارابي الفلسفة السياسية كما أحبها أفلاطون، وقد نشر له ديتريسي رسالة مطولة عنوانها «المدينة الفاضلة»،
16
وتعد هذه موسوعة فلسفية قصيرة لا تشغل السياسة فيها غير مكان وضيع. ومن خيبة الأمل أن يبحث في هذا الكتاب عن محاولة لتطبيق الأفكار القديمة على الدولة الإسلامية، فلم يكن الفارابي أسبق من الفلاسفة الآخرين في منحنا مظهر هذه التجربة الجريئة، فاقتصر على تقويمه إلينا، في صفحات قليلة عالية هادئة، وصفا لما يجب أن تكون عليه المدينة الفاضلة، وذلك من غير أن يفتح بابا لمناقشات صعبة ضد أساتذته الوثنيين.
Page inconnue