52
وهي تكون في حال الفعل عند الملائكة وفي حال القوة عند الإنسان، ويكون العقل وظيفة أو شكلا لهذه النفس التي تدرك جواهر الأشياء المجردة للهيولي، ويكفي هذا - بين كثير من مختلف الأنباء - لإثبات كون الصابئة قد اقتطفوا العنعنات الفلسفية الكبيرة.
وفي موضع آخر يوجد في نظامهم، كما في نظام المندائيين،
53
اختلاف بارز بين النور والظلام وفق العنعنات المانوية، فهم يقولون على رواية الشهرستاني: «إن الروحانيات نورانية علوية لطيفة، والجسمانيات ظلمانية كثيفة ... فعالم الروحانيات العلو لغاية النور واللطافة ، وعالم الجسمانيات السفل لغاية الكثافة والظلام، والعالمان متقابلان، والكمال للعلوي، لا للسفلي، والصفتان متقابلتان، والفضيلة للنور لا للظلمة.»
ويعترف الصابئة بوجود نبيين من أصل مصري، وهما: عاذيمون، وهرمس. وكان الصابئة أسطوريين متفوقين، وأعتقد أن هذه الصفة أصيلة في ملتهم، وأنهم لم يبسطوها لإرضاء المسلمين فقط، مغالين في أقاصيصهم، وإنما أرى العكس، فأقول: إن القصص التي تبدو في القرآن آتية من التوراة، أو من موضع آخر قد أحكمت وفق ذهن الصابئة، ولا ريب في أن هؤلاء ساعدوا على انتشار مبدأ التدرج النبوي في الفرق الإسلامية، هذا المبدأ الذي أدى إلى ظهور كثير من الإلحادات. ومع ذلك فإن دراسة هذه العوامل لا تزال محتاجة إلى جد أكثر مما في السابق.
وأشهر صابئي حران، الذين يستحقون أن تحفظ أسماؤهم بسبب الخدم التي قاموا بها في ميدان العلم هو ثابت بن قرة، المولود سنة 221 على الراجح، والمتوفى سنة 288ه، وكان ثابت بن قرة ينتسب إلى أسرة كبيرة، وكان بدء حياته في حران، حيث زاول مهنة الصرافة، ثم عاش في كفر توثا، فأتى الفلكي محمد بن موسى بن شاكر به إلى بغداد ليقدمه إلى الخليفة المعتضد قبل جلوسه على العرش، ثم بقي ذا منزلة كبيرة لدى هذا الأمير، وقد انتفع بما نال من اعتبار، فأقام جمعية صابئية ببغداد، وقد عد العرب ذا النفس الموسوعية، ثابت بن قرة، فيلسوفا قبل كل شيء.
ومن دواعي الأسف أن عدنا غير حائزين لآثاره الفلسفية، وقد ضمنت مؤلفاته الهندسية - التي نعرف بعضها - مكانا مهما له في تاريخ الرياضيات، وكان يعرف العربية والسريانية واليونانية، وامتدح ابن العبري - الذي يمكن عده حكما منصفا - أسلوبه في السريانية، ويثني الفلكي أبو معشر على أهلياته في الترجمة. ويروى أنه أصلح إصلاحا عجيبا كثيرا من الترجمات السابقة، وقد بلغ الغاية خصبا، ويعزو ابن العبري إليه 150 رسالة بالعربية وست عشرة رسالة بالسريانية، وكان قد كتب عن ديانته كتابا، يجب أن يرثى لضياعه، ولكنه سار وفق ذهنية ملته، فعكف بعض العكوف على التنجيم ومخالطة الأرواح.
وأحصي لثابت كثير من الكتب الرياضية. وأما ما يتعلق بالفلسفة - على الخصوص - فقد ترجم قسما من تفسير برقلس على وصايا فيثاغورس الذهبية، كما ترجم كتاب الجوامع لجالينوس، وبحث في المقولات والتحليلات الأولى والعبارات لأرسطو، وألف رسالة في الحجة المنسوبة إلى سقراط، ورسالة أطرف من هذه في حل رموز كتاب السياسة لأفلاطون.
ولثابت كثير من التلاميذ، اتفق بعض الشهرة لاثنين مفضلين لديه منهم، وهما: ابن أبي الطانا اليهودي، وعيسى بن أسيد النصراني، ومن ثم يرى أنه كان يوجد بين العلماء ود حقيقي لا ينافي أي دين، فيقضي العجب من تمثل عالم صابئي يلقي دروسا على تابع لموسى وتابع لعيسى تحت رعاية الخليفة المسلم. وما انفكت أسرة ثابت بن قرة تشغل بعده مكانا عاليا عدة أجيال، وقد ألف سنان بن ثابت - بين كثير من الكتب - رسالة في سيرة أبيه، وكان سنان هذا صديقا للمسعودي.
Page inconnue