ولما كان كثير السؤال فقد بلغ من إزعاج معلمه ما رفض معه هذا المعلم أن يجيبه، هنالك انصرف حنين مسافرا إلى بلد بزنطي، حيث أقام عامين، وتعلم اليونانية تماما، وحصل على مجموعة من كتب العلم، ثم عاد إلى بغداد، وساح في فارس، وذهب إلى البصرة لإتقان معرفة العربية، ثم رجع إلى بغداد حيث استقر، واتسعت شهرة حنين، وانحنى أمامه علماء أجلاء، مع أنه كان لم يزل شابا، ووكدوا أنه سيفوق سرجيس الرأس عيني صيتا، وكانت مواهبه كطبيب تعدل أهلياته كمترجم، ويتمسك المتوكل به، ويريد امتحانه فيدفع إليه - ذات يوم - خمسين ألف درهم، ثم يأمره، من فوره، أن يدله على سم شديد يستطيع أن يتخلص به من بعض الأعداء، ويرفض حنين ذلك، ويلقى به في السجن.
ولما طال أمد الامتحان، سأله الخليفة أن يوضح له سبب سلوكه، فأجابه حنين بقوله: «الدين والصناعة؛ فأما الدين فيأمرنا بفعل الخير والجميل مع أعدائنا، وأما الصناعة فتمنعنا من الإضرار بأبناء الجنس؛ لأنها موضوعة لنفعهم، ومقصورة على مصالحهم.» فلما سمع الخليفة هذا الجواب هدأ بالا، وأفاض على حنين جاها.
ولقي هذا العالم حتفه في نزاع وقع حول مسألة حادة في ذلك الحين، حول عبادة الصور، وذلك أنه وجد ذات مساء، في منزل نصراني ببغداد بين أناس كانوا يحسدونه، وأنه كان يوجد عند هذا النصراني صورة للمسيح، وأمامها مصباح موقد، فقال حنين لصاحب البيت: «لم تسرف في الزيت؟ ليس المسيح هناك، بل صورته»، فقال أحد الحاضرين: «إذا كانت هذه الصورة لا تستحق الإكرام فابصق عليها»، فبصق، وأذيع الخبر، وعد الأمر زلة عظيمة، ويستشير الخليفة، ويسلم العالم إلى أبناء دينه ليقضوا فيه وفق شريعتهم، ويحرم حنين، ويقطع زناره، الذي هو صفة النصارى الفارقة، بيد أنه وجد في الغد ميتا في غرفته، ويعتقد أنه سم (260ه).
وكان لحنين تلميذان، تعاونا معه على عمل الترجمات العظيم، وهما: ابنه إسحاق، الذي نال مثل شهرة أبيه، ومات سنة 298 أو سنة 299، وابن أخته حبيش.
وكان عمل هؤلاء العلماء عظيما جدا،
40
ومن الملائم أن يذكر في أول الأمر نقل التوراة إلى العربية من قبل حنين نقلا عن الترجمة السبعينية. وليس حنين أول مؤلف في ذلك الدور ترجم التوراة إلى العربية؛ فقد كان اليهود ينتفعون بترجمات أخرى، ولا سيما ترجمة رباني طبرية، أبي كثير يحيى بن زكريا، المتوفى سنة 320، وترجمة سعديا الجاءون الفيومي،
41
الذي كان ربانيا مشهورا جدا وتلميذا للسابق، والذي أعيد طبع كتبه حديثا بسبب مرور ألف سنة عليه.
وقد ترجم حنين إلى السريانية عبارات أرسطو، وقسما من التحليلات، وكتاب الكون والفساد، وكتاب النفس، والجزء الثاني عشر مما بعد الطبيعة، وكثيرا من الشروح، وكتبا من جالينوس وبقراط، وإيساغوجي فرفريوس، وخلاصة فلسفة أرسطو لنيقولاؤس، وترجم حنين إلى العربية كثيرا من كتب الطب والعلم لبقراط وجالينوس وأرشميدس وأبلونيوس وغيرهم، كما ترجم من كتب الفلسفة كتاب السياسة وكتاب طيماؤس لأفلاطون، وشرح ثامسطيوس للجزء الثاني عشر مما بعد الطبيعة لأرسطو، والمقولات والطبيعيات والأخلاق لأرسطو، وقد ألف بعض رسائل أصيلة استوحى هذه الكتب في تأليفها.
Page inconnue